مهمة اللعب كلورد إقطاعي ليست مملة كما تبدو , بل هي مليئة بالتحديات و المغامرات كذلك . المشكلة الخاصة بعدم مشاركة عدد كبير من المصريين في اللعبة منذ البداية يحلها نمط اللوردات . حين دخل إبراهيم اللعبة مع بقية المصريين كانت مصر كلها محتلة من إسرائيل , لذلك اتجه الجميع نحو الصدام المباشر و استعانوا جميعا بنمط المغامرات الفردية أو التحالفات لصد هذا الغزو . في المقابل كان الصهاينة يعتمدون على نمط اللوردات في الإحتلال بشكل أساسي . لهذا فالمعلومات المتوفرة عن عالم اللوردات ليست كثيرة إن لم تكن شحيحة , أغلبها جاءت من منتديات نطاقات أخرى . اللورد الوحيد في مصر كانت آية درويش و التي انتهت تجربتها قبل دخولهم ريونيد بكثير , إلا أن بقايا مملكتها كانت باقية لتساعدهم بشكل مؤثر خاصة في المراحل الأولى للعبة . هل سيقوم بعمل مملكة تبعا لخطوات آية درويش ؟ لو قام بذلك فماذا عن آية درويش نفسها ؟ تلك هي المشكلة !

حقيقة وجود اثنين من اللوردات في مصر سيقوي من شوكة اللاعبين المصريين في المستقبل , لكن إضافة لورد عادي للمعادلة لن يغير فيها الكثير , إضافة إلى ضيق الوقت الذي أمامه . هل عليه أن يقوم بدعم آية درويش و الإعتماد عليها ؟ إنه يثق فيها و بمقدرتها الفذة كلورد , لكنه لا يعرف هل يمكنه فعلا أن يغير من المصير المحتوم قبلا لها و يحميها ! إنه رهان عظيم ليس على حياته و حياتها فحسب بل على حساب الجميع . لا يجسر أن يقوم بتلك المجازفة قط . لكن وجوده كلورد عادي لا يخدم قضيته أيضا . ظل إبراهيم جالسا على مقعده أمام المنضدة المعدنية الصغيرة يحاول تذكر كل تفصيلة قد مرت عليه في اللعبة . لم يكن ذلك بالشيء الهين , فذكريات خمس سنوات و التي تقارب خمسة و عشرين عاما في حسابات الأرض كثيرة للغاية . ظل في مكانه قرابة الثلاث ساعات يتذكر كل ما يقدر على تذكره حتى وجد في النهاية بصيص أمل . لقد نسى أنه حين غزا الصهاينة مصر قاموا بتأسيس مدنهم فوق الإرث الخاص باللاعبين المصريين في اللعبة . هذه التفصيلة الصغيرة التي تذكرها بصعوبة منحته هذا الأمل . هذه السرقة لم تكن فقط بإرث اللوردات فحسب بل امتدت إلى سرقة المهن السرية الخاصة باللاعبين المصريين وحدهم . ما كان معروفا للجميع تفاصيل سرقة المهن تلك نظرا لأهميتها للكل , لكن سرقة إرث اللوردات قد سمع بها ذات مرة في تجمع صغير للاعبين في بداية دخوله للعبة . حاول أحد اللاعبين تأسيس مدينة كلورد في منطقة معينة لكن تفاجأ بعدم قبول الأغو لطلبه نظرا لأن هذا المكان الذي اختاره لبناء المدينة له قيمة عظيمة مرتبط بفئة سرية خاصة باللوردات . بعدها بدأ يتقصي ما حدث فعلم أن لاعبا إسرائيليا باسم شيعون جي قام بتأسيس هذه المدينة في هذه المنطقة لينضم بعدها إلى الفئة السرية من اللوردات المصريين ثم نقل المدينة من مكانها حتى يُخفي آثار فعلته . حينما تذكر إبراهيم تلك المعلومة الصغيرة فطن إلى مشكلة أكبر . لو كانت هذه الحادثة حقيقية بالفعل فهذا يعني أن تراث اللوردات في مصر قام بسرقته الصهاينة ثم نقلوا مدنهم لأماكن مختلفة حتى لا يعرف أحد أهمية تلك المدن . هذا كان بدافع الخوف لاريب , فعدد اللاعبين المصريين أكثر من عشرين ضعفا للاعبين الإسرائيلين , هذا في حالة إن نقل الصهاينة كل لاعبيهم إلى مصر و هذا أمر صعب . إنهم كانوا يخشون تجمع اللاعبين حول المدن المهمة للإستيلاء عليها من جديد و الإستفادة من مميزاتها في اللعبة . إن كان هذا حقيقي فهل يمكن له في بداية اللعبة معرفة أماكن المدن المهمة تلك و أن يحاول توجيه فريقه للإستيلاء عليها ؟ كما يتذكر فإن عدد اللوردات الصهاينة في مصر آنذاك كانوا قرابة ألفي لورد بألفي مدينة . هل عليه أن يقوم بزيارة أماكن تلك المدن ؟ لكن حتى لو فعل ذلك فلن يجد شيء مفيد فهم نقلوا المدن لأماكن بعيدة للغاية عن مكانها الرئيسي . إذن كيف عليه أن يبحث عن منابع تلك المدن ؟ إنها مشكلة صعبة فعلا .

المعلومة الوحيدة الثابتة بين يديه الآن هي معلومة تلك المدينة التي حاول اللاعب المصري آنذاك تأسيسها . مكان تلك المدينة موجود في صعيد مصر في منطقة قرب مدينة طيبة باللعبة . هذا يعني أنه إن أراد بناء مدينة هناك فعليه إذن أن يبدأ اللعبة من حيز مدينة طيبة . في تجربته السابقة باللعبة كانت مدينته التي بدأ منها هي الإسكندرية القديمة , لكن أثناء الصراع بين المصريين والإسرائيليين داخل اللعبة فقد تنقل كثيرا بين المدن العظمى في نطاق مصر , و منها مدينة طيبة . إذن البداية من طيبة . رغم أنه لم يعش فيها كثيرا إلا المعلومات التي يعرفها عن طيبة و بقية مدن مصر العظمى ليست بالكم الصغير . إذن عليه أن يسترجع كل المعلومات التي يقدر على تذكرها و أن يكتبها في سجل خاص به . نظر لهاتفه في تردد , فتقنيات التجسس في القرن الرابع و العشرين وصلت إلى مستويات عالية للغاية . أي شيء مكتوب على الأجهزة الحديثة معرض للسرقة و التجسس . إذن عليه أن يستخدم التقنية الأقدم في تسجيل كل هذه الذكريات , ألا و هي الكتابة على الورق العادي !

نظر مجددا إلى هاتفه ليجد أنه لا يملك الكثير من الوقت لفعل ذلك . عليه أن يستعد للتحرك نحو القاهرة الحديثة في غضون ساعة . خلال هذه الساعة طلب وجبة غذاء من أحد المحلات الخاصة بالوجبات السريعة ليأكلها في عجالة قبل أن يرتدي ملابسه و يتحرك خارجا من شقته الصغيرة متجها صوب نهاية الشارع الكبير الذي يقطن فيه . فالسيارة الطائرة التي أجرها واقفة في الميدان الواسع بنهاية الشارع نظرا لكبر حجمها و ما قد تتسببه من جلبة إن ظهرت في وسط هذا الشارع المزدحم . لم يكن من الصعب أن يكتشف السيارة في هذا الميدان الفسيح , فسيارة ضخمة ذات عجلات معدنية مستوية مثلها علامة مسجلة للسيارات الطائرة . سرعة السيارة في السفر في الهواء قد تصل إلى حاجز الصوت إن كان الراكب على عجلة من أمره , لكن لأنه هناك قرابة ساعة حتى موعد الإجتماع فقد تحركت السيارة بسرعة متوسطة نسبيا لا تتجاوز الثلاثمائة كيلومتر في الساعة . بتلك الطريقة سيصل إلى الإجتماع في غضون أربعين دقيقة على الأكثر بحساب التحرك داخل شوارع القاهرة المزدحمة . كانت السيارة الطائرة من الداخل فسيحة لتسع قرابة عشرة أشخاص يجلسون بأريحية تامة . يوجد بها شاشة معلقة في الهواء لتسمح للركاب بتصفح الإنترنت و ممارسة أعمالهم أثناء ترحالهم إضافة إلى بار متنقل يحمله إنسان آلي يقوم على خدمة الركاب . حينما رآه إبراهيم للمرة الأولى تذكر سيناريوهات قديمة كانت تشكل هاجسا لأغلب البشر عن الصراع المستقبلي بين البشر و الآلات . لكن الآن هو يدرك أن المستقبل لا يوجد فيه أي خطر من قبل تلك الآلات ضد البشرية , بل الخطر قادم من شيء مختلف تماما . ربما بعد مئات السنوات سيجلس حفنة من تلك الآلات الذكية ليتناقشوا فيما بينهم عن أسباب إنقراض الجنس البشري بغتة عن الأرض . إنه لشيء يدعو للسخرية حقا !

لم يشعر إبراهيم بالوقت يمر سريعا حتى وجد العربة الطائرة قد دخلت إلى شوارع القاهرة المزدحمة . رغم زياراته المحدودة للقاهرة و حقيقة أن شوارعها مزدحمة كشوارع الإسكندرية بالضبط , إلا أنه دوما ما يشعر بحجر ثقيل على صدره كلما زار هذه المدينة العملاقة , كما لو كان يدخل إلى عمق فم وحش عملاق على وشك أن يفترسه . أخذ نفسا عميقا ليزيح هذه الأفكار الغير إيجابية بعيدا عنه ثم بدأ يراجع في عقله ماذا سيفعله تاليا . راجع من جديد كل شيء قام به لمقابلة آية درويش , و هو على يقين تام أن زيارته لن تتسبب في أي شك لمن يراقب آية على الإطلاق . بدأت السيارة تتباطيء بشكل تدريجي حتى توقفت تماما أمام مبنى عملاق مخصص للمؤتمرات في قلب القاهرة الحديثة . ترجل من العربة و طلب من سائقها الإنتظار حيثما ينتهي من لقائه ثم قام بتحويل قيمة الإنتظار و رحلة العودة لحساب الشركة عبر هاتفه في ثوان ليدخل بعدها نحو المبنى . وجد مجموعة من الأشخاص المرتدين للبدل السوداء و على وجوههم ملامح الجدية التامة يقطعون طريقه نحو الداخل . بعدما تحدث معهم قليلا اكتشف أنهم من يتولى عملية تنظيم هذا التجمع . رغم أنه عبر من خلالهم بسلاسة نظرا لوجود اسمه في كشف الحاضرين و استجابتهم لطلبه بإضافة اسمي الصديقين الجديدين في الكشف تبعا للستوديو الخاص به إلا أنه شعر بالشك داخله . ملامح هؤلاء الرجال لا ينم عن مجرد شركة عادية لتنظيم المؤتمرات كما يدعون , على ما يبدو أن هذا الإجتماع ليس بالسهولة التي تخيلها . بعدما دلف إلى المبنى وجد نفسه في مقابل رواق طويل أخذ يتلوى يمينا و يسارا و هو يسير خلف هذا الرجل ذي البدلة السوداء و الذي يتولى مهمة توجيهه نحو مكان الإجتماع . استفاد إبراهيم كثيرا من تجاربه الثرية في أجواء اللعبة ليستنتج أن الشخص الذي يسير أمامه ينتمي لطائفة عسكرية ما . تلك المشية الصارمة و الحادة و الدقيقة و عدم الإكتراث بإجراء أي حوار معه مصحوبا بتلك الملامح الجافة تليق كثيرا بجندي عسكري من الطراز الرفيع . ابتلع إبراهيم ريقه بصعوبة , فعلى ما يبدو أن عملاء أمريكا و إسرائيل قد بدئوا في التحرك مبكرا عما تخيل ! هذا التجمع ليس لتبادل المعرفة و الخبرات بين الفرق , إنه تجميع لكافة المعلومات الخاصة بالفرق التي ربما ستشكل خطرا على خطط الدول الثماني . هذا لا ينبئ بالخير أبدا . تمالك إبراهيم نفسه و حاول كبت خوفه و أخذ يفكر فيما عليه أن يفعله تاليا . لم يحصل على وقت كاف للتفكير حيث وجد مرشده يفتح بابا كبيرا ليدلف إلى صالة عملاقة تكاد تستوعب ألف شخص بدون زحام . كانت الصالة فارغة من أي شيء عدا مجموعة كبيرة من الأماكن المخصصة للفرق المشتركة في اللقاء . دخل إبراهيم ليجد الباب قد أوصد خلفه ليشعر بمزيد من التوتر .

-أنا هنا الآن و علي أن أهدأ و أتصرف بشكل طبيعي حتى لا أثير الشكوك .

تحرك بخطوات بطيئة مختلسا النظر لمن حوله في ريبة . كل من هنا ينتمي لفرق الألعاب الأونلاين لاريب . ملابسهم المطبوع عليها شعارات مختلفة تشير إلى اسم كل فريق منهم , حماسهم في الحديث و انفعالاتهم الجلية , هذا كله ينم على أنهم ليسوا مدسوسين في المكان . إذن هناك من يراقبهم عن كثب بعيدا عنهم . لكن أين هم ؟ أخذ يبحث بعينيه عن أي شخص يثير شكوكه دون جدوى . لمح وسط الكم الكبير من البوثات أمامه بوث خاص عليه بوستر باسم سفينكس , أيقن أنه الخاص به . حتى لا يجذب الأنظار نحوه تحرك في سرعة صوبه . ما إن اقترب منه حتى رآها . أخيرا رآها ! تسمر في مكانه رغما عنه . رغم أنه لم يرها من قبل على الحقيقة لكن صورتها التي كان يتداولها الجميع آنذاك لازالت حاضرة في ذهنه . ذلك الطقس المقدس الذي كان يقوم به الجميع آنذاك بتبادل معلومات الأيقونات حيث أقسموا ألا ينسوهم . إنها هناك , بوجهها الخمري الناعم و جسدها الممتليء قليلا و شعرها الكث القصير الغجري الثائر ذي اللون الأحمر بخصل رفيعة باللون الأزرق البراق . إنها هناك تقف كالنجمة تشع ضوءا و أمان و حماسة لمن حولها . إنها هناك أمامه تتحدث بكل ثقة لمن حولها من أعضاء فرق كثيرة دون خجل أو تردد أو خوف . إنها أمامه , لا يفصل بينها و بينه سوى أمتار عدة , أمتار شعر كأنها سنوات ضوئية , فأعين من يراقبهم مثبتة بالتأكيد فوقها . هل يقدر بالفعل على الإقتراب منها ؟ هل يقدر بالفعل على التقرب منها ؟ تلك الأسطورة التي عاش كثيرا على ذكراها , هذه القدوة ؟ هل يقدر فعلا على حمايتها و إنقاذها من مصيرها المؤلم ؟ ربما لم يدرك إبراهيم هذا بعد لكنه لم يقع في أسرها منذ اللحظة الأولى التي وقعت عليها عيناه , بل وقع في أسرها قبل ذلك بكثير , أثناء تلك الحلقات النقاشية المحيطة بالنيران المشتعلة في الليالي الباردة الطويلة و ذكراها و ذكرى ما قامت به مخلد في صورة قصص أسطورية يتناقلها الجميع .

لقد وقع في حبها , ولهذا لن يدع أي شخص مهما كان يمس شعرة منها مهما كان الثمن .

2020/02/04 · 691 مشاهدة · 1891 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024