1 - الفصل الأول: المقهى القديم وأوراق الخريف

كان الخريف ينسحب ببطء من شوارع المدينة، كما لو أنه يودّعها على استحياء، تاركًا وراءه سجادةً مترامية من الأوراق الحمراء والصفراء، كأنها ذكريات باهتة رفضت أن تُطوى مع الوقت.

في زاوِيةٍ معزولة من المقهى العتيق "ليالي القمر"، جلست ماي، شابة عشرينية تحمل في ملامحها شيئًا من الحزن العتيق. بين يديها كتابٌ مفتوح، بينما كانت اليد الأخرى تمسك فرشاة رسمٍ ترتجف قليلاً من البرد أو ربما من شعورٍ أعمق لا تُسميه.

كانت ترسم ما تراه خلف الزجاج: أشجار عارية مثل قلوبٍ أرهقها الانتظار، سماءٌ رمادية كأنها فقدت قدرتها على البكاء، وشخصيات بلا وجوه تمشي بخطى ميتة. كل شيء في اللوحة ينطق بالوحدة، كما لو أنها تُفرغ قلبها على الورق بدل أن تتكلم.

في الجهة المقابلة من المقهى، فتح رين الباب الخشبي الثقيل للمكان ودخل بهدوء. كان كعادته يرتدي معطفه الداكن، عيناه تبحثان عن العزلة. عازف بيانو شهير فقد شغفه منذ أن أخبره الطبيب ببرودٍ: "لم يتبقَ لك سوى أشهر قليلة".

منذ تلك اللحظة، لم يعُد رين يسمع شيئًا سوى صدى الندم. امتنع عن العزف، عن الحلم، حتى عن الابتسام. لكنه اليوم، قرر أن يخون عزلته، ربما بدافعٍ لا يفسره أو بشعورٍ داخليٍ غامض ساقه لهذا المكان.

جلس في إحدى الزوايا الغارقة في الظل، بعينين شاردتين لا ترى شيئًا مما حوله. لحظةٌ قصيرة فصلت بينه وبين ماي، لكنها كانت كافية لتتدخل الأقدار.

انزلق كتاب ماي من يدها وسقط أرضًا، ثم انزلق على البلاط حتى توقف عند قدم رين.

انحنى ليلتقطه، وقلبه يخفق على نحو غريب. قرأ العنوان قبل أن يسلمها إياه:

"الأشياء التي لا تستطيع الكلمات وصفها".

– "هل هذا... كتاب عن الموسيقى؟" سأل بنبرة هامسة، كأنه يخشى أن يُكسر الصمت الذي يحيط بهما.

رفعت ماي عينيها نحوه، عيونٌ خجولة لكن ممتلئة بالحياة التي تنقصه. التقت نظراتهما، لحظةً امتزج فيها الصمت بشيءٍ يشبه الاعتراف.

– "لا..." همست، "إنه عن الصمت... عن الأشياء التي لا تُقال، بل تُشعر".

في تلك اللحظة، وبلا سببٍ واضح، سمع رين نغمةً في رأسه. نغمةٌ ناعمة، حزينة، مألوفة... كأنها خرجت من مكانٍ عميق في ذاكرته.

تلك النغمة لم تكن مجرد صوت. كانت وعدًا صغيرًا بأن هناك شيئًا لم ينتهِ بعد.

2025/04/28 · 14 مشاهدة · 332 كلمة
Malouka Melek
نادي الروايات - 2025