كان ضوء الشمس يتسلل من النوافذ العالية ليضيء الطاولة الطويلة المزينة بالفضيات والكؤوس البلورية، وعليها أشهى أنواع الطعام المنسق بدقة. جلست سيلينا في مقعدها المعتاد بجوار والدها، مرتدية فستاناً أبيضاً بسيطاً، وعيناها تبدوان مرهقتين رغم محاولتها التظاهر بالهدوء، رفعت الشوكة بتردد، لكن يدها توقفت للحظة في منتصف الطريق.
كانت تنظر إلى والدها… إلى ملامحه الهادئة، والطريقة التي يقطع بها طعامه بهدوء، وما إن التقت عيناها بعينيه حتى أشاحت بصرها فوراً، وابتلعت ريقها بصمت، سيروس لم يعلّق… لكنه لاحظ. مرت ثوانٍ من الصمت… قبل أن ينطق بصوته العميق الخالي من أي عاطفة.
سيروس (وهو يقطع قطعة من اللحم): "في العادة… لا تُشيحين بنظرك بهذه السرعة.”
توقفت سيلينا للحظة، وابتلعت ريقها دون أن تنطق.
سيروس (يتابع بنبرة هادئة): "لكن لا بأس… من الطبيعي أن تتغير نظرة الإنسان حين يتعلّم شيئاً جديداً.”
سيلينا (بصوت خافت): "لا أعلم عمّا تتحدث…"
سيروس (ينظر إلى طبقه دون أن يلتفت إليها): "ولم أطلب تفسيراً.”
تناولت سيلينا قطعة صغيرة من الخبز، لكنها لم تتذوقها حقاً… شيءٌ في صدرها بدأ يتقلّب.
سيروس (يستند بيده إلى الطاولة وينظر إليها وهو يحلل): "خطواتك أصبحت أثقل، الهواء حولك مختلف، حتى عطرك الذي اعتدتِ وضعه صباحاً… غاب اليوم.”
سيلينا (باضطراب): "أبي… أنا فقط لم أنم جيداً، كنت قلقة على أخي آرثر…"
سيروس (يرفع حاجبه): "غريب… لم تكوني بهذا القلق حين كاد يُقتل في معركة الجبال الجنوبية قبل عام.”
تجمدت يد سيلينا، ونظرت إليه بدهشة.
سيروس (يأخذ رشفة من كأسه): "الاهتمام المفاجئ… كالعطر الذي يظهر دون مناسبة، إما أنه صادق… أو يُخفي وراءه شيئاً أكثر حدّة."
صمتٌ جديد تسلل بينهما، كانت الطاولة تبدو وكأنها تفصل بين عالمين، رغم أنها لا تتعدى متراً واحداً.
حاولت سيلينا متابعة الأكل، ولكنها شعرت بأنها قد فقدت شهيتها.
سيروس (ينظر إلى نافذة القاعة): "جوليان… رجل مُخلص، ولكنه يتكلم أكثر كلما اقترب من موته."
سقطت الشوكة من يد سيلينا، ترددت أنفاسها للحظة… ثم تحدثت دون أن تنظر إليه.
سيلينا: "أتعني شيئاً بكلامك؟”
سيروس (بهدوء قاتل): "أبداً، فقط أشاركك ملاحظة.”
ثم أضاف، وهو ينهض ببطء من مقعده ويلتقط قفازاته الجلدية من على الطاولة.
سيروس (بنبرة هادئة): "الملاحظة… لا تحتاج إلى تفسير، إلا من ذلك الشخص الذي يظن أنها وُجّهت له.
ومشى دون أن ينظر إلى الوراء، ترك خلفه صحنه نصف ممتلئ، وسيلينا جالسة وحدها… يداها ترتجفان، وشوكتها على الأرض، وصدرها يعلو ويهبط بصمت، لقد فهمت الرسالة. توقف سيروس بجانب الباب وبدأ يتحدث بدون أن يستدير.
سيروس (خلفها، بصوت منخفض لكن واضح): "أتعلمين يا سيلينا… أكثر اللحظات خطورة في حياة الإنسان، ليست تلك التي يواجه فيها العدو، بل تلك التي يبدأ فيها بمواجهة نفسه.”
توقفت يد سيلينا عن الحركة.
سيروس (متابعاً وهو يقترب من الباب): "أحيانا، يظن المرء أنه يبحث عن الحقيقة… لكنه في الواقع، يبحث عن شخصٍ يبرر له ألمه.”
ثم توقّف عند الباب للحظة، ووضع يده على المقبض دون أن يفتحه.
سيروس (ببرود): "الغداء كان لذيذاً… لكن الشهية لا تأتي من الطعام، بل من راحة الضمير.”
وفتح الباب وخرج… دون أن ينظر خلفه، بقيت سيلينا وحدها وهي تحدّق في الطاولة، يدها لا تزال مرفوعة، والشوكة تهتز قليلاً بين أصابعها.
سيلينا (بهمس داخلي): "هو لم يسألني شيئاً… لكنه جعلني أطرح على نفسي كل تلك الأسئلة.”
ثم وضعت الشوكة أخيراً ونهضت من على المقعد. فتح سيروس باب قاعة العرش بخطوات هادئة، ودخل وهو يخلع قفازيه ببطء، كان أليكساندر واقفاً هناك وهو يدخن سيجارته، وينتظره بصمت كعادته، أغلق سيروس الباب خلفه…
“طراخ.”
ثم أدار القفل.
“كلاك”
خارج القاعة… كانت سيلينا قد تبعته دون أن تشعر بنفسها، توقفت أمام الباب المغلق، وضعت يدها عليه بخفة، وأمالت رأسها جانباً لتسترق السمع… ولكن لا شيء.
سيلينا (بهمس داخلي، وهي تحدّق في الباب): "ما الذي يتحدث فيه دائماً معه؟ لماذا هو فقط؟ لا أحد يملك هذا الامتياز… ولا حتى نحن.”
داخل القاعة… تقدم سيروس ببطء نحو العرش، وألقى القفازين على الطاولة الجانبية، ثم جلس على طرف المقعد المخملي وأرخى ظهره، في حين بقي أليكساندر واقفاً بالقرب من إحدى النوافذ العالية، وهو ينفث دخان سيجارته بهدوء.
أليكساندر (بنبرة هادئة، دون أن يلتفت): "هل تودّ البدء بالكلام… أم تريدني أن أسبقك بالأخبار؟”
سيروس (يغمض عينيه للحظة): "إن كنت قد جئتني بأخبار مملة… سأرميك في النهر.”
أليكساندر (بابتسامة خفيفة): "أوه لا، هذه المرة ستثير اهتمامك.”
أخرج أليسكاندر ورقة مطوية من جيبه، وألقى بها على الطاولة الصغيرة أمام سيروس. فتحها الملك ببطء، وعيناه تمرّان على السطور بسرعة، ثم توقفتا فجأة، ارتفع حاجباه قليلاً… وظهرت لمحة ضئيلة من الاهتمام.
سيروس: "تيراكولا… سقطت؟”
أليكساندر (ينفث دخاناً كثيفاً): "قلعة تيراكولا قد احترقت بالكامل، وقيل أنها اختفت بعد هزيمتها على يد مجموعة من المراهقين."
سيروس (يرفع عينيه ببطء نحو أليكساندر، ويتحدث بنبرة غامضة): "مراهقون…؟”
أليكساندر (ببرود وهو يسحب نفساً عميقاً): "نعم… يتم الآن تحديد هويتهم، ولكن أحد الشهود الموثوقين ذكر اسماً… كين.”
سيروس (يضيّق عينيه): "كين؟”
أليكساندر: "يوكاجي كين، الناجي من حرب ولاية روبي… على الأغلب، ابن أخيك أكاكو.”
سيروس (يستدير ببطء، كأن اسمه أيقظ شيئاً قديماً داخله): "إذاً… فذلك الطفل ما زال حياً بعد أن توعدني بالانتقام."
أليكساندر: "لم يمت… بل كبر، وأصبح يلعب بالنار، ويحرق القلاع… ويعلن العداء علناً، الشاهد قال إن الفتى قال: “سأمزّق عرش سيروس بيدي.””
سيروس (وهو يبتسم ويعبث في شعره): "جميل… أصبح يعرف اسمي جيداً إذاً.”
أليكساندر: "هل تنوي قتله؟”
سيروس (يعود إلى كرسيه، يجلس بثقل): "لا… ليس الآن، لا أحد يقطف الثمرة قبل أن تنضج.”
أليكساندر (ينفث دخان السيجارة ببطء، نبرته ساخرة): "إذاً، ابن أخيك أكاكو عاد إلى الساحة… لا بد أن الأيام تُعيد نفسها بطريقة مثيرة للسخرية.”
سيروس (يجلس بثقل على طرف العرش، نبرة صوته باردة): "ليقل ما يشاء… فالسماء لا تهتز من صراخ المارة.”
أليكساندر (وهو يطفئ سيجارته ويخرج ورقة صغيرة من جيبه): "أخبار أخرى وصلت هذا الصباح… من ولاية فالينور الشرقية مجدداً، بدأ جيش ماكيا يتمدد في المنطقة بسرعة، ولكن بدون توازن، يتعاملون مع السكان كما لو كانوا عبيداً… والناس هناك وعلى الرغم من صبرهم، بدأوا يتكلمون.”
سيروس (بنبرة هادئة لكنها حادة): "أصحاب البشرة الداكنة في فالينور… ماكيا يعاملهم كأدوات، يسرق أبناءهم للقتال… على الرغم من أن لديهم الكثير من أصحاب البشرة البيضاء، ولكنهم يريدون أشخاصاً بقوة بدنية أكبر، لهذا السبب، عاجلاً أم آجلاً، سيبحث سكان فالينور الشرقية عن قوة بديلة، وعندما يفعلون… سنكون نحن الخيار الوحيد."
أليكساندر (يومئ برأسه): "بعض القرى لم تعد ترسل جنوداً لماكيا، والبعض الآخر بدأ يُخبئ شبابه وأطفاله… إحدى وحداتنا التجسسية رصدت تحركات مثيرة للاهتمام، زعماء محليون بدأوا يلتقون سراً.”
سيروس (ينهض ببطء، يضع يديه خلف ظهره): "إذاً، فنحن على بعد خطوة واحدة فقط… كل ما نحتاجه هو شرارة صغيرة، وبعدها ستصبح فالينور الشرقية لنا، وبدون أي حرب.”
أليكساندر (بصوت منخفض وهو ينظر نحو الأرض): "ماكيا لا يكتفي بالرجال… بل يختطف الأطفال أيضاً، يُبعدهم عن أسرهم، يملأ رؤوسهم بالشعارات… يجعلهم يظنون أن الطاعة قوة، وأن التمرد خيانة.”
سيروس (بابتسامة خافتة وهو يسير نحو النافذة): "غسيل العقول… أسلوب قديم لكنه فعال، وماكيا بارع في تحويل الأطفال إلى كلاب حراسة.”
أليكساندر (ينظر إليه، نبرة صوته أكثر قتامة): "وأحياناً، بعض تلك الكلاب… تنقضّ على سيدها.”
سيروس (يبتسم بنظرة جانبية): "أجل… أعرف مثالاً جيداً.”
أليكساندر (بنبرة ساخرة): "لولا ذلك… لما كنتُ واقفاً هنا بجانبك، يا مولاي."
سيروس (يعبث في خصلات شعره الحمراء بهدوء): "أحياناً… أكثر الجنود ولاءً هم أولئك الذين كانوا يوماً ضحايا، ولكن هذا الأمر لم ينطبق عليك."
أليكساندر (ينظر إلى الأرض، ووميض من الماضي يعبر في عينيه): "كنت في العاشرة… عندما أخذوني من الحيّ الذي نشأت فيه، قالوا بأنني أمتلك بنية جيدة… تصلح لتكون أداة.”
[فلاشباك قصير - قبل 15 عاماً]
كان هناك صوت صراخ طفل يدوي في ممر معدني، بينما الأضواء البيضاء والحمراء تومض بسرعة، كان ذلك الطفل هو اليسكاندر، صُفِعت يده فجأة من قبل أحد جنود ماكيا.
الجندي: "فالتردد، ماكيا هو الوطن.”
الطفل يصمت، ولكنه يتلقى صفعة قوية على وجهه!
الجندي (بصوت غاضب وحاد): "قلها!”
أليسكاندر الصغير: "ماكيا… هو…”
صوت إلكتروني مكرر: "ماكيا هو الأمل، ماكيا هو الطريق، سيروس… هو العدو.”
داخل غرفة ضيقة معدنية، كان الطفل أليكساندر عاري الصدر، جسده النحيل مغطى بكدمات زرقاء وأشرطة طبية قديمة، كان يقف في صفٍ مع أطفال آخرين، عيونهم كانت فارغة، وفمهم يتمتم دون وعي.
أليسكاندر (بصوت خافت، وكأنه فقد هويته): "سيروس… هو الشر، النار… يجب أن تُطفأ.”
ينفجر صوت صفعة قوي تم توجيهها لأليكساندر الذي لم يكرر العبارة بصوت مرتفع، صفعه الجندي ثم أمسكه من شعره ودفعه نحو الأرض.
الجندي (بصراخ): "أعد العبارة! بصوت واضح! ماكيا هو الحياة، وسيروس هو الجحيم!
كان الدم ينزف من أنف أليكساندر الصغير، ولكنه بدأ يتمتم بعبارة أخرى، وعيناه تحدّقان في اللا شيء!
أليكساندر الصغير: "ماكيا هو الحياة… سيروس هو الجحيم…”
ينتقل المشهد إلى لقطة قصيرة لأليسكاندر الصغير في ركن غرفته، يحاول أن يخفي دموعه وهو يردد الكلام… ثم ينهار على ركبتيه، لم يكن أحد يساعده.
شاشة العرض على الحائط تومض بشعار ماكيا، وأسفلها كانت توجد عبارة كبيرة: "الطاعة تمنحك هوية، التمرد يجعلك تراباً.”
[عودة إلى الحاضر – غرفة العرش]
أليكساندر ينظر نحو الأرض، وعيناه نصف مفتوحتين كما لو كان لا يزال يرى ذلك الجدار المعدني البارد.
أليكساندر (بصوت أجش): "كانوا يجعلوننا نشتم اسمك كل صباح، قبل أن نأكل، قبل أن ننام… أرادوا أن يزرعوا كراهيتك في أعمق نقطة في خلايانا.”
سيروس (بهدوء مائل للسخرية، وهو يسير بخطوات بطيئة): "مثير للإعجاب… لقد فشلوا فشلاً ذريعاً.”
أليكساندر: "لم يفشلوا تماماً… الكراهية تجذّرت… ولكنها انقلبت عليهم.”
توقف سيروس عند النافذة، وضع يديه خلف ظهره ونظر إلى الخارج.
[فلاشباك – منشأة تدريب سرّية تابعة لجيش ماكيا – عمر أليكساندر 12 سنة]
السماء رمادية وتغطيها سحب ثقيلة، الأرض مجمدة، والثلوج تكسو المكان. وسط هذا الجليد، وفي ساحة محاطة بأسوار معدنية عالية، يقف عشرات الأطفال نصف عراة… كانوا لا يرتدون سوى سروال قصير، وأجسادهم النحيلة مغطاة بالكدمات والجروح.
في منتصف الصف، كان أليكساندر واقفاً بصعوبة، جسده يرتجف بشدة من البرد، ووجهه أحمر كذلك، كان يحمل مسدساً أسوداً ضخم الحجم مقارنة بجسده الصغير، صاح أحد الضباط من بعيد، كان يحمل عصا معدنية بيد، ومسدساً كبيراً على ظهره.
الضابط (بصراخ حاد): "أيها القذرون! النار تقتلكم، والبارود ينقذكم! ارفعوا السلاح، صوبوا، وردّدوا معي!!”
رفع الأطفال أسلحتهم وهم يرتجفون، والبعض الآخر سقطوا على ركبتيهم وهم غير قادرين على الاستمرار من شدة البرد، ولكن أليكساندر يواصل الوقوف بصعوبة، ويده ترتجف بشدة وهو يحاول التصويب على الهدف الخشبي البعيد.
الضابط: "ردّد أيها الحيوان! ماكيا هو الحق! سيروس هو العدو!”
أليكساندر (بصوت واهن): "ماكيا… هو الحق… سيروس… هو العدو.”
دووووووم!!
أطلق أليكساندر النار وارتد السلاح بقوة في يده، فسقط على وجهه.
الضابط (يتجه نحو أليكساندر، يصفعه على رأسه): "أنت لا ترتجف من البرد! أنت ترتجف لأنك ضعيف! أعطني ظهرك!”
أليكساندر يتردد… لكنه يستدير ببطء، الضابط يرفع العصا الحديدية ويضربه بقوة على ظهره العاري.
“تشششششش!”
صرخة ألم مكتومة، أليكساندر يعضّ على شفته ويحاول ألا يسقط، الدم بدأ ينزف من كتفه.
الضابط (بغضب): "كرّر العبارة وأنت تطلق النار!”
أليكساندر (بصوت يوشك على البكاء، يرفع المسدس مجدداً): "ماكيا… هو الحق… سيروس… هو العدو.”
دوووووووووم!
أطلق أليسكاندر النار مجدداً، والرصاصة اصابت الحافة العليا من الهدف، الضابط يتقدم نحوه مجدداً… ولكن هذه المرة لم يضربه، فقط ابتسم بازدراء.
الضابط: "سنصنع منكم آلات… أو سنحرقكم مع النفايات.”
[عودة إلى الحاضر – قاعة العرش]
ساد صمت ثقيل في الغرفة، أليكساندر وقف بجانب النافذة، وعيناه لا تتحركان. لم يكن ينظر لشيء… بل غرق في ماضٍ لا يزال يحرقه حتى الآن، وجهه أصبح شاحباً، مدّ يده ببطء إلى جيب سترته، وأخرج سيجارة واحدة. وضعها بين شفتيه بصمت، ثم أخرج قداحته المعدنية الصغيرة، لكن قبل أن يشعلها…
“فششش.”
امتدّ لهب صغير من إصبع سيروس، واقترب نحو رأس السيجارة وأشعلها بدقة.
سيروس (ببرود وهو يعيد يده إلى الخلف): "يدك ترتجف أكثر عندما تتذكر."
أليكساندر لم يجب، أخذ نفساً عميقاً من سيجارته، ثم أغمض عينيه وهو يزفر الدخان ببطء، وكأن الدخان وحده هو ما يبقيه متماسكاً.
[فلاشباك – معركة أناليزا - على حدود ولايات ماكيا – عمر أليكساندر 17 سنة]
السماء كانت رمادية، يتصاعد منها دخان كثيف، والجثث متناثرة بين الخنادق، صرخات الجنود وطلقات الرصاص تملأ الأفق، لكن كل شيء بدا وكأنه ينهار فجأة… بسبب رجلٍ واحد.
من بين الضباب… ظهر سيروس وحده! لا جيش، لا حرّاس، لا رايات، فقط هو… وشَعره الأحمر يتطاير بفعل الرياح، وعيناه الرماديتان تلمعان ببرودٍ لا يشبه البشر.
جندي (يصرخ من الهلع): "إنه… إنه الملك!! إنه سيروس!!!”
سيروس لم يتوقف، رفع يده ببطء، ثم بدأ يتحدث بصوت واثق دون أن يصرخ.
سيروس: "أنتم لستم جنوداً… أنتم رماد ينتظر الريح.”
وفجأة… اندفعت دوائر من اللهب الأسود من حوله، وكأن الأرض نفسها اشتعلت، اللهب ارتفع في شكل أعمدة ملتوية… ثم تمدد بسرعة مدمّرة نحو خنادق جيش ماكيا الأمامية.
“فششششش!”
في لحظة واحدة، احترق عشرات الجنود أمام أنظار أليكساندر، لم تكن صرخاتهم تُسمع من شدة اشتعالهم… فقط نار، ثم صمت!
سيروس (يتقدّم نحو الخنادق، بصوت هادئ): “أناليزا لا تحتاج إلى جيش كي تُحرّر… تحتاج فقط إلى الحقيقة، وأنا حقيقتكم.”
كل من حاول إطلاق النار عليه… احترق.
كل من حاول الهرب… ابتلعته الأرض الملتهبة.
أليكساندر كان في خندق خلفي، ينظر بذهول وهو يمسك بمسدسه، جسده لا يتحرك، وعندما رأى هيبة سيروس، بدأ يشعر بشعور غريب لم يعرفه من قبل. رأى سيروس يسير وسط الجحيم… لا يركض، لا يحتمي، لا يتردد.
سيروس (بصوت ثابت والنار تشتعل خلفه): "أنتم لا تقاتلون لأنكم تؤمنون… بل لأنكم وُلدتم مقيدين، وستموتون وأنتم تلهثون خلف أسيادٍ لا تعرفون وجوههم."
ثم ضرب الأرض بكعب قدمه.
“دوووووووم!!”
انفجار ناري هائل مزّق الأرض أمامه، وانقسمت التربة، وانبعثت أعمدة من اللهب الأسود نحو السماء، خنادق كاملة تحولت إلى مقابر من نار، الجنود حول أليكساندر كانوا يصرخون!
جندي 1 (يركض): “إنه شيطان! لا يمكننا هزيمته!!”
جندي 2 (يرتجف): “اختبئوا! اختبئوا!!”
لكنه… لم يختبئ.
أليكساندر كان ينظر إلى سيروس وكأن شيئاً استيقظ بداخله. هذا هو الرجل الذي أجبره النظام على كرهه، على شتمه كل صباح، على إطلاق النار على صورته، ولكنه الآن يراه، ليس كعدو، بل كحقيقة لا يمكن إنكارها.
أليسكاندر (بهمس): “هذا… هو الملك الحقيقي.”
وفي لحظة واحدة… رفع أليكساندر مسدسه، لكن فوهة السلاح لم تكن موجهة للأمام… بل استدارت نحو الجندي الذي كان بجانبه.
الجندي القريب منه (بقلق): “هيه، ماذا تفعل؟ صوب نحو سيروس!”
“دوووووووم!!”
اخترقت الرصاصة رأس الجندي الأول.
“دووووم!!”
رصاصة أخرى في قلب الجندي الثاني.
البقية نظروا إليه بصدمة، بينما هو لا يزال واقفاً، يداه ثابتتان، عيناه حادتان… لا أثر للخوف والتردد فيهما.
أليكساندر (بصوت مرتفع): "أقسمت أن أُطيع الحق… وها هو أمامي.”
بدأ الجنود الآخرون في التراجع عنه، بعضهم صرخ، وبعضهم أطلق النار نحوه، لكنه اختبأ خلف الحواجز وأطلق النار عليهم واحداً تلو الآخر!
دوووووووم!!
جندي (يصرخ وهو يتراجع): “خائن! هناك خائن بيننا!!”
“دووووووووووم!!”
“دوووم!!”
صرخات، دماء، جثث تتساقط، وكل من حاول الاقتراب منه، تلقّى الرصاص في صدره أو بين عينيه، في الجانب الآخر من ساحة المعركة، وقف سيروس وسط اللهب، والنار تدور حوله، كانت عيناه الرماديتان تتابعان أليكساندر بصمت… بدهشة خافتة وفضول نادر.
دوووم!!
طلقة أخيرة أسقطت آخر من في طريقه، ثم ساد الصمت. بدأ أليكساندر يسير في اتجاه سيروس، خطواته ثقيلة، ملامح وجهه باردة، وعيناه تحدقان في وجه الملك.
عندما أصبح على بعد عدة خطوات… توقّف.
أسقط مسدسه أرضاً.
ثم… انحنى.
انحنى ببطء، بكل احترام، بينما كانت جراحه تنزف.
أليكساندر (بصوت واضح، دون ارتجاف): "من اليوم… دمي، روحي، وناري… كلها لك.”
بقي سيروس صامتاً للحظة وهو يحدّق في الفتى المنحني أمامه، ثم خطا خطوة إلى الأمام، ووقف فوق المسدس الملقى على الأرض، ثم بصوته العميق والبارد…
سيروس: "ما اسمك يا فتى؟”
أليكساندر (يرفع رأسه قليلاً): "أليكساندر، يا مولاي.”
سيروس (ينظر إليه بدقة، ثم يقول بنبرة هادئة): "كنت تُقاتل تحت راية ماكيا… والآن تقتلهم، لماذا؟”
أليكساندر (بصوت متماسك رغم النزف): "لأنني أردت أن أمتلك حرية الاختيار، ولو لمرة واحدة!"
سيروس (يرفع حاجبه بخفة): "فاخترتَ الخيانة؟”
أليكساندر (بثقة): "بل اخترت الولاء… لمن يستحقه.”
كان سيروس يقرأ أليكساندر ببطء كما لو كان كتاباً مفتوحاً، ويتفحّص كل سطر فيه. ثم اقترب منه أكثر… حتى صار أمامه تماماً، رفع يده ببطء، ومدّها نحو أليكساندر.
سيروس (بصوت منخفض يشبه الحكم): "إن كنت ستتبعني… فلن تكون جندياً.”
حدق أليكساندر في اليد الممتدة نحوه، ووجهه مذهول… لكنه رفع يده المتعرقة، ووضعها في يد الملك.
سيروس (وهو ينظر في عينيه مباشرة): "ستكون سيفاً، وإذا انكسرت… سأذيبك وأصهرك من جديد."
أليكساندر (بصوت خافت): "سمعاً وطاعة، مولاي.”
[قصر كاجي - قاعة العرش – بعد معركة أناليزا]
الجو داخل القاعة كان خانقاً، وقف أليكساندر أمام سيروس للمرة الأولى بثياب عسكرية مرقعة، كتفه ينزف، وعيناه جامدتان بلا أي أثر للخوف. في أعلى القاعة، جلس سيروس على عرشه وهو يتفحص الفتى الصامت بنظرة باردة.
سيروس (بصوته العميق الثابت): "إذاً… أنت هو الفتى الذي قتل رفاقه السابقين، وانحنى أمامي.”
أليكساندر لم يرد، أشار له سيروس بيده نحو منضدة صغيرة إلى جواره، عليها سيف أحمر غامق.
سيروس (بنبرة حادة): "خذ السيف.”
تقدم أليكساندر، ثم حمل السيف من دون تردد.
سيروس: "أثبت ولاءك… الآن.”
صفق سيروس مرة واحدة.
“طراخ.”
فُتح بابٌ جانبي ضخم.
دُفع ثلاثة رجال مقيدين بالسلاسل، كانوا يرتدون زيّ جيش ماكيا، أجسادهم مغطاة بالغبار والجروح، لكن رؤوسهم كانت ما تزال مرفوعة.
أحد الجنود (بغضب): "يا جلالة الملك! نحن أسرى حرب! قانون الشرف يمنع إعدامنا!!”
سيروس (ينظر لأليكساندر): "هل يهمّك رأيهم؟”
أليكساندر لم يتكلم.
سيروس (ينظر إليه بعينين ضيقتين): "هؤلاء كانوا مثلك… لكنهم لم يُغيروا ولاءهم, الآن، أمامك خيارين، أقتلهم… أو أعدهم لإخوتك.”
الجندي الثاني (ينظر إلى أليكساندر بذهول): "أنتَ… كنت معنا! خُضنا معاركاً جنباً إلى جنب طوال هذه السنوات!"
أليكساندر (بصوت هادئ وهو يقترب): "أنتم قاتلتم بالأوامر… وأنا قررت أن أختار.”
“ششششخ!!”
ضربة واحدة قطعت عنق الجندي الأول.
الجندي الثالث (يصرخ): "أيها المجنون!!”
“ششخ!!”
طعنة قاتلة في قلب الثاني، الثالث تراجع وسقط على ركبتيه، عيناه واسعتان من الهلع.
“دوووش!!”
رأسه سقط على الأرض كالحجر.
كلّ شيء صمت.
نزل سيروس من عرشه بخطوات هادئة.
سيروس (بنبرة منخفضة): "وإن طلبتُ دمك؟”
أليكساندر (دون تفكير): "فخُذه.”
سيروس: "وإن طلبتُ أن تطعن قلبك؟”
لم تمرّ سوى ثانية واحدة، حتى أمسك أليكساندر السيف بكلتا يديه، ووجّهه نحو صدره.
“ششخ!”
ضغط قليلاً حتى لامس حافة النصل جلده، ظهر خط دم رفيع… ووجهه؟ لم يتغيّر.
لا خوف، لا ألم، لا صوت.
مدّ سيروس يده بحركة سريعة، وأمسك بالسيف… وأبعده عن صدره.
سيروس (بابتسامة خافتة): "مرحباً بك في كاجي… يا أليكساندر.”
انحنى أليكساندر مجدداً، وشعر أخيراً بأنه قد أصبح حراً، واختار من يتبعه بنفسه.
يتبع…