رغم كل المشاعر المختلطة لدى إبراهيم إلا أن تسمره لم يدم سوى للحظة واحدة بعدها تابع سيره صوب البوث الخاص به . ما إن وصل نحو التجمع المحيط بآية حتى استوقفه صوت ناعم يقول :

-هل يمكنك أن تنتظر للحظة ؟

لم يحتج إبراهيم للإلتفات لرؤية من يحدثه , فهذا الصوت الناعم قد سمعه من قبل في سجل مشهور للغاية و الذي عُرف بسجل أويا . رغم أنه بحاجة ماسة للحديث معها إلا أن الجميع من حولهما لن يدعهما يتحدثان بسرية و إلا جذبا الإنتباه , لذا أرجأ إبراهيم الحديث عما يضمره في قلبه لاحقا و التفت نحو آية قائلا :

-بالتأكيد يمكنني ذلك , لكن لا أعتقد أننا تقابلنا من قبل .

-نعم هذه هي أول مرة نتقابل فيها . اسمي آية درويش , لاعبة محترفة في أمريكا .

نظر إبراهيم نحو يدها الممدودة نحوه في تردد قبل أن يمد يده ليصافحها قائلا :

-اسمي إبراهيم توفيق , و أنا مؤسس ستوديو سفينكس .

-ستوديو سفينكس ؟ هذا اسم جديد علي تماما .

-بالفعل فلقد أسسته بالأمس فقط .

صدرت ضحكات سخرية مكتومة من قبل من حولهما لكن لم يكترث بشأنهم إبراهيم , أما آية فبدا عليها قليل من الإمتعاض دفعها للقول متجهة نحوه :

-لنتحدث لدى بوثك إذن يا من تملك ستوديو سفينكس .

انقبض قلب إبراهيم حين تحرك خلفها و يدها تجر يده صوب بوثه في رشاقة . رغم رغبته في الحديث معها بشكل اكثر إستفاضة إلا أنه يضع دائما نصب عينيه نظرات من يراقبونه . عليه ألا يجعل الأمر يبدو مريبا قط حتى يأمن شرهم . لكن أمامه تسير آية بثقة منحته الجرأة في مجاراتها , فهي من طلب تحركهما صوب بوثه و ليس هو أي أنه في أمان , أو هكذا يظن . ما إن وصلوا إلى البوث حتى قالت :

-أعتذر لك عما بدر منهم , فعلى الرغم من وجود بعض من الأوغاد المتكبرين وسطهم إلا أن أغلبهم نقي القلب .

-هل تعرفينهم كلهم ؟

ضحكت آية بصفاء و هي تقول بنبرة بدت له متكلفة :

-أنا أعرف كل لاعب مصري محترف .

تصنع إبراهيم الدهشة وهو يقول :

-يبدو أنكِ مشهورة للغاية .

-لست مشهورة فحسب بل أمهر لاعبة بينهم كذلك !

كانت نبرتها تدل بوضوح على تصنعها المزيف لشأنها العالي , لكن على الرغم من ذلك فلم يضحك إبراهيم مع ضحكاتها , فهي بالنسبة له أهم لاعب في المكان هنا إن لم يكن في اللعبة كلها . تلفت حوله في سرعة حتى يتيقن من عدم متابعة من حولهما لهما . جذبت حركته تلك إنتباه آية فقالت بصوت هادئ :

-يبدو أنك تشعر بالقلق يا إبراهيم .

لم يجبها إبراهيم مباشرة إنما نظر في عينيها بعمق . حملت نظراته جدية كاملة شعرت معها آية أن هناك شيء خطير على وشك أن يحدث . تلفت إبراهيم مجددا حوله ثم تحرك داخل البوث دون أن يتحدث . شعرت آية بالشك من تصرفات إبراهيم لكن شيء ما داخلها جعلها تتحرك خلفه داخل البوث . كان البوث بسيطا للغاية عبارة عن منضدة معدنية متراص فوقها بعض من البوسترات الدعائية بشأن سفينكس . خلف المنضدة حيز ضيق يناهز الثلاثة أمتار في مترين , يتفرع من جانبه حيز أكثر ضيقا لا يتجاوز المتر ونصف في مترين . يوجد في هذا المكان حول المنضدة ثلاث مقاعد معدنية جذب إبراهيم واحد منها و حركه تجاه آية الواقفة أمام المنضدة ثم أشار برأسه بإتجاه الحيز الأكثر ضيقا ثم جذب مقعده نحو نفس المكان ليجلس في قبالة آية التي تحركت خلفه لتقف في صمت تراقبه بتركيز و تمعن . حملت في عينيها أسئلة كثيرة تتمحور حول ريبها من تصرفاته , و معها حق فأي شخص في مكانها سيشعر بالإرتباك و الشك . لم يدع لها مجالا للحديث حيث قال في سرعة و آية لازالت واقفة إلى جوار مقعدها :

-كما قلتِ لي الآن أنكِ أمهر لاعبة هنا و أنا حديث تماما في هذا المجال لذا فأنا بحاجة لكِ كي تشرحي لي ماذا يمكنني أن أقوم به في الستوديو الخاص بي كذلك أتمنى أن ترشحي لي عددا من الألعاب الرائجة حاليا كي يمكنني الإستفادة ماديا من الستوديو .

أثناء حديثه البطيء و الهاديء قام إبراهيم بشيء لم تتخيله آية قط . أخرج هاتفه و قام بإغلاقه مباشرة و إخراج البطارية الصغيرة منه . هذه الحركة وسط كلماته الهادئة جعلتها تشعر أن من يجلس قبالتها الآن ليس بالشخص الهين . هذه الحركة تدل على أنه يعرف بوجود من يراقبها و يراقبه . حين توصلت لهذه النقطة قفزت نحو نقطة أكثر جنونا : هل يعرف بأسرار و مخاطر ريونيد ؟ بعدما انتهى إبراهيم من حديثه وضع هاتفه في جيب معطفه الثقيل و المميز بأن بطانته تحوي أسلاك معدنية معينة تصد آلموجات الكهرومغناطيسية و ترددات النانو الدقيقة . ظلت آية تحدق بعمق نحو الشاب الصغير الذي لولا حركاته المريبة لما انتبهت لوجوده . رغم ما يعتمل داخلها من صدمة جراء ما توقعه عقلها و خوفها مما سيحدث إن تم كشف أمرهما الآن ممن يراقبونها إلا أنها قررت المجازفة . لا تعلم حقيقة لماذا قررت أخذ هذه الخطوة أمام شخص لا تعلمه , ربما شخصيتها المندفعة أو رغبتها في تجربة شيء جديد قد يضيف بعدا جديدا للمعادلة يغير من وضعها الصعب الذي هي فيه الآن . ربما لأنها تشعر بالخوف البالغ داخلها ممن يراقبون تحركاتها كالصقور الجائعة . قبل أن تجلس على المقعد قامت بخلع معطفها و وضعه على المنضدة المعدنية خلفها ثم جلست فوق المقعد وهي تقول :

-هذا حديث طويل يا إبراهيم , قل لي هل لعبت لعبة أونلاين من قبل ؟ وماذا لعبت ؟

-لعبت لعبة فقط من قبل و سألعب الثانية قريبا . اسم اللعبتين هما آشلي و ريونيد .

رغم إجابة إبراهيم التلقائية لها إلا أن عيناه كانتا مثبتتين فوقها . كان يراقب كل تغير في ملامحها و نظراتها مهما كان دقيق . استطاع ملاحظة ارتعاش يسراها للحظة قبل أن تثبت من جديد . لقد صح تخمينه , فلفظة " آشلي " كانت شفرة معروفة جدا وسط اللاعبين المصريين كناية عن أنهم يعرفون أسرارا خطيرة للغاية لا يمكنهم الإفصاح عنها , و كالعادة هذه الشفرة اخترعتها آية و سار على دربها الجميع . ما راهن عليه إبراهيم أن آية قامت بإختراع تلك الشفرة قبل بداية لعبة ريونيد , بل ربما كانت شفرتها الخاصة في الحياة منذ الصغر . مما لاحظه للتو جعله يدرك أن رهانه على ما يبدو قد كسب .

-لعبة آشلي لعبة قديمة , لن تفيدك تجربتك فيها بما أنت مقبل عليه في لعبة ريونيد .

-لا أظن ذلك فلعبة آشلي جعلتني أدرك أساس الألعاب الأونلاين فهي لعبة معقدة للغاية لها أسرار كثيرة و حسابات متضاربة بين اللاعبين لذا أنا مستعد تماما للعبة ريونيد .

ما حملته عباراتهما كان أعمق بكثير مما يبدو . القاعدة التي وضعتها آية في استخدام شفرة آشلي هي بدء الحديث عن آشلي في أي عبارة ثم بعدها ربطها بالموضوع الذي تتحدث عنه . ما قالته آية له تعني أن لعبة ريونيد ليست كأي لعبة سابقة في الألعاب الأونلاين و هو أمر يعرفه إبراهيم جيدا حق المعرفة . ما فهمته آية من كلامه أنه يعرف أن لعبة ريونيد لعبة معقدة لها أسرار كثيرة و حسابات متضاربة بين اللاعبين . رغم أن ملامحها ظلت بلا أي تغيير إلا أن داخلها كان أشبه ببركان ثائر . عدد الأسئلة التي عصفت بعقلها كانت أكثر بكثير من مقدرتها على التفكير فيها دفعة واحدة . لكن حقيقة مؤكدة بدت واضحة للغاية أمامها : هذا الشاب يعرف جيدا أسرار لعبة ريونيد . لكن لماذا يتحدث معها هي وحدها عن ذلك ؟ هل يعرف كذلك ما تخطط لفعله داخل اللعبة ؟ أشعرتها تلك الفرضية بالخوف الشديد فتلفتت بحركة عصبية حولها كما لو كانت على مشارف الموت . ما تشكل داخل عقلها هي أبعاد مؤامرة لم تكن تتوقعها بكل تلك السرعة , مؤامرة خطط لها عملاء المخابرات الأمريكية و الإسرائيلية . لا تعرف كيف كشفوها لكن على ما يبدو أن الشاب الجالس أمامها الآن مدسوس عليها من قبلهم و أن ما يفعله الآن معها هو جزء من تلك المؤامرة لكشف نواياها و خططها و الإيقاع بها متلبسة و إلا كيف لشخص عادي مثله أن يعرف أسرارا بمثل هذه السرية و الخطورة ؟ كيف له أن يعرف أحد أدق أسرارها , شفرة " آشلي " ؟ هي لم تخبر أحد قط بتلك الشفرة و لا يمكن لشخص عادي أن يكتشفها . أما الجالس أمامها الآن فلم يكتشفها فقط بل قام بإستخدامها في التواصل معها . شعرت بالخطر من إبراهيم . في الوقت نفسه أثناء طوفان أفكارها العاصف لاحظ إبراهيم تبدل نظراتها الهادئة تجاهه لنظرات حملت كما هائلا من الكراهية و الشك و الخوف . لم يكن رد فعلها ذاك إلا ردا طبيعيا توقعه من قبل فسارع بالقول :

-يبدو أنكِ لا تصدقين أن تجربتي في آشلي مختلفة و فريدة , فلقد كنت واحدا ممن قاوموا إستعمار الغرباء دفاعا عن أرض آشلي المقدسة و خلال تجربتي تلك عرفت أن محاربتي بمفردي كانت صعبة و لن تحقق الهدف المرجو منه , لذلك قررت أن أؤسس ستوديو سفينكس حتى أجمع لاعبين مثلي مهرة و لهم حماس و خبرات في الألعاب الأونلاين لأستعين بهم في لعب ريونيد و محاولة كسب الأموال من ورائها .

رغم فهمها لرسالته التي فحواها أن نواياه في لعبة ريونيد مختلفة عما تظن فهو ينتوي مكافحة الإستعمار الخارجي ضد مصر في اللعبة و أنه يجمع مجموعة من اللاعبين معه إلا أنها لازالت تنظر نحوه بنفس الكم الهائل من الكراهية و الخوف , فتابع قائلا بكلمات متسارعة خوفا من أن تقوم بفعل شيء طائش يكشفهما سويا :

-في لعبة آشلي لم أكن قط بخائن أو غادر , فما أكرهه أن يقوم أحد بالوشاية ضدي لدى أعدائي . لذلك سأتحرى الدقة في إختيار أفراد ستوديو سفينكس حين ألعب أي لعبة أونلاين مثل ريونيد . كذلك في آشلي لو أردت الوشاية بأحد لما عرف و لتفاجأ بمصيره المظلم الذي يخاف منه كما أخاف أنا كذلك منه .

صمت بعدها إبراهيم ودقات قلبه متسارعة بشكل كبير للغاية . ما قاله لتوه يحمل خطرا كبيرا عليه و عليها لو ركز أي ممن يسمعهما في الرسائل التي يرسلها في حديثه . الحقيقة أنه يرغب في إخبارها بكل شيء , لا يهم إن كانت ستصدقه أم لا , لكن هو يخاف للغاية أن يجازف بكشف نفسه و كشفها خاصة أنه يقدر على الهرب إنما هي لا تقدر . فجأة تصلب عقله ليفكر في هذه الفرضية , ماذا لو قام بجعلها تهرب معه ؟ بدت فكرة مغرية للغاية له , لكن بعد لحظات تخلى تماما عنها . فهي الآن أمامه لازالت غير مصدقة لما قاله لها , فكيف ستوافق على رهن حياتها كلها عليه ؟ رغم أن الكلام الذي قاله إبراهيم لتوه يحمل الكثير من الدلائل التي تنفي وجود مؤامرة من قبله ضدها إلا أن حياتها بأسرها متوقفة على هذا . لن تجازف قط بحياتها في سبيل أي شخص مهما كان , ما بالك بشخص لم تتعرف عليه سوى لدقائق معدودة . حزمت أمرها و تحركت من مقعدها دون حتى أن تقول له أي عبارة وداع . ما إن اقتربت من معطفها حتى قال إبراهيم لها :

-كنت ألعب في لعبة آشلي في مدينة طيبة باسم إبرو , هل قابلك اسمي هناك من قبل ؟

توقفت يداها لوهلة قبل أن تأخذ معطفها و تتحرك مبتعدة عنه كما لو كان حاملا للطاعون . تابع تحركها بنظراته و هو لا يعلم هل فهمت ما أراد أن يخبرها به أم لا ؟

2020/02/04 · 655 مشاهدة · 1785 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024