تحرك صوب الحائط المقابل للمكتب . كان الحائط مزدان بلوحات فنية صغيرة مختلفة . أما في منتصف الحائط فكانت شاشة تلفاز عملاقة تشغل حيزا كبيرا منه . أمسك بريموت صغير موضوع في جانب التلفاز ثم ضغط على زر فيه ليجد إبرو الحائط بدأ يتحرك بسرعة كاشفا عن حجيرة صغيرة مخفية خلفه . كانت أصغر في الحجم مقارنة بالمكتب الذي كانا فيه لكن المميز فيها وجود كبسولة كبيرة خاصة بلعبة ريونيد . أشار سراج إليها و هو يحدق بإبرو قائلا :
-هيا أرني سحرك يا سيد إبراهيم .
لم يكترث إبرو بنبرة السخرية البادية من كلماته , حيث شرع في سرعة يقوم بتفكيك الكبسولة بسلاسة . في غضون دقائق استطاع إبرو تفكيك الكبسولة ليخرج منها عدد من الأشياء الغريبة الصغيرة و المدسوسة بعناية فائقة . لولا معرفته السابقة عن ظهر قلب للكبسولة لما استطاع أن يشك في تلك الأجسام . أمسك بها و عددها لا يتجاوز الثلاثين و تحرك صوب سراج و هو يقول له في بطء و هدوء :
-هذه هي الأجسام المدسوسة في كل كبسولة باللعبة . لا أعلم فائدتها لكن أخمن أن بعضها مسئول عن تحديد الأماكن و الأخرى مسئولة عن التجسس و التنصت .
أمسك سراج بتلك الأجسام و بدأ يفحصها بدون إهتمام و هو يقول بنبرة شك واضحة :
-وما الذي يضمن لي أن تلك الأجسام الغريبة ليست جزءا من تركيب الكبسولة ؟
أجابه إبرو بإبتسامة هادئة :
-يمكنني تجميع الكبسولة من جديد و يمكنك تجربتها لتتيقن أنها تعمل . لو كان جسما أو اثنين لما تأثرت الكبسولة كثيرا , لكن ثلاثين جزءا سيجعلوا الكبسولة تتعطل ولن تعمل , أليس كذلك ؟
-كلامك منطقي .
لم يتحدث بأكثر من ذلك و اكتفى بالتحديق في إبرو بشك واضح وهو يأخذ أنفاسا متلاحقة من سيجارته . فلو كان يشك قليلا فيه فالآن شكه قد صار جبلا هائلا , فهو الآن على ثقة تامة أن الشاب الصغير الذي أمامه قد حاك له مكيدة و قد سقط فيها . طريقة تعامل إبراهيم مع الكبسولة
أشعرته أنه معتاد للغاية عليها , فلقد فكها في غضون دقائق و هو لم يفك سوى أجزاء منها و استغرق ساعة ! ما أثار فضوله هو الهدف من وراء كل هذا , فلماذا لم يتحدث إبرو عن أسرار اللعبة مباشرة ؟ هل مصدر معلوماته مهم جدا لهذه الدرجة حتى يتكبد كل تلك المعاناة ؟ راقب إبرو و هو يقوم بتجميع الكبسولة في سهولة مريبة , فاللعبة لم يمر على إطلاقها سوى عدة أيام فحسب . كيف يبدو له أنه معتاد على فك و تجميع الكبسولة بتلك المهارة و السرعة ؟ أثناء إنشغاله بأفكاره و شكوكه انتهى إبرو من تجميع الكبسولة من جديد ثم قام بتشغيلها ليصدر صوتها المعتاد على عملها مصحوبا ببدء سلسلة التشغيل المعتادة لتنتهي بوضعية الإستعداد للدخول للعبة . تحرك إبرو جانبا مفسحا المجال بأريحية و ثقة تامة لسراج كي يعاين اللعبة . بعد فترة من التدقيق و الملاحظة اكتشف سراج أن الكبسولة تعمل دون أي خلل على الإطلاق . هذا يعني أن إبرو قد كسب الرهان و أن ما بيده الآن هو أدوات تجسس فائقة التطور لا يعرف عنها شيئا . عمق ذلك من شعوره بالقلق إزاء تلك اللعبة , فعلى ما يبدو أن ورائها أسرارا ضخمة لم يكن يتخيلها قط . نظر لإبرو في صمت , لولا هذا الشاب لما استطاع أن يمسك بدليل مادي ملموس على وجود مؤامرة في ريونيد . لكن ما طبيعة تلك المؤامرة و ما هي أضلاعها و ما أهدافها ومن الذي ورائها ؟ هناك الكثير من الغموض الذي يكتنف هذه اللعبة و إن كان حدسه يخبره أن ما يعرفه هذا الشاب أخطر بكثير مما يعتقده .
-لقد كسبت الرهان و خسرت أنا , لذا لن أسألك قط عن مصدر معلوماتك . هل أنت مرتاح الآن ؟
-بلى سيد سراج .
-والآن لتخبرني بما تعرف .
-لنجلس فما سأقوله طويل و تفاصيله كثيرة . لكن ألا يتملكك الفضول لمعرفة ما تعنيه تلك الأجسام التي بيديك ؟
نظر سراج نحو الأجسام الغريبة و هو في داخله يشعر بالفعل بفضول لمعرفة هويتها . ابتسم إبرو برضا و هو يقول :
-لتبحث أولا عن هويتها , فأنا لست متعجلا لإخبارك بكل شيء عن ريونيد الآن .
نظر سراج له نظرة شك و توجس . لماذا يتعامل معه هذا الصغير كما لو كان أعلى منه مرتبة و مكانة ؟ أحنقته هذه الطريقة في التعامل لكنه اعترف في داخله أنه بالفعل يحتاج لمعرفة فائدة تلك الأجسام التي استخرجها إبرو من الكبسولة . فربما لا يكون لها أي فائدة على الإطلاق و ربما تكون كما يشك أدوات تجسس متقدمة للغاية .
-حسنا لتنتظر هنا ريثما أنتهي من فحصها .
-لا مشكلة لدي , سأنتظرك .
تحرك إبرو كما لو كان المكتب هو بيته ليجلس على مقعده من جديد مغلقا عينيه و مريحا ظهره في أريحية تامة استفزت سراج . هذا الصغير يُظهر سنا يفوق سنه بكثير بشكل مستفز للغاية . الحقيقة أن إبرو كان يتعمد التعامل بتلك الطريقة مع سراج , فمن خلال تجربته في التعامل مع مئتي و خمسة لثلاث سنوات كاملة استطاع معرفة طريقة تفكيره . لو منحت له فرصة شعوره بأفضلية تجاهك فلن يتردد لوهلة أن يقوم بالسيطرة عليك و التحكم فيك . هذه الغريزة الطبيعية داخله هي التي ساهمت في رسم صورته الأسطورية آنذاك . ربما كان سراج مظلوما في تعامله مع إبرو , فالأخير كان أحد أعضاء الفرقة التي يقودها في اللعبة . لهذا فكل أسراره و طريقة تفكيره تعتبر لوحة مكشوفة تماما أمام إبرو . لم يجد سراج أمامه بدا سوى أن يتحرك خارجا من الغرفة ليقوم بفحص تلك الأجسام الغريبة مع المتخصصين في المبنى . أثناء ذلك كله كان إبرو يجلس في مكانه دون حراك . لم يكن عالما أن كل حركة منه كانت مراقبة بعناية بالغة من قبل سراج الذي كان يشاهد بثا مباشرا لمكتبه عبر هاتفه الخاص أثناء إنشغال المتخصصين بفحص الأجسام الغريبة .
لم تستغرق مهمة فحص الأجسام طويلا ففي غضون دقائق اكتشف المتخصصون أن تلك الأجسام هي من أحدث طرز التجسس في العالم كله . لكن على الرغم من ذلك ظل سراج في مكانه يراقب إبرو عن كثب . بعد مرور ثلاث ساعات كاملة يئس أخيرا من أن يكتشف أي شيء من إبرو . فهذا الثعلب الصغير ظل في مكانه قابعا دون حراك أو تغيير على ملامحه مغمضا عينيه لا يعرف إن كان قد غط في النوم أم لازال مستيقظا . لكن من خلال مراقبته له خلال تلك الفترة نما داخله شعور عظيم بالتوتر تجاهه . هذا الشاب ليس شخصا بسيطا على ما يبدو , بل إنه ثعبان محنك .
أثناء مراقبته كان قد طلب ملفا خاصا بإبراهيم الذي أمامه ليجد كافة المعلومات المتعلقة به معلومات عادية لا يوجد فيها ما قد يجذب إنتباه أي شخص . جعله ذلك يشعر بمزيد من القلق و الشك تجاهه . دلف سراج بهدوء إلى مكتبه محاولا إكتشاف إن كان إبرو قد غط في النوم أم لا لكن لدهشته ما إن فتح الباب و دخل للمكتب حتى جاءه صوت إبرو دون أن يغير من وضعيته قائلا بنبرة قوية :
-هل اكتشفت فحوى تلك الأجسام ؟
تمالك سراج نفسه بمهنية مميزة ثم قال بنبرة هادئة و هو يعود ليجلس على مكتبه قائلا :
-بلى فعلت .
جلس قليلا ليحدق نحو إبرو الذي فتح عينيه و ظل محدقا بثبات نحوه . بعد دقائق من الصمت بينهما كسره سراج متسائلا :
-ألن تسألني عما اكتشفته بشأن تلك الأجسام ؟
هز إبرو كتفيه بلا مبالاة قائلا :
-لا أكترث لها فهي آخر ما يقلقني بشأن هذه اللعبة . كذلك أنا خمنت دورها منذ مدة ولا يهمني أن أعرف المزيد بشأنها .
أمسك سراج بسيجارة من علبته لتصبح فارغة ثم أشعلها و أخرج نفسا طويلا منها قبل أن يشير لإبرو بإصبعه قائلا :
-هل تعرف أنك حتى الآن لم تخبرني بأي معلومة قط بشأن لعبة ريونيد ؟
-كيف ذلك ؟ لقد منحتك دليلا ملموسا على أن اللعبة ليست عادية كما يتوقع الجميع و أن ورائها سرا خطيرا , أم نسيت الأجسام التي اكتشفتها في كبسولتك ؟
لم يجبه سراج إنما أخذ نفسا آخر من سيجارته مطيلا النظر نحو إبرو . نحى شكوكه جانبه ثم قال له :
-حسنا , لتخبرني إذن بما جئت من أجله سيد إبراهيم .
-ما اسمك في اللعبة ؟
-ما علاقة ذلك بما جئت من أجله ؟
-لا شيء , فقط ساورني فضول , هل تستخدم اسمك أم تستخدم رمزك الخاص ؟
-رمزي الخاص ؟
-بلى , أعني رقم مكتبك هنا .