بعدما انتهى من تسجيل أرقام الجميع قام و أخذ حمام دافئ ليشعر بنشاط و حيوية . فتح نافذة غرفته المطلة على الشارع الرئيسي في قلب الإسكندرية الجديدة . بدأ يتأمل المكان من حوله . تلك المباني العتيقة و المطعمة بالتقنيات الحديثة في البناء باستخدام تقنية الدرعيم . هذه الشوارع الواسعة و المتشعبة كمتاهة عملاقة . هذا الإزدحام للسيارات و الطائرات في المنطقة من حوله على مد بصره و الضوضاء الناجمة عن كل هذا مختلطة بصياح البائعين في الشوارع و حركة الأقدام اللاتنتهي . في القرن الرابع و العشرين صارت مدينة الإسكندرية الجديدة من المدن العملاقة , فعدد سكانها يتجاوز الثلاثين مليون موزعين على عشرة أحياء ضخمة . يُعتبر حي الأمراء الذي يقطن فيه إبراهيم من الأحياء الراقية في المدينة . على الرغم من أن حي الأمراء مشهور بهدوئه و قلة المشاكل و الضوضاء فيه لكن المنطقة التي يعيش فيها إبراهيم تحتوي على كم كبير من المحال و الشركات التجارية لذا فالحياة تنبض فيها طول اليوم بلا انقطاع ليلا أو نهارا . ظل إبراهيم يراقب حركة الناس في الشوارع و جدالهم حول الأسعار و تحركهم العشوائي السريع صوب مآربهم الخاصة قرابة ساعتين . كان يعلم في داخله أنه لن يجد فرصة أخرى للعيش في هذه المدينة , سواء لهروبه من قبضة عملاء الدول الثمان أو بعد سنوات حين ينتقل الجميع من هنا عنوة . في العادة لا يكترث بأي شيء مادام لا يمس مصلحته , لكنه الآن يعرف أنه إن لم يتحرك لحماية الجميع فلن يجد بعدها من يحميه هو نفسه . حينما استعاد عقله الذكريات الصعبة التي عاشها في السنوات الخمس بعد دخوله للعبة تعمق إيمانه بقراره الذي اتخذه بالأمس . عليه أن يحارب من أجل حرية الجميع , عليه أن يحارب من أجل حريته , عليه أن يغير من نفسه حتى يقدر على أن يصنع مستقبل مغاير عما عاشه من قبل .

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة صباحا , فاستعان بهاتفه لطلب وجبة إفطار من فلافل ساخنة . تذكر و هو يأكلها أنه حتى في أحلك الظروف التي مر الجميع بها فلم يكد يوم يخلو من إفطار الفلافل . هذه الوجبة العتيقة على ما يبدو أنها تملك وصفة سرية سحرية أبدية جعلته يثق أنها لن تندثر أبدا . بعدما انتهى من إفطاره أخذ يراجع في عقله تفاصيل الخطة التي رسم أولى رتوشها بالأمس . كانت مهمة إقناع الإحدى عشر بالمشاركة معه في اللعبة أمر سهل , فمن المعتاد آنذاك وجود ستوديوهات خاصة للألعاب الأونلاين . تقوم هذه الستوديوهات بتأجير اللاعبين للعب تبعا لها في مقابل مادي مناسب و مغري للغاية . نظرا لإنتشار هذا النمط في الألعاب الأونلاين فقد استقر تفكيره على إستخدام تلك الطريقة حتى يتجنب لفت أنظار الغير مرغوب فيهم . في غضون ساعة و بالإستعانة بشركات متخصصة في ذلك المجال قام بإنشاء شركته الخاصة للألعاب الأونلاين . اختار مقر الستوديو شقته التي باعها . أما عن اسمه فقد استقر على اسم " ستوديو سفينكس " كناية عن الدور الذي يلعبه هذا المنحوت العملاق في حماية الأهرامات الثلاث العظيمة . تلا ذلك إرساله لإعلان عمل عن الستوديو للأشخاص الأحد عشر جميعا . أغلق هاتفه و أخذ يفكر في المعضلة الأخيرة , إنها اللاعبة الاثني عشر , آية درويش .

حينما انطلقت لعبة ريونيد الأونلاين اشتركت فيها الدول الثمان العظمى . كل دولة كان لها كوتة دولة واحد فقط ينتقونها بعناية من قائمة حلفائهم . رغم أن الصين دولة عظمى من الدول الثمان إلا أنها لم تختار أي دولة لتشترك معها في حين اختارت أمريكا دولة إسرائيل لتصبح ضمن من لعب ريونيد منذ البداية . بالطبع إسرائيل استغلت هذه الفرصة خاصة في عدم وجود أي دولة من الدول العربية في هذه القائمة التي اُطلق عليها فيما بعد اسم " قائمة العار " لتقوم بإستعمار كل الدول المحيطة بها في اللعبة . لذا حين دخل الجميع بعد هذه السنوات الخمس تفاجئوا بإحتلال دول قائمة العار لدولهم , ولم تكن مصر بأقل حظا منهم . هذه المكيدة التي خُطط لها بعناية شملت جوانب عدة منها الإستعانة ببعض من أبناء الدول الذين يعيشون داخل الدول الثماني لمراقبة دولهم في اللعبة و التجسس لصالحهم و إبلاغهم عن وجود أي شخص قد يهدد خططهم . آية درويش لم تسلم من هذا المصير , فكونها مصرية أمريكية الجنسية جعلها مجبرة على التعاون معهم . ما جعلها شخص في قمة الأهمية أنها رغم وضعها السيء قامت بحماية الكثيرين ممن لعب اللعبة بالصدفة منذ البداية في مصر . كذلك قامت بتأسيس عدد من المدن التي مثلت فيما بعد ملاذا آمنا للمصريين حين دخلوا اللعبة لاحقا . للأسف انتهى نضالها على حين غرة في السنة الثالثة للعبة حين خانها أحد أصدقائها و قام بالتبليغ عنها . رغم أن المصريين حين دخلوا اللعبة لم يقابلوها قط إلا أن اسمها كان يتردد كالأسطورة في الآذان . لو كان هناك قائمة للندم للجميع فكان في مقدمتها بلا شك هو مقتل آية درويش , و إن كان هناك قائمة لما عليه أن يفعله ففي مقدمتها إنقاذ آية درويش .

ما يعرفه من المستقبل أن آية درويش موجودة الآن في مدينة القاهرة الحديثة . فحتى يمكن لأي شخص ذو جنسيتين أن يختار الدولة التي سيلعب لها عليه أن يكون في نطاق هذه الدولة حين يؤسس حسابه في اللعبة أول مرة . لذا فوجود آية درويش في مصر الآن أمر طبيعي . المشكلة تكمن في أنها كغيرها من عملاء أمريكا في مصر مراقبين بشكل محكم تماما . أي محاولة تواصل عبر الهاتف معها سيجعلها تحت موطن الشك . محاولة زيارتها في الفندق التي تقيم فيه غير مجدية أيضا , فهو مراقب كذلك . لو أراد أن يقابلها فعليه أن يفعل ذلك بشكل إرتجالي تماما لا يمكن لأحد توقعه . إن أراد أن يفعل ذلك عليه أن يختار مكانا يكون من الطبيعي أن يقف اثنان للحديث سويا أمرا عاديا للغاية فيه .

أخذ عقله يسترجع كافة المعلومات المتعلقة بحياة آية درويش من المستقبل . كغيرها من أيقونات الشعب المصري آنذاك فكل تفصيلة عن حياتها صارت معلومة أساسية في قصص الجميع حين يتجمعون حول النيران المتلألأة في الليالي الباردة الطويلة . طيلة مكوثها في مصر خرجت أكثر من عشر مرات , منها ثلاث مرات يمكن لإبراهيم خلالها أن يتحدث معها . المرة الأولى كانت بالأمس و هي كانت أفضل فرصة في وجهة نظره . فكما يتذكر خرجت آية بالأمس لتشاهد مباراة كرة قدم بين فريقي الأهلي و الزمالك , فهي كانت من عائلة تشجع نادي الزمالك بشكل هستيري . الفرصة كانت مثالية لأن إبراهيم نفسه كان زملكاويا مشتركا في نادي الزمالك لذا كان من السهل أن يقابلها في الإستاد . لكن هذا كان في الماضي ولا يمكن لإبراهيم الآن أن يعود بالزمن للأمس لمقابلتها . الفرصتين المتبقيتين واحدة منهما اليوم حيث ستقوم في المساء بزيارة تجمع خاص بستوديوهات الألعاب الأونلاين , أما الفرصة الأخيرة فستكون بعد يومين حيث ستقوم بزيارة قبر والدتها الراحلة . الفرصة الأولى فيها مخاطرة حيث من المؤكد أن أمريكا تراقب هذا التجمع عن كثب . إن اشترك فيه فسيكون من السهل عليهم مراقبته و تتبعه . أما الثانية فكانت أكثر صعوبة , فوجوده في مقابر عائلة آية سيثير الشكوك لا ريب . بعدما وازن بين الأمرين اختار الفرصة الأولى , فحتى إن قاموا بمراقبته فوجوده في المكان لن يثير ريبتهم . كذلك هو سيشترك بالستوديو الحديث الذي أنشئه اليوم . ربما يكون حداثة ستوديو سفينكس عاملا في عدم الإهتمام بمراقبته بشكل جاد . نظر لساعة هاتفه ليجدها تجاوزت العاشرة بقليل . قام بالدخول إلى موقع هذا التجمع الملقب باسم لعبة قديمة اسمها " league of legends " . تمت عملية الإشتراك بسلاسة و قام بحجز مكان صغير للإعلان عن هوية ستوديو فينكس . فكر قليلا ثم انتقى شركة لطباعة مجموعة من الملصقات الإعلانية الخاصة بالستوديو , فإن شارك في هذا الحدث دون وجود دعاية لسفينكس فسيجذب ذلك عيونا غير مرغوب فيه . بعدما انتهى من هذا كله قام بحجز عربة طائرة خاصة لنقله إلى مكان الحدث . موعد التجمع هو الخامسة عصرا لذا فأمامه أربع ساعات على الأقل قبل أن تأتيه السيارة .

صدر من هاتفه عدد من التنبيهات القادمة من جهات إتصاله ليسارع بفتحها ليجد كما توقع رد من كافة من تواصل معهم بالموافقة المبدئية بإنتظار توقيعهم للعقد . العقد ذلك أمر عادي للغاية فعلى الشبكة الإلكترونية نماذج متعددة لعقود تبرمها ستوديوهات مثل سفينكس . لم يكترث بقراءة الكثير من محتوياتها و انتقى عقد بشكل عشوائي ثم وقع عليه و أرسله للجميع . بعد برهة من التفكير أرسل للاثنين الموجودين في القاهرة الحديثة الآن بتفاصيل التجمع الذي سيحضره خلال ساعات ليخبرهم بضرورة وجودهما هناك . لا مشكلة في مقابلتهم قبل بدء اللعبة فربما يساعدونه في التخلص من العيون المتلصصة على آية .

بعدما انتهى من كل هذه المهام الكثيرة حتى وجد أخيرا متنفسا للتفكير في الخطوات التالية في اللعبة . اللعبة مبنية على نمط مشابه للواقع في التاريخ القديم للعالم . بالنسبة لسيناريو اللعبة في مصر فهي تعتمد على وجود صراعات بين ألوية متعددة تستغل فرصة ضعف قوة الفرعون الذي يجلس فوق عرش مصر . توقيت بداية اللعبة كما يتذكرها إبراهيم هو عصر المصريين القدماء قبل سقوط الأسرات القديمة الأولى , أي قبل أحداث الثورة الأقدم في التاريخ و التي أنهت على تاريخ الأسرة السادسة المتهالكة . ذكرت المعلومات القديمة في المنتديات الخاصة باللعبة أن النمط العام للعبة هو عصر الأسلحة الباردة , أي أن كل دولة تبدأ رحلتها داخل سيناريو مشابه لسيناريو مصر . هذا يجعل دولا حديثة مثل أمريكا و إسرائيل في وضع صعب للغاية , فتلك الدول تاريخها لا يمتد لأكثر من ستمائة عام على أقصى تقدير . كانت سمات هذه الدول هي سيناريوهات مبتكرة من وحي اللعبة نفسها , فأمريكا تحارب وباء سحرة الظلام و إسرائيل تحارب مصاصي الدماء . ربما كان هذا من الدوافع التي جعلت أمريكا تتحالف مع إسرائيل ليتحدان سويا ضد من حولهما من الدول . أمريكا سيطرت داخل اللعبة على المكسيك و الدول المحيطة بمضيق بنما , كذلك امتدت أصابعها نحو أفريقيا لتستولي على جنوب القارة بالكامل . أما إسرائيل فاستولت على الدول العربية كاملة إضافة إلى تركيا . أما باقي أفريقيا فتم تقسيمها بين الدول الأوروبية الثلاث : بريطانيا و ألمانيا و فرنسا .

لعبة ريونيد مبنية على أنماط متعددة للعب داخلها , فيمكن للاعب أن يختار طريق المغامرات و يقوم بالحركة بمفرده أو مع أفراد تحالفه في أنحاء الخريطة العملاقة التي تشابه حجم الأرض ألف مرة . نظرا لحجم الخريطة العملاق فإن توقيت اللعبة مقارنة بتوقيت الأرض يقارب خمسة أضعاف , أي أن خمسة أيام على الأرض يقارب خمس و عشرين يوما باللعبة , أي أن خمس سنوات على الأرض توازي خمس و عشرين سنة في اللعبة . النمط الآخر للعبة هو ممارسة الحرف المختلفة و المشابهة للوظائف العادية في الواقع . ربما أشهر الحرف و أرفعها مكانة هي حرفة الصانع , و هو من يقوم بصنع مختلف الأدوات السحرية داخل اللعبة . كذلك مهنة الكيميائي مهمة للغاية فهو مسئول عن صنع الإكسيرات المتعددة . النمط الأخير للعبة هو نمط اللوردات الإقطاعيين , و هو ما يتيح للاعبين بناء مدن و ممالك داخل اللعبة . لكل نمط منهم مزايا و عيوب . لو أراد إبراهيم أن يقوم بإحداث فارق في اللعبة فعليه أن يستعين بالنمط الأول . فخبرته السابقة غنية في هذا المجال . لكن المشكلة التي تواجهه أنه حتى يقوم بإستغلال هذا النمط عليه أن يستعين بمساعدة عدد ضخم من اللاعبين , فأين يأتي بمثل هؤلاء اللاعبين و عدد من يلعب في مصر يكاد يُعد على أصابع اليد الواحدة ؟ حتى يقدر على كسر قواعد اللعبة و إستغلالها لمصلحته فعليه إذن أن يسعى لدخول عدد كبير من اللاعبين المصريين بها . حتى يفعل ذلك أمامه حلول ثلاث , أولها أن ينتظر لمهلة الخمس سنوات حتى تنتهي و حينها يكون قد ضاع كل شيء , و إما أن يقوم بعمل شيء مستحيل و هو السيطرة على خمس مدن مختلفة لخمس نطاقات غير مصر . النطاق في ريونيد كناية عن الدولة . أي أن عليه السفر لخمس دول مختلفة و احتلال خمس مدن بها حتى يتسنى له إستغلال قاعدة من قواعد اللعبة . هذه القاعدة انتشرت كالنار في الهشيم خاصة حين دخلت كل الدول للعبة بعد خمس سنوات , فكان التريند وقتها أن الجميع كانوا مؤمنين بإمكانياتهم لتحقيق هذا الحل إن كانوا قد علموا به من قبل . لم يتوقع أي شخص آنذاك صعوبة تلك المهمة , لكن إبراهيم الآن و بخبرة سنواته الخمس يدرك تمام اليقين أنها شبه مستحيلة . لو أراد بفريقه الصغير أن يقوم بتحقيق هذه الخطوة فسيحتاج لخمسين عام لا خمس ! المشكلة الأخرى تكمن في ضرورة الإسراع في تحقيق هذا الشرط في أسرع وقت ممكن , فكما ذكرت الشواهد آآنذاك فإن إسرائيل قامت بغزو مصر في اللعبة في العام الرابع لها . أي أن عليه أن يقوم بتلك المهمة قبل أربع سنوات بكثير . كذلك يجب أن يؤمن للاعبين وقتا مناسبا يتيح لهم فرصة التطور و ترقية مستواهم بشكل يسمح لهم التعامل مع الغزو الصهيوني . هذا ما يعني أنهم بحاجة لعام على الأقل . ثلاث سنوات , ذلك هو أكثر موعد يمكن له تحقيق شرط غزو خمس دول حول مصر . لكن كيف سيفعل ذلك بطاقمه الصغير ؟ أما الحل الأخير فأن يقوم بشراء كبسولات تكفي لعُشر حجم سكان مصر فحينها تقوم اللعبة بالسماح لهذه الدولة بالحصول على الكبسولات بشكل مجاني . هذا ما يجعل الحل الأخير كذلك حلا غير عمليا على الإطلاق , فمن أين سيأتي بكل هذه الثروة الضخمة ؟

الحل إذن في النمط الثالث , عليه أن يشترك كلورد و يؤسس مملكة في أسرع وقت ممكن . عليه أن يستعين بالأغو قدر الإمكان , و الأغو هو اختصار للأفراد غير واقعيين , و هم أفراد موجودين في اللعبة , أو كما اكتشف العالم بعدها أنهم موجودين في عالم ريونيد بالفعل و ليسوا أشخاصا إفتراضية . لكن المشكلة الأهم أمامه حاليا , كيف سيقوم بإنشاء مملكة قوية قادرة على غزو خمس دول في غضون سنوات ثلاث فقط ؟

2020/02/04 · 866 مشاهدة · 2176 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024