بحلول منتصف الليل ، كانت الحرارة بمدينة اتلانتيك سيتي قد انخفضت الى مادون الصفر ، ساد الصمت على شوارعها ولم يكسره سوى صفير الرياح ، بشارع شعبي في حانة من طابقين ذات إضاءة خافتة وجدران مهترئة إلى حد ما جلس شاب بدا في أواخر عشريناته ذي شعر أشقر مصفف للخلف بدقة وأعين خضراء داكنة ، برزت عضام وجنيته مضيفة سحرا لوجهه من خلف منضدة الساقي بينما حدق في الكأس أمامه بشرود .
" روب يارجل إنك تخفيني حقا عندما تشرد هكذا ، لقد حذرتك عدة مرات من الذهاب للحرب ، انضر لنفسك الأن لقد عبثو بدماغك ، لقد اصبحت تحدق في الأشياء كالأحمق "
بتعبير قلق أمامه وبخ شاب عشريني ممتلئ الجسم ذو رقبة ثخينة وشارب خفيف إرتدى قبعة سوداء ذات حواف دائرية وبيده قارورة جعة رخيصة .
" روبرت نيلسون او كما يناديه المقربون منه روب ، بعد خدمته في الجيش الأمريكي بالجبهة الغربية ضد ألمانيا عاد لمسقط رأسه بمدينة اتلانتيك سيتي أين استقبله عمه و إبن عمه الماثل امامي حاليا "
فكر روبرت بداخله ثم رفع عينيه من الكأس متأملا منضر السمين أمامه ، كانت ملابسه قديمة الطراز بشكل مبالغ فيه ما جعل روبرت في البداية يستغرب الأمر ويتسائل عما إذا كان في حفلة هالوين من نوع ما.
لكن وبعد مرور بضعة أيام من عيشه بهذا الجسد الغريب ورؤية العالم من حوله عرف أنه وبطريقة ما قد تم إرسال روحه للماضي .
" معضم الروايات التي قرئتها وتناولت موضوع إعادة التجسيد تحدث عادة بعد موت الشخصية الرئيسية ، لكن كل ما اتذكره حول اخر لحضات حياتي هو أنني اغط في نوم عميق بسريري .. أيعقل انني متت أثناء نومي ؟ "
دارت مثل هذه الأسئلة كثيرا في ذهن روبرت الذي حمل نفس اسم الشاب الذي انبعثت روحه بداخله ، لكن دون جدوى لم يتوصل لإجابة ، في النهاية أطلق تنهيدة ثقيلة و تقبل الأمر لتندمج ذكريات روبرت السابق مع روبرت الحالي ماجعله يتأقلم بسرعة على جسده الجديد والحقبة المختلفة التي اصبح بها الأن .
" هاهاها إنك كثير القلق ، بالمناسبة سمعت أن هناك قانون جديد على وشك ان يتم تطبيقه اعتقد ان إسمه ...."
ممازحا غير روبرت الموضوع للنقطة الأساسية
" حضر الكحول " بحسرة قاطعه السمين امامه محتسيا ما تبقى من الجعة بيده ..
" هؤلاء الحمقى بالمناصب العليا ، الا يعلمون ان الشرب بعد المضاجعة من أجمل ما يكون بهذه الحياة ؟ كيف لهم ان يكونو بهذه القسوة .. "
مسح القطرات من زوايا فمه بينما جلس على كرسي خشبي متكئا على منضدة الساقي ، كانت نبرته حزينة بعض الشيء على عكس روبرت الذي إرتسمت إبتسامة ماكرة على شفتيه .
" من معرفتي المتواضعة بالتاريخ فإن قانون حضر الكحول الذي سيتم تنفيذه مع بداية السنة الجديدة اي بعد شهر من الأن سيكون فترة الذروة للعصابات والمهربين بجميع أنحاء البلاد وسيجلب الأمر نتيجة عكسية لجهود الحكومة ، التفكير بأن حضر شيء يحبه الناس وعليه طلب هائل يوميا بحجة أنه آفة إجتماعية سيجعلهم يتوقفون عن شربه ماهو إلى من وحي الخيال ، بطبيعة الحال ليس الامر وكأنني الوحيد الذي أعلم بهذا حيث تواجد بعض الأذكياء بالخارج الذين استوعبو الأمر كذالك .. "
فكر روبرت وهو يشرب أخر ماتبقى من كأسه ، مؤخرا قد تضاعف طلب الناس على المشروبات حيث ان اغلبهم قد ضنو بأنها النهاية ومعهم حاول أصحاب الحانات الصغيرة والمتوسطة من جميع انحاء اتلانتيك سيتي التخلص من مشروباتهم بأقصى سرعة بحيث قامو بخفض أسعار الكحول ليتم بيعها بسرعة اكبر ، ففي النهاية عندما يتم تطبيق قانون الحضر سيتم التخلص من مشروباتهم من طرف الشرطة او ستتعفن في القبو لوحدها ..
" ريتش ماذا إن اخبرتك ان ما يسمى بقانون الحضر ما هو إلى فرصة لنا للرقي وتغيير حياتنا ؟ "
داعب روبرت الكأس بيده بينما تحدث بنبرة هادئة مشيرا للسمين أمامه ..
بإبتسامة ساخرة نهض ريتش دون اخذ ما قاله روبرت بجدية بينما القى سؤال عابرا
" حقا ؟ "
لمح روبرت تعبيره الساخر فوضع الكأس بيده قبل ان يتوجه ناحية ريتش ويسحبه لجانبه
" إجلس " مشيرا للكرسي بجانبه على إحدى الطاولات .
جلس ريتش وسخريته لا تزال تعلو محياه ، سحب روبرت كرسيا اخر وبنبرة جادة تحدث
" حسنا إليك الأمر ... "
بهدوء بدأ روبرت يشرح الفكرة العامة للأمر دون التطرق لتفاصيل كثيرة ، مع مرور الوقت بدأ تعبير ريتش يتغير تدريجيا وكأنه بدء يستوعب الأمر ، بعد بضعة دقائق وبالرغم من الإثارة البادية عليه إلى انها احتوت لمحة من التردد ..
" حسب كلامك الا يعني هذا اننا نخالف القانون ؟ "
لم يكن ريتش شخصا متعلما كحال الكثيرين بهذا الوقت ، غالبا ما كان يجيد إستخدام جسده بدلا من عقله ، لكن هذا لم يمنعه من معرفة مالذي يعنيه مخالفة القانون ومواجهة رجال الشرطة ..
تنهد روبرت داخليا قبل ان يكمل مرة اخرى
" لا داعي للقلق بشأن الشرطة ، إذا التزمنا الحذر مع بضع رشاوي هنا وهناك سنكون بخير ، دعني اهتم بذالك كل ما عليك فعله هو العمل اليدوي حيث ستقوم بنقل الصناديق وما شابه بالإضافة إلى ذالك ..."
قائلا ذالك اخرج روبرت مسدس كولت إصدار 1911 عيار 45 فضي اللون ذو فوهة واسعة واضعا إياه بالطاولة
" مع هذا حتى الشرطة اللعينة ستهابك "
تغلغلت كلمات روبرت في أذان ريتش الذي طغت الإثارة عليه تماما ، ثبت عينيه على السلاح أمامه وبتردد مد يده ناحيته بينما رمق روبرت بنضرة معقدة ..
" لابأس إنه لك .. "
لمست اصابعه السطح البارد للمسدس ليحمله بعد ذالك محدقا به بإبتسامة
" اللعنة يارجل ، سمعت ان هذه الأشياء غالية ولا توجد سوى عند افراد العصابات "
بإثارة تحدث ريتش دون إزالة نضراته عن المسدس بيده ..
" همف إنه لاشيء ، في المستقبل سترى اشياء أفضل بكثير . ." كان روبرت واثقا .
كان هذا السلاح ملك لصاحب الجسد السابق ، حسب ذكريات روبرت فقد قام الأخير بتهريبه معه من الحرب وبطريقة ما نجح في ذالك ، كان يخبأه تحت الأرضية الخشبية بغرفته دون اي استعمال له تاركا إياه لتراكم الغبار ، أحس روبرت انه لمن المضيعة فقط وضعه هكذا قبل ان يقرر إستعماله في إغراء ريتش ، وبالفعل قد نجح الأمر .
مدد ريتش يده في اتجاه عشوائي موجها السلاح بشكل مائل واصبعه فوق الزناد عابثا به
" يمكنك ان تضاجعه في وقت لاحق ، الأن اريد منك التركيز معي "
قاطع صوت روبرت الحاد مرح ريتش الذي وضع السلاح بالحزام اسفل سترته وإبتسامة الإثارة لم تفارق محياه.
القى روبرت نضرة سريعة على ساعة يده فرأى انها قد تخطت منتصف الليل ، إلتزم الصمت قليلا ثم رفع رأسه مرة اخرى بإتجاه ريتش
" ذكرني أين ذهب العم ومتى سيعود ؟ " سأل روبرت
" تسك ما إسم ذالك الفندق الفاخر ؟ "
إنكمشت ملامح ريتش وكأنه يحاول تذكر شيء ما
" ااه صحيح فندق الريتز ، اخبرني ان احدهم هناك كان يعرض على الحانات بالأرجاء بيع مخزون مشروباتهم له وأنه سيدفع نفس السعر الذي كان قبل الإعلان عن قانون الحضر "
أخذ نفسا بينما أكمل
" لم يكن الأب بمثل هذه السعادة منذ فترة ، لم يمضي وقت طويل منذ ان خرج ومعه الأخ دوني ، على الأرجح سيعودون بعد قليل لكن هل نسيت الأمر بهذه السرعة ؟ "
القى ريتش سؤالا عابرا لروبرت الذي تجاهله وفكر بداخله
" يبدو بأن الكبار قد بدأو تحركاتهم بالفعل .. "
دارت بضعة افكار بذهن روبرت قبل ان يسمع صوت فتح الباب الخلفي ومعه همهمات شخص ما
" ياالهي هل رأيت تلك الحزمة التي اخرجها من جيبه ؟ جميعها من فئة 10 دولارات "
" انا لا أعلم حقا مايدور في ذهن الأثرياء ، جميع الحانات اخفضو اسعار مشروباتهم لبيعها بسرعة قبل حلول الحضر وهو يشتريها بسعرها الكامل "
دخل من الباب الخلفي مراهق ذو عيون سوداء وشعر بني داكن ، إرتدى معطف أسود به العديد من الرقع وبنطال بنفس اللون ، بدا في حالة مزاجية عالية ولم تفارق الإبتسامة شفتاه.
وراءه دخل شخص بدا في اوائل ستيناته ، كان قصير القامة بشعر أبيض ووجه مليئ بالتجاعيد ، إرتدى بدلة سوداء أنيقة ومعطف رمادي وصل لركبتيه ، بمجرد دخوله وضع قبعته على الطاولة بجانبه ليتقدم بعد ذالك ناحية منضدة الساقي ويلتقط مشروبا لنفسه ..
" أبي هل تمت العملية ؟ "
على الجانب الأخر سأل ريتش بصوت عالي بينما نهض واقترب من والده بتعبير حزين بعض الشيء ..
" هاهاها غدا سنقيم مأدبة ، الجميع مدعو للحضور "
إبتسم والده وبصوت أجش ترددت ضحكاته ..
" دوني انقل الحصان للإسطبل ، ولا تنسى ملئ دلوه بالماء "
عند سماعه لذالك اومئ المراهق بجانب الباب الخلفي برأسه ثم استدار ناحية كل من ريتش وروبرت ملقيا عليهما التحية ليخرج بعد ذالك .
" عمي اريد الحديث معك في موضوع مهم "
من وراء ريتش نهض روبرت وتقدم هو الأخر متحدثا بصوت واضح مشيرا للمسن أمامه ..
شرب المسن الكأس بيده قبل ان يرمق روبرت بنضرة مشيرا له بالحديث ..
" حسنا إليك الأمر ..."
بعد ان إعتدل ورتب كلماته تحدث روبرت بنفس الأشياء التي قالها لريتش مخبرا إياه الأمر بأكمله مضيفا العديد من التفاصيل ، ريتش على الجانب كان يستمع بهدوء مثل والده وإستمر بالإيماء برأسه ..
بعد إنتهائه اخذ روبرت نفسا بينما ثبت نضره على المسن امامه منتضرا إجابته ، فبعد كل الشيء كان العم جونسون هو المسؤول ومالك الحانة ، وهو من يتخذ القرار النهائي ..
إحتسى العم جونسون رشفة من الكأس بيده بينما حدق بدوره ايضا في روبرت بتعبير هادئ قبل ان يتحدث
" من اخبرك بكل هذا ؟ "
لم يتفاجأ روبرت بالسؤال نضرا لعلمه ان العم جونسون ليس سهل الإقناع مثل ريتش لذالك كان مستعدا ذهنيا
" حسنا إذا فكرنا بالأمر من منضور مختلف .. " إستمر شرح روبرت لبضعة دقائق مشيرا لأنه هو من توصل لهذه الفكرة ، فبطبيعة الحال لن يخبره انه شخص قادم من المستقبل ..
كانت خلاصة حديثه انه وبعد تطبيق قانون الحضر سترتفع اسعار الكحول بشكل جنوني ، بدلا من بيع مخزوننا يجب علينا فعل العكس وشراء المزيد منه ...
إستمع العم جونسون بهدوء بينما اومأ برأسه عدة مرات الشيء الذي اضاء وجه روبرت
" اعترف ان فكرتك قابلة بالفعل للتنفيذ وهناك احتمالية كبيرة ان تتحق بالفعل ، لكن ... "
عند قوله للكن اصبح تعبير العجوز جونسون جدي بشكل مبالغ فيه ، شبك اصابعه بينما ثبت نضراته على روبرت
" انت تعلم ان هذا منافي للقانون اليس كذالك ؟ "
شخر روبرت داخليا ببرود قبل ان يحاول مرة اخرى
" حسنا بالرغم من انه منافي للقانون كما تقول فقط فكر في الأرباح التي ذكرتها لك ، برأيك لماذا اشترى رجل فندق الريتز كل مخزونك بسعره الاصلي ؟ هل هي مجرد صدقة ؟ بالطبع لا هم أيضا يعلمون انه مع حلول الحضر سترتفع أسعار الكحول بشكل جنوني وسيزيد الإقبال عليها وهم بدورهم سيستغلون الأمر لصالحهم ، كل ماعليهم فعله هو إلقاء بضعة دولارات بجيوب الشرطة وسيتم غض البصر عنهم "
سار روبرت خلف منضدة الساقي ملتقطا زجاجة ويسكي اسكتلندي ذات لون ذهبي باهت من إحدى الرفوف بينما اكمل
" سعرها الحالي دولارين ، اراهن بكل ما املك انه وبعد اسبوع فقط من بدأ تطبيق قانون الحضر سيتجاوز سعرها العشرة دولارات "
حاول روبرت إقناعه مستعملا خبرته من حياته السابقة مضيفا عنصر الربح الكبير للأمر ، ريتش على الجانب الأخر كاد ان يغمى عليه عند ذكر امر الأرباح ..
" أبي إن روب على حق ، فقط الاحمق سيضيع هذه الفرصة .."
اضاف ريتش هو الاخر داعما حجة روبرت.
إلتزم العم جونسون الهدوء اثناء حديث الإثنان ، يجب الإعتراف كان الاخير مستمعا جيدا ولم يقاطعهم حتى اكمل الإثنان حديثهما ..
سعل مهيئًا نفسه للحديث ثم قال :
" في حياتي بأكملها لم اخالف القانون ولو لمرة واحدة ، وهذا لن يتغير الأن ، إذا اعتقدت ان بضعة اموال إضافية ستجعلني اكسر مبادئي فعليك ان تعيد تفكيرك لأن هذا لن يحدث ابدا ، روبرت بني لقد خدمت في الجيش وحاربت لأجل هذا الوطن ، ولكن انضر لنفسك الأن ، هل لعب الشيطان بعقلك ؟ مثل هذه الأفكار هي التي تدمر مجتمعنا وتزيده فسادًا ، بالإضافة لذالك نحن عائلة ميسورة الحال ولا يلزمنا إتخاذ مثل هذه المخاطرة .. "
وبخ العم جونسون الشاب امامه قبل ان يدير رأسه ناحية ريتش الذي كان قد توتر بالفعل ..
" وانت ، كل ماتعرفه هو الإيماء برأسك كالأبله ، هل تفهم اصلا عواقب الأمر بأكمله ؟ بدلا من ان تتقبل الأمر وتغير لشيء جديد ها انت ذا تدعمه بأفكاره الباطلة ، اتريد المخاطرة بالذهاب للسجن لأجل بضعة دولارات إضافية ؟ .."
إستمر توبيخه لبضعة دقائق ، تحت ضغط كلماته الحادة تدفق العرق البارد من جبهة ريتش الذي اخفض رأسه ولم يجرئ على رفعه ، على عكس روبرت الذي تدريجيا اصبحت نضراته باردة ولوهلة تدفقت منه نية قتل شريرة قبل ان يقمعها بسرعة تحت إبتسامة دافئة ..
" العم جونسون إنك على حق ، لقد اعماني جشعي وكدت اكسر مبادئي .. "
هدئ روبرت الوضع بسرعة على الجانب ، عند سماعه لهذا بدا وكأن تعبير العم جونسون قد خف قليلا ، ربت على كتف روبرت مشيرا له بالإسترخاء وتنقية افكاره ليصعد الدرج للطابق العلوي بعد ذالك .
كانت الصدمة بادية على وجه ريتش بحيث لم يتوقع الأخير إستسلام روبرت فقط هكذا ، نهض هو الأخر في يأس واضعا المسدس بالطاولة امام روبرت
" كانت فكرة رائعة يا رجل ، لكن قرار ابي نهائي للاسف .. "
كانت الحسرة بادية على صوته ، فبعد التربيت على ضهر روبرت في محاولة لمواساته صعد الدرج لغرفته.
اومأ روبرت برأسه دون قول اي شيء ، كان تعبيره متجمدا و من المستحيل معرفة ما كان يفكر فيه ..