ما إن انتهى من تحذيره حتى لمعت العملة بشكل مباغت لتجعله غير قادرا على مواصلة فتح عينيه . أغلق عينيه في سرعة واضعا يمناه عليها في حركة تلقائية حماية لها من هذا الضوء الباهر . قبل أن يتسنى له قول أي شيء وجد نفسه فجأة في مكان غريب تماما مختلف عما كان فيه . أمامه وجد أشياء تبرق بألوان مختلفة . تذكر كلمات الرجل الأبيدوني و نصيحته الأخيرة له , فلم يطل في مكانه واقفا هكذا حيث تحرك في سرعة و خبأ الأشياء التي حوله ليتحرك بعدها ركضا في سرعة جنونية . لم يعرف مم كان يركض ولا يعرف أيضا إلى أين يركض . فقط هو يركض بناءا على نصيحة الأبيدوني الذي يعرف جيدا طبيعة مدينة أبيدون . وجد شجرة ضخمة أمامه على مد البصر وسط المكان النائي الذي هو به فتحرك في سرعة صوبها . لم يطل في ركضه كثيرا ففي غضون دقائق وصل إلى الشجرة . أثناء ركضه كان يراقب المكان من حوله لكنه لم يجد ما يدفعه للركض بتلك الصورة لكن على الرغم من ذلك لم يسمح لحذره أن يتراخى قط . ما إن وصل إلى الشجرة حتى أذهلته ضخامة جذعها العريض و الذي يحتاج لمئة رجل على الأقل ليحيطوها بأذرعتهم . أما عن طولها فربما تشبه ناطحة السحاب المنتشرة في حياته الواقعية . توقف أمام الشجرة يلتقط أنفاسه و ورأسه لا تتوقف عن الإلتفات حوله في حذر .

-يا فتى , ماذا تفعل على الأرض هكذا , هل تريد الموت ؟

باغته الصوت الغريب لينتفض جسده فجأة محدقا نحو الأعلى حيث مصدر الصوت . هذه هي المرة الثانية التي يباغته فيها شخص من دون علمه في غضون أقل من نصف ساعة ! هل الأبيدونيون يعشقون تلك الطريقة في الحديث مع الغرباء ؟ أمام بصره وجد في إرتفاع يصل لمستوى ربع إرتفاع الشجرة تقريبا رجلا يقف على أحد الأغصان السميكة بثبات . كان يمسك بقوس عملاق في يسراه و ملابسه توحي بمهنته . إنه رامي سهام أو ربما صياد . لا يهم , المهم أنه وجد أخيرا شخص يتحدث معه وجها لوجه .

-لا أعرف ماذا علي أن أفعل . هذه هي المرة الأولى لي في مدينة أبيدون .

-مدينة أبيدون ؟ نحن لسنا في مدينة أبيدون يا فتى . هذه هي مرتك الأولى على ما يبدو . أنت يا فتى أبعد ما تكون عن مدينة أبيدون . و هذا ليس مكانا ملائما للحديث , هيا تسلق الشجرة في سرعة و إلا ستموت !

لم يعرف إبرو هل يثق به أم لا , لكن حين عاود النظر نحو سلاحه الفتاك الذي يحمله حتى قرر الثقة به بصورة مؤقتة . فإن أراد هذا الصياد به شرا لكان قد قتله قبل أن يعلم إبرو بوجوده ! إضافة إلى أن مغزى تحذيره يتماشى مع تحذير و كلمات ميراث له . نظر إبرو للحاء الشجرة السميك و بروزاته المدببة و الخارجة عن المألوف بالنسبة له . لم يتردد للحظة بعدها ثم قام ببدء رحلة صعوده الشاقة نحو الأعلى . أكثر من مرة كاد يسقط من فرط ألمه من جراء إمساكه بتلك الأشواك المدببة التي تخرج من لحاء الشجرة , و إن كانت مقارنة بحجمها العملاق لا تشبه حتى الزوائد الصغيرة بالنسبة لها . استغرق قرابة ربع ساعة حتى وصل إلى نفس مستوى الرجل ليجلس على غصن الرجل نفسه ملتقطا أنفاسه في صعوبة و هو يقول :

-لقد حذرني من قام بنقلي هنا من خطورة المكان و أنت كذلك يبدو عليك الذعر . أين الخطر الذي تخافان منه ؟

لم يجبه الرجل إنما أشار نحو الأسفل بسبابته . تتبع إبرو إتجاه إشارة الرجل ليجد ما جعل شعر جسده يقف من فرط الذعر ! هناك بالأسفل في المكان الذي كان يقف فيه تحولت الأرض بغتة و في سكون تام إلى فك مفترس لوحش يكاد يقسم أنه يصل لأكثر من خمسين مترا في الطول ! كان الفك مفتوحا على مصراعيه و أسنان هذا الوحش الفتاك تحيط بتجاويف الفم من الداخل . في ثوان أطبق الوحش على المنطقة في سكون تام ليقوم بعدها بالإختفاء أسفل الأرض كما لو كان حوتا يسبح تحت المحيط . شعر إبرو أن عقله قد تجمد تماما عن التفكير . لو وقف في مكانه حين ظهر بالمدينة فربما كان الآن غذاءا في معدة هذا الوحش الهائل . تسارعت أنفاسه و بدأ يحاول تهدئة نفسه بصعوبة ليتمكن بعد عناء من أن يخرج من حالة الذعر الهائلة تلك . نظر نحو الرجل في إمتنان ثم قال :

-أنا مدين لك بحياتي .

نظر له الرجل الأربعيني كما لو ما قام به لا يعد شيئا مهما ثم قال :

-لا تقل ذلك , على كل النرويين دوما مساعدة بعضهم بعضا في أبيدون .

فاجأه اللفظ الذي قاله هذا الغريب لتوه . ريونيد , إنه ذاك الاسم الذي كان منتشرا عن الأراضي الواقعة خلف مدينة أبيدون . هل هو كناية عن كل من يعش بالمدينة و ما حولها من أشخاص ؟ مهلا لقد قال هذا الرجل قبلا أنه بعيد جدا عن مدينة أبيدون . إذن أين هو ؟

-هل أنا في نرو أم في أبيدون ؟

نظر نحوه الرجل بغرابة ثم تذكر أنه أخبره لتوه أنه وافد جديد على هذا المكان . فقال في هدوء كما لو كان يحاول تبسيط النظرية النسبية لشخص غير متعلم :

-هذه المنطقة التي نحن فيها لا تُدعى نرو . نرو هذا كناية عن أول شخص عبر أسوار أبيدون ليدخل إلى هذا المكان . جميع من يوجد خلف أسوار أبيدون يحمل كناية نرو . أنا اسمي بالري نرو , و ما اسمك ؟

سايره إبرو في حديثه رغم أنه لم يكن يصدق معظمه وهو يقول :

-اسمي إبرو نرو .

-مرحبا بك يا إبرو . انتظر لحظة , أنت في مستوى الخامس عشر فقط ؟ كيف وصلت إلى هنا ؟ كيف سمح لك المراقبين بدخولك ؟ هذا المكان بمثابة فخ موت لك يا إبرو .

نظر إبرو لبالري في صمت محاولا تقييم موقفه منه , ثم قرر أنه لن يخسر شيء بإخباره بقصته . قام إبرو بقص ملخص قصته على الرجل الذي بدا مندهشا أكثر و أكثر كلما سمع كلماته . بعدما انتهى إبرو قال الرجل في دهشة :

-أنت شخص جديد في عالم اكتشفه ريونيد إذن ؟ رحلتك غريبة و سريعة . رأيي أنه كان من الأحرى لك سماع تحذير المراقب , فهذا العالم الذي نحن فيه خطر للغاية .

شده وصف بالري للعبة فقال متسائلا :

-ماذا تعرف عن ريونيد ؟ هل يمكنك إخباري ؟

-للأسف لا , فهذه المعلومات في غاية الخطورة لك في الوقت الراهن . مجيئك إلى هنا مخاطرة و لا يمت للحكمة بصلة يا إبرو .

-لم أملك خيارا آخر يا بالري . لكن أين نحن الآن ؟ وما هذا الوحش الذي كاد أن يفترسني ؟ ولماذا نختبيء ها هنا في الأعلى ؟ و كيف أذهب إلى أبيدون ؟

-هذه قصة طويلة , لكن يجب أن تكون مستعدا لما سأخبرك به الآن . ربما لن تقدر على تصديق كل ما أقوله . صدقني رأيت حالات مشابهة لذلك كثيرا . لكن نصيحتي لك أن تكون متفتح الأفق و أن تكون مستعدا لتقبل ما لا يمكنك تقبله .

صمت إبرو قليلا مفكرا في نصائح بالري المريبة . الحقيقة أن سنوات اللعبة الخمس التي قضاها فيها منحته طبعا تلقائيا يجعله لا يثق بالغرباء قط . ففي هذه اللحظة يكون أقرب الناس إليك و في اللحظة الأخرى يقوم بذبحك . بالنسبة لشخص عاد من المستقبل ليغير الحاضر فهو متقبل لكل شيء غريب لاريب لكن ليس ضروريا أن يصدق كل ما يُقال له , ناهيك لو قدمت تلك المعلومات من شخص لا يعرفه ولا يثق به . رغم ذلك قرر مسايرته في الحوار لذا قال في تلقائية :

-لا تقلق , أنا مستعد تماما لتقبل كل ما تقول .

أطال بالري النظر نحوه كما لو كان يريد التيقن من أنه قد حاز على إهتمامه و نال ثقته ثم قال في جدية :

-نحن نوجد الآن في عالم يُدعى نروباك ديبار , أو كما يطلق عليه الجميع اسم نرو . هو عالم يمكنك إعتباره قد أوشك على الموت , لولا الدماء الجديدة التي تٌضخ فيه من قبل العوالم الجديدة المكتشفة و التي يتم إرسالها إلى هنا لانقرض العالم منذ زمن بعيد . العالم منقسم إلى فئتين و هم السكان الأصليون لعالم نرو و الغزاة القادمين من الخارج .

-هل تعني أنني من الغزاة ؟

-لا , أي شخص يأتي إلى هنا يكون دوما جزءا من العالم و يتم اعتباره من السكان الأصليون لنرو . لكن أشباه الوحوش الذين رأيتهم الآن هم الغزاة . لا أحد يعلم من أين أتوا لكن الجميع يعرف هدفهم . هم يهدفون إلى التخلص من السكان الأصليون لنرو و السيطرة على العالم كله وما يرتبط به من عوالم سواء كانت جديدة أو قديمة . أما نحن يا صديقي فنُعتبر من المقاومة , أو ما تبقى منها بالأحرى .. فنحن نخسر الحرب ضدهم , نخسرها منذ زمن طويل .

-إذن نحن الآن في عالم مدمر تماما . لكن أين توجد أبيدون من كل هذا ؟

-أبيدون مدينة تأسست على يد أول قاطني نرو و تقول الأقاويل انها تأسست على يد نروباك ديبار نفسه و الذي تم تسمية العالم تيمنا باسمه . هي توجد على مقربة من مركز عالم نرو , و نحن الآن نوجد على أطراف العالم خلف سور أبيدون الشهير . هذا يعني أن بيننا و بينها مسافة لا يمكنك تخيلها قط !

-لكن ألا يمكن استخدام عملة أبيدون للذهاب إلى هناك ؟

ارتسمت إبتسامة غريبة على وجه بالري و هو يقول :

-عملة أبيدون تقوم فقط بنقلك إلى خلف أسوار أبيدون . أما داخل عالم نرو فالعملة مثلها مثل أي عملة في أي مكان آخر , يمكنك استخدامها للحصول على الموارد أو حتى شراء مكان في أبيدون . هل تعرف أن عملة أبيدون يتم إصدارها في نطاق محدود للغاية ؟ لا يمكن لأي شخص الحصول على عملة أبيدون بسهولة , وذلك لأن العملات الجديدة التي يتم إصدارها يقوم المراقبون في أبيدون بتوزيعها على الأشخاص الجدد القادمين من عوالم مكتشفة حديثا . هل تعرف أن لعملة أبيدون ميزات خاصة بها ؟

شعر إبرو بأن الحديث يأخذ منحى غريب . ازداد قلقه إزاء بالري بشكل بدأ ينذره بالخطر , لكنه على الرغم من ذلك واصل حديثه معه دون أي بادرة قد تنذر من أمامه قائلا :

-لا , ما هي تلك المميزات ؟

2020/02/04 · 536 مشاهدة · 1616 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024