بعد مرور أسبوعين من تلك الليلة التي كان سيعدم فيها أكيرا، خرج أخيراً من العيادة متكئاً على كتف فيليبو، سار الاثنان بهدوء في الشارع المظلم ولم يتحدثا طوال الطريق، ولكنهم كانوا يشعرون بنوع من الدفء والراحة.

وصل الاثنان إلى بناية صغيرة بداخلها بعض الشقق السكنية، وكانت تقع في ضواحي العاصمة نوكسار وبعيداً عن عيون الشرطة التي كانت لا تزال تبحث عن أكيرا، فقد قاموا بتصنيفه على أنه مجرم من الدرجة الأولى. دخل الإثنان ثم وقف فيليبو بجانب باب شقتهم، أخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب، أدخل أكيرا أولاً ثم تبعه وأغلق الباب بسرعة.

أكيرا (وهو يراقب المكان): “ما هذا المكان؟”

فيليبو (بهدوء، وهو يضع الحقائب الصغيرة التي جلبها معه): “سنعيش هنا لفترة، فالشرطة لن تجدنا هنا بسهولة.”

أومأ أكيرا بصمت، ثم جلس على الأريكة الصغيرة، جلس فيليبو إلى جانبه وأشعل سيجارته.

مر الشهر سريعاً في ذلك المنزل الجديد، وكان أكثر شهر هادئ عاشه أكيرا في حياته، ولكن ما أدهشه حقاً هو التغير الواضح في تعامل فيليبو معه، فهو لم يعد ذلك الرجل البارد والقاسي، بل بدأ يتصرف بحذرٍ ولطف لم يكن من عادته. كان يعد الطعام لأكيرا يومياً، وأحيانًا يجلس بجانبه ويأكل معه بصمت، وبدأ يساعده في تغيير الضمادات على جرحه دون أن يتذمر، لم يكن فيليبو يبتسم أو يضحك معه، لكنه كان يهتم لأمره بشكل واضح. وفي أحد الأيام، دخل فيليبو إلى غرفة أكيرا في المساء قبل أن ينام، حيث كان أكيرا مستعداً للنوم في سريره.

فيليبو (بصوت خافت): “أكيرا، غداً سنغادر هذا المكان.”

أكيرا (بدهشة): “إلى أين؟”

فيليبو: “لا أعلم بعد، ولكن لا يمكننا البقاء هنا أكثر من ذلك، الشرطة ستجدنا عاجلاً أو آجلاً، علينا التوجه إلى منطقة أكثر أماناً مثل ميركوفيا، صحيح بأن الدوقة تيراكولا تعيش هناك ولكن يبدو أن تلك المنطقة غير خاضعة لقوانين واضحة كبقية مناطق داركوفا."

اتسعت عينا أكيرا قليلاً عندما سمع اسم “ميركوفيا”، فقد سمع عنها قصصاً كثيرة من قبل، ولكن لم يسبق له زيارتها.

أكيرا (بفضول واضح): “ميركوفيا… أليست تلك المدينة التي لا يجرؤ أحد على دخولها؟”

فيليبو: “بالضبط، ولهذا السبب تحديداً سنذهب إلى هناك، فالشرطة لن تخاطر بدخول مكان مثل ميركوفيا، خصوصاً وأنها تحت سيطرة الدوقة تيراكولا، ولا أحد يمتلك الشجاعة الكافية ليعترض على سلطتها.”

نظر أكيرا إلى الأسفل قليلاً وبدأ يشعر بالتوتر من فكرة الانتقال إلى مدينة يحكمها مصاصو الدماء، ولكن لم يكن أمامهما أي خيار آخر. أخرج فيليبو علبة السجائر من جيبه ببطء، ثم أشعل سيجارة ووضعها بين شفتيه، أخذ نفساً عميقاً من الدخان ثم نفثه بهدوء في الهواء، وبقي ينظر إلى الأرض للحظات طويلة بصمت.

شعر أكيرا بالتوتر من هذا الصمت الطويل، لكنه تفاجأ عندما رأى فيليبو يتحرك نحوه مجدداً ليجلس بجانبه على حافة السرير، لم يقل فيليبو شيئاً في البداية، بل نظر إلى وجه ابنه الذي كان يحمل آثاراً عميقة من الألم والتعب، ثم رفع يده ووضعها على رأس أكيرا بحركة لطيفة لم يقم بها من قبل، وبدأ يمسح على شعره بلطف غير معتاد.

فيليبو (بصوت منخفض ومختلف عن المعتاد): “لا تقلق، أكيرا… هذه المرة سأكون معك حقاً… لن أتركك تواجه كل شيء وحدك مرة أخرى.”

اتسعت عينا أكيرا بدهشة واضحة، وتسارعت نبضات قلبه من هذه اللمسة الدافئة التي لم يشعر بها طوال حياته. لم يعرف ماذا يقول أو كيف يرد، لكنه استسلم ببطء لتلك اللحظة التي كان يحتاجها بشدة، وأخيراً شعر أكيرا بعينيه تمتلئان بالدموع رغماً عنه، لكن هذه المرة كانت دموعاً مختلفة، لم تكن دموع ألم أو خوف، بل دموعاً لطيفة وهادئة. ابتسم أكيرا فجأة بسخرية واضحة، كان وجهه يحمل ابتسامة باردة ومتعبة رغم دموعه التي بدأت تسيل ببطء على خديه.

أكيرا (بصوت ساخر، بالكاد مسموع): “أليس هذا مضحكاً؟ أن أشعر بالسعادة فقط لأنك وضعت يدك على رأسي؟ هل أنا مثير للشفقة إلى هذا الحد؟”

تصلب جسد فيليبو قليلاً، واستدار ببطء لينظر إلى وجه أكيرا الذي كان يحاول أن يخفي انكساره خلف ابتسامته الساخرة، وبحركة مفاجئة، اقترب منه واحتضنه بقوة شديدة. شعر أكيرا بالدهشة والارتباك في البداية، لكنه لم يقاوم هذا الحضن الدافئ، ولم يستطع كبح دموعه التي انهمرت بغزارة دون توقف.

فيليبو (بصوت منخفض): “أنت مُحق، حياتك مزحة سيئة… لكنني أنا من حوّلها إلى ذلك.”

ظل فيليبو يحتضن أكيرا بقوة، والصمت يخيم عليهما سوى من صوت الأنفاس الهادئة وصوت احتراق السيجارة التي كانت ما تزال بين أصابع فيليبو. بعد لحظات، رفع أكيرا رأسه قليلاً لينظر إلى وجه والده الذي بدا هادئاً.

أكيرا (بابتسامة خفيفة وساخرة، وهو يمسح دموعه): “بالمناسبة، أليس من السيئ أن تدخن هكذا أمام طفل؟ ألا تهتم بصحتي على الأقل؟”

رفع فيليبو حاجبيه بدهشة واضحة، ثم نظر إلى السيجارة التي بين أصابعه وابتسم ابتسامة خفيفة.

فيليبو (وهو ينفث دخان السيجارة بعيداً عن أكيرا): “صحيح، أنت ما تزال طفلاً صغيراً.”

أكيرا (باستهزاء خفيف): “وهل لاحظت ذلك الآن فقط؟”

فيليبو (ضحكة ضحكة خافتة، ثم قال بصوت هادئ وهو يبتسم): “أعتقد أنني تأخرت كثيراً في ملاحظة أشياء عديدة.”

نظر أكيرا إلى والده بصمت، لم يكن يعرف ما يقوله بعد ذلك، لكنه شعر بالراحة بشكل غريب، فقد كان هذا هو النوع من الحديث الذي كان يحتاجه مع والده، حديث بلا غضب أو شجار أو مشاعر مباشرة ومربكة، كل ما أراده هو أن يشعر بالهدوء والسلام، استمر الاثنان بالجلوس على السرير بصمت، بينما استمر دخان السيجارة في التصاعد ببطء ليندمج مع هواء الغرفة.

في صباح اليوم التالي، أكمل أكيرا حزم أغراضه الصغيرة في حقيبة ظهره، كان يرتدي ملابساً شتوية ومعطفاً مناسباً للمطر، بينما كان فيليبو يقف عند باب الشقة وهو يحمل حقيبة السفر بيده، وكان يرتدي ملابساً مشابهة لأكيرا، كان الإثنان يقفان بجانب الباب استعداداً للخروج، وقبل أن يفتح فيليبو الباب، تقدم إلى أكيرا بخطوات هادئة ونظر إليه.

فيليبو (بصوت جاد، وهو يخرج شيئاً من جيبه): “خذ هذا.”

نظر أكيرا إلى يد والده، فرأى قبعة صغيرة حمراء اللون، فأخذها منه ببطء، ثم نظر إليه بحيرة.

أكيرا (متسائلاً): “قبعة؟ لماذا؟”

فيليبو (بنبرة صارمة قليلاً): “لكي تغطي بها أذنيك، لا يمكننا المخاطرة بأن يكتشف أحد هويتك.”

أومأ أكيرا برأسه، ثم وضع القبعة على رأسه وجعلها تغطي أذنيه تماماً، بعدها أشار له فيليبو إلى ذيله.

فيليبو: “وذيلك أيضاً. تأكد من إخفائه داخل بنطالك طوال الوقت.”

أكيرا (بضجر طفيف): “أعلم… هذا مزعج.”

زفر أكيرا بهدوء، ثم أدخل ذيله في بنطاله وأحكم إخفاءه جيداً، عندها نظر إليه فيليبو بنظرةً فاحصة، ثم أومأ برأسه وفتح الباب.

فيليبو: “حسناً، هيا بنا، أمامنا رحلة طويلة نحو ميركوفيا.”

غادر الإثنان الشقة بهدوء، وأغلق فيليبو الباب خلفهما، كان الجو ممطراً كالعادة في داركوفا، أخرج فيليبو مظلته وفتحها فوق رأسيهما، وبدآ يسيران جنباً إلى جنب على الرصيف المبتل، وكانا يسيران بصمتٍ تام. ولكن بعد لحظات، شعر أكيرا بيد فيليبو وهي تلتف حول يده الصغيرة وتمسكها بحركة مفاجئة ولطيفة، رفع أكيرا رأسه قليلاً ونظر إلى والده بتعجب وصمت، ولكنه لم يقل شيئاً وتابع السير مستسلماً لهذا الشعور الغريب الذي جعله يشعر بأمان لم يعرفه من قبل.

بعد دقائق من المشي الهادئ، وصل الاثنان إلى شارع أكثر ازدحاماً، وبدآ يختلطان مع بقية الناس الذين كانوا يسيرون، ضغط فيليبو بهدوء على يد أكيرا وكأنه يذكّره بالبقاء قريباً وعدم الابتعاد، بدأ أكيرا يشعر بالتوتر قليلًا بسبب عدد الناس من حوله، فقد مضت فترة طويلة منذ أن سار بين حشود كهذه، خاصةً بعد أن أصبح مطلوبًا من الشرطة، شد أكيرا القبعة قليلاً للأسفل ليضمن ألا تُرى أذناه، ثم تأكد من أن ذيله مخفي جيداً تحت معطفه الطويل.

فيليبو (بهمس): "ابقَ هادئاً ولا تلفت الأنظار.”

أومأ أكيرا برأسه بصمت، واستمرّا بالسير بين الحشود دون أن يجذبوا انتباه أحد، ولكن هذا الهدوء لم يدم طويلاً… اصطدم شخصٌ مسرعٌ بأكيرا بقوة، مما تسبب في سقوطه على الأرض المبللة بالمطر.

أكيرا (بألم): “آآه!”

توقف فيليبو فوراً، ملتفتاً برعب نحو أكيرا الذي سقطت قبعته الصغيرة كاشفةً عن أذنيه الذئبيتين أمام أعين الجميع. في لحظة واحدة، توقف كل شيء حولهما، وتجمّد المارّة في أماكنهم وهم يحدقون في أكيرا بصدمة وخوف.

شخص من الحشد (بخوف واضح): “إنه… مستذئب!”

ارتفعت أصوات الصراخ وهمهمات الناس، وسرعان ما اقترب رجال الشرطة الذين كانوا يقفون بالقرب من المكان وهم يرفعون أسلحتهم، وينظرون مباشرة نحو أكيرا الذي بدأ يرتجف من الخوف والصدمة.

شرطي (وهو يصوّب سلاحه): “توقفا مكانكما!”

فيليبو (بحدة وهو يقترب من أكيرا): “انهض بسرعة!”

لكن أكيرا كان متجمداً من الصدمة، يحدق بعجز نحو الشرطة والناس الذين ينظرون إليه بنظرات مليئة بالرعب والكراهية.

فيليبو (بصوت مرتفع وعصبي): “أكيرا! انهض الآن!”

اقترب رجال الشرطة بسرعة، وأسلحتهم موجهة نحو أكيرا الذي بقي جامداً من الخوف والصدمة.

الشرطي (بصوت صارم وهو يضغط على الزناد): “اقضوا عليه الآن!”

في تلك اللحظة، تحرك فيليبو بسرعة هائلة، ودون أي تفكير، وقف أمام أكيرا مباشرة، فاتحاً ذراعيه ليحمي ابنه بجسده.

فيليبو (بصوت قوي، يصرخ بأعلى صوته): “اركض، أكيرا! اهرب من هنا بسرعة!!”

"بانغ! بانغ! بانغ!"

اخترقت الرصاصات جسد فيليبو بقوة، وبدأت الدماء تسيل من جروحه على الفور، وعلى الرغم من ذلك، بقي واقفاً بصعوبة وهو يلهث من شدة الألم.

أكيرا (بصرخة مؤلمة): “أبي!!”

الشرطي (بغضب وهو يصرخ): “ابتعد من الطريق! ذلك الشيء هو وحش خطير يجب قتله حالاً! ابتعد وإلا قتلناك معه!”

لكن فيليبو لم يتحرك خطوة واحدة، بل بقي في مكانه، ورغم الألم الذي كان يمزق جسده، بقيت عيناه تلمعان بإصرار غريب لم يظهره من قبل في حياته.

فيليبو (بصوت مرتجف ومتألم، لكنه قوي): “لن أبتعد أبداً… عليكم قتلي أولاً!”

الشرطي (يصرخ لرجاله): “أطلقوا النار عليهما معاً!”

رفع رجال الشرطة أسلحتهم مرة أخرى، وعندما ضغطوا على الزناد، اندفع فيليبو مجدداً نحو أكيرا واحتضنه بقوة، وأدار ظهره نحو الرصاصات التي اخترقت جسده مرة أخرى بلا رحمة.

“آآه!”

صرخ فيليبو متألماً بشدة، وبدأ يسقط ببطء على ركبتيه، وهو لا يزال يحتضن جسد أكيرا بشدة.

أكيرا (بصوت مرتجف وعيون ممتلئة بالدموع): “أبي… توقف… أرجوك توقف…!”

تجمعت الدموع في عيني فيليبو، ونظر مباشرة إلى عيني ابنه، ابتسم بصعوبة رغم الدماء التي سالت من فمه، وبصوت خافت جداً، خرجت كلماته الأخيرة.

فيليبو (بهمس متقطع وعيناه تغرقان في دموع لم تسقط أبداً في حياته): “أكيرا… أردت فقط… أن أشعر ولو لمرة واحدة… كيف يمكن أن أكون أباً حقيقياً لك… أردت أن أكون أباً… قبل أن أموت.”

ثم خارت قواه بالكامل، وسقط جسده على الأرض ببطء واستقر بلا حراك. تجمد أكيرا في مكانه للحظة، ودموعه تنهمر على خديه، ثم صرخ صرخة مدوية مليئة بالألم، والحزن، والغضب، قبل أن ينهض ويركض بأقصى سرعة وسط الحشود المذعورة، وهو يشعر بأن جزءاً منه قد مات للتو مع والده الذي فقده… بعدما وجده لأول مرة.

انطلق أكيرا كالسهم بين الناس، كان جسده يتحرك بسرعة خارقة تجاوزت حدود البشر، وكأن طاقة عجيبة تفجرت بداخله من الغضب والحزن، استمر رجال الشرطة في إطلاق النار دون توقف، لكن الرصاصات لم تكن قادرة على الوصول إليه، فقد كان يراوغها بخفة مذهلة، وكلما كان يبتعد، كان صراخ الشرطة يتلاشى خلفه تدريجياً. وبعد دقائق طويلة من الركض المستمر، أدرك أكيرا بأنه أصبح بعيداً عن متناولهم.

توقف في زقاق مهجور، مستنداً على الحائط وهو يلهث بشدة، قبض بيديه المرتجفتين على قبعته بقوة، قبل أن يسقط على الأرض وهو ينفجر بالبكاء بصوت خافت لكنه عميق، بينما استمر المطر بالتساقط بغزارة فوقه وكأنه يبكي معه على فقدان والده.

قبض أكيرا على صدره بقوة وكأنه يحاول إيقاف الألم الذي اجتاح قلبه، وشعر بحزن عميق يجتاحه، بينما أصبح جسده الصغير يهتز أكثر وهو يجهش بالبكاء.

أكيرا (بصوت خافت وباكي): "لماذا

فعلتَ

ذلك؟

هل

ظننت

بأنني

سأُسامحك

الآن؟

أيها

الأب

اللعين!"

توقّف للحظات وهو يحاول مسح دموعه بعصبية، لكن الدموع كانت تستمر في الانهمار دون توقف.

أكيرا (بصوت متقطع وضعيف): "اللعنة

أنا

وحيد

مرة

أخرى

لماذا

وُلدتُ

هكذا؟

لماذا

لم

أكن

مجرد

طفل

عادي؟

كل ما أردته هو أن تكون لدي عائلة حقيقية، وأصدقاء، وحياة جيدة… لكن لا يوجد أي شيء جيد في حياتي!"

أخذ نفساً متقطعاً وعميقاً، وكأنه يحاول التمسك بآخر خيوط قوته التي بدأت تتلاشى، ثم فتح عينيه ببطء ونظر إلى المطر الذي كان يسقط بغزارة أمامه، وشد قبّعته بقوة على رأسه ليخفي أذنيه.

أكيرا (بصوت مرتجف، لكنه مليء بالإصرار): "يجب أن اتوقف

عن

البكاء

لن

أكون

ضعيفاً

بعد

الآن،

ليس

هذا

ما

كان

يريدهأبي

يجب

أن

أصل

إلى

ميركوفيا

مهما

كلفني

الأمر

.

مسح دموعه بسرعة بكُمّ معطفه الصغير، ثم وقف بصعوبة وبدأ يتحرك بخطوات ثقيلة، وكان اليأس واضح جداً على وجهه. وبعد مدة، وصل أخيراً إلى محطة القطار التي كانت شبه فارغة في هذا الوقت من النهار، حيث لم يكن العديد من الناس يسافرون إلى ميركوفيا، توقف للحظة والتقط أنفاسه بصعوبة، ثم رفع نظره إلى لوحة مواعيد الرحلات.

أكيرا (يحدث نفسه وهو يراقب اللوحة): "ميركوفيا

ها

هي

رحلتي

لا

مجال

للعودة

.

اشترى التذكرة بسرعة مستخدماً النقود التي كانت معه، ثم استقل القطار واختار مكاناً في الزاوية بعيداً عن أعين الركاب القلائل، جلس على المقعد الذي كان بجانب النافذة وبدأ يحدق إلى الخارج بصمت.

أكيرا (يهمس لنفسه وهو يراقب المدينة تبتعد تدريجياً): "وداعاً

نوكسار

وداعاً

أبي

ربما

ستكون

هذه

البداية

التي

احتاجهادائماً

ومع ابتعاد القطار عن المحطة، بدأت ذكريات حياته السابقة تمر سريعاً أمام عينيه، تذكر كيف كان يعيش مع والدته التي أُجبرت على التخلي عنه، وكيف كان يعامله والده بسوء، وعندما شعر بأن هناك أمل في حياته، تلاشى الأمل في لحظة واحدة فقط حين مات والده، وهو آخر ما تبقى له.

عندما وصل أكيرا إلى ميركوفيا، لم يكن يمتلك سوى ملابسه وحقيبة ظهره، ولم يكن يملك حتى ما يكفي لشراء قطعة خبز، وجد نفسه يتجول في شوارع المدينة المظلمة، حيث كانت مليئة بالمباني القوطية ذات الطراز القديم، واستوعب بأنه لم يكن لديه خيار سوى النوم تحت الجسور وبين الأزقة المهجورة.

ومع مرور الأيام، تعلم أكيرا كيف يسرق الطعام من الأسواق الصغيرة والمطاعم بدون أن ينتبه له أحد، وعلى الرغم من براعته في السرقة، لم يتوقف شعوره بالخوف والوحدة، كل ليلة كان يتمدد في زاوية مظلمة وهو يحتضن نفسه ويحاول تجاهل الألم الذي يملأ قلبه.

أكيرا (يهمس لنفسه بحزن وسخرية وهو ينظر إلى يديه المتسختين): "أصبحتُ

مجرد

لص

صغير

يبدو

أن

هذا

هو

قدريحق

اً…

أن

أبقى

وحيداً

للأبد

.

مرت أربع سنوات على هذه الحال، وأصبح التجار يعرفون وجه أكيرا جيداً، ذلك الطفل ذو العيون الحمراء اللامعة والذي يختفي بسرعة خارقة بعد كل سرقة. رغم محاولاتهم المستمرة لملاحقته، كان دائماً أسرع وأذكى من أن يقع في قبضتهم.

مع مرور الأيام، أصبح أكيرا أكثر حذراً وأكثر مهارة، وفي نفس الوقت، أصبح أكثر بروداً ووحشية، ولكن في أعماق قلبه بقيت له رغبة واحدة فقط، وهي بأن يجد يوماً مكاناً يقبله كما هو دون أن يكون مضطراً للهروب أو الاختباء، كان يريد أن يكون جزءاً من شيء ما، لكن الحياة لم تمنحه هذه الفرصة بعد.

في أحد الأيام الممطرة، كان أكيرا يمشي ببطء وهو يرتجف من شدة الحمى، كما أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام كاملة، وشعر بأن قواه قد خارت تماماً، إلا أن معدته كانت تتلوى من الجوع. تسلل أكيرا بصعوبة بين الأزقة المظلمة، واقترب من عربة الطعام التي كان يملكها أحد التجار الكبار في المنطقة، والذي كان يقف بجانبها مع ابنه مارت ذو الثلاثة عشر عاماً. كان مارت معروفاً في ميركوفيا بسوء خلقه وتسلطه على الأطفال الأضعف منه، اقترب أكيرا بحذر شديد ومد يده المرتجفة نحو تفاحة حمراء لامعة، ولكن في اللحظة التي أمسك بها، شعر بيد قوية تمسك معصمه بشدة.

مارت (بصوت متغطرس وساخر): “وأخيراً أمسكت بك، أيها اللص الصغير!”

شعر أكيرا بالرعب وحاول الهرب، ولكنه لم يكن يملك الطاقة الكافية للإفلات هذه المرة، فجاء التاجر بسرعة وهو ينظر إلى أكيرا بغضب.

التاجر (بحدة): “ها أنت ذا، أيها اللص اللعين ذو العيون الحمراء! وأخيراً أمسكنا بك، لقد سببت لنا الكثير من المتاعب في السنوات الماضية!”

نظر أكيرا إليهما بضعف واضح، وبدأ يرتجف وهو يحاول تحرير يده.

أكيرا (بصوت خافت ومتعب): “اتركني… أرجوك… أنا جائع…”

انفجر مارت ضاحكاً، ودفع أكيرا بقوة ليسقط على الأرض المبتلة بالطين، لتسقط قبعته الصغيرة من على رأسه وتكشف عن أذنيه اللتين حاول إخفاءهما طويلاً، اتسعت عينا مارت بصدمة، ثم بدأ يضحك بصوت عالٍ وساخر وهو يشير إلى أكيرا على الأرض.

مارت (بتهكم وسخرية واضحة): “انظروا إلى هذا! لم أكن أعلم بأننا نملك مستذئباً قذراً هنا!”

التاجر (بغضب واشمئزاز): “هل تسرق منا ونحن نطعم البشر ومصاصي الدماء فقط؟ أنت حقاً مخلوق مثير للاشمئزاز!”

شعر أكيرا بالخجل الشديد وحاول أن يلتقط قبعته بسرعة ليخفي أذنيه مرة أخرى، لكن مارت ركله بقوة ليجعله يسقط مرة أخرى في الطين.

مارت (وهو يبتسم ابتسامة شريرة): “دعونا نرى ماذا ستفعل الآن، أيها الوحش!”

تجمع بعض الناس حولهم، ولم يكن أحد منهم يفكر في مساعدة أكيرا، بل كانوا فقط يراقبون بصمت بانتظار رؤية ما سيفعله هذا المستذئب الصغير، الذي لم يستطع سوى الاستلقاء على الأرض وهو يرتجف من الألم والمرض. كانت درجة حرارة جسد أكيرا قد ارتفعت بشدة، ووصلت إلى أربعين درجة، لم يكن جسده قادراً على المقاومة، وبدأ وعيه يتلاشى تدريجياً بينما كان مارت وأصدقاؤه يلكمونه ويركلونه بلا رحمة.

مارت (بغضب وهو يركل جسد أكيرا): “هل تعتقد بأنك تستطيع سرقتنا بدون عقاب أيها الوحش؟!”

لم يستطع أكيرا التحدث ولا التحرك حتى، بينما ازداد الأطفال قسوتهم عليه، كل ضربة يتلقاها جسده كانت أشد من سابقتها، شعر بأنه على وشك فقدان الوعي، لكن الألم منعه حتى من ذلك.

مارت (وهو يضحك بسخرية): “إنه ضعيف جداً! لا أصدق بأنه مستذئب حقاً، يبدو ككلب ضال مريض!”

انفجر الجميع بالضحك، بينما استمروا في ضربه بوحشية، دموع أكيرا اختلطت بالطين، ولم يكن يستطيع فعل شيء سوى الانتظار حتى يملوا من تعذيبه.

ولكن بعد لحظات، توقف كل شيء فجأة، وتحولت الأجواء من الصخب والسخرية إلى صمت ثقيل عندما سمع الناس صوت خطوات كعب عالي. تراجع الجميع للوراء، وبدأوا يفسحون الطريق فوراً لشخصية لم يكن أحد يجرؤ على الوقوف في طريقها، كانت تلك هي الدوقة القرمزية، مصاصة الدماء تيراكولا!

توقّف مارت وأصدقاؤه فوراً عن ضرب أكيرا، وتجمدوا في أماكنهم بوجوه شاحبة، غير قادرين على التحرك أو الكلام من شدة الخوف. اقتربت تيراكولا بخطوات هادئة وثابتة، ونظرت إلى الطفل الملقى على الأرض بفضول ممزوج ببعض الاستغراب، بدأت تدقق في ملامحه وخاصة آذانه الذئبية، فرفعت حاجبها الأيسر قليلاً، ثم وجهت نظرة باردة وحادة نحو مارت وأصدقائه.

تيراكولا (بصوت بارد وهادئ ولكنه يحمل تهديداً واضحاً): “من الذي أعطاكم الحق في الاعتداء على طفل صغير في مدينتي؟”

تراجع مارت للخلف وهو يرتعش، لم يستطع حتى التفوه بكلمة واحدة من شدة الخوف، بينما بدأ أصدقاؤه في الابتعاد عنه شيئاً فشيئاً تاركينه وحده في مواجهة الدوقة. كانت تيراكولا قد وجهت اهتمامها مرة أخرى نحو أكيرا الذي كان لا يزال ملقى على الأرض، ثم انحنت قليلاً باتجاهه، وحدّقت في وجهه بعينين ثاقبتين.

تيراكولا (بصوت هادئ وهي تتفحص آذان أكيرا وملامحه بفضول): “مستذئب صغير إذاً؟ هذا مثير للاهتمام.”

وضعت تيراكولا يدها برفق على جبين أكيرا وشعرت فوراً بحرارته الملتهبة، ضاقت عيناها قليلاً، ثم التفتت نحو مارت بنظرة قاسية، لكن ملامحها حملت ابتسامة ساخرة ومخيفة في نفس الوقت.

تيراكولا (بهدوء، وهي تبتسم بسخرية واضحة): “هل تعلم يا صغيري؟ أنت محظوظ للغاية لأن هذا المستذئب مريض الآن… لو لم يكن في هذه الحالة، لكان قد مزقك إرباً بضربة واحدة.”

اتسعت عينا مارت رعباً، وشحب وجهه بشدة وهو يحدق في أكيرا الذي كان ما يزال ملقى على الأرض. تراجع خطوةً للخلف، ثم التفت وبدأ يركض مبتعداً بأقصى سرعة ممكنة وهو يلحق بأصدقائه. عادت تيراكولا لتنظر مجدداً نحو أكيرا الذي كان ينظر إليها بعيون نصف مفتوحة، ولم يكن يفهم تماماً ما يحدث حوله، انحنت تيراكولا بهدوء ورفعت جسد أكيرا الصغير بين يديها.

تيراكولا (بابتسامة هادئة وغامضة): “حسنًا أيها المستذئب الصغير… من الآن فصاعداً، استعد لتبدأ حياةً جديدةً تماماً في قصري.”

أغمض أكيرا عينيه ببطء وهو يشعر بالدفء والأمان بين يديها لأول مرة منذ زمن طويل، ثم استسلم للإرهاق وهو يدرك بشكل غامض أن حياته لن تعود كما كانت من قبل.

وبعد مدة، فتح أكيرا عينيه ببطء، وسرعان ما أدرك أن المكان حوله ليس كما اعتاد، كان في غرفة واسعة وفاخرة، بها ستائر حريرية وأثاث أنيق لم ير مثله من قبل، حاول النهوض، لكنه توقف عندما رأى تيراكولا تقف أمامه بابتسامة هادئة وغامضة.

تيراكولا (بصوت هادئ واثق): “وأخيراً استيقظت، أيها المستذئب الصغير.”

أكيرا (بصوت متردد): “أين… أنا؟ من أنتِ؟ ولماذا ساعدتني؟”

اقتربت تيراكولا منه وجلست بهدوء على حافة السرير.

تيراكولا: “أنت في قصري في ميركوفيا، أنا هي الدوقة القرمزية تيراكولا، وقد ساعدتك لأنني رأيت شيئاً مميزاً فيك، أنت لست مسخاً مثلما يظن هؤلاء البشر.”

اتسعت عينا أكيرا بدهشة شديدة ولم يستطع تصديق ما يسمعه.

تيراكولا (بابتسامة خبيثة قليلاً): “يمكنك البقاء هنا معي، وستحظى بكل ما حُرمت منه في السابق، سأجعلك تنتقم من جميع البشر الذين آذوك، وبالمقابل سوف تنفذ جميع أوامري."

ارتجف جسد أكيرا عندما سمع كلمة “انتقام”، وتذكر كل لحظات الألم والإذلال التي عاشها بسبب البشر، وعاد إليه شعور الغضب.

تيراكولا (بصوت هادئ ومغرٍ): “كل من آذاك يجب أن يدفع الثمن، إذا قبلت عرضي، سأمنحك القوة لتفعل ذلك، ستكون قوياً ولن يستطيع أحد إيذاءك مرة أخرى.”

أكيرا (بصوت خافت، ولكن مليء بالإصرار): “سأقبل… سوف أجعلهم يدفعون الثمن.”

ابتسمت تيراكولا بهدوء وهي تضع يدها على كتفه بلطف.

تيراكولا: “جيد جداً أيها المستذئب الصغير، لقد اخترت طريقك أخيراً.

خرجت تيراكولا من الغرفة وأغلقت الباب خلفها بهدوء، وبدأت تمشي في الممر الطويل، ظهرت على وجهها ابتسامة خفية تحمل مكراً وغموضاً.

تيراكولا (وهي تهمس لنفسها): إذاً، أنت هو ذلك المستذئب الصغير "أكيرا" الذي هرب من السجن قبل أربع سنوات… وقتل عشرات رجال الشرطة، مثيرٌ للاهتمام حقاً… قد تكون أقوى مما توقعت… وربما ستكون سلاحي الأفضل ضد أولئك البشر اللعينين.”

ابتسمت تيراكولا مجدداً قبل أن تختفي في ظلام الممر.

أكيرا الذي كان ذات يوم طفلاً منبوذاً ومشرداً في الشوارع، أصبح الآن مراهقاً قوياً ذو جسد رياضي ومهارات قتالية متطورة، لقد تحوّل إلى شخص مختلف تماماً في ظِل رعاية تيراكولا. كان يرتدي ملابس سوداء أنيقة دائماً، كما أصبح شعره الأسود مرتباً بعناية.

أكيرا لم يكن يشعر بأي ندم عندما كان يختطف البشر لتيراكولا، أو عندما كان يقتلهم إذا أمرته بذلك، كان يشعر بالرضا في كل مرة يرى فيها الرعب بعيونهم، فهذا بالنسبة له لم يكن سوى انتقامٍ بسيط مقابل ما عاناه منهم في الماضي. بالنسبة لأكيرا، تيراكولا لم تكن فقط سيدته، بل كانت الشخص الوحيد الذي قدم له حياة كريمة وأماناً، والشخص الوحيد الذي لم ينظر إليه كوحش، بل رأت فيه قدراته وقوته، أصبح تنفيذ أوامرها جزءاً لا يتجزأ من هويته، فقد كانت أوامرها هي المفتاح لانتقامه من عالم البشر الذي لم يُظهر له سوى القسوة والرفض.

وبعد سنوات وصل ستيف ونيورو إلى القصر، لاحظ أكيرا لأول مرة بأن هنالك من يشبهه حقاً في هذا العالم، قصصهم كانت مشابهة له قليلاً، فقد كانوا جميعاً منبوذين حتى من أقرب الناس لهم، ثم جاءت تيراكولا وقدّمت لهم المأوى والاهتمام الذي كانوا يفتقدونه.

لكن أكيرا لم يكن يدرك حقيقة الأمر، ولم يكن يعلم أنه كان مجرد أداة مفيدة تستغلها تيراكولا لمصالحها الشخصية. لم تكن تيراكولا تحمل أي مشاعر حقيقية تجاهه أو تجاه ستيف ونيورو، بل كانت تراهم كبيادق تُحرّكها كيفما تشاء لتحقيق أهدافها الخفية، ولكن كل ما أراد أن يشعر به أكيرا هو الحب والتقدير، لم يستطع أن يرى الحقيقة المختبئة خلف ابتسامات تيراكولا وكلماتها اللطيفة، ولم يتخيل أبداً بأنه كان مجرد دمية في يد شخص آخر.

يتبع…

2025/02/25 · 20 مشاهدة · 3574 كلمة
Sara Otaku
نادي الروايات - 2025