[ولاية إيرالوس – مقر المخابرات العليا]
في غرفة زجاجية مضادة للتجسس، مضاءة بأضواء الشاشات العملاقة، جلس ثلاثة من ضباط مخابرات ماكيا حول طاولة رقمية دائرية، تتوسّطها صورة هولوغرامية شاحبة لوجه شاب مراهق يُعرف باسم ستيف. كانت بياناته تملأ محيط الصورة، لكنها ناقصة… بل غامضة أكثر مما يجب.
الضابط الأول (بصوت متوتر): "هذا الفتى… لا نملك له سجل ميلاد، لا بصمة جينية، لا أصل محدد.”
الضابطة الثانية (تضغط على لوحة بيانات): "ولكن تم العثور على مقطع فيديو قديم تم تصويره قبل سنتين، ومصدره كاميرا مراقبة صدئة في سوق داركوفا… تمكّنا من ترميم الصوت.”
ظهرت صورة باهتة لستيف وهو في منتصف مراهقته، كان يصرخ على رجل أكبر منه في زقاق مظلم.
صوت ستيف من التسجيل: "قلت لك أن لا تنطق اسم كورويشي كازوما أمامي!!”
سكت الجميع.
الضابط الثالث (بابتسامة باردة): "كورويشي… هذا الاسم ليس غريباً علينا.”
الضابط الأول (ينقر بسرعة على قاعدة بيانات قديمة): "عائلة كورويشي… أصلهم من ولاية فاويلا، كانت هذه العائلة تُعرف سابقاً بإتقانها لفنون القتال اليدوي والتلاعب، لكنهم اختفوا منذ حوالي عشرين عاماً دون أي أثر.”
الضابطة الثانية (بتركيز): "ليس اختفاءً… بل تحول. لقد اخترقنا مؤخراً شفرةً استخباراتية تابعة لمنظمة ظلال فالوريا… وتبيّن أن العائلة نفسها أصبحت تعمل تحت غطاء جديد: كجواسيس نائمين.”
الضابط الثالث (بصوت عميق): "وهدفهم؟ الإطاحة بحكم ماكيا، وسيروس، وكل النظم القائمة… وتأسيس نظام ثالث، لا رأسمالي ولا سلطوي… بل حُكم الظل.”
الضابط الأول (يشد قبضته): "كورويشي كينجي… والد ستيف، اسمه مذكور مراراً في وثائق المنظمة. قاتل، ومخطط، وخبير في الاختراق العقلي والتسلل، هو من درّب الأعضاء الأوائل في خلية الظلال المركزية.”
الضابطة الثانية: "أما ابنه… فهو الشفرة الغامضة، الحرف المجهول الذي تم زرعه داخل قلب تيراكولا، ثم خرج منها بعدما خانها… والآن هو يتحرك بحرية قرب حدود ولاياتنا.”
الضابط الثالث (يحرك إصبعه فوق صورة ستيف): "كورويشي كازوما… لم يعد ستيف، هو نَسْل العائلة التي نحاول إسكاتها منذ عقود.”
الشاشة تُحدّث الملف رقم 401-S
• الاسم الحقيقي: كورويشي كازوما
• النسب: ابن الجاسوس الأعلى كورويشي كينجي
• الانتماء: منظمة ظلال فالوريا
• الوضع: مطلوب حيًّا للتحقيق – تصنيف الخطر: B+
• ملاحظة: يُحظر قتله دون إذن مباشر من ماكيا.
الضابط الأول (بصوت متوتر): “لعبة الظلال قد بدأت بالفعل.”
[ضواحي زيتارا – منحدرات جبل “سايرو”]
كانت السماء قد بدأت تخفّف من قسوتها، والرياح هدأت قليلاً، بينما ظلّ الضباب يلفّ الجبل كسِتار رمادي. كان الجميع يسيرون بهدوء على الممر الضيق، محاولين الحفاظ على توازنهم فوق الصخور الرطبة. نيورو الذي كان يسير بجانب ستيف، ظلّ ينظر إليه بطرف عينه لعدة دقائق، ثم تكلّم أخيراً.
نيورو (بنبرة هادئة): "أتعلم… منذ أن عرفتك، لا أظنني سمعت منك أي شيء عن حياتك.”
ستيف لم يرد في البداية، فقط نظر للأمام وهو يتابع السير.
نيورو (يتابع بخفة): "نحن مشردون، مطاردون، وعشنا الكثير سويّاً… ومع ذلك، لا أعرف عنك سوى اسمك وصوتك البارد.”
ستيف (بنبرة منخفضة دون أن يلتفت): "وربما هذا كل ما يجب أن تعرفه.”
توقف نيورو للحظة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة.
نيورو: "هاه… توقعت هذا الرد… لكن, أتعلم؟ لا يبدو أنك فقط لا تتحدث… بل وكأنك تخشى أن يتم التعرف عليك.”
توقّف ستيف أخيراً، ثم التفت نحوه ببطء، وكانت عيناه مليئتين بشيء لم يره نيورو من قبل… شيء بين الحذر والندم.
ستيف (بصوت هادئ): "لأن هناك أشياء، يا نيورو… إذا عُرفت، لا يمكن التراجع عنها.”
نيورو (بمزاح خفيف): "مثل أنك متنكر؟ أو أمير منفي؟ أو ربما… ابن جاسوس خطير؟”
لم يُظهر ستيف أي انفعال… لكنه أدار وجهه مجدداً نحو الطريق، واكتفى بجملة واحدة.
ستيف: "ربما كنت كل ذلك… أو لا شيء منهم.”
ساد صمت بينهما، حتى استأنفا السير.
نيورو (وهو يضع يديه خلف رأسه): "هاه… هذا أكثر مما حصلت عليه منك منذ أشهر، أظنني سأعتبره إنجازاً.”
ستيف (بابتسامة باهتة): "لا تعتد عليه.”
[فلاشباك – منذ 9 سنوات – أحد الأحياء المخفية في عاصمة فاويلا]
في حيّ معزول عن كل ما يشبه الحياة، وُلد الطفل الأول لعائلة كورويشي… كازوما. كان ذلك المكان مقراً شبه سري، تنشأ فيه عائلة كاملة من الجواسيس. العائلة التي لم يكن اسمها يُذكر إلا في تقارير الخيانة والانقلابات السياسية: عائلة كورويشي.
والده كازوما المسمى بكورويشي كينجي، كان رجلاً لا يُخطئ التوقيت، ولا يتهاون في التدريب، ولا يتسامح في القرارات. طويل القامة، عيونه زرقاء كإبنه تماماً، وشعره أسود كسواد الليل، يرتدي نفس النظارة التي يرتديها إبنه، وكأنه قام بإنجاب نسخة مصغرة منه لتحل محله عندما يكبر. وعلى الرغم صلابته، إلا أنه كان يحمل شيئاً دفيناً بداخله… حباً لا يتقن التعبير عنه.
كان دقيقاً وعملياً ومهووس بالكفاءة، ومع ذلك، كان يربّت على رأس كازوما كلما اجتاز تدريباً صعباً… أو يترك له رسالة قصيرة عند الباب قبل أن يرحل في مهمّة تدوم أياماً:
"أنت الأخ الأكبر، اعتنِ بهم كما لو كنت أنا.”
ستيف، أو كازوما آنذاك، كان لا يزال في الثامنة من عمره، لكنه اعتاد أن يوقظ إخوته الصغار، يُحضّر لهم الحساء البسيط، يُنظّف المنزل، ثم يضع والدته على كرسيها المتحرك أمام النافذة الوحيدة، على الرغم من أنها لم تكن ترى شيئاً سوى الجدار المقابل.
والدته كانت مريضة طوال الوقت، جسدها هزيل، وصوتها ضعيف، لم تكن تتحدث كثيراً. وفي غياب والده، كان كازوما هو الأب والأخ والحارس والطباخ، وكان عليه أن يكون قوياً، ليس فقط من أجل العائلة… بل لأنه وُلد في عائلة لا يُسمح فيها بالضعف.
كانت الليالي طويلة، ينام كازوما ونصف جفنه مفتوحاً وهو يضع أخاه الصغير في حضنه، ينتظر أن يرنّ الباب في أي لحظة ويعود كينجي، مغطىً بالدم أو الرماد أو الأخبار الخطيرة. لكن في كل مرّة يعود، كانت كلماته دائماً مختصرة… ونظراته حادّة.
في أحد الأيام، كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين دوّى صوت الباب الخارجي، ثلاث طرقات خفيفة، ثم واحدة ثقيلة… إشارة لا يعرفها سوى أفراد العائلة. فتح كازوما الباب بسرعة وعلى وجهه بعض آثار النوم، لكنه تجمّد في مكانه فور أن رأى ما وراء الباب.
كان والده كورويشي كينجي واقفاً… لكنه بالكاد يتمالك نفسه. قميصه الأسود مُمزّق من جهة الكتف، وذراعه اليسرى مضمدة على عجل، وقطرات من الدم تنساب من جانب فمه، عينه اليمنى متورّمة، والنظارة التي يلبسها كانت مائلة.
كازوما (بصوت مرتجف): “أبي… أنت… هل أنت بخير؟!”
كينجي (بنبرة هادئة كعادته): “أنا واقف، أليس كذلك؟ إذاً لا تطرح أسئلة غبية.”
تقدم بخطوات بطيئة إلى الداخل، وخلع معطفه المُلطّخ بالدماء ورماه على الكرسي، ثم جلس بصمت. ظل كازوما يراقبه وهو يفتح حقيبة صغيرة ويخرج منها أدوات إسعاف، ثم بدأ بتنظيف جرحه وكأن الأمر روتينيٌّ تماماً.
كازوما: “من فعل بك هذا؟”
كينجي (يرفع نظره إليه بهدوء): “شخص لم يكن مستعداً ليموت… لكنّه مات.”
كازوما (بصوت منخفض): “هل ستبقى هكذا؟ تنزف وتتصرف كأنك لا تشعر بشيء؟”
كينجي (بصوت جاف): “عندما تصبح جاسوساً يا كازوما، الألم يصبح مجرد معلومة… تتعامل معها ولا تشعر بها.”
اقترب كازوما منه بحذر، ثم جلس على الأرض أمامه وهو ينظر إلى الضمادات التي بدأ والده يلفّها على صدره.
كازوما: “أنا لا أريد أن أصبح هكذا…”
كينجي (ينظر إليه مطولاً، ثم يتنهد): “لكنك وُلدت لتصبح هكذا، أنت لست طفلاً عادياً… أنت من عائلة كورويشي، وعليك أن ترث كل شيء… بما فيه الدماء التي تراها على هذا الجرح.”
سكت للحظة، ثم مدّ يده وربّت على رأس كازوما بقسوة فيها دفء غامض.
كينجي: “أنت الأخ الأكبر… إذا سقطتُ أنا، فالعائلة لن تسقط، لهذا عليك أن تكون أقوى… وأذكى… وأسرع.”
كازوما (يحاول حبس دموعه): “لكنني لا أفهم… لماذا نعيش هكذا؟ لماذا يجب أن نكون جواسيس؟”
كينجي (ينظر إليه بنظرة حادّة): “لأن أحداً ما يجب أن يفعل ما لا يفعله الآخرون، نحن لا نحكم العالم… نحن من يُسقط من يظنّ نفسه إلهاً فيه.”
سكت قليلاً، ثم أكمل بصوت منخفض:
كينجي: “سيأتي يوم… تكون فيه وحدك، وتُجبر على اتخاذ قرار يغيّر كل شيء… وعندما يأتي ذلك اليوم… لا تتردد، حتى لو كنت تنزف.”
نهض كينجي ببطء، ثم مشى نحو غرفته متجاهلاً الدماء التي تلطّخت بها الأرض. بقي كازوما في مكانه وهو ينظر إلى الأرض طويلاً… ثم همس لنفسه:
كازوما: “لكنني كنت أريد فقط… أن أكون إبنك، لا خليفتك.”
ثم نظر إلى الباب الذي أغلقه والده خلفه، وقد أدرك للمرة الأولى… أن هذا البيت، وهذا الاسم، وهذا الدور، كلّها ليست اختيارات… بل واجبات مكتوبة مسبقاً.
[بعد أيام من إصابة كينجي – ساحة التدريب الخلفية لمنزل عائلة كورويشي]
كانت الرياح الباردة تُنفَخ على وجه الطفل الصغير كازوما، بينما كان يقف في وسط الساحة المخصصة للتدريب في منزلهم، كان يقف حافي القدمين وهو يرتدي زيّ الكاراتيه الأبيض الذي لطخته بقع من الغبار والخدوش. أمامَه وقف والده كينجي وهو يراقب تحركات ابنه بانتباه قاتل، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساءً… لكن التدريب لا يخضع للوقت في هذا المنزل.
كينجي (بصوت حادّ): “الوقفة الرابعة… الآن!”
تأخر كازوما لثانية واحدة فقط، ثم انتقل إلى الوضعية المطلوبة، لكنه لم يكن مركزاً. عيناه كانتا تزوغان نحو النافذة المطفأة حيث ترقد والدته المريضة، وجهها شاحب كما تركه قبل لحظات.
كينجي (يزمجر): “كازوما!”
كازوما (بصوت مرتجف): “أبي… أمي تتألّم… دعني فقط أذهب إليها… فقط الليلة… أرجوك.”
اقترب كينجي بخطوات بطيئة، ونظر مباشرة في عيني كازوما، التي بدأت تتلألأ بالدموع، شفتاه ترتجفان وهو يحاول التماسك.
كينجي (بصوت منخفض لكنه حاد): “هناك ممرضة معها، لا تقل لي أنك نسيت وجودها؟”
كازوما (يخفض رأسه): “لكنها طلبتني… أنا ابنها، وليست الممرضة.”
وسقطت دمعة من عين كازوما، تبعتها أخرى، ثم ثالثة… لكن قبل أن ينهار، صرخ كينجي بصوت هزّ الجدران:
كينجي (غاضباً): “كازوما!!! البكاء للضعفاء! الرجل لا يترك موقعه في المعركة ليعود إلى من يحبهم… لأن حمايتهم تبدأ من هنا!”
ثم ضرب الأرض بقدمه فجأة، فاهتزّ جسد كازوما وجعل الصمت يخيّم على الساحة.
كينجي (ينظر إليه بقسوة): “أنت لست ابناً عادياً، أنت كورويشي. حياتك كلها تدريب… دموعك لن تُنقذ أمك، لكن قوتك… هي التي قد تُنقذها يوماً ما.”
كان قلب كازوما يتفطر، لكنه مسح دموعه بكُمّه بصمت، وقف مجدداً بوضعية قتالية وهو يضغط على أسنانه ليكبت صراخاً كان على وشك الخروج.
كينجي (بهدوء صارم): “ابدأ الكاتا مجدداً… من البداية.”
كازوما (بصوت مكسور لكنه مطيع): “نعم… أبي.”
وفي تلك اللحظة، لم يعد كازوما طفلاً يبكي لأجل أمّه… بل بدأ يتحول تدريجياً إلى ما أراده والده: ظلّ صامت… وخنجر لا يعرف الرحمة.
[قبل سنتين – المستشفى الخاص في فاويلا ]
كان الليل قد حلّ على العاصمة، وبداخل مستشفى فاويلا الخاص، وقف كازوما وقد بلغ من العمر خمس عشرة سنة وهو يرتدي زيّ المهمة الأسود، وعلى ظهره حقيبة صغيرة، كان وجهه أكثر نضجاً وأكثر برودة من ذي قبل. خلفه، كان شقيقه الأصغر يجلس بصمت أمام باب غرفة المستشفى، ووالدته قد نُقلت قبل دقائق فقط إلى العناية المركزة.
كازوما (بصوت متماسك): “أمي… حالتها خطيرة، الطبيب قال إن الساعات القادمة… حرجة.”
كينجي (دون أن ينظر إليه): “أعلم.”
كازوما (بغضب مكتوم): “إذا كنت تعلم… لماذا هذه المهمة الآن؟! لم لا ترسل أحداً آخر؟ أنا… أنا ابنها.”
كينجي (التفت إليه ثم قال بهدوء حاد): “لأن لا أحد غيرك يستطيع اختراق داركوفا دون أن يُكشف، تيراكولا لا تثق بأحد، لكن المراهقين اليتامى؟ هم مفتاحها للدخول.”
كازوما (يصكّ أسنانه): “وهل أمي لا تهمك؟”
تقدم كينجي نحوه ببطء ووقف أمامه، ثم وضع يده على كتفه وضغط قليلاً.
كينجي (بنبرة منخفضة): “أمك كانت تعلم أن هذا اليوم سيأتي، أنا لم أتزوجها لأبني أسرة عادية… بل لأبني الجيل القادم من كورويشي.”
كازوما (تتقلص عينه من الألم): “حتى على حساب وداعها الأخير؟”
كينجي: “إن متَّ في المهمة، لن تسامحني، لكن إن بقيت، وأخفقت… لن تسامح نفسك.”
ثم أخرج من جيبه بطاقة بيانات صغيرة، وسلمها له.
كينجي: “الهوية المزورة، الوجهة: داركوفا. ستصبح يتيماً في وثائق تيراكولا، راقبهم، دون كل النقاط المهمة طوال هذه السنتين."
بقي كازوما صامتاً للحظة، كانت يده ترتجف قليلاً وهو يأخذ البطاقة، ثم رفع عينيه إلى وجه والده.
كازوما (بهمس): “وإذا ماتت؟”
كينجي (بعد صمت): “لا تدفنها… بل اجعلها سبباً لتكمل الطريق.”
لم يقل كازوما شيئاً، فقط أدار ظهره وبدأ يمشي نحو المخرج، شعر بضيق في صدره، وأن وكل خطوة يخطوها كانت كأنها تُبعِده ألف ميل عن ما تبقى من قلبه، لم يتمكن حتى من توديع والدته…
بعد يومين، وتحديداً في أحد الأزقة المظلمة قرب جدار حجري متشقق في ولاية داركوفا، كان ستيف يسير بخطوات بطيئة، ملابسه ممزّقة، شعره مغطى بالأوساخ، يحمل كيساً صغيراً على ظهره، ويبدو وكأنه متشرد ضائع لا يعرف الطريق. كان قد وصل البارحة فقط، ومهمته بدأت للتو: اختراق داركوفا، التقرّب من تيراكولا، والاندماج مع الشوارع.
بينما كان يسير فوق الطين والمياه الراكدة، توقف فجأة. في حزامه الداخلي أسفل قميصه الرثّ، اهتزّ جهازه السري الصغير، الجهاز لم يكن بحجم كف اليد حتى، ولكنه يحمل أسراراً تُسقط دولًا. نظر حوله بهدوء، ثم دخل إلى ممر جانبي ضيق وجلس بجانب الجدار، أخرج الجهاز ثم فتحه ببصمة عينه، فظهر إشعار واحد فقط…
“K-21: تحديث حالة كورويشي فاريا – توقف القلب الساعة 12:47 فجراً.”
قرأها مرة واحدة، ثم أعاد قراءتها، ولكن وجهه ظلّ خالياً من التعابير، رفع عينيه نحو السماء… بدأ المطر ينهمر على وجهه، ليحل مكان الدموع التي لم تنزل. كان صدره يختنق… لكنه تذكّر كلمات والده، تلك التي حفرت جدران قلبه منذ الطفولة:
“الرجال لا يُظهرون دموعهم… لأن العيون قد تفضح ما لا يجب أن يُقال."
أغلق الجهاز ببطء وأعاده إلى مكانه، ثم ضمّ ركبتيه إلى صدره، ووضع رأسه على ركبتيه… جلس هناك مثل متشرد حقيقي، لكن الألم في داخله لم يكن مزيفاً. لم يقل شيئاً حتى… فقط جلس… وانتظر أن يأتي الوقت المناسب ليبدأ المهمة… وكأن شيئاً لم يحدث.
]المقبرة المركزية في فاويلا – بعد يوم من موت والدة كازوما]
كان الضباب يلفّ أنحاء المقبرة، بينما تجمع ثلاثة أطفال حول قبرٍ صغير نُقش عليه اسم والدتهم "كورويشي فاريا".
الأخ الأصغر (بصوت متقطع وهو يمسح دموعه): “أمي… لماذا رحلتِ بهذه السرعة؟”
الأخت (تشهق وهي تضع باقة أزهار بيضاء): “كنتِ تعدينا بأن تتحسن حالك… كنتِ تقاومين…”
انحنت رؤوسهم بين النحيب، بينما وقف خلفهم رجل طويل القامة، بثياب سوداء أنيقة، وجسد صلب كالفولاذ. كان ذلك كينجي، والدهم الذي كان يقف بلا حراك، لا يظهر عليه أي أثر للحزن أو الحياة، وكان ينظر إلى القبر بجموده الطبيعي. اقترب بخطوات بطيئة، ثم انحنى بهدوء ووضع زهرة لوتس بيضاء فوق القبر، وعدّل مكانها قليلاً.
الأخ الأوسط (بغضب مختلط بالحزن): “أبي… لماذا لا تبكي؟ لماذا لا تقول شيئاً؟! أمي ماتت!”
نظر كينجي نحو أبنائه الثلاثة ببرود، وللحظة، ظنّ الجميع أنه لن يرد… ولكنه تحرك فجأة. اقترب خطوة إضافية، ثم جلس على ركبتيه أمامهم ليكون بمستواهم، ثم مدّ ذراعيه ببطء واحتضنهم جميعاً دفعة واحدة. كان العناق ثقيلاً، صلباً… لم يكن دافئاً كما اعتادوا من والدتهم، بل كأن ذراعيه خُلقتا للحماية فقط، لا للمواساة، ولكنهم احتاجوا ذلك… وتمسكوا به.
كينجي (بصوت خافت، يكاد لا يُسمع): "لا أملك الوقت للبكاء… ولكنني ما زلت والدكم.”
ارتجفت كتفاه للحظة، لم يكن بكاءً، بل اضطراباً صامتاً في صدره، شدّ على احتضانهم قليلاً، وكأنه يخشى أن يتفكك إن أفلتهم.
كينجي (بنبرة جافة تخفي رجفة داخلية): "ستكون الأمور صعبة من الآن… لكنها لن تسحقكم ما دمتم معاً.”
لم يطل العناق، فسرعان ما استقام كينجي واقفاً، ثم التفت دون أي كلمة إضافية وغادر المقبرة. بقي الأطفال لوحدهم هناك، بين الزهور والدموع، وبين أذرعٍ دافئة رحلت… وأخرى باردة تحاول أن تتعلم كيف تكون أباً.
[ضواحي زيتارا – على ممرات الجبل]
كان ستيف يسير بصمت خلف المجموعة بعد ان أنهى حديثه مع آن ونيورو، وفجأة، اهتزّ جيبه الداخلي.
مد يده وأخرج الجهاز الصغير أسود اللون، كان ينبض بضوء أحمر خافت.
ستيف (بهمس منخفض): “ليس مجدداً…”
ضغط الزر، فظهرت سلسلة طويلة من الرسائل المتراكمة، توهجت أمام عينيه الواحد تلو الآخر:
• [تحذير فوري: موقعك مهدد.]
• [مهمتك انتهت – عد فوراً إلى فاويلا.]
• [ستيف، تعليمات الطوارئ مفعّلة، تحرك الآن.]
• [تجاهلك يُعتبر خيانة مباشرة.]
ظلّ ينظر إلى الشاشة لثوانٍ، لم يتغير تعبير وجهه، لم يرتبك، لم يتوتر. بل ظهرت على ملامحه نظرة باردة… نظرة مليئة باشمئزاز.
ستيف (بصوت خافت): "أنتم من انتهى… وليس أنا.”
قبض على الجهاز بيده، ثم أدار رأسه نحو حافة الجبل… وأطلقه بعيداً في الهواء. توقف لثوانٍ، ثم أكمل سيره دون أن يلتفت، وكأن ما رماه لم يكن مجرد جهاز… بل كان يرمي ماضيه كله.
تابع ستيف سيره بينما كان صوت صدى الجهاز يختفي في أعماق الوادي، لم ينبس ببنت شفة لبضعة ثوانٍ. كان الضباب يتكاثف من حوله، والريح تحرّك أطراف سترته وشعره، ولكنه لم يشعر بالبرد، بل بشيء آخر… شيء أقوى وأكثر وضوحاً من أي وقت مضى.
ستيف (بصوت منخفض لنفسه): "طوال حياتي، كانوا يخبرونني من يجب أن أكون… جاسوس، سلاح، ظلّ بلا إرادة.”
توقف لوهلة، ثم رفع عينيه نحو الطريق حيث يسير كين وآكيو وآن…
ستيف (بهمس): "لكنهم… هؤلاء المراهقون… الأصغر مني، آكيو، كين، آن… كل واحد منهم يسير على طريق اختاره بنفسه… لم يكتب أحد قصتهم من قبل.”
شدّ يده اليمنى قليلاً، ثم رفع ذقنه بثبات.
ستيف: "أما أنا؟… فقد حان وقت البدء من جديد، لن أسمح لأحد بعد الآن أن يقرر من يجب أن أكون.”
ثم أكمل خطواته، ببطء، ولكن هذه المرّة… كان يسير نحو حياة جديدة يكتبها بنفسه.
يتبع…