شعر إبرو بالغرابة من هذا الرقم خاصة أنه رقم مميز كان له علاقة وثيقة بصاحبه . توقف الرجل و قام بالدق بشكل رتيب لثلاث مرات على الباب ليجذب إبرو من سرحانه ثم تنحى جانبا مفسحا المجال لإبرو . توقف إبرو لوهلة أمام الباب ثم قام بفتحه و الدخول عبره ليجد نفسه في مكتب واسع أشبه بصالة كبيرة مكسوة أرضيته تماما بنفس نوع ولون السجاد الموجود في الرواق الذي جاء منه . كذلك غطت جوانب الحجرة تشكيلات خشبية جميلة حملت طابعا إسلاميا . في منتصف الحجرة الواسعة كان هناك مقعد خشبي كبير توجد أمامه صفين من المقاعد الجلدية السوداء بينها منضدة زجاجية صغيرة . أما خلف المكتب فيجلس شخص نحيل القوام أسمر البشرة يبدو أنه قصير القامة بعض الشيء . حملت عيناه الضيقتين لمعانا غريبا يمنح كل من ينظر إليهما شعورا بالتحدي و القوة . لم يشعر إبرو بالراحة منه بل على النقيض تماما ارتفعت لديه كل مؤشرات الخطر . فهذا الرجل الذي يجلس أمامه في أواخر العشرينات كان قد قابله في الحقيقة من قبل . لم يتخيل إبرو ولو لوهلة أن العقل المحنك الذي تسبب في دمار لا حصر له للمعتدين في اللعبة هو نفسه سراج الذي يبحث عنه . في الحقيقة هو معذور نظرا لأن هذا الذي أمامه كان يحمل اسما مغايرا آنذاك , بل كان يحمل رقما مميزا , كان يُطلق على نفسه : مئتي و خمسة ! نظر للباب من جديد و الرقم المكتوب عليه أصبح بمثابة تعويذة أسرته .

-مرحبا بك يا سيد إبراهيم . هل تقابلنا من قبل ؟

تجاوز إبرو على الفور صدمته و ذهوله و انتبه لينظر نحو سراج , فالرجل الذي يبحث عنه و الجالس أمامه يُعتبر أيقونة مميزة في اللعبة . سبب عدم بحثه عنه لضمه لفريقه أنه لم يكن يعرف أي معلومات بشأنه . رغم أنه عمل تحت إمرته طويلا إلا أن ماضيه كان دوما يغلفه الضباب . لم

يتوقع ولو لوهلة أن سراج ذاك هو نفسه العقل الغامض مئتي و خمسة . توجه إبرو في خطوات بطيئة نحو المكتب و هو يقول :

-للأسف لا سيد سراج . أنت سيد سراج , محمد سراج , أليس كذلك ؟

كان يود التيقن من أنه لم يخطيء سراج و قابل مئتي و خمسة بدلا عنه لكن جاء رد من أمامه لينفي تلك الفرضية قائلا :

-بلى أنا محمد سراج . لماذا إذن أشعر أنك تعرفني ؟

-ربما نكون قد تقابلنا في وقت آخر .

صمت إبرو و جلس بعدها في المقعد الثاني من المكتب حتى يرى سراج بشكل واضح . كان كما رآه كثيرا في اللعبة , لم يتغير فيه شيء قط . ربما شعره الأسود قد شابه كثير من الأبيض آنذاك لكن خلاف ذلك لا يوجد أي تغيير . لم يكن إبرو مندهشا من كم الحماسة التي في داخله للقاء مئتي و خمسة , فهو كان شخصية أسطورية بحق . أما عن اسمه الغريب الذي حار الجميع في تبريره فالآن أدرك السبب وراء ذلك . إنه رقم مكتبه في المبنى . يبدو عليه شخص يحب التعلق بما هو معتاد عليه , أو ربما للرقم ذاك أثر غامض في نفسه . لم يهتم إبرو لذلك , لكنه اعترف

في داخله أن مهمته صارت أكثر صعوبة . فمئتي و خمسة كان من أصعب الشخصيات التي تعامل معها في حياته الماضية باللعبة , على رغم أنه يبدو هادئا و إجتماعيا من الخارج , لكن إن حاولت الإقتراب منه سيصدك على الفور . شعر بالدهشة لأن المعلومات الخاصة عن سراج تتطابق بشكل نموذجي مع شخصية مئتي و خمسة التي يعرفها عن ظهر قلب . دهشته جاءت لأنه رغم هذا التشابه المريب لم يشك قط أن الاثنين شخص واحد . في نفس الوقت كان سراج يقوم بدراسة هذا الشاب الصغير الجالس أمامه . رغم صغر سنه إلا أنه يمتلك رباطة جأش جيدة . فعلى الرغم من المهابة التي يتمتع بها سراج و أي من يعمل في هذا المبنى العملاق إلا أنه شعر بعدم تأثر إبرو بذلك , بل على النقيض تماما , بدا له مرتاحا و هادئا كما لو كان في بيته بالضبط . نظر لإبرو في تمعن ليشعر أنه لا يتجاوز الثمانية عشر و ربما يكون أقل من ذلك بقليل . ان يمتلك شابا في مثل عمره هذه الشخصية القوية لشيء نادر .

-ماذا تريد مني إذن يا سيد إبراهيم ؟

نظر إبرو له و هو يتحرك من مقعده و يميل للأمام بهدوء . شعر إبرو بصورة من المستقبل البعيد تأتي لتندمج بشكل تام مع الشخص الذي أمامه . على ما يبدو أن طريقته في الحوار المميز فيها تحركه الدائم بجسده دون ثبات كانت عادة منذ القدم إذن . ابتسم إبرو و هو يقول بهدوء :

-أخبرتك في الرسالة أنني أعرف كل أسرار لعبة ريونيد .

نظر سراج لإبرو نظرة مطولة . فالشاب الذي أمامه قد طلب رؤيته بشأن لعبة ريونيد التي بدأ يشعر بأنها تخفي أمورا خطيرة . رغم أنه حاول البحث كثيرا خلف تلك اللعبة إلا أنه لم يجد دليل مادي ملموس يؤكد شك فيها . لكن الشاب الذي أمامه الآن و الذي يتحدث بأريحية و هدوء طلب لقائه ليخبره بأسرار اللعبة . كيف عرف أنه يشك في اللعبة ؟ وكيف استطاع معرفة أسرارها ؟ لماذا يتحدث معه بتلك الأريحية و الهدوء الغريبين كما لو كان يعرفه ؟ لو عاد سراج للوراء قليلا و نظر للصورة بشكل مغاير لشعر أنه هو من طلب لقاء الشاب لمعرفة أسرار اللعبة و ليس

العكس ! هذا جعله يشك أكثر في إبرو لكنه أخفى كل هذا داخله و قال بهدوء :

-أخبرني إذن عن تلك الأسرار .

-قبل أن أتحدث أريد أن أقوم بعمل رهان معك .

-رهان ؟

أعاد سراج ظهره للوراء في حدة . لم يندهش إبرو من ذلك فهو يعرف جيدا أن مئتي و خمسة يعشق كثيرا الرهان و ما يحمله من تحدي . ربما شكل ذلك عاملا قويا في نجاحه المميز نظرا لأنه يغرد خارج السرب , لكنه يريد استغلال تلك النقطة تجنبا لمشاكل كثيرة قد تأتي من ورائه .

-نعم رهان بيني و بينك .

-وماذا سيكون الرهان ؟ وماذا سيحدث إن خسرت و ماذا سيحدث إن كسبت ؟

-الرهان سيكون ببساطة بشأن كبسولة اللعبة . أنت قمت بالبحث فيها عن كثب و لم تقدر على إيجاد أي شيء خاطيء فيها . أنا أراهنك على وجود الكثير من المشاكل في تلك الكبسولة . اما إن كسبت أنت و خسرت أنا حينها سأجيبك بصدق تام عن كافة أسئلتك مهما كانت .

صمت إبرو قليلا ليفسح المجال لكلماته أن تترك أثرا في الرجل الذي أمامه . شعر سراج بالغرابة من كلمات إبرو و كثير من الشك تجاهه . هو بالفعل قام بتفكيك الكبسولة كثيرا دون جدوى . رغم أنه لم يفككها بشكل كامل نظرا لعدم مقدرته على تشغيلها من جديد بعد تفكيكها إلا أنه قارنها

بعدد كبير من الكبسولات المتاحة في السوق المصري و العالمي دون أن يقدر على إيجاد مشكلة واحدة فيها . كيف عرف الشاب الذي أمامه أنه فعل هذا و لم ينجح ؟ و لماذا يراهن معه على هذه الجزئية الغريبة ؟ ما لا يعرفه سراج أن مئتي و خمسة كثيرا ما كان يتحدث عن حادثة عدم مقدرته إيجاد خلل بالكبسولة خاصته و التي حصل عليها في أول يوم باللعبة . ما كان يرمز له حينها أنه ربما تبدو الأشياء سليمة و صائبة من الخارج لكن هذا لا يدل أنها كذلك . لكن إبرو يعرف الآن أن الكبسولات التي طُرحت في الأسواق أول مرة كانت مليئة بالمشاكل و أدوات التجسس و التنصت و تحديد الأماكن . لا يدري لماذا حين انطلقت اللعبة بشكل عالمي بعد خمس سنوات لم يكتشف أحد هذه الأجزاء , لكنه يعرف جيدا أنها موجودة . و هو سيستغل هذا لمصلحته .

-وماذا إن خسرت أنا و كسبت أنت ؟

-حينها لن تسألني قط عن مصدر معلوماتي .

-لماذا تريد حماية مصدرك ؟ أنا يمكنني حمايته معك .

-لا أريد حماية مصدر معلوماتي , بل لأن المصدر نفسه لن تقدر على فهمه . ربما ستظنني مجنونا أو أكذب عليك , لكن صدقني مصدر معلوماتي أريد جعله سريا حتى أتجنب الكثير من سوء الفهم .

-أنت الآن تجعلني أسيء فهمك يا سيد إبراهيم .

-لا مشكلة في هذا حاليا سيد سراج , فبعدما أكسب رهاني معك ستعرف أنني في صفك و إلى جوارك و لست عدوا لك .

توقف سراج عن الكلام محدقا نحو إبرو في تمعن . أمسك بعلبة سجائره و أشعل واحدة منها قبل أن يطلق نفسا عميقا . هذا الشاب الذي أمامه ليس سهلا على الإطلاق . لولا أنه متيقن من حداثة سنه لشعر أنه يتحدث مع شخص طاعن في السن يمتلك خبرة عميقة في الحياة . أطال النظر نحو إبرو الذي التزم الصمت و ملامحه ثابتة هادئة لا يختلجها خالجة توتر أو قلق . لم يكن إبرو قلقا من رهانه مع سراج لكنه كان قلقا من كيفية إقناعه بفعل بما يريده منه . ربما سيساعده الرهان على تنحية شكوك كثيرة من داخل مئتي و خمسة , لكن مئتي و خمسة لا يمحي أي شك قط تجاه أي شخص أو شيء مهما كان .

-حسنا موافق , لكن إن خسرت أنت و كسبت أنا سأقوم بإحتجازك في هذا المبنى طيلة عمرك حتى أشعر بعدم وجود خطر منك يا سيد إبراهيم .

-لا مشكلة لدي على الإطلاق سيد سراج .

باغته رد إبرو المباشر على تهديده له . هذا الشاب يثق تماما في كسبه للرهان حتى إن كان نتيجة خسارته له هو حياته . شعر سراج بالفضول تجاه نتيجة هذا الرهان و بدأ معني أكثر بالشاب الجالس أمامه . تحرك من مكتبه و هو يأخذ نفسا عميقا من سيجارته ثم قال :

-تعال معي .

2020/02/09 · 467 مشاهدة · 1509 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024