[مستشفى منظمة ظلال فالوريا – الطابق السري الثالث – غرفة ستيف]
كان الصباح قد بدأ للتو… لكنه لم يكن يعني شيئاً لستيف. الضوء الأبيض الذي تسلّل من المصباح المعلق فوق سريره لم يضف أي دفء. جلس ستيف على الكرسي المتحرك وهو يحدق في الجدار أمامه دون أي رمشة. عيناه كانتا خاليتان تماماً، وكأن الروح بداخله انسحبت بهدوء.
لعد لحظات، صدر صوت خطوات خافتة بدأ يقترب خارج الباب. صدرت طرقة خفيفة، ولكن ستيف لم يرد. فُتِحَ الباب ببطء ودخل منه كينجي… وخلفه امرأة ترتدي معطفاً أبيض طويلاً، بنظارات طبية وملف صغير بين يديها، وكانت تبدو في الثلاثينات من عمرها.
كينجي (بصوت رسمي هادئ): "كازو… ستيف… هذه الطبيبة النفسية، الدكتورة ساتومي. من أفضل أطباءنا، وقد…"
ستيف (يقاطعه دون أن ينظر نحوه): "أخرج."
سكتت الدكتورة ساتومي للحظة، ثم تبادلت نظرة مع كينجي.
كينجي (بهدوء متوتر): "ستيف… دعها فقط تتحدث قليلاً. أنت بحاجة إلى—"
ستيف (بنبرة باردة، خالية من الحياة): "قلتُ أخرج."
لم تتحرك الدكتورة، لكن كينجي رفع يده بخفة وأشار لها بالخروج. انحنت بخفة وغادرت الغرفة، تاركة الباب مفتوحاً. ظل كينجي واقفاً عند الباب وهو يحدّق في ابنه بصمت.
ستيف (يواصل التحديق في الفراغ): "جئت لترغمني على علاج نفسي؟ على تقبّل الحياة؟ على العودة لطريقك القديم؟"
كينجي (بصوت منخفض): "جئت… لأنني لا أعرف ماذا أفعل."
توسّعت عينا ستيف قليلاً، كأن تلك الجملة لم تكن مألوفة من والده. لكن كينجي استعاد ملامحه الباردة على الفور.
كينجي (متمتماً بصوت لا يسمعه إلا هو): "أنا من فعل هذا بك… أنا الذي كسرك."
اقترب خطوتين، ثم توقف.
كينجي: "أنت لا تزال ابني… وأنا لا أستطيع أن أراك تتعفن ببطء أمامي."
ستيف (ببرود شديد): "أنا لست ابنك."
كينجي (يشد على قبضته): "ربما… لكنني كنت السبب في أن تصبح ما أنت عليه."
ستيف (بهمس، وعيناه لا تزال لا تلتفت): "لو كنتَ فقط… عرفتَ كيف تكون أباً."
عمّ الصمت. كان كينجي يريد أن يصرخ، أن يقول أنه حاول، أنه خاف عليه، أنه ندم على كل شيء… لكنه لم يستطع.
ستيف (بصوت خافت جداً): "اتركني وحدي."
أومأ كينجي بخفة واستدار ليغادر. وحين أغلق الباب خلفه، وقف للحظة في الخارج وهو يضع يده على الحائط… وأغمض عينيه، شعر بأن الألم داخله لا يعرف كيف يخرج.
وبعد ساعة، عاد كينجي مجدداً إلى غرفة ستيف. طرق الباب بلطف ووقف لثوانٍ، وكالعادة لم يأتِ أي رد. ثم دخل بهدوء وهو يحمل بيده كتاباً صغيراً وملفاً طبياً. وهذه المرة كان ستيف مستلقٍ على السرير.
كينجي (يضع الكتاب على الطاولة بجانبه): "هذا… كتابك المفضل. وجدته في غرفتك القديمة، 'حكايات الرماد’… كنت تحفظ بعض جمله عن ظهر قلب."
ستيف (بنبرة خافتة جداً، بالكاد تُسمع): "لم أعد أحب القصص."
جلس كينجي على الكرسي بجانب السرير، وبدأ يقلب أوراق الملف الطبي بصمت.
كينجي: "قالوا لي أنك بدأت ترفض العلاج الطبيعي، لا تتفاعل ولا تتجاوب."
ستيف: "لأنني لا أريد أن أتعافى."
كينجي (تجمد للحظة، ثم قال): "حتى بدون يدك… حتى وإن كنت لا تمشي الآن… هذا لا يعني هذا أن حياتك انتهت. التكنولوجيا تطورت… لدينا أطراف صناعية متقدمة… وهناك علاج أعصاب جديد… بإمكانك العودة."
ستيف (بهدوء مرير): "العودة إلى ماذا؟ إلى رجل بنصف جسد ونصف كرامة؟ إلى منظمة ترى الناس أدوات؟ إلى أب لا يعرف كيف يقول آسف؟"
كينجي لم يرد… فقط شدّ على أصابعه.
ستيف (ينظر إلى يده الوحيدة): "أنت ترى التقنيات والاحتمالات… وأنا أرى العدم. أرى ظلي بلا يد، صوتي بلا قوة… وأحلامي تتلاشى."
كينجي (بصوت متماسك ظاهرياً): "ستيف… أنا لست بارعاً في قول الكلمات. لكنني… خائف عليك."
ستيف (بمرارة): "متأخر جداً على الخوف."
كينجي (يحاول الاقتراب): "أعطني فرصة فقط… فرصة واحدة، لنبدأ من جديد."
ستيف (بصوت متكسر): "ليس لدي جديد لأبدأ به..."
مدّ كينجي يده ليضعها على كتف ستيف، ولكنه ابتعد عنه بهدوء.
ستيف (ينظر إليه أخيراً، بنظرة باهتة): "لا تحاول إصلاح ما دمرته… أحياناً، الخراب لا يُرمم، بل يُدفن."
خرج كينجي من غرفة ستيف، وأغلق الباب خلفه بهدوء شديد… لكن بداخله، كان كل شيء يصرخ. وقف في الممر للحظة وهو يضغط بأصابعه على الحائط البارد، يحاول أن يُعيد تماسكه… ولكنه فشل لأول مرة.
انزلقت دمعة واحدة من عينه دون إذن. رفع يده بسرعة ليمسحها، لكن الثانية نزلت بعدها، ثم الثالثة… وفجأة، لم يعد يستطيع التوقف. وجهه المتجهم انهار بهدوء، وتغيّر صوته الداخلي من البرود إلى الانهيار.
كينجي (بهمس مبحوح): "لقد دمرته… لقد… دمرت كل شيء."
صوت أقدام خفيفة اقتربت منه، كانت خطوات رجل في الخمسينات من عمره بشعر رمادي، وكان يعتبر أحد كبار قادة المنظمة، واسمه هيروما. مر بالصدفة قرب الجناح، لكنه تجمد فور أن رأى كينجي يبكي.
هيروما (بدهشة وهو يقترب بخفة): "كينجي…سان…؟"
رفع كينجي رأسه نحوه… عيناه محمرتان، أنفاسه ثقيلة، الدموع تنهمر من عيناه بلا توقف.
هيروما (بصوت خافت): "يا إلهي… ما الذي—"
لكن كينجي لم يدعه يُكمل، بل دفعه بعنف إلى الجدار فجأة.
كينجي (بانفجار): "لا تقترب مني!!!"
هيروما (مرتبكاً): "كينجي-سان… اهدأ… أنت لست بخير—"
كينجي (يصرخ فجأة، صوته يرتجف): "أعرف بأنني لست بخير!! أنا… أنا الذي حوّل ابنه إلى جثة تمشي!!"
ثم استدار نحو الطاولة المجاورة في الممر، وضربها بعنف فسقطت الأوراق والأدوات.
كينجي (وهو يركل الكرسي بجانبه): "كنت أظن أنني أحميه!! كنت أظن أنني أفعل ما هو صواب!!"
ثم ضرب الجدار بقبضته حتى سال الدم من مفاصله.
كينجي (وهو يلهث، والدموع تغمر وجهه): "ولكن كل ما فعلته… هو أنني سحقته… كل يوم… كل لحظة!!"
اقتربت منه إحدى الممرضات برعب، لكنه صرخ في وجهها أيضاً:
كينجي: "لا أحد يقترب!!"
ثم ركض فجأة في الممر متجاوزاً الطاقم الطبي، واندفع نحو الباب الرئيسي للمستشفى.
الممرضة: "أوقفوه! إنه ينزف!!"
لكنه لم يستجب… بل فتح الباب الحديدي بعنف، وانطلق في الممر خارج المستشفى، والسماء كانت رمادية شاحبة وكأنها تعكس حالته تماماً. ركض كينجي… ركض كأنّ الأرض تحترق خلفه… ركض دون أن يعرف إلى أين… لكنه أخيراً بدأ يبكي بصوتٍ عالٍ، صراخ مكتوم يخرج بين شهقاته، كأنه ينفجر لأول مرة منذ سنوات طويلة.
كينجي (وهو يصرخ داخل عاصفة صمته): "كازوما… سامحني!!"
كان يركض تحت المطر الذي بدأ يهطل خفيفاً، اختلطت دموعه بالماء، ويده المصابة ما تزال تنزف، لكنه لم يتوقف… وكأنه يريد أن يهرب من كل شيء… من وجهه، من ماضيه، من ابنه، ومن نفسه.
[داخل غرفة ستيف – بعد ثوانٍ من مغادرة كينجي]
سمع ستيف صوت الباب وهو يُغلق، ثم عمّ السكون… مدّ ستيف يده الوحيدة ببطء، والتقط المنديل الذي بجانبه على الطاولة، لكنه لم يمسح وجهه… بل ظلّ يقبض عليه بقوة.
ستيف (بهمس شبه مسموع): "لم أطلب منك أن تبقى… لكنني… لم أطلب منك أيضاً أن تهرب."
نظر إلى الباب المغلق بوجه لا يحمل أي تعبير، لكن عينيه كانتا تغليان داخلياً.
ستيف (بداخله): "كان من الممكن أن تبقى… أن تتوسل… أن تفعل شيئاً مجنوناً… أي شيء يدلّ على أنك ما زلت تهتم… لكنك غادرت كالعادة."
أدار وجهه ببطء نحو السقف، ثم قال بتهكم مرير:
ستيف: "أنت خائف عليّ؟ لا، بل خائف على ما تبقى من صورتك كأبٍ أمام نفسك."
سقط المنديل من يده، وبدأت الدموع تنزل بصمت… وفجأة، فُتح الباب دون طرق، ودخلت الطبيبة النفسية ساتومي مجدداً، لكنها هذه المرة كانت بمفردها… اقتربت أكثر وجلست على الكرسي.
ساتومي (بهدوء وهي تفتح دفترها): "لن أسألك كيف تشعر، لأن الجواب واضح."
ستيف (ينظر نحوها): "قلت لكِ… اخرجي."
ساتومي (تنظر إليه ببرود): "قلتَ ذلك سابقاً… لكنني لم أكن أنوي الطاعة"
صمت ستيف، وكان على وشك أن ينفجر مجدداً، لكنها نظرت إلى عينيه وقالت:
ساتومي: "لقد رأيتُ آباءً يدمرون أبناءهم… وأبناءً يقتلون آباءهم… لكنني لم أرَ من قبل شخصاً يحتقر قلبه بهذا الشكل."
ارتجفت عينا ستيف للحظة، فتابعت:
ساتومي: "لن أجعلك تتحدث… فقط استمع. أنت الآن في المرحلة التي تظن فيها أن البقاء هو خيانة، وأن العجز هو نهاية."
أغلقت دفترها بلطف، ثم قالت:
ساتومي: "لكنك لست ميتاً، قلبك لا يزال ينبض. وهذه أسوأ لعنة… وأعظم فرصة."
وقفت فجأة، وخرجت دون كلمة إضافية… تاركة ستيف وحده…
[منزل كينجي]
فتح كينجي باب منزله بشراسة، واندفع إلى الداخل بخطوات متوترة. كان وجهه محمراً من كثرة البكاء. رمى مفاتيحه بعنف على الطاولة، ثم صعد الدرج مسرعاً. وصل إلى غرفته وفتح الباب، ثم أغلقه بقوة… وسقط على الأرض جاثياً، بدأ يضغط على صدره بشدة.
كينجي (بهمسٍ يخرج كاختناق): "لقد دمرت ابني… أنا من فعلتُ هذا… بيدي…"
صرخ فجأة، وركل الخزانة بقوة حتى انفتحت إحدى أدراجها وسقطت أوراق قديمة على الأرض. تقدم كينجي نحوها بسرعة، ثم فتح الدرج السفلي بعنف… وأخرج حبلًا ملفوفاً بعناية… وقف بتردد… أنفاسه سريعة، ويداه ترتجفان. بدأ يربط الحبل ويعلّقه في أحد أعمدة السقف الخشبي.
كينجي (يتمتم): "كازوما… سامحني… لم أعد أستطيع تحمّل كل هذا… لم أعد أستحق أن أعيش."
ربط العقدة ببطء، ثم وقف على الكرسي… وضع الحبل حول عنقه ثم أغلق عينيه. أنفاسه كانت ثقيلة، وكل ثانية تمرّ كانت كأنها دهر. ضغط أسنانه وأغمض عينيه بقوة… ثم ركل الكرسي! تدلّى جسده في الهواء، والضغط بدأ يخنقه فوراً.
"آآآآآه—!"
عينيه اتسعتا، ويداه راحتا تتخبطان بلا هدف، فيما بدأت أوردة رقبته تنتفخ تدريجياً. لحظات قليلة فقط… وكان كل شيء سيغرق في السواد.
لكن فجأة…
"أبيييييييي!!!!"
فُتِحَ باب الغرفة بعنف! ركض ثلاثة أطفال نحو الداخل، وتجمّدوا مكانهم.
رين (14 سنة): "ماذا تفعل؟!!"
سايا (11 سنة): "أبي؟! أبيييي؟!!"
هارو (8 سنوات): "لااااااااا!!"
كانت الصرخات كفيلة بإرجاع الحياة إلى جسده المختنق. فتح كينجي عينيه فجأة ورآهم… لم يتخيل بأن هذا المشهد سيحصل قط. يداه المرتبكتان راحتا تحاولان التمسك بالحبل… وجسده المعلّق بدأ يتلوّى من الألم والندم.
رين (اندفع للأمام وهو يصرخ): "سايا! المقص! المقص!!!"
ركضت سايا بسرعة خارجة نحو المطبخ، بينما كان رين يقف فوق الكرسي الذي أعاده بسرعة، وبدأ يحاول رفع جسد أبيه.
رين (يبكي): "أبي!! لا تفعل هذا!! أرجوك!! نحن هنا!! نحن معك!!"
دخلت سايا بسرعة وهي تمسك مقصاً بيدها المرتجفة، ثم سلمته إلى رين. قطع رين الحبل بيدان مرتعشتان!! سقط جسد كينجي بقوة على الأرض، كان يتنفس بعنف وعيناه مملوءتان بالدموع. ركض هارو نحو كينجي واحتضنه وهو يبكي.
هارو: "أبيييي!! لا تذهب!! لا تتركنا!!!"
جلس كينجي على الأرض وهو يلهث ويضع يده على صدره، ثم نظر إلى أبنائه الثلاثة الذين تجمّعوا حوله… جميعهم كانوا يبكون… جميعهم كانوا خائفون. مرت لحظات قليلة قبل أن يغطي كينجي وجهه بكلتا يديه، وينفجر ببكاء مرير لم يصدر عنه من قبل.
كينجي (يهمس وهو يرتجف): "كنت أظن… أنني انتهيت… نسيت أنني لا أملك ابناً واحداً فقط… نسيت أن هناك… من لا يزالون هنا… ينظرون إليّ…"
مدّ يده المرتعشة نحوهم، واحتضنهم جميعاً دفعة واحدة.
كينجي (بدموع): "سامحوني… سامحوني…"
رين (وهو يبكي): "نحن لا نريد شيئاً منك… فقط ابقَ معنا، أبي… فقط ابقَ… أمي رحلت، ولا نريدك أن ترحل أيضاً!"
مرّت دقائق طويلة على ذلك العناق العاجز، ثم رفع كينجي رأسه أخيراً… ونظر إلى وجوههم المصدومة والمتألمة.
كينجي (بصوت منخفض حازم، لكن مرتجف): "عودوا إلى غرفكم… الآن… أرجوكم."
رين (بتردد): "لكن—"
كينجي (يغمض عينيه): "أحتاج أن أكون وحدي… فقط قليلاً… لا تقلقوا، لن أفعل شيئاً… أقسم بذلك."
ترددوا لثوانٍ، ثم أومأ لهم رين بخفة، فنهضوا ببطء وخرجوا من الغرفة وهم يرمقونه بنظرات خائفة لم يعهدها منهم من قبل. بقي كينجي لوحده، بين حبل مقطوع وكرسي مقلوب. زحف نحو خزانته وفتحها ببطء… ثم بدأ يعبث في أحد الأدراج السفلية. كانت هناك صناديق قديمة مغلقة بعناية، أخرج أحدها ونفض الغبار عنه.
فتحه ببطء… ليجد بداخله ألبومات الصور القديمة. فتح الصفحة الأولى… كانت صورة عائلية باهتة، ثم صورة أخرى له وهو في الثامنة عشر من عمره… ملامحه حينها كانت مشتعلة بالشباب والطموح، شعره أسود كثيف… ونظرته الحادة كانت تشبه تماماً نظرة ستيف اليوم.
كينجي (يهمس بصوت مجروح): "يا إلهي… كأنني أنظر إليه.”
قلب الصفحة ببطء… ثم تجمّد. كانت هناك صورة قديمة جداً… لرضيع صغير ملفوف في بطانية زرقاء، ويدٌ شابة تحمله بحنان، ذراعا كينجي نفسها.
كينجي (يهمس): "كازوما… كُنتَ صغيراً جداً… كنتُ أول من حملك بعد الولادة…"
مرر أصابعه على الصورة وبدأ يدقق فيها. لم يكن هناك كره، ولا صرامة… فقط ابتسامة أب بريئة، وعينان تلمعان بالأمل.
كينجي (بهمس متهدج): "أين ضاعت تلك اللحظة؟ متى أصبحتُ جلادك؟ كيف تحوّلت من هذا الأب… إلى من نظر إليك وأنت تنهار… ولم يفعل شيئاً؟"
سقطت دمعة من عينه على الصورة… فتشوهت ملامحها قليلاً تحت البلل.
كينجي (بصوت متهالك): "لو عدتُ بالزمن… كنت سأحضنك أكثر، كنت سأسمعك أكثر حين تبكي… لا أن أُسكتك."
أغلق الألبوم ببطء، ثم ضمّه إلى صدره كأنه يمسك آخر ذكرى نقية لم تتلوث بعد.
[على متن السفينة الملكية – في طريقها إلى جزيرة أورانيو]
كانت الأمواج تتمايل بهدوء تحت السفينة الفاخرة، والسماء رمادية لكن البحر هادئ. على السطح العلوي، كانت سيلينا تجلس على كرسي بجانب الحافة وهي تحدق في الأفق، شعرها الأحمر يرفرف مع الرياح، وعباءتها السوداء تتطاير. كانت صامتة كعادتها وهي تراقب البحر.
سيلينا (تفكر بهدوء داخلي): "هذه المهمة… ليست فقط من أجل جمرة فالكا… بل من أجل أن أكتشف من أنا… بعيداً عن ظل والدي."
خلفها بعدة خطوات، بدأت الفوضى تحدث. كان آرثر يتنقل بين أفراد الطاقم بنشاط مفرط، بدأ يبتسم وهو يتغزل في النساء الجميلات على متن السفينة.
آرثر (بابتسامة ساحرة وهو يقترب من فتاة من طاقم الملاحة): "هل أخبركِ أحد من قبل أنكِ تبحرين بشكل أجمل من أي سفينة؟"
الفتاة (بخجل): "سيدي… هذا… لطف منك…"
آرثر (يغمز لها): "ليس لطفاً، بل حقيقة. اسألي أختي سيلينا… لديها عين خبيرة بالجمال."
ارتبكت الفتاة، بينما استدارت سيلينا ببرود واضح وهي تنظر إلى أخيها.
سيلينا (بصوت منخفض لكنه قاتل): "آرثر… إن واصلت استخدام لقبي الملكي كمفتاح لكل باب أنثوي، سأرميك من السفينة."
آرثر (يضحك وهو يتقدم نحوها): "ها قد نطقت الجليدية… كنت أعتقد أن البحر لن يُذيبك، لكن يبدو أن الغرور فعلها!"
سيلينا (ببرود): "الغرور لا يذيبني، إنه فقط يزعجني… خصوصاً حين يكون وراثياً.”
آرثر (يرفع حاجبه ويضحك): "هل تقصدينني أم أبي؟ لأن كليهما جذّاب بما يكفي ليُغفَر له كل شيء.."
سيلينا (تعود للنظر إلى الأفق): "أنا فقط أبحث عن لحظة صمت واحدة فقط."
آرثر (يأتي من الوراء ثم يضع ذراعه على كتفها): "سنصل إلى الجزيرة قريباً… وهناك، سأتكفّل بالحديث، وأنتِ ستكتفين بالصمت الذي تتقنينه. اتفقنا؟"
سيلينا (تبعد يده بهدوء): "فقط لا تسبّب كارثة دبلوماسية هذه المرة… نحن لسنا هنا لنغزو الجزيرة، بل لنتسلل."
جلس آرثر بجانب سيلينا وهو لا يبعد عنها سوى بضع سنتيمترات. مدّ قدمه إلى الأمام وترك الأخرى تتدلى فوق سطح البحر المتماوج.
آرثر (وهو يميل برأسه نحوها): "تخيلّي لو سقطنا الآن في البحر، من تتوقعين أن ينقذنا أولاً؟ فارس وسيم مثلي… أم أميرة جليدية مثلك؟"
سيلينا (دون أن تلتفت): "أنا سأكون منشغلة بالغرق… أما أنت فستكون منشغلاً بتغزّلِك بالحوريات."
آرثر (يضحك): "حوريات؟ فكرة ممتازة! هل تعرفين… قد أقع في الحب في أورانيو وأتزوج هناك. سأسمي أول أبنائي 'سيروس الصغير'."
سيلينا (ببرود لاذع): "الأفضل أن تُسميه 'كارثة'."
آرثر (يتظاهر بالصدمة): "آه، أختي العزيزة… بدأتي تشتمينني؟ هذه تطور خطير في العلاقة."
اقترب منها أكثر ومدّ ذراعه خلف ظهرها ووضعها بخفة على كتفها، وكأنه يحتضنها بلا خجل.
آرثر (وهو يضغط على خدها بخفة): "هل تعلمين؟ أحياناً أنسى أنكِ أختي، فقط لأنكِ لا تمتلكين نصف جمالي."
سيلينا (تزيح يده فوراً ببرود مرعب): "ولحسن حظي."
آرثر (يرفع حاجبيه): "يا لكِ من قاسية! لو كُنتِ أقل قساوة لربما أحبكِ الجنود أيضاً."
حولهم، كان أفراد الطاقم ينظرون من بعيد باستغراب. البعض يحاول كتم ضحكته، وآخرون يتبادلون النظرات غير مصدقين أن الوريثين الملكيين يتصرفان بتلك الطريقة.
جندي من الطاقم (يهمس لزميله): "هل هؤلاء حقاً… هم أبناء الملك؟"
زميله (بدهشة): "أعتقد ذلك… الأمير يغازل كل من على السفينة، والأميرة تهمس له بأنها تود خنقه."
فتاة من الطاقم (تتنهد بخفة): "رغم كل شيء… إنهما رائعان بطريقة ما."
عاد آرثر ليضع يديه خلف رأسه واتكأ على السور، ثم اغمض عينيه وكأنه ارتاح أخيراً.
آرثر (بصوت مرتاح): "أتعلمين يا سيلينا… هذا البحر جميل، ولكن ما يجعل الرحلة مميزة… أنكِ معي."
سيلينا (تتمتم): "لو كنتَ أقل ثرثرة… ربما كنت سأصدّقك."
آرثر (ينفجر ضاحكاً): "أوه، سيلينا… أتعلمين؟ أنتِ مرعبة. أحبكِ."
سيلينا (ببرود): "هذا متبادل… بطريقة مشروطة."
تحركت سيلينا بهدوء من مكانها، تاركة آرثر الذي كان يحاول لعب دور الأمير المهرج، وتوجهت إلى أحد الخدم المراهقين الذي كان واقفاً بالقرب من المدخل المؤدي إلى الطابق السفلي. كان ذلك الفتى لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، يحمل صينية فيها بعض المشروبات المعدنية المغلقة، وعيناه تراقبان الأميرة من بعيد. وعندما اقتربت منه، كاد قلبه يقفز من صدره.
سيلينا (بصوتها الهادئ المهيب): "مرحباً، هل يمكنك إحضار بعض كعك اللوتس؟"
رفع الفتى نظره إليها، لكنه تجمّد للحظة. بشرتها البيضاء، شعرها الأحمر المتطاير مع نسيم البحر، وعيناها الرماديتان الهادئتان… جعلت عقله يتوقف عن العمل.
الفتى (بصوت مرتعش): "أ-أجـ… أ… أجـل! طبعاً… أقصـ… أقصد، بالتأكيد أيتها الأمـ… الأمير… ة!”
سيلينا (ترمش ببطء): "فقط سيلينا-ساما يكفي.”
الفتى (تتوسع عيناه): "س-سـ… سيلينا-ساما!!”
بدأ الفتى يتلعثم أكثر، ووجهه احمرّ لدرجة أنه بدا وكأن الحرارة في جسده ارتفعت فجأة. وحتى يديه بدأتا بالارتجاف وهو يحاول وضع الصينية على الطاولة المجاورة، لكنها اهتزت وكاد يسقطها.
سيلينا (ببرود لطيف): "اهدأ… فقط تنفس.”
ولكن، قبل أن يتمكن الفتى من قول كلمة أخرى، قفز آرثر من مكانه فجأة وخطى بخفة إلى جانبهم وهو يصفق يديه وكأنه دخل مسرحية.
آرثر (بصوت مشاكس): "واو واو واو… ما الذي يحدث هنا؟ هل نعيش قصة حب ملكية من طرف واحد؟"
الفتى (يتجمد): "آ-آرثر-ساما! لا لا! أنا فقط… كنت—"
آرثر (يقترب أكثر، مبتسم بنبرة لاذعة): "فقط؟ فقط ماذا؟ تعثّرت بكلماتك وأنت تحاول نطق اسم أختي وكأنك تنادي الشمس؟"
سيلينا (تنظر لآرثر بتحذير): "آرثر…"
آرثر (ينظر للفتى): "أتعلم ما عقوبة محاولة إسقاط المشروبات على سطح السفينة الملكية؟"
الفتى (يرتبك): "أعـ… أعدك أنني سأنتبه! أنا آسف حقاً!!"
آرثر (يتنهد بطريقة درامية): "هاه، شباب هذه الأيام… ينهارون أمام أول فتاة جميلة يرونها، كيف ستواجه العواصف القادمة أيها البحّار؟"
سيلينا (وهي تتنهد بنفاد صبر): "آرثر، لو كنت تحاسب الناس على التلعثم أمام الجمال، لوجب عليك جلد نفسك في المرآة كل صباح."
آرثر (يتجمد لثانية، ثم يضحك بخفة): "هاه، لم أتوقع أن تردّي هكذا، هل هذا يعني أن مزاجك تحسّن؟"
سيلينا (ترفع حاجبها ببرود): "لا… هذا يعني أن صبري بدأ ينفد."
آرثر (يضع يده على صدره بمبالغة): "آه، أُصيبت مشاعري! لقد أصبتيني في قلبي يا أختي العزيزة!"
سيلينا (تدير ظهرها وتبدأ في الابتعاد): "لا تقلق، قلبك مغلف بطبقة من الغرور السميك… لن يصيبه شيء بسهولة."
آرثر (يهمس لنفسه وهو ينظر للفتى المراهق): "أجل… لا عجب أنها لا تملك أصدقاء."
ظل الفتى المراهق واقفاً في مكانه متجمداً، وجهه لا يزال محمراً، وعيناه تتنقلان بين سيلينا وآرثر، غير متأكد إن كان قد شهد لحظة توتر… أم مسرحية عائلية غريبة.
آرثر (ينظر إليه بابتسامة جانبية): "اذهب الآن أيها الفارس… وأحضر كعك اللوتس الملكي، وتأكد أن لا تسقطه!"
الفتى (ينحني وهو يتلعثم): "حـ-حاضر! آرثر-ساما!!"
ركض الفتى فوراً نحو المطبخ الداخلي، بينما بقيت سيلينا واقفة عند الحافة تحدّق في الأفق، وكأنها تريد أن تقفز منه هرباً من كل هذه السخافات.
بعد أن أنهى آرثر مشاحنته المعتادة مع سيلينا، قرر أن “يتجول” كما يسميها، رغم أن الجميع يعرف أنها مجرد جولة استعراضية ليتباهى بنفسه. كان يسير بخطىً واثقة على ظهر السفينة، يضع يديه خلف رأسه، وبعض الجنود أدّوا التحية له.
آرثر (بغرور داخلي): "آه… هواء البحر، نظرات الإعجاب، وأنا الوسيم الوحيد في المحيط."
كان يمر بجانب البرج المركزي للسفينة، حيث كان بعض الخدم ينقلون صناديق صغيرة تحتوي على مؤونة ومعدات. وبينما كان آرثر على وشك الانعطاف، اندفع أحد الخدم بسرعة وهو يحمل صندوقاً ثقيلاً بين يديه… واصطدم بآرثر مباشرة. سقط الصندوق أرضاً وتناثرت بعض محتوياته من أدوات ميكانيكية صغيرة، بينما ترنّح آرثر خطوة للخلف وهو ينظر بدهشة وغضب في آنٍ واحد.
آرثر (يرفع حاجبه، يتحدث بنبرة لا تخلو من تهديد): "هل اصطدمت بي للتو؟ اصطدمت بي أنا؟"
الخادم (شاب في أوائل العشرينات، شاحب الوجه، يحمل ملامح التوتر): "أ-أعتذر سيدي! لم أقصد! كنت… أنقل المعدات للطابق السفلي بسرعة لأن—"
آرثر (يقترب منه خطوة): "تنقل؟ بسرعة؟ هل أنت ضمن طاقم هجومي أم عرض كوميدي؟"
الخادم (ينحني بسرعة وهو يجمّع القطع): "أنا آسف، سيدي الأمير! حقاً لم أرَك—"
آرثر (يتنهد بخفة، ثم يتكلم بسخرية): "هاه… يبدو أنني أصبحت غير مرئي فجأة."
اقترب منه أحد البحّارة ليساعد الخادم، ولكن آرثر لوّح بيده.
آرثر: "دعه… أريد أن أرى كيف سيجمع هذه القطع كلها دون أن يبكي."
الخادم (يواصل جمع القطع بصمت وهو يهمس): "تباً… تباً…"
آرثر (ينحني بجانبه ويسمعه): "ماذا قلت؟"
الخادم (يرتجف): "لا… لا شيء! كنت أتحدث مع نفسي فقط!"
آرثر (وهو ينهض): "في المرة القادمة… انظر أمامك، وتأكد أنك لم تصطدم بأحد أفراد العائلة المالكة… خاصة إن كان في مزاج سيء."
ثم ابتسم بغرور، واستدار ليكمل طريقه.
يتبع…