تسلل ضوء خافت من فتحة الباب الموارب لتضيء قليلا من الأثاث في الغرفة الضيقة . رغم صغر المساحة إلا أنها مستغلة بإحكام تام , فذاك الفراش الصغير الذي يلائم جسد الشاب النائم عليه يقبع في الجانب القصي للغرفة . إلى جواره توجد منضدة معدنية صغيرة تراصت فوقها عدد من الكتب المتنوعة في الحجم بشكل منظم و دقيق للغاية ينم عن حس غير عادي بالتنظيم . على حوائط الغرفة ثلاثية الأركان توجد عدد من اللوحات المرسومة بدقة متناهية تقارب الحقيقة في تفاصيلها لباهر الميري أحد أكبر المغنيين المعاصرين في القرن الرابع و العشرين . رغم هدوء المكان إلا أن الشاب الصغير بدأ يفوق من سباته العميق ليجلس على فراشه محدقا بنظرة تائهة في المكان من حوله . كان كل ما يحيط بإبراهيم توفيق مألوفا و غير مألوف في الآن ذاته . كل ما يحيط به شعر أنه قد رآه من قبل , حين أمعن التفكير قليلا حتى أدرك أين رأى تلك الغرفة من قبل . إنها غرفته الصغيرة الخاصة التي كان يعيش فيها في عام 2345 . ما لم يكن مألوفا بالنسبة له هو أن هذه الغرفة و ذاك التاريخ يُعتبر بمثابة الماضي البعيد بالنسبة له , ماضي شهد تقلبات عنيفة و أحداث لا يمكن لأحد توقعها على الإطلاق . ظل إبراهيم في مكانه يحدق في الحجرة من حوله و حينما وقع بصره فوق هاتفه المحمول المستعمل حتى تحرك و رفعه قرابة وجهه . كان الهاتف مغلقا بشفرة لم ينساها بعد فأدخل حروفها مصحوبة ببصمة الصوت لينفتح الهاتف أمامه و تظهر شاشة بيضاوية ذات مساحة ثلاثون سنتيمترا أمامه معلقة في الهواء يظهر عليها كل ما يحتويه الهاتف . تجاهل إبراهيم كل ما يوجد على شاشة هاتفه و أمعن النظر نحو الساعة و ما مكتوب أسفل منها بخط أصغر :

-العاشر من نوفمبر , أنا عدت بالزمن لعشر سنوات قبل بداية المستقبل .

ارتعشت يداه الممسكة بهاتفه حين أدرك هذه الحقيقة . حاول قرص نفسه أكثر من مرة ليتيقن أنه ليس في حلم غريب ما , و إن لم يعد يندهش بعد كل ما مر به من تجارب في العشر سنوات تلك . بعد مرور ساعة كاملة تيقن فيها عدد لا يُحصى من المرات بصحة التاريخ الموجود على شاشة هاتفه حتى هدأ روعه و بدأ عقله يعمل في سرعة . إن كان قد عاد بالزمن قبل إطلاق ريونيد فهذا يعني أنه قادر على تغيير المستقبل المشئوم الذي سيتعرض له هو و من مثله من المصريين . حين استنتج عقله هذه النقطة حتى تسارعت أنفاسه بشكل غريب , فهو ليس الشاب الصغير ذي الثمانية عشر عاما , إنما هو يفكر بخبرات و تجارب رجل في مقتبل الثلاثينيات و إن كانت الفترة التي عاشها بالفعل تجعله أكبر من ذلك . خبراته تلك هي التي دفعته لإدراك مدى ثقل المهمة الملقاة على عاتقه إن أراد أن يقوم بها . أخذ دقائق حتى هدأت أنفاسه و بدأ عقله يعمل من جديد .

-لو سار الأمر كما حدث من قبل , فسيتم إطلاق ريونيد بعد أسبوع واحد فقط . أسبوع ليس بالكثير .

أول شيء فعله بعدها هو الدخول على موقع ريونيد الإلكتروني . ريونيد هي لعبة من طراز الألعاب الأونلاين ذات خاصية الواقع الإفتراضي . رغم أنها ليست اللعبة الأولى في مجالها بل سبقتها بعشرات السنوات ألعاب أخرى إلا أنها بالفعل لعبة مميزة للغاية . يعود ذلك ليس لضخامة العالم الخاص باللعبة ولا إلى غلو ثمنها الذي لا يقدر عليه الكثيرين مقارنة بغيرها من الألعاب في الفئة نفسها , لكن السبب الرئيسي يرجع إلى سر عميق بشأن حقيقة هذه اللعبة . فهذه اللعبة ليست مجرد لعبة , بل إنها المستقبل بالفعل !

ظهرت أمامه صفحة اللعبة الرئيسية . كما كان يتذكرها بالماضي , لا يوجد أي شيء غريب بالصفحة قد يثير الشك . أخذ يقرأ محتوى الصفحة من معلومات دعائية بشأن اللعبة مع فيديوهات ترويجية من داخل اللعبة حتى وصل إلى منطقة شراء اللعبة ليجد خانة مخصصة بالبلد . اختار مصر ليجد تحتها عبارة :

-الدولة غير مدعومة بعد من الشركة المنتجة للعبة . لمن يرغب في شراء اللعبة فعليه أن يشتري الكبسولة الكاملة و التي تنتمي لفئة الرفاهية . كذلك عليه أن يدفع تكاليف شحنها بالكامل و تكاليف تركيبها و تشغيلها .

تحذير : الشركة غير مسئولة عن أي أعطال أو أخطاء أو مشاكل تنتج من الكبسولة في الدول الغير مدعومة من قبل الشركة المنتجة.

ما إن قرأ هذه السطور أسفل مصر حتى ضحك بشكل هستيري . لم يكن فرحا إنما كانت ضحكة مريرة . فالواقع الذي عرفه بعد خمس سنوات من بداية اللعبة أن هذه " الشركة المنتجة " ليست سوى تحالف من قبل الدول الثمان العظمى لتوزيع تركة لعبة ريونيد على أنفسهم وعلى حلفائهم المقريين لهم . أما عن ذاك التحذير الأخير فهو يعرف أنه دفاع مسبق عن الأحداث الذي ستقع للأشخاص الذي سيلعبون اللعبة في البلاد التي لم تحظ بنعيم هذه الدول الثماني . فكما اكتشفه العالم بعد خمس سنوات من اللعبة أن كل من كان يتميز من أبناء أي بلد غير مدعوم من قبل " الشركة المنتجة " كان مصيره الموت . و هذا ليس بالشيء الصادم , فأي شخص من الدول الغير مدعومة يقوم بشراء الكبسولة و شحنها إلى منزله فستصبح معلوماته متوفرة لمن يرغب في مراقبته و ربما التخلص منه إن بدت من ناحيته ذرة تهديد . على الرغم من غضبه الداخلي و كرهه البالغ لتلك الخطة السوداء و العنصرية البالغة إلا أنه حين رأى سعر الكبسولة المدون أسفلها مصحوبا بثمن الشحن و التركيب حتى أدرك أنهم قاموا بفعل كل ما يقدرون عليه حتى يمنعوا أكبر عدد ممكن من الدول الغير مرغوب فيها بدخول اللعبة .

أغلق صفحة اللعبة و عاد بجسده مستلقيا على الفراش . أخذ عقله يعمل في سرعة مسترجعا كل اللحظات الصعبة التي عاشها هو ومن يعرفه من أصدقائه و رفاقه في اللعبة . مثلت السنوات الخمس الأخيرة في اللعبة كابوسا مرعبا له . استغرق فترة حتى استطاع لملمة شتات أفكاره و تخطي عقبات ذكرياته ليفكر بعدها فيما عليه أن يفعل . لقد منحه القدر فرصة جديدة لتغيير كل شيء . فهو الآن ليس جاهلا بخطط هؤلاء الدول الثماني كذلك يعرف جيدا مدى أهمية هذه اللعبة في تحديد مستقبله و مستقبل الجميع في مصر و العالم كله . هو يمتلك أفضلية تجعله متفوقا على الجميع , لقد جاء من المستقبل و في عقله زخما ضخما من الذكريات الخاصة باللعبة و أسرارها الداخلية . أسرار عشر سنوات في اللعبة ليست بأفضلية بسيطة . لكنه إن أراد أن يتحدى كل هذه المخططات و الدسائس بمفرده فسيكون أمامه مهمة عسيرة إن لم تكن مستحيلة . على الرغم من أنه فقد أبويه في حادث أليم و هو صغير إلا أنهما قد تركا له إرثا كبيرا سيمكنه بسهولة من إقتناء هذه اللعبة . لكن لو أراد فعلا أن يقوم بتغيير كل شيء فلن يقدر على فعل ذلك بمفرده , خاصة أنه حين يشتري الكبسولة فسيكون تحت المراقبة الدائمة من قبل عملاء هؤلاء الدول . لو اكتشفوا ما يخطط له أو شعروا بالخطر من ناحيته فلن يتوانوا عن قتله بدم بارد . إذن الخطوة الأولى هي الإستعداد لترك كل شيء خلفه . رغم أن شقته المتواضعة ذات الحجرتين الضيقتين و الصالة المستطيلة الصغيرة تحمل ذكريات لا ثمن لها , إلا أنه يدرك أنه آجلا أم عاجلا سيترك تلك الشقة سواء لعب اللعبة أم لم يلعب . لكن أين يذهب ؟ رغم أنه عاد بالزمن بالخلف عشر سنوات كاملة إلا أنه لم يغادر مدينته الإسكندرية الجديدة إلا نادرا . إذن عليه أن يقوم بإيجاد مأوى خاص له . كذلك عليه أن يجد آخرين يقومون بمساعدته . هذا ليس بالشيء الصعب , فبعدما انتقل الجميع إلى ريونيد بعد سنوات خمس ظهرت مجموعة من الأشخاص المميزين و الذين تولوا حمل راية الدفاع عن المصريين . نظرا لرفعة مكانة هؤلاء الشباب الذين اعتبرهم الكل قادة جدد لهم في ريونيد لذا كانت المعلومات الخاصة بحياتهم و ماضيهم على الأرض معروفة للجميع . لم يحتج إبراهيم لبذل أي مجهود ليسترجع معلومات هؤلاء الشباب , عناوينهم , أماكن عملهم , و ماذا كانوا يفعلونه الآن قبل بدء المستقبل . كذلك يعرف وضعهم المادي الحالي و من ثم فإن المسئولية المادية لشراء الكبسولة تضخمت لتصبح سبع كبسولات , واحدة له و ست لهم . عاد ليفتح هاتفه من جديد ثم ولج إلى حسابه البنكي الأونلاين ليجد المبلغ الموجود فيه لا يكفي لهذا العدد من الكبسولات . جز على أسنانه ليقوم بالبحث عن أقرب شركة خاصة لبيع الأراضي و العقارات ثم وجد وسيلة التواصل مع ممثل منهم . لم تطل المكالمة التي شغل فيها وجه هذا الشاب الصغير حديث السن مثله شاشة هاتفه بالكامل حتى اتفق معه على تولي مهمة بيع عدد من الأراضي التي يمتلكها إرثا عن والديه و كذلك بيع هذه الشقة .

في عام 2345 و بحلول القرن الرابع و العشرين أصبح بالإمكان بيع و شراء أي مكان في مصر بسهولة . و هذا ليس حال مصر وحدها بل حال العالم أجمع . عملية البيع لم تستغرق دقائق و تم تحويل مبلغ كبير لحساب إبراهيم البنكي على الفور . نظرا لأنه لم يجد بعد مكانا للهرب فيه فقد طلب من المندوب أن يمهله أسبوعا للرحيل من الشقة . أما عن الأراضي فكافة المعلومات الخاصة بها انتقلت بشكل تلقائي إلى حساب الشركة . عاد إبراهيم ليتحقق من حسابه البنكي ليجد أن المبلغ الموجود به صار مناسبا لحصوله على الكبسولات السبع و تأمين مكانا خاصا للهرب و العيش بمفرده لسنوات طويلة . رغم أنه يعرف جيدا عناوين كل شخص من هؤلاء القادة إلا أنه حين اشترى الكبسولات أدخل عنوان شقته فقط , فهو لن يجعلهم يهربون هم أيضا من عالمهم مهما حدث . رغم أنه لا يضمن ألا يجدهم أحد إلا أن مهمة البحث عنهم ستصبح شاقة و طويلة مما يمنحه وقتا لتنفيذ ما يخطط له . بعدما انتهى من الشراء وجد أن الكبسولات ستصله في غضون خمسة أيام , أي أنه يتوجب عليه السفر و الحديث مع هؤلاء القادة الصغار و العودة إلى الشقة في مهلة أيام خمس فقط . لم يعبأ بطريقة نقل الكبسولات السبع من الشقة , فهو يخطط لشراء سيارة نقل ضخمة لنقلهم بنفسه . أما عن تركيبهم فهو يعرف أنها مجرد أكذوبة أخرى , فالكبسولات تعمل بالطاقة الشمسية و البث المباشر مع الأقمار الصناعية العملاقة و التي لا تخضع تحت سيطرة أي دولة على الإطلاق بل تحت سيطرة لعبة ريونيد نفسها . أي أن التركيب و التشغيل ليس بالأمر الصعب عليه على الإطلاق . بعدما انتهى من كل شيء نظر لساعة هاتفه ليجد أن عقاربها قد قاربت من الساعة الرابعة فجرا . رغم حاجته للنوم خاصة مع صدمة عودته للماضي إلا أنه يعرف أنه لا يمتلك الكثير من الوقت . فتح من هاتفه خريطة مصر و أدحل العناوين الإحدى عشر لمن اختارهم ليتواصل معهم . بعدما عثر على كل فرد منهم وجد أن ثلاثة موجودون بالإسكندرية الجديدة و واحد موجود بالإسكندرية القديمة . اثنين موجودين بالقاهرة الحديثة , واحد بالمنصورة , واحد بالمنيا , واحد بأسيوط و أخر بأسوان . أما الأخير فموجود بمدينة كاترين القديمة في عمق سيناء بجوار دير سانت كاترين . الحقيقة أنه اختار اثني عشر شخصا و ليس أحد عشر فقط , لكن الفرد الأخير سيتواصل معه في اليوم الأخير قبل إستلامه للكبسولات , فهذا الشخص له وضع خاص و حساس للغاية .

بعدما انتهى من مراجعة كل العناوين التي يحفظها عن ظهر قلب حتى أدخل تليفونات الاثني عشر شخصا لهاتفه ثم حفظها بأرقام من واحد لاثني عشر . رغم أنه دوما ما يشعر بالتشاؤم من رقم اثني عشر وهذا ما يعد أحد الأمور الغريبة فيه , إلا أنه الآن يشعر بتفائل و ثقة مفرطة للغاية من هذا الرقم , فكل شخص اختاره يمثل قوة لا يُستهان بها , و أهم قوة فيهم هو خوفهم على مصر و المصريين . بوجودهم إلى جواره و بتوجيهاته لهم مستغلا ما يعرفه عن أسرار اللعبة يشعر بالثقة من مقدرته على تحقيق مآربه .

2020/02/04 · 1,272 مشاهدة · 1859 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024