50 - حين يولد البرق وتشتعل النار

كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب، وعربة الهيكساريث تسير ببطء وسط طريق جبلي هادئ مليء الأشجار الكثيفة. كان كين يقود العربة، بينما كان البقية يجلسون بصمت بعد العهد الذي قطعوه على أنفسهم، لكن ذلك الصمت لم يدم طويلاً…

آن (وهي تنظر إلى آكيو بفضول): “بالمناسبة… نحن نعرف الكثير عن كين-سان ونيورو… ولكن يا آكيو، نحن لا نعرف عنك شيئاً تقريباً، أخبرنا من أين جئت؟”

كوتو (ترفع حاجبها): “صحيح… لقد ظهرت فجأة بحلم أن تصبح الشوغن، ولكننا لم نسمع شيئاً عن عائلتك الحقيقية.”

ستيف (ينظر إليه بنصف عين وهو مستلقٍ): “ولماذا لم يظهر أحد يبحث عنك طوال هذه الرحلة؟ أنت لست مجرد فتى عادي…”

آكيو (يبتسم ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى النافذة): “لأني لا أعرفهم أصلاً.”

نظر إليه الجميع فجأة.

آكيو: “أنا لم أعرف من هم والديّ الحقيقيين، عندما كنت رضيعاً، وُضعت على عتبة منزل في قرية صغيرة في امبراطورية زيتارا، كان منزل لرجلٍ يدعى فانكو وزوجته أكاني. كانا يعيشان حياة بسيطة، ولديهما فتاة تكبرني بثلاث سنوات واسمها موراساكي، تبنياني وربّياني كأنني ولدهما… لم أشعر يوماً أنني غريب. وعندما بلغت السادسة، كانت والدتي قد توفيت بسبب المرض، ولكننا تعايشنا مع الموضوع."

آن (بهدوء): “إذاً، فلديك أخت.”

آكيو (يبتسم بحنين): “نعم، موراساكي هي أختي بالتبني، لكنها أقرب إليّ من كل شيء، كانت توبخني دائماً… وتحميني في نفس الوقت. الغريب أن أبي فانكو كان دائماً يقول… إن الصواعق زادت في القرية منذ أن دخلت منزله."

نيورو (يرفع حاجبه): “الصواعق؟”

آكيو (بعينين أكثر جدية): “نعم… كان البرق لا يفارق الأفق. حتى في الليالي الصافية… كان هناك ومض خاطف في السماء، وكأن شيئاً يبحث عني، وكنت دائماً أشعر أن هناك طاقة… تتحرك بداخلي، شيء لا أفهمه.”

كين (بصوت منخفض): “متى بدأ كل شيء فعلياً؟”

آكيو (صوته يصبح أعمق): “حين بلغت التاسعة… كنت أركض وحدي وسط الغابة في يومٍ ماطر، وفجأة… هبطت صاعقة من السماء… وضربتني مباشرة.”

كوتو (بدهشة): “إذاً فقد تفعلت طاقة الفاكن لديك من احتكاكك بصاعقة حقيقية مباشرة، وبالصدفة أيضاً!”

آكيو (ينظر إلى كفه): “نعم، وكأن البرق قد انجذب لي من بين كل شيء، كنت أتوقع أن أحترق… أن أموت، ولكن بدلاً من الألم… شعرت بدفء غريب، وكأن جسدي امتص كل شيء. وعندما فتحت عينيّ… كنت في المستشفى، ولكن الغريب أن أثر الحروق كله قد اختفى، وبدلاً من ذلك، ظهرت طاقة الفاكن لدي."

[فلاشباك - الموقع: امبراطورية زيتارا - عمر آكيو 8 سنوات]

في قرية صغيرة تحيط بها الجبال، وتحديدا بداخل بيت على الطراز الياباني القديم، كان الصراخ بداخله يعم المكان… ولكن ليس صراخاً نابعاً من مشاجرة، بل صراخ متعة وشغف.

فانكو (رجل ثلاثيني بشعر بنفسجي وعينان بنيتان، يصيح بسعادة): "آكيوووو! السوفليه أصبح جاهزاً!! تعال بسرعة قبل أن يبرد!!”

آكيو (بعينان متلألئتان): "آااااااه!!! جاااااء العشق!!!”

ينقضّ آكيو على الطاولة كما لو أنه على وشك الانقضاض على كنز. يجلس بجانب فانكو، كلاهما يمسكان الملاعق ويبدآن بالأكل بشراهة.

فانكو (يتحدث وفمه ممتلئ): "تذكّر، يا بني! الرجل الحقيقي يُقاس بعدد السوفليه التي يستطيع التهامها دون أن يبكي!”

آكيو (بفخر): "أنا أكلت سبعة بالأمس! واليوم سأكسر الرقم القياسي وأصل إلى ثمانية!”

موراساكي (تدخل المطبخ، فتاة بعمر الحادية عشرة، بشعر وردي طويل مربوط وعينان بنفسجيتين، ووجه مملوء بالغضب): "أيها الحمقى… هل أكلتما طعامي مجدداً؟! ومن الذي سكب الكاكاو على القط؟!”

آكيو + فانكو (بنفس الوقت وهما يرفعان أيديهما): "القط بدأ أولاً!”

موراساكي تتنهد، ثم تمسك المكنسة وتركض خلفهما وهما يهربان في أرجاء المنزل، يضحكان ويصرخان كالأطفال.

آكيو (من الخلفية الصوتية في الفلاشباك): "في تلك اللحظة… لم يكن لديّ حلم، لم أكن أريد أن أكون شوغن، ولا بطل، فقط… أردت أن أعيش إلى الأبد معهم، نأكل السوفليه ونهرب من مكنسة موراساكي…”

[عودة إلى الوقت الحالي]

آكيو (نظراته تهدأ، يبتسم بحنين): "لكن الحياة لم تسمح لي بذلك.”

آن (بصوت ناعم): "كانوا عائلتك الحقيقية… حتى لو لم تكن بالدم.”

آكيو (يهز رأسه بخفة): "تماماً… وأنا مدين لهم بكل ما أنا عليه. على العموم، لقد تركت المنزل منذ أكثر من شهرين… أبي فانكو قال إن الوقت قد حان لرحلتي الخاصة، وأنه تعب من تنظيف الفوضى التي أسببها.”

ستيف (بسخرية خفيفة): "أعتقد أنه تخلص منك قبل أن تدمّر المنزل بالكامل.”

آكيو (يضحك بخفة): "ربما، لكن الحقيقة… أنا أردت أن أبحث عن نفسي، عن شيء يجعلني أستحق أن أكون شخصاً مهماً. التحقت بمدرسة قتال… لكن بصراحة؟ كانت مملّة. لا أحد هناك كان يعرف كيف يُقاتل بروح، ولا أحد أراد أن ينافسني في حلم الشوغن حتى."

ساد الصمت للحظة، قبل أن يقطع أكيرا الحديث برنّة صوته المميزة.

أكيرا (وهو يضع ذراعيه خلف رأسه): لقد خطرت لي فكرة للتو… لماذا لا نذهب إلى إمبراطورية زيتارا؟ أليست تلك الإمبراطورية القديمة التي لم تدخلها التكنولوجيا قريبة من هنا؟ حدودها موجودة على جنوب غرب داركوفا.”

آن (تفتح عينيها بدهشة): "أنت تقول هذا من أجل أن نتعرف على عائلة آكيو؟”

أكيرا (يغمز وهو يضحك): "بالطبع! نحن فريق واحد، يجب أن نعرف جذور بعضنا، أليس كذلك؟”

ستيف (يرفع حاجبه): "أوه، أكيرا… لا تكذب على نفسك، جميعنا نعرف ما هو السبب الحقيقي."

أكيرا (يرفع سبابته بخفة): "لديّ شعور قوي أن موراساكي… أصبحت شابة جميلة الآن، عمرها 17؟ هذا يعني أنها في قمة الجمال! ربما لديها صديقات؟ ربما… قرية كاملة من الفتيات من عرق آكيو؟”

كوتو (تضرب جبهتها براحة يدها): "يا إلهي… نحن فعلاً نسافر مع مراهق منحرف.”

آكيو (يقطب حاجبيه فجأة، ثم يميل للأمام): "هاه؟! هل قلتَ… موراساكي؟!”

أكيرا (بابتسامة بريئة كاذبة): "نعم نعم، فقط تخيل! فتاة في السابعة عشر، أي نوع من الجمال قد تملكه؟”

آكيو (ينهض فجأة وهو يلوّح بذراعيه): "إنها أختي يا معتوه!!! لا تتحدث عنها بهذه الطريقة!”

أكيرا (يرفع حاجبيه بدهشة مفتعلة): "أوه، إذاً أنت من النوع الغيور؟ هل هذا يعني أنه لا يحق لأحد حتى النظر إليها؟”

آكيو (يصعد فوق المقعد محاولاً الوصول إليه): "بالضبط! وإن نظرت لها مرة، سأصعقك حتى تتحول إلى رماد! هل فهمت؟!”

كوتو (بلهجة مرحة): "أكيرا، استعد… أظن أن البرق بدأ ينبثق في أطراف آكيو.”

أكيرا (ينظر إلى آكيو ويشير إليه): "واو، واو، اهدأ! لا حاجة للصعق، أنا فقط أمزح! موراساكي أختك، وأنا رجل يحترم العائلة.”

آكيو (يصرخ بعناد): "أنت لا تحترم حتى نفسك!”

أكيرا (يرفع يديه كمن يسلم نفسه): "حسناً حسناً، أقسم ألا أتحدث عن أختك مجدداً… على الأقل ليس أمامك.”

آكيو (يحاول القفز عليه): "تعال إلى هنا أيها اللعين!!”

كين (من المقعد الأمامي، بصوت مليء بالتعب): "إن لم تجلسا خلال ثلاث ثوانٍ… سأرميكما من العربة معاً.”

آن (تضحك وهي تمسك بيد كوتو): "أوه، أحب هذه اللحظات الحمقاء… تجعلنا نبدو كعائلة مجنونة.”

كوتو (تبتسم): "عائلة غريبة… ولكنها حقيقية.”

هدأ آكيو أخيراً وجلس في مكانه وهو يحدّق في أكيرا بعناد وغضب مصطنع، بينما اكتفى الأخير بالضحك وغمز له. ووسط ضحكات الجميع وضجيج المزاح، لاحظ نيورو أن كين لم يشارك كثيراً في الحوارات، بل بقي يحدّق بالطريق أمامه، وعيناه الرماديتان تبدوان ثقيلتين من الإرهاق. كانت يداه لا تزالان على حجر الأزورايت، ولكن أنفاسه بطيئة.

نيورو (بصوت منخفض وهو يقترب): "كين… هل أنت بخير؟”

كين (بدون أن ينظر إليه): "أنا بخير.”

نيورو (ينظر إليه بنظرة جدية): "أنت لم ترتح منذ الهجوم… كنت تقاتل ثم تقود العربة كأنك آلة، هذا يكفي، دعني أقود.”

آكيو (يلتفت بعد أن سمع الحديث): "نيورو معه حق، خذ قسطاً من الراحة يا كين، لقد احترقنا جميعاً هناك، لكنك لم تتوقف لحظة.”

كوتو (بابتسامة داعمة): "وسأراقب نيورو، لا تقلق، لن يصدم العربة في جبل.”

نيورو (ينظر لكين بثبات): "أنا لا أطلب معروفاً، فقط أرد أن أتحمل مسؤولية… هذه المرة.”

توقف كين للحظة، ثم تنهد ورفع يده ببطء عن حجر الأزورايت. أطفأ وهجه الأزرق، ثم نهض من مكانه بصمت واتجه نحو المقاعد الخلفية، حيث جلس واستند إلى الجدار الخشبي للعربة، مغلقاً عينيه ببطء.

كين (ينظر إلى نيورو بعين واحدة ثم يهمس قبل أن ينام): "لا ترتكب حماقة، نيورو.”

نيورو (بابتسامة خفيفة وهو يجلس مكانه): "سأحاول ألا أحرق المقود.”

بدأت العربة تتحرك مجدداً بطاقة الفاكن الخاصة بنيورو، كانت أضعف من طاقة كين النارية، ولكنها كانت كافية لجعل العربة تسير بسلاسة. التزم الجميع الصمت للحظة، وكأنهم أدركوا أن كين كان يتجاهل التعب بصمت طيلة الطريق من أجلهم.

ستيف (وهو يراقب الطريق): "وجهتنا التالية… زيتارا، أليس كذلك؟”

آن (بحماس): "نعم! أخيراً سنذهب إلى مكان جديد كلياً!”

آكيو (يتكئ بيده على حاجز المقعد الأمامي): "زيتارا… حيث بدأت قصتي..."

أكيرا (بابتسامة مشاكسة): "وحيث سأجد بعض الفتيات.”

نيورو (بهدوء): "لنأمل أن تكون زيتارا فعلاً تستحق الرحلة.”

وهكذا، انطلقت عربة الهيكساريث نحو الجنوب، تاركةً خلفها رماد المعركة… في الخلف، كان كين نائماً بعمق، صدره يعلو ويهبط بهدوء، ووجهه مائل قليلاً للجانب، وملامحه الآن كانت هادئة وساحرة. كانت آن جالسة في المقعد المقابل له، تسند ذقنها على يدها وتحدّق به بصمت.

آن (في داخلها، وجهها يحمرّ): "يااااه… حتى وهو نائم يبدو كأنه أمير خرج من رواية! تلك الرموش… وتلك النظرة الغامضة حتى وهو نائم! تباً، لماذا قلبي ينبض هكذا؟ أنا فقط… فقط أراقبه!"

قلبها بدأ ينبض أسرع وأسرع، وعيناها أصبحتا تلمعان بشغف المراهقة المهووسة.

آن (تتمتم بخفّة): "مستحيل… كيف يمكن أن يكون بهذا الجمال؟ يا إلهي، ماذا لو استيقظ فجأة وابتسم لي؟ سأموت!"

ثم بدأت تتخيل في رأسها سيناريو رومانسي سخيف، حيث يفتح كين عينيه ببطء، يبتسم لها ويهمس: “كنتُ أحلم بكِ”… ثم يأخذ يدها ويقبلها!

آن (تهز رأسها بعنف، همس): "توقفي!! هذا جنون! فقط تنفسي، تنفسي!”

لكن بدلاً من أن تهدأ، ازدادت حركاتها توتراً، ثم… بشكل غريب ومفاجئ، وبينما هي تحدّق فيه بذهول وعينين مليئتين بالإعجاب… انزلقت ببطء نحو الأمام.

“فلوووب!”

ارتمت عليه تماماً! سقط رأسها على كتفه، وذراعها فوق صدره، وكأن جسدها أعلن استسلامه الكامل أمام هيبة كين.

آن (بهمس خافت وهي متجمدة تماماً): "ياااااااااااااااه!!!”

لكن كين لم يتحرك، بقي نائماً ولم يستيقظ من شدة التعب. ظلت آن متجمدة فوقه وجسدها يرتجف، وكل خلية في عقلها تصرخ “قومي!!!" ولكنها لم تستطع.

آن (وهي تصرخ في عقلها): "هل هذا حقيقي؟! أنا أستلقي فوق كين؟ فوق كين-ساااااااااان؟!!"

في الجهة المقابلة، كانت كوتو تراقب المشهد باهتمام، ثم غطّت فمها حتى لا تنفجر ضحكاً.

كوتو (بهمس): "إنها ميتة رسمياً.”

رفعت آن يدها المرتجفة ببطء ولمست خصلات شعر كين الحمراء، كانت ناعمة بشكل غير متوقع.

آن (تهمس وهي تمرر أصابعها فيه): "لا أصدق هذا! حتى شعرك مثالي يا كين-سان!”

ابتسمت بخفة، ثم أنزلت يدها بهدوء، ووضعتها فوق يده اليسرى المسترخية.

آن (وهي تتمتم بابتسامة هادئة وعينان دامعتان): "يدك دافئة… مثل قلبك، حتى لو كنتَ تحاول إخفاءه دائماً… كين سان…"

بقيت آن تمسك يد كين بصمت… نظراتها لا تزال مثبتة على وجهه النائم، لكنها لم تعد تبتسم. شيء ما تغيّر في ملامحها… ملامحها أصبحت حزينة فجأة، وشفتيها ترتجفان بخفة، ومن دون أن تقاوم… نزلت دمعة واحدة على خدها.

آن (تهمس بصوت مكسور، وهي تنظر إليه): "كين-سان… أنت لست بخير، أليس كذلك؟"

دمعة أخرى لحقتها.

آن (تكمل، ونبرتها ترتجف): "كلنا نضحك، نقاتل، نحلم… وأنت فقط تصمت… وكأنك تحارب في ألف معركة وحدك، دون أن تطلب المساعدة من أحد.”

بدأت تمسح دموعها بسرعة، ولكن يدها المرتجفة لم تكن كافية لإخفائها.

آن: "أنا أراك، كين سان… حتى لو كنتَ لا تنظر إلي، أراك حين تتألم بصمت…”

تتشبث أكثر بيده، ثم أغلقت عينيها وهي تبكي بصمت.

آن (بهمس خافت جداً): "لو كنتَ تعرف فقط… كم أتمنى أن أكون جزءاً من عالمك، ولو قليلاً…”

كانت كوتو تجلس في المقعد المقابل لآن، وكانت هي الوحيدة التي لاحظت ما يحصل، نظرت إلى آن وهي تبكي بصمت على كتف كين، وعيناها تمتلئان بالحزن… ولم تقل شيئاً لثوانٍ، ثم أخيراً تنهدت بخفة، وأخفضت عينيها قبل أن تتحدث بنبرة هادئة ولكن حاسمة.

كوتو (بصوت منخفض ولكنه واضح): "أنتِ لستِ الوحيدة التي ترى ما بداخله، آن.”

رفعت آن رأسها بسرعة، مرتبكة وقد احمر وجهها، لكنها لم تنطق.

كوتو (تنظر إليها بنظرة عميقة): "أنا أعرف هذا النوع من الألم، لأنني كنت هناك. أنا ويوكو… فقدنا كل شيء في نفس الحرب التي سرقت منه عائلته. ولكنه لا يحتاج إلى شفقة، ولا إلى أحد يعالجه… بل يحتاج إلى شخص يتقبله ويراه كما هو.”

سكتت للحظة… ثم تمددت بجسدها للأمام، وفتحت ذراعيها دون تردد.

كوتو (بهدوء، ولكن بإصرار): "تعالي إلى هنا.”

ترددت آن قليلاً… ثم اندفعت في حضن كوتو، وكأنها وجدت ملجأها بعد عاصفة. عانقتها كوتو بقوة وحنان لا يُشبه شخصيتها القوية، ظلّت آن في حضنها تبكي بهدوء وبدون صوت… بينما بقي كين نائماً في المقعد المجاور، ولكن طرف حاجبه ارتجف بخفة…

[فلاشباك – قبل سنوات، بعد أسبوع من وفاة عائلة كين]

في أحد أطراف جزيرة أوراكانو، وتحديداً في منزلٍ هادئ تحيط به الأشجار، والغيوم الداكنة تملئ المكان، بدأت الأمطار الغزيرة بالتساقط، حينها وقف العجوز لاود بجانب إحدى غرف النوم في المنزل وهو ينظر إلى الطفل الجديد في حياته.

كين، ذو الشعر الأحمر والعيون الرمادية الكئيبة، كان لا يزال في الثامنة من عمره… صغير الحجم، لكن عينيه تحملان وزناً أثقل من سنواته. منذ أن أُحضر إلى منزل لاود قبل أسبوع، لم يتكلم إلا بكلمات معدودة… لا يبتسم، لا يضحك، لا يبكي حتى. فقط يجلس بصمت في غرفته الجديدة، يحدق بالجدار.

كان المنزل عصرياً ومريحاً، جدرانه باللون الكريمي الدافئ، والأثاث نظيف ومرتب بدقة، لكن في غرفة كين، لم يكن هناك أي شيء ينبض بالحياة… سوى الصمت. جلس كين على سريره، قدماه متدليتان، وكتفاه منحنيان، نظرته كانت فارغة وكأنه ينظر إلى ماضٍ لا يستطيع الهروب منه.

لاود (من خلف الباب، بصوت هادئ): "العشاء جاهز، يا بني… لا يجب أن تترك معدتك فارغة، حتى لو لم تكن جائعاً.”

لم يأته رد، تنهد لاود ثم ابتعد ببطء، لم يكن يريد الضغط على الطفل أكثر. بقي كين لوحده في الغرفة وهو يتذكر كل شيء… الدم، النار، صرخة أخيه وسقوطه، جثث والدته وأخته، صوت والده وهو يهمس: “انتقم…”

دخل لاود إلى المطبخ، وضع صحن الحساء الدافئ على الطاولة بعناية، ثم وقف هناك للحظات، يراقب البخار وهو يتصاعد ببطء… ولكنه لم يستطع تجاهل القلق الذي ينهش قلبه. أدار جسده بهدوء واتجه نحو غرفة كين مجدداً بخطى بطيئة، كان الباب نصف مفتوح، فوقف خلفه بصمت وهو يراقب من دون أن يُصدر صوتاً.

في الداخل… كان كين يمسك بصورة ممزقة الأطراف، لكنها ثمينة جداً، صورة لعائلته. رغم أن التكنولوجيا لم تكن متطورة بما يكفي، إلا أن أحد الحرفيين الذي يملك فاكِناً خاصاً بتجميد اللحظات الزمنية قد التقط لهم هذه الصورة منذ عدة أشهر. كانت أمه تبتسم، وأخته الصغيرة إيميلي تقف بجانبها… دان يقف بجانبه بفخر، وأبوه في الخلف، يضع يده على كتف كين، كلهم كانوا هناك…

كين (يهمس، وصوته يكاد لا يُسمع): "لماذا…؟ لماذا تركتموني وحدي؟ أين ذهبتم؟ كيف من المفترض أن أعيش الآن؟ أنا لا أعرف كيف أتنفس… بدونكم…”

بدأت الدموع تتساقط ببطء من عينيه، ولكنه لم يكن يبكي بصوتٍ عالٍ، كان يُمسك الصورة بقوة، أصابعه ترتجف، عينيه لا تُفارق الوجوه المجمدة في الإطار الصغير.

كين (بصوت مكسور أكثر): "لم أعد أريد شيئاً من هذا العالم… لا شيء فيه يشبهكم.”

كان تنفس كين متقطع، كان يحاول أن لا ينهار، ولكن الألم في داخله كان أكبر من طاقته… وفجأة…

كين (صرخ فجأة بصوت مرتجف): "ليتني أنا من مات!!!”

دوى صوت كين في أرجاء الغرفة، صرخته لم تكن مجرد كلمات، بل كانت نزيفاً من القلب، لاود الذي كان يقف خلف الباب، تجمّد في مكانه…

كين (يصرخ، عينيه تغرقان بالدموع): "لو كانت الرصاصة دخلت رأسي أنا… بدل رأس دان…! لو أنني فقط… لم أخرج من المنزل وقتها، كنت سأموت معهم! كان يجب أن أموت!!!”

انهار على ركبتيه والدموع ما زالت تتساقط من عيناه بغزارة.

كين (بصوت باكٍ): "أكره نفسي… أكره أنني حي… أكره هذا العالم…”

لم يستطع لاود تحمّل ذلك أكثر، فتح الباب ودخل بخطوات ثقيلة، اقترب من كين ثم ركع بجانبه ومد ذراعيه، وكأن قلب العجوز انكسر هو الآخر…

لاود (بصوت باكٍ وهو يعانقه): "لا تقل هذا… لا تفعل هذا بنفسك، يا بني…”

ضمّه بقوة إلى صدره، وكأن حضنه وحده سيمنع الطفل من الانهيار أكثر… وبكى لاود… الرجل القوي، الحكيم، العجوز الذي عاش الكثير في ماضيه المجهول، بكى لأول مرة منذ سنوات طويلة، لأنه رأى أمامه طفلاً صغيراً يحتضر من الداخل دون جرح ظاهر، كان يعلم بأنه مجرد ضحية أخرى من ضحايا هذا العالم.

لاود (وهو يهمس بصوت مكسور): "لو كان بإمكاني… لكنت أنا من أخذ تلك الرصاصة… فقط لا تكره نفسك، كين… أرجوك…”

في تلك اللحظة، كان العناق أبلغ من كل اللغات، وعرف كين أن لاود ليس مجرد رجل أنقذه… بل أنه قد أصبح عائلته الجديدة. كان حضن لاود دافئاً، ولكنه لم يكن كافياً لتهدئة النار التي بدأت تشتعل في صدر كين. كان يبكي بشدة، لكن شيئاً فشيئاً… تغيرت ملامحه، تحول صوت بكائه من ألم مكسور… إلى حنق مقهور، ومن بين شهقاته المتقطعة… خرج صوت مليء بالغضب.

كين (يهمس بأسنانه المتشابكة): "سيروس…”

لاود (ينظر إليه، بصوت خافت): "كين…؟”

كين (يرتجف وهو يمسح دموعه بذراعه): "سيروس هو من فعل هذا… هو الذي دمّر كل شيء…”

ضرب كين السرير بقبضته الصغيرة، ثم رفع رأسه والدموع تختلط بالنار المشتعلة في عينيه الرماديتين.

كين (يصرخ بصوت يهز جدران الغرفة): "سأقتلك!!!”

قفز من حضن لاود ووقف بعنف خارج السرير، قبضتيه مشدودتان، أنفاسه متقطعة، وجسده الصغير يرتجف لكنه ثابت، كانت تلك أول مرة يصرخ فيها منذ فقدان عائلته… لكنها لم تكن صرخة ألم فقط…كانت صرخة وعد.

كين (يصرخ من أعماقه): "سأجعل سيروس يدفع الثمن!! سأمزق عرشه، سأحرق مملكته، سأجعله يشعر بكل ما شعرت به!! لن أسامحه… أبداً!!!”

لم يكن ذلك مجرد غضب طفل، بل بداية ميلاد شيء آخر… هدفٌ قاتل يولد من تحت الأنقاض.

لاود (بصوت متألم وهو ينهض ببطء): "كين… أعرف هذا الغضب… أعرفه جيداً… فقط لا تدعه يسيطر عليك.”

لكن كين لم يجب، وقف هناك في الظل، وعينيه تحدقان في اللاشيء… ولكن بداخله كان يرى صورة واضحة:

تلك العيون الرمادية الأخرى…

وذلك الشعر الأحمر الكثيف…

وابتسامة رجلٍ قتل عائلةً كاملة، بل قتل مئات العوائل.

ثم وبدون تفكير، رفع كين يده اليسرى إلى الأمام…

“فشششششش…”

تجمعت حرارة غريبة في كفه، وتوهّج جلده بلونٍ برتقاليٍّ ناري، وفي لحظة… انفجرت شرارة خفيفة في الهواء… ثم تكونت كرة نارية صغيرة بين أصابعه، تدور ببطء وتشتعل وتخفت.

كين (يهمس وهو يحدّق في النار): "أنا… لن أكون ضعيفاً بعد الآن.”

تسمر لاود مكانه واتسعت عيناه ببطء.

لاود (بصوت مصدوم): "ما هذا…؟ نار؟! كين… أنت تمتلك فاكن؟!”

خطى لاود خطوة للأمام ببطء، كان العرق يتصبب من جبينه، ليس من الخوف… بل من المفاجأة الثقيلة.

لاود (وهو يدقق في ملامح كين): "شعرك الأحمر… كنت أظنه مجرد لون عادي… لكن الآن… الآن بدأت أفهم.”

اقترب أكثر وبدأ ينظر إلى النار التي كانت ما زالت تتوهج في كف كين.

لاود (ينظر إلى النار وعيناه تتقلصان): "هذه… ليست مجرد نار… هذه نار اليوكاجي.”

أدار كين وجهه ببطء، ونظر إلى لاود بعينين خاليتين من البراءة.

كين (بصوت خافت): "أبي قال لي ذلك قبل أن يموت… قال إنني من دمهم… وإن عمي سيروس… هو من قتلهم جميعاً.”

حدق كين في كفه المشتعلة، ثم رفع عينيه نحو السقف.

كين (وهو يحاول أن يتوقف عن البكاء): "سأتدرب كل يوم… سأصبح أقوى من أي يوم مضى… لن أبكي بعد الآن… لن أكون عبئاً على أحد… وسأقف في وجهه… حتى لو احترق العالم من حولي.”

أغلق قبضته فجأة، فانطفأت الكرة النارية كما لو كانت تطيع أمراً داخلياً. سكت لاود للحظة، ثم زفر بقوة وكأنه أزاح عن صدره مئة جبل، ومشى ببطء إلى كين ثم جلس على الأرض أمامه ورفع عينيه نحوه.

لاود (بصوت عميق وهادئ): "لقد رأيت الكثير في حياتي يا كين… أصدقاء ماتوا، عائلات تفككت، ونيران لا تختلف عن نيرانك، أحرقت القرى والقلوب.”

صمت قليلًا، ثم أشار إلى كين بإصبعه.

لاود: "لكن القوة وحدها لا تصنع من الفتى رجلاً… ما يصنعك حقاً هو ما ستفعله بتلك القوة… وكيف ستتحكم بها، لا العكس.”

ظلّ كين صامتاً، ولكن عينيه كانتا تنظران إليه باهتمام.

لاود (يبتسم بابتسامة حزينة): "كنتُ ساموراي في شبابي… قاتلت في معارك كثيرة… وارتكبت حماقات أكثر… لكني نجوت. وربما قدّر لي أن أعيش حتى هذا اليوم لأعلمك ما لم أعلمه لأحد.”

تغيرت نبرة صوته فجأة، ووقف على قدميه.

لاود (بحزم):

“ابتداءً من الغد، ستبدأ تدريباتك… هنا في الحديقة، عند طلوع الشمس. سأعلّمك كيف تستخدم السيف، كيف تتحكم في نيرانك، وكيف تصبح ساموراي حقيقي، لا مجرد طفل غاضب يبحث عن انتقام.”

نظر إليه كين ببطء، وقد بدا في عينيه شيء يشبه الأمل، ثم أومأ برأسه بهدوء.

كين (بهمس): "أريد أن أتعلم… أريد أن أكون قوياً بما يكفي… لأحمي نفسي… ولأحرق اسمه من هذا العالم.”

لاود (وهو يبتعد مبتسماً): "إذاً استعد… فحياة الساموراي لا ترحم الكسالى.”

وتلاشت النيران من الغرفة، ولكن ما اشتعل تلك الليلة… كانت أول شرارة في قلب كين… شرارة لن تنطفئ حتى يلتقي بقدره.

يتبع…

2025/03/31 · 15 مشاهدة · 3157 كلمة
Sara Otaku
نادي الروايات - 2025