استيقظ إبراهيم في اليوم التالي في الظهيرة تقريبا . كان اليومين الماضيين مشحونين للغاية و مرهقين جدا له . كان جسده بحاجة لتلك الراحة . ما إن قام من فراشه حتى بدأ بأداء مجموعة من التدريبات الجسدية بشكل غريزي . كانت حياته في اللعبة مليئة بالمخاطر لذا فإن لياقته الجسدية كانت ضرورية لبقائه على قيد الحياة . رغم أنه ليس في خطر محدق الآن إلا أن عاداته القديمة من الصعب التخلص منها . بعد نصف ساعة من التدريبات العضلية وجد إبراهيم لدهشته أن جسده لا يقدر على مواكبة تدريباته التي اعتاد عليها , فجلس يلتقط أنفاسه بصعوبة مدركا أنه ليس ابن الثلاثين الذي اعتاده , بل لازال في الثامنة عشر من عمره . رغم ذلك قرر أن يواظب على أداء التدريبات حتى يستعيد جسده لياقته التي اعتاد عليها في اللعبة . بعد ذلك تحرك ليقوم ببحث ضخم عن مكان يصلح لإختبائه عن الأعين . كانت شروطه لهذا المكان بسيطة لكن صعبة التحقيق . هو بحاجة لمكان لا يمكن لأحد الوصول إليه دون كشف وجوده الغريب في المكان , ولا يكون من السهل التجسس على أحد يقطن هناك . كذلك يجب أن يكون المكان بجوار مدينة كبيرة , حيث إن ساءت الأمور يقدر على الهرب من مكانه بسرعة قبل أن يصل إليه أحد . دوما فكر في طرق للهرب في حال ساءت الأمور , هذه من القواعد الأساسية في لعبة ريونيد . لم يثمر بحثه طيلة اليوم عن أي نتيجة مرجوة . كل الأماكن التي وجدها لا تتوافر فيها كل الشروط الأساسية . في نهاية النهار قرر أن يقوم بتغيير البحث حتى يقلل من حدة توتره , فإن فشل في إيجاد مخبأ آمن له فلن يقدر على تنفيذ أي خطوة من خطوات خطته . بدأ يبحث عن سيارة عملاقة تصلح لنقل الكبسولات الثماني . رغم أن حجم كل كبسولة لا يتجاوز المترين و النصف طولا و المترين عرضا و متر و نصف إرتفاعا إلا أن ثمانية منها تشغل مساحة ضخمة لاشك . أسفر بحثه هذه المرة عن نتيجة أرضته . وجد سيارة عملاقة لنقل السيارات بين المدن المختلفة . بدا من حجمها الضخم الذي يتجاوز الخمسين متر طولا أنها قادرة على نقل عشرات الكبسولات و ليس مجرد ثمانية . بعدما قام بشرائها قام بعدها بالبحث مجددا عن مأوى له . لكن كالعادة لم يسفر بحثه عن أي نتيجة حتى حل الظلام و توغل ليسقط على منضدته المعدنية الصغيرة يغط في نوم عميق .

سار اليوم التالي على نفس المنوال , و للأسف كانت نتيجته مثل سابقه . في نهاية اليوم و نظرا لشعور إبراهيم بالتوتر و الخوف الشديد قام بإنهاء البحث عن المكان وقام بحجز مجموعة ضخمة من السوائل المغذية و المخصصة للكبسولات . استخدام الكبسولة في الألعاب الأونلاين ليس إختراعا جديدا , فكل الألعاب الحالية تعتمد على وجود كبسولة لكل لاعب . نظرا لأن الكبسولة تتيح للاعب أن يظل فترات طويلة قد تصل لأيام داخل الألعاب فكان من الضروري وجود سائل مغذي بها يقوم بإمداد جسد اللاعب بالتغذية المناسبة . كانت هناك إشاعات كثيرة في بداية ظهور السوائل تلك أنها تقوم بتقوية جسد اللاعب و تطوير قدراته العضلية , لكن إبراهيم يعرف أن تلك الشائعات حقيقة بالفعل خاصة حين يستخدم اللاعب سوائل مغذية ذات جودة عالية . لهذا السبب قام بحجز كمية كبيرة من السوائل المغذية من أرقى نوع متوفر في السوق المصري . لم يخف أن يتسبب ذلك في جذب الأنظار إليه فسوق الألعاب الأونلاين ضخم للغاية في العالم كله و مصر ليست مستثناة من ذلك . بعدما انتهى من عملية شرائه لم يعاود البحث من جديد عن المكان , بل ألقى بجسده على فراشه محاولا الإسترخاء . في العصر الحالي إيجاد مكان يجعله يختفي عن الأنظار أمر صعب للغاية , فالتقنيات الحديثة من هواتف مدمجة بالحواسيب الحديثة و السيارات الطائرة و كاميرات مراقبة الطريق و غيرها من أوجه التكنولوجيا الحديثة تجعل كل مكان صورة مكشوفة لأي شخص يمتلك السلطة المناسبة للتجسس و التلصص . لو أراد أن يهرب فعليه أن يذهب لمكان لا يوجد فيه أحد, لا تقنيات ولا مظاهر حياة حديثة . لكن لو ذهب لمكان كهذا فلا يضمن خصوصيته , فالأقمار الصناعية الضخمة في الفضاء تراقب كل شخص في كل مكان . إذا أراد الهروب حقا فعليه أن يذهب لمكان لا تمتد إليه أصابع التكنولوجيا الحديثة ولا الأقمار الصناعية و يحتوي على قدر ضئيل من البشر , هل يذهب للمريخ إذن ؟

أمضى ما تبقى من يومه يحاول تذكر تفاصيل اللعبة و بالأخص كل ما يمت لنمط اللوردات بصلة . لم يعرف متى نام لكنه حين استيقظ في الصباح كان على صوت تنبيه عال من هاتفه , فلقد وصلته رسالة للتو . قام بفتح الرسالة ليجدها تنويه من قبل الشركة التي تنقل الكبسولات بأنها ستنقل الكبسولات من بارجة عملاقة طائفة من البحر الأبيض المتوسط مباشرة نحو منزله . حوت الرسالة على موعد وصول الشحنة إليه مع طلب لتأكيد عنوانه و تأكيد تواجده في المكان حين وصولها . كذلك كان هناك كودا خاصا لتتبع الشحنة أثناء تحركها من البحر . قام بكل سهولة بتأكيد عنوانه و تواجده ثم طلب إفطارا من المطاعم السريعة المحيطة به . بعدما انتهى من إفطاره تواصل مع الشركة التي اشترى منها سيارة النقل العملاقة و طلب منها أن تصل إليه في المساء . الطريقة الأسهل لنقل كل هذه الكبسولات عن طريق نقل الكبسولات مباشرة من شركة الشحن إلى سيارته العملاقة الجديدة , لكنه خشى أن يلاحظ أحد ممن ينقلون الكبسولات أو ممن مسئول عن تركيبها نيته لنقلها . ربما يراقبون سيارته و يعرفون أماكن أفراد فريقه . لهذا قرر أن يلجأ للحل الآخر أن يجعلهم يركبوا الكبسولات لديه بالشقة ثم يقوم بعدها بفكها و نقلها لسيارته في الليل و التحرك بعدها صوب منازل أعضاء فريقه .

نظرا لأنه لا يرغب في البحث من جديد الآن عن مكان هروبه حتى لا يزداد ذعره أكثر و أكثر قام باستخدام الكود لتعقب شحنته محاولا تضييع الوقت . كانت الإشارة القادمة عبر الموقع الإلكتروني لشركة الشحن تشير إلى وصول أفراد طاقمها إلى مكان ما بالبحر . تخيل وجود سفينة عملاقة تطفو على إرتفاع عشرين مترا فوق سطح البحر و تتحرك بسرعة هائلة قادمة من مصانع الكبسولات في أوروبا . بدا المنظر في عقله مهيبا بالفعل . بعد نصف ساعة من توقف الإشارة في مكانها بدأت في التحرك ببطء تجاه ساحل مصر الشمالي . كانت السفينة الطائفة أقرب لليبيا عن مصر , و هذا ما جعله يخمن أن هناك عدد من اللاعبين في ليبيا سيشتركون في اللعبة كذلك . فكر للحظة أن يحاول التواصل مع اللاعبين المشهورين في الدول العربية من حوله , لكنه تراجع بعدها عن ذلك , فهكذا سيضع نفسه تحت الضوء المباشر أمام أعدائه . نفض عن عقله تلك الفكرة و عاد ليتابع رحلة نقل كبسولاته إليه . تحركت النقطة المضيئة عابرة الحدود المصرية الليبية لينتهي بها المطاف في طريق مباشر نحو الإسكندرية الحديثة . رغم أنه لم يذهب قط لما هو وراء غرب الإسكندرية إلا أنه يعرف بوجود أكثر من مدينة على هذا الطريق , أشهرهم مدينة الضبعة القديمة و مدينة العلمين الحديثة . بدت الرحلة مملة للغاية ففي خلال ساعة كاملة أخذت النقطة الحمراء المضيئة على هيئة سيارة صغيرة تتحرك ببطء على الخريطة الخاصة بمصر . لولا أنه يحاول الهرب من محاولات بحثه الفاشلة لأغلق صفحة المتابعة تلك منذ فترة طويلة .

-كم أكره الرتابة !

تحرك من مكانه ليقوم ببعض التدريبات العضلية محاولا تشتيت عقله حتى لا يعود مجددا للبحث . لكن أثناء تدريباته كانت عيناه متعلقتين دوما بتلك النقطة المضيئة . لا يعرف لماذا يراقبها بتلك الصورة لكن على ما يبدو أنه متحمس بشكل لم يتخيله قط لبدء اللعبة . هو يعرف أنه لن يقدر على بداية اللعب فور حصوله على الكبسولة , لكن ألن تكون تلك خطوة تقربه من اللعبة ؟

-ما الذي حدث ؟

توقف فورا عن تدريباته و عيناه مثبتتين فوق شاشة هاتفه الكبيرة . لقد سرح عقله لوهلة مفكرا فيما سيفعله حين يدخل اللعبة , لكن في غضون تلك اللحظة اختفت النقطة المضيئة عن الشاشة أمامه . تحرك من مكانه فورا ليمسك بمقبضي تحكم هاتفه مركزا في الخريطة أمامه . كل شيء طبيعي عدا اختفاء تلك النقطة الحمراء . قام بالخروج من الموقع ثم إعادة فتحه مجددا و استخدم نفس الكود المرسل له من قبل شركة الشحن ليدخل من جديد على نفس الخريطة التي كانت أمامه للتو . كانت الشاشة أمامه مملوءة بخريطة عامة عن منطقة الساحل الشمالي لمصر . حاول البحث عن مكان الشحنة ليجد خطا دقيقا بدايته من نقطة تحرك الشحنة من البحر لتنتهي بالإسكندرية . لاحظ أن بجوار هذا الخط الدقيق معلومات مكتوبة بخط صغير للغاية , فقام بتكبير الخريطة حتى استطاع مشاهدة تلك الأرقام . كانت تلك الأرقام تعبر عن المسافة المتبقية لوصول الشحنة إليه كذلك عن الوقت المستغرق للرحلة . دل ذلك على أن السيارة الحاملة للكبسولات لازالت في طريقها دون مشكلة , إذن لماذا اختفت النقطة من أمامه ؟

صدمه الأمر بغتة ليرتجف جسده من فرط الإنفعال , لو صح استنتاجه فإنه قد توصل لحل رائع لمشكلته التي تؤرقه . لم يرغب في الإندفاع في حماسته قبل أن يتيقن من تخمينه . هذه المرة أصبح يتابع خط سير الرحلة بترقب بالغ . بعد دقائق من الترقب عادت النقطة الحمراء بالظهور من جديد على الخريطة على نفس الخط الخاص بالرحلة . طيلة هذا الوقت كان قد كبر الخريطة أكثر من مرة و تيقن من نقطة البداية و النهاية للرحلة ليتيقن من عدم وجود أي تغيير لطريق الرحلة . هذا زاد من ثقته في صحة تخمينه , لكن كي يتأكد بشكل يقيني عليه أن ينتظر حتى تأتيه الكبسولات إلى بيته , حينها سيعرف تفاصيل ما حدث . مر الوقت بطيئا عليه للدرجة التي شعر كأنها عام كامل . بعد مرور ساعة تقريبا منذ عودة ظهور النقطة من جديد على الشاشة ظهر تنبيه حاد من هاتفه يخبره بوصول الشحنة أسفل شقته . ضغط بسرعة على زر تأكيد الوصول ثم تحرك بخطوات مسرعة خارجا من شقته نحو الشارع بالخارج ليجد مجموعة من السيارات الضخمة تقف أمام باب بيته . حاول ضبط أنفاسه المتلاحقة و التحكم في إنفعالاته قبل أن يقوم بالإشارة لهم كي يبدئوا عملية نقل الكبسولات . كانت العملية سلسلة للغاية لم تستغرق نصف ساعة , فهؤلاء العمال مهرة و معتادون على عملهم . أثناء عملية نقل الكبسولات عرف إبراهيم خلال حديثه القصير مع العمال بتفاصيل رحلتهم و التي كانت خالية من أي عقبات كما أخبروه . علم منهم كذلك أنه لو أراد تتبع خط سير الرحلة فيمكنه ذلك عبر الموقع الخاص بالشركة و الكود الخاص الذي تم إرساله له عبر الهاتف . يمكنه أن يتابع خط سير الرحلة و يعيد تشغيل الرحلة من جديد لمراقبة كل شيء فيها و إن أراد أن يحذف هذا السجل من الشركة فبإمكانه أن يفعل ذلك بعد إنتهائهم من تركيب الكبسولات له . جاءت إجابات العمال بشكل تلقائي كما لو كانوا قد اعتادوا على مثل هذه الأسئلة . رغم خوف إبراهيم من إثارة شكوك من يقومون بتركيب الكبسولات في شقته من أسئلته الكثيرة لعمال النقل إلا أن طريقة ردودهم جعلته يطمئن . لقد وجد أخيرا ضالته . كم ود لو أخرجهم الآن من شقته فهو ليس بحاجة لتركيب الكبسولات فيها , لكنه لو فعل ذلك لصار محل شكوك هؤلاء التقنيين القادمين من أوروبا . رغم عدم معرفتهم للغة العربية لكنه لم يكن واثقا تماما من ذلك , فربما كان هناك أحد منهم مدسوس للتجسس على من يقومون بشراء الكبسولات لمعرفة تفاصيلهم و طبائعهم . تمالك إبراهيم نفسه و تصنع الجمود التام و عدم الإكتراث بما يحدث حوله , حتى أنه حين تحدث مع العمال بخصوص رحلتهم كانت تحت مظلة شكوته من طول إنتظاره لهم و تأخره عن عمله . لذا لم يكن قلقا إن كان هناك من يراقب تصرفاته . بعد ساعة كاملة من نقل الكبسولات انتهى الفنيون من تركيب الكبسولات . بالنسبة له كانت فترة طويلة و غير طبيعية مما دفعه لليقين من أنهم ليسوا مجرد تقنيين لتركيب الكبسولات فقط . تركيب الكبسولة الواحدة لا يستغرق من الفرد الواحد خمس دقائق , و أمامه ثلاث تقنيين أي أنهم من المفترض أن يكونوا قد انتهوا من التركيب منذ وقت طويل , لكنه لم يبدِ أي تغير على ملامحه سوى إمتعاضه من طول الوقت الذي تسبب في تأجيله لميعاد عمل وهمي مهم له . كذلك لم ينسَ أن يأتي بذكر اسم الستوديو الخاص به حتى يزيح أي مجال للشك بخصوص وجود كل هذا العدد الكبير من الكبسولات في شقته . بعد رحيلهم وقف يراقب تحركهم مبتعدين عنه من نافذة غرفته . الآن بصفة رسمية قد دخل في دوامة المؤامرة التي تحاك ضد مصر و غيرها من الدول الكثيرة . أشعره ذلك بمدى ضئالة حجمه و قلة حيلته أمام تروس مؤامرة الدول العظمى الضخمة , لكن سرعان ما تحول هذا الخوف لإصرار قوي على ضرورة قلب الطاولة عليهم , فإن كان معهم تقنيات هائلة و أسلحة متقدمة في العالم الواقعي فهو في اللعبة سيصبح بمثابة الكابوس المرعب الذي يخشونه .

2020/02/04 · 574 مشاهدة · 2021 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024