[ولاية زيتارا – المستشفى العسكري – جناح النقاهة]

كان صوت جهاز النبض الإلكتروني يقطّع سكون الغرفة بإيقاع بطيء. جلس كين على حافة السرير، جسده ما يزال مغطى ببعض الضمادات، وصدره يتحرك بصعوبة مع كل شهيق… لكنه ولأول مرة أراد أن يقف. كان أكيرا يجلس على الكرسي المجاور للسرير، واندهش حين سمع صوت احتكاك قدمي كين بالأرض.

أكيرا (بدهشة): "هاه؟ كين؟"

رفع كين نظره إليه للحظة، ثم أعاد عينيه إلى الأرض.

كين (بصوتٍ خافت): "سأقف."

أكيرا (ينهض بسرعة): "مهلاً مهلاً، أنت بالكاد تتنفس، الطبيب قال—"

كين (يقاطعه، يضغط بكفيه على حافة السرير): "سأقف."

وقف أكيرا متردداً، ثم اقترب منه وهو يستعد للإمساك به إذا سقط. أما كين فكان يضغط بكل ما أوتي من قوته على قدميه، وارتعشت ركبته وهو ينهض ببطء. استغرق الأمر عشر ثوانٍ كاملة… ثم وقف. خطا خطوة… ثم الثانية… وسقط قليلاً على الحائط، لكن لم يسقط على الأرض.

أكيرا (يقترب بخفة، يحاول دعمه): "سأساعدك، فقط قليلاً—"

كين (بإصرار، وهو يبعده بيده): "لا… وحدي."

أكيرا لم يتحرك، فقط اكتفى بالمراقبة.

كين (يفكر داخلياً): "إن كنت سأواجه سيروس… إن كنت سأجد دان… وإن كنت سأعيش حقاً… فلا مجال للعودة."

خطا مجدداً… خطوة رابعة، ثم خامسة. حتى وصل إلى نهاية الجدار… فوضع راحة يده عليه، وانحنى قليلاً. وفجأة… شعر كين بطعنة خفية في صدره تحت الضمادات مباشرة. شهق بصوتٍ منخفض وتوقف عن المشي، انحنى أكثر، ويده الأخرى أمسكت مكان الجرح. بدأ جسده يرتجف قليلاً، ووجهه شحب من الألم. أكيرا لم يعد يستطيع الوقوف مكتوف اليدين، فتقدم نحوه بسرعة.

أكيرا (بسخرية): "أوه لا، لا تقل أنك ستنهار بعد خمس خطوات!"

كين (يحاول الوقوف باستقامة): "أنا… بخير."

أكيرا (يرفع حاجبه، يميل برأسه): "بخير؟ وتلك القطرات الباردة على جبينك مجرد عرق انتصار؟"

لم يرد كين، فقط شدّ على أسنانه بينما يقاوم الألم. مدّ يده نحو الجدار مجدداً، وسحب نفسه ببطء، خطوة تلو أخرى… حتى وصل إلى حافة السرير. ثم جلس ببطء وأسند ظهره إلى الوسادة بصمت.

أكيرا (يتكئ على الحائط، بنبرة أهدأ): "لا أحد يلومك إن طلبت المساعدة، أنت تعلم ذلك، صحيح؟"

كين (يهمس): "أنا… لم أعتد على الضعف."

أكيرا (يتنهد، ثم يبتسم): "وهل تظن أن القوة تعني المشي بجسد محطم؟ لا يا شجاع… القوة أحياناً تعني أن تعرف متى تتوقف."

كين: "إن توقفت… لن أتحرك مجدداً."

أكيرا (بهدوء): "إذن استرح… لأنك ستحتاج لكل قوتك حين يتحرك كل شيء من جديد."

[ولاية ستورملاند]

كان الضباب كعادته يملأ الهواء، والصخور الطائرة كانت تتحرك ببطء. في هذا الفضاء الخطير، ظهرت آن. كانت عباءتها القصيرة ترفرف مع كل قفزة، وشعرها البنفسجي ينزلق خلفها مع الريح، ووجهها شديد التركيز. كانت تقفز من صخرة إلى أخرى بخفة النينجا.

آن (تفكر وهي تقف على صخرة مرتفعة): "الطريق إلى الشمال محفوف بالموت… لكن لا أحد قال إنني أبحث عن الأمان."

كانت هناك خمس صخور معلقة أمامها، وكل واحدة منهم كانت على ارتفاع مختلف، وكلهم يتحركون مع النسيم العنيف.

آن (تبتسم بثقة): "حسناً… لعبة جديدة."

ركضت آن بسرعة وقفزت نحو أول صخرة. وما إن لمست قدمها الحافة حتى دفعتها بمرونة وانطلقت إلى الثانية، وبدت كأنها ترقص على الهواء وترفض قوانين الجاذبية! الرياح اشتدت للحظة، والصخرة الرابعة التي كانت تتجه نحوها بدأت تنحرف! لكن آن لم تتردد… فبدلاً من التوقف، أطلقت رِجلها بقوة واندفعت إلى الأعلى، ويدها تمسكت بطرف حاد من الصخور.

آن (وهي ترفع نفسها): "هل تظنون أن العواصف ترعبني؟ أنا قادمة من تحت الركام!"

وقفت أخيراً على الصخرة الأخيرة، ورفعت رأسها نحو الأمام. كان هناك ممر هوائي ضبابي… ويعتبر بوابة طبيعية تصل بين هذه الأرض وتيراسيا، حيث كان نفس الممر المؤدي إلى جبل كريستاليا.

آن (بهمس وهي تشد قبضتها): "إذا كان كل من أحببته يتألم… فليكن أول ما أواجهه هو السماء نفسها."

ثم أخذت خطوة إلى الأمام… وقفزت من جديد.

في جنوب ولاية ستورملاند، كانت السماء تمهّد لعاصفة… ولكنها لم تكن عادية. بدأت غيومٌ سوداء تتجمع بسرعة فوق رؤوسهم، والهواء صار أثقل. كان آكيو وأكيكو قد دخلا الولاية لتوّهما.

أكيكو (ببرود وهي تغلق النافذة): "ها قد بدأت العاصفة… لا عجب أنهم يسمونها أرض المجانين."

لكن آكيو؟ بدأ وجهه يضيء بالحماس بدل الخوف.

آكيو (يبتسم بعينين لامعتين): "رائع… رائع! أنا في حلم حقيقي!!"

قفز آكيو إلى خارج العربة من النافذة وهو يضحك، وفتح ذراعيه للسماء في الوقت الذي انطلقت فيه أول صاعقة عنيفة من فوق رأسه.

أكيكو (تضع يدها على جبهتها): "ذلك الغبي."

بدأ آكيو يمد ذراعيه نحو الصواعق، وفي لحظة مجنونة، انطلقت شرارة برق من السماء وضربت الأرض أمامه… لكنه لم يتراجع، بل قفز وسط الدخان المتصاعد، ورفع قبضته إلى السماء.

آكيو (يضحك بقوة): "هيا! أروني ما لديكم! أنا ابن البرق! ابن ستورملاند الآن!!"

وانطلقت صاعقة جديدة… لكنها لم تضربه. بل اتجهت نحوه وتوقفت عند يده تماماً، كما لو أنها تهمس له بلغةٍ لا يسمعها أحد سواه. اشتعلت علامته الصفراء على جبهته فجأة، وراحت الكهرباء تدور حوله بشكل راقص. وبعد لحظات، خرجت أكيكو من العربة أخيراً.

أكيكو (بهمس لنفسها): "طفل أحمق… ولكن…"

رفعت نظرها نحو الصاعقة التي كانت تدور حوله، ثم نظرت إلى السماء… وشعرت بشيء يتحرّك في داخلها، إحساس خافت… لكنه مألوف. تقدّمت خطوة، ثم خطوة أخرى… وما هي إلا لحظات حتى تغيّر الهواء من حولها.

"ككككككررررااااااااااااااااااك!!"

ضرب برقٌ جديد الأرض على بُعد أمتار منها، فرفعت يدها اليمنى بهدوء نحو السماء، وسرعان ما بدأت علامتها الصفراء تتوهّج على جبهتها. وانطلقت شرارة صغيرة من طرف أصابعها، ثم اتسعت فجأة على شكل خطوط عنكبوتية من الضوء تدور حول يدها، ثم امتد إلى ذراعها، ثم إلى جميع أنحاء جسدها. وبدأ جسدها يتوهج بهالة كهربائية هادئة.

آكيو (بدهشة وابتسامة عريضة): "هاه…؟! هل أنا أحلم؟ أم أن الروبوتة قررت أن تنضم للعرض؟!"

أكيكو (وهي تقترب منه بثبات): "أنا لست روبوتاً…"

وفجأة… ضربت صاعقة السماء فوقهما معاً، لكنها لم تؤذِ أحداً. بل تفرّعت منها شرارات صغيرة تدفقت بينهما لتربطهما بمجرى الطاقة ذاته.

آكيو (يضحك بحماس): "يا إلهي… نحن فعلاً توأم!!"

أكيكو (بصوتها البارد): "لقد تطلب الأمر عاصفة وانهياراً كهربائياً كي تُدرك ذلك… كم هذا محزن."

آكيو (بحماس شديد): "كم أحب هذا المكان! إنه يفهمنا تماماً!"

[ولاية زيتارا – المستشفى العسكري – جناح النقاهة – الليل]

كان أكيرا جالساً على الأرض في غرفته، وقد فتح علبة طعام مغلفة وبدأ يأكل بعشوائية. بدا عليه التعب، ولكن عينيه اللامعتين ما زالتا تضجان بالحيوية.

أكيرا (بين قضمات الطعام): "أقسم أن هذا الحساء أفضل من أي طعام قدّمته لي تيراكولا… على الأقل لم يُقَدَم لي من شخص يحاول قتلي!"

ثم ضحك لنفسه، وأخذ رشفة من العصير. وفي الغرفة المجاورة، كان كين مستلقياً على السرير، وبعد لحظات، فُتح الباب بهدوء. دخل زايلوس بخطواته الرزينة مرتدياً عباءته الكحلية الطويلة.

زايلوس (بصوت منخفض): "رائع… أنت مستيقظ."

رفع كين رأسه ببطء ونظر إليه.

كين (ببرود): "لا أزال حياً… للأسف."

اقترب زايلوس وجلس على الكرسي بجانب السرير، ثم شبك يديه معاً.

زايلوس: "هذه ليست عبارة تقولها لمن ينجو من مواجهة ماكيا… ما حدث في تلك الليلة لن يُنسى بسهولة، لا من قبلك… ولا من الآخرين.”

كين (ينظر إليه بنظرة حائرة): "كنت أظن أنني سأموت. شعرت بذلك… أكثر من مرة."

زايلوس (بهدوء): "في الواقع، أنت… مِتّ. توقف قلبك تماماً، كنا على وشك إعلان وفاتك."

كين (يتسع نظره ببطء، يهمس): "ماذا؟"

زايلوس: "لكنّ أحدهم… رفض الاستسلام لفكرة موتك. آكيو، هو من أعادك."

كين (بدهشة وصدمة): "آكيو…؟"

زايلوس (يومئ بخفة): "لقد انهار بجانبك حين رآك تنزف… وبدون تردّد، وضع يديه على صدرك… وضربك بفاكن البرق. كان يبكي… ويصرخ باسمك… 'لا تمُت… لا تتركني يا كين…’ ظلّ يكرّر ذلك حتى عاد النبض إلى صدرك."

ساد الصمت… وكين لم يعرف كيف يتفاعل. عيناه الرماديتان ظلّتا معلقتين بالسقف… وكأن شيئاً ثقيلاً سقط في داخله.

زايلوس (بهدوء): "أحياناً، لا نعرف من يحبنا حقاً… حتى نموت."

عضّ كين على شفتيه للحظة… ثم تمتم:

كين: "لم أكن أعلم."

زايلوس (ينهض): "ولن تعلم كل شيء دفعة واحدة. الحياة تكشف أوراقها بالتدريج."

كين (بصوت منخفض): "زايلوس…"

زايلوس (يتوقف عند الباب، يلتفت إليه بهدوء): "نعم؟"

كين: "نيورو… أين دُفن؟"

زايلوس (بصوت أكثر لطفًا من المعتاد): "في المعبد الجبلي الصغير الذي يقع خلف المستشفى مباشرة، حين تتمكن من المشي… سأوصلك بنفسي."

كين (بصوت خافت): "لا… أريد أن أذهب بمفردي."

زايلوس (يبتسم بخفة، ثم يومئ): "كما تشاء. ستجده هناك… ينتظر أن يسمع منك شيئاً، ولو كان مجرد صمت."

ثم خرج وأغلق الباب خلفه بهدوء، بينما ظل كين ينظر إلى السقف… وقلبه ينبض بثقل من الذكرى والندم. مرت عدة دقائق منذ رحيل زايلوس، وقرر كين إزاحة الغطاء عن جسده، ثم نهض ببطء من السرير.

ارتدى سترة سوداء بسيطة فوق الضمادات، وقرر أن يمشي على الرغم من الألم. فتح الباب بهدوء وخرج إلى الممر. كان أكيرا لا يزال جالساً على الأرض في غرفته وهو يأكل آخر قطعة من الخبز المحمص، عندما لمح من خلال النافذة الداخلية ظلاً يتحرك ببطء في الممر. قفز من مكانه فوراً وركض نحو الباب، ثم فتحه بخفة. نظر في الاتجاه الذي اختفى فيه كين، ثم تمتم لنفسه:

أكيرا (بابتسامة صغيرة): "ذاك الرأس العنيد قرر الخروج…"

دون أن يصدر أي صوت، بدأ أكيرا يتبعه على مسافة قريبة ويراقب خطواته. خرج كين من المستشفى بخطى متباطئة، وبدأ يسير في ممرٌ حجري ضيق امتد نحو المعبد الجبلي. كان أكيرا يراقب بصمت من خلف إحدى الزوايا.

أكيرا (بهمس): "إلى أين أنت ذاهب، كين…؟"

لاحظ كين متجراً متواضعاً للزهور على جانب الطريق، مبنياً من الخشب الداكن ومغطى ببعض الأزهار المعلّقة على النافذة الأمامية. توقف كين للحظة أمام الباب، وقلبه لم يكن يعرف تماماً لماذا دخل… لكنه فعل.

في داخل المتجر، وقفت امرأة مسنة خلف الطاولة، رفعت رأسها ببطء ونظرت إليه بابتسامة دافئة.

المرأة (بصوت خافت): "أهلاً بك، لم أتوقع زبوناً في هذا الوقت من اليوم."

كين (بصوت منخفض، دون أن يرفع عينيه): "أريد زهرة واحدة فقط… من أي نوع."

المرأة (تنظر إليه بتأمل): "زهرة واحدة تحمل الكثير… لمن هي؟"

كين (يتردد، ثم يقول بهدوء): "لشخص… لا يمكنه رؤيتها بعد الآن."

أومأت العجوز بفهم عميق، ثم مشت بهدوء إلى إحدى الزوايا، وأحضرت زهرة واحدة بيضاء، كانت مغلّفة بخيط ناعم من القماش الرمادي.

المرأة (تسلمه إياها): "هذه زهرة وداع هادئة، لكنها تنبض بالصدق."

أخذها كين بصمت، وأخرج بعض النقود من جيب سترته ووضعها على الطاولة. لم يقل شيئاً، فقط أومأ برأسه وخرج من المتجر بخطى ثابتة. وقف لثانية أمام الباب، ثم رفع الزهرة أمام وجهه وتأمّلها قليلاً، ثم أكمل طريقه نحو المعبد.

أخرج كين علبة سجائره الصغيرة من جيب سترته، فتحها ببطء، ثم سحب سيجارة واحدة ووضعها بين شفتيه، ثم أصدر شعلة خفيفة بإبهامه ليشعلها. ثم أخذ منها نفساً عميقاً… والهواء المختلط بالبرد ورائحة الدخان اجتاح صدره، وملأ داخله بصمت غريب.

تابع صعوده حتى وصل أخيراً إلى البوابة الخشبية الصغيرة التي تؤدي إلى المقبرة القديمة… هناك، وجد صفوف من الشواهد الحجرية، بعضها بلا أسماء واضحة، وبعضها تآكلت حروفها مع الزمن.

بدأت عيناه تبحثان وتقرآن الأسماء واحداً تلو الآخر.

"هاشيرو كايتو…"

"ناتسوكي رين…"

"مجهول… مجهول…"

تابع السير لمدة… قلبه بدأ يخفق مع كل خطوة، وكلما لمح اسماً مشابهاً، كان يتوقف وينحني، ثم يكمل مجدداً. حتى توقف أخيراً… حيث كانت هناك شاهدة حجرية جديدة نسبيا، محفور عليها بخط أنيق:

"فالكهارت نيورو - ابن النار والجليد"

كين (بصوت منخفض جداً): "وجدتك."

رمى عقب السيجارة على الأرض وسحقه بنعله، ثم انحنى ببطء… ووضع الزهرة البيضاء أمام القبر، ثم جلس على الأرض وأغمض عينيه، وسقط في دوامة الذكريات.

بدأ كل شيء… من هناك. من أمام ذلك المنزل المحترق في روبي… أمه التي لم يعد يسمع صوتها، أخته الصغيرة إيميلي التي لم تودّعه، وأخوه دان… الذي مات تقريباً وهو يحميه. ثم… والده. ضغط على قبضته بقوة، ثم ظهرت صورة أخرى في ذهنه… وجه يوكو الصغيرة وهي تبكي بجانبه، ثم طفولته في أوراكانو، العجوز لاود، البيت الصغير، التدريب، الوحدة، الليالي الباردة التي نام فيها مع البكاء المكتوم في صدره.

وعندما كبر وتعرف على آكيو، ووصل إلى داركوفا. وهناك، التقى به… وجه نيورو ظهر في ذاكرته بوضوح… ذلك الفتى صاحب الشعر البني الفاتح، والعيون الزرقاء اللامعة. لم يكن يبدو من عائلة يوكاجي، ولا حتى كعدو… بل كطفل غريب الأطوار، بريء بطريقة ساذجة… ومزعج أحياناً.

ثم تذكر الحقيقة… تذكر حين علم أن نيورو هو ابن عمته، وأنهما يتشاركان نفس الدم… لكنه لم يُمنح وقتاً ليُظهِر مشاعره، فقد كان عليه القتال. كان كين هو من هاجمه، من ضربه، من طعنه بلا رحمة… فعل كل ذلك من أجل أن يريه واقع هذا العالم.

كين (بنبرة هادئة وهو يشد على قبضته أكثر): "نيورو…"

ثم تذكر ذلك المشهد الذي لن يُمحى. ماكيا… الصخرة التي جعلها تخترق صدره… الصرخة المكتومة…

الدم الذي سال من فم نيورو، وعيناه البريئتان تنطفئان ببطء، ثم صرخة أكيرا: "نيورووووووووو!!!"

انتفض كين من مكانه وهو يرتجف، لكنه لم يقف… بل وضع رأسه بين يديه، وجسده كله انكمش على نفسه، كأن شيئاً ينهار داخله الآن فقط… وليس حين مات نيورو فعلاً. لم يعد يسمع سوى شهقاته المختنقة، وصوت الرياح الذي بدا وكأنه يبكي معه. وبدأ كتفاه يهتزان ببطء… ودموعه بدأت تنزل دون توقف، لكنه لم يصدر صوت نحيب عالي، بل بدأ يبكي بصوت خافت، وكأن الألم يحترق في داخله ببطء دون أن يجد طريقاً للخروج.

كين (بهمسٍ مشقق): "لماذا…؟ لماذا كل شيء يتحول إلى رماد من حولي؟"

رفع رأسه ببطء، ونظر إلى قبر نيورو.

كين (بهمس شبه مبحوح): "ما فائدة أن أعيش؟ ما الهدف من كل هذا؟ أعيش فقط لأرى من أحبهم يموتون… ثم أعيش مجدداً ليُقال لي إنني كنت السبب؟"

كانت دموعه لا تزال تنهمر، لكنه لم يعد يمسحها… كل ما شعر به لم يكن مجرد حزن… بل اكتئاب عميق يشبه حفرة لا قاع لها، لا يرى فيها النور، ولا يجد فيها من يمد يده إليه.

كين (بصوت أكثر كآبة): "آكيو أنقذني… لكنه لا يعرف من أنقذ. ما الجدوى من أن تنقذ شخصاً يحمل دماء ذلك الشخص؟!"

غطّى وجهه بيده المرتجفة، وبدأ يتنفس بصعوبة… عيناه متسعتان قليلاً، كأن عقله لا يستطيع إيقاف سيل الأفكار السوداء.

كين (بهمسٍ قاتل): "كان يجب أن أموت مع الجميع… كان يجب أن أُدفن تحت الركام وأرتاح… لا أن أُبعث مراراً كي أرى الموت بأشكال جديدة."

كان أكيرا مختبئاً خلف إحدى أشجار المقبرة، وعيناه تحدقان في كين بدهشة وذعر… كين الذي عرفه دائماً بالبرود، بالصمت، بالتبلد. لم يرَ كين يوماً بهذه الصورة… مكسوراً، مهزوماً، ينهار وحده أمام قبر.

أكيرا (بهمس داخلي): "كين…"

أما كين، فكان جسده يرتجف أكثر، وصوته يكاد لا يُسمع… بينما تواصلت شهقاته الهادئة المؤلمة. كان يغرق بلا مقاومة في بحر من الذنب، وكأن كل جملة سمعها في حياته قد عادت لتصفعه من جديد.

وفجأة… انفجر صوت داخلي في ذهنه، صوتٌ مألوف… صوت نيورو.

"أنت مغرور! بارد! بلا أي مشاعر!"

شهق كين شهقة قصيرة، ثم قبض على شعره بكلتا يديه، وكأن الصوت كان حقيقياً.

"وتستمتع عند تلاعبك بمشاعر الآخرين!"

"تنظر إلينا جميعاً من فوق، وكأننا مجرد بيادق في طريقك!"

"تظن نفسك فوقنا… وكأنك لا تُقهر!"

بدأت كلمات نيورو تتردد في رأس كين كأنها طعنات متتالية، وكل طعنة أخرجت صرخة جديدة لم ينطق بها… بل انكمشت داخل صدره، وتحولت إلى دموع لا تتوقف.

"لكن الحقيقة؟ أنت مجرد قشرة قاسية تُخفي شخصاً جباناً لا يجرؤ على الشعور!”

"أنت لا تفهم الألم… لأنك لا تسمح لنفسك بالشعور بشيء!”

"ولهذا السبب… لن تفهم أبداً ما يعنيه أن تُخذل… أن تشك في نفسك… أن تنهار!

"أنت لا تتعاطف… لا تواسي… لا تهتم!”

كين (بصوت مبحوح من بين دموعه): "كنتَ محقاً… كنتَ محقاً في كل كلمة قلتها…”

غطى فمه بيده، ولم يستطع أن يمنع نفسه من أن يهمس بكلمات لم يقلها من قبل، حتى لأقرب الناس إليه:

كين (يشهق): "أنا… أكره نفسي. أكره هذا الوجه… هذه الذكريات… هذه اليد التي قتلت، والتي لم تنقذ. أكره أنني ما زلت حيّاً…"

أكيرا (يهمس لنفسه بوجه حزين): "يا كين… لماذا تحمل كل هذا الثقل والألم لوحدك…؟"

لكن كين لم يشعر بوجوده، وظل جاثياً أمام القبر، وكأن القبر وحده كان مستعداً لسماع صراخه الداخلي. وفي لحظة سكون خانق، شقّ صوتٌ حادّ السماء… كان صوت طائرة حربية صغيرة حلّقت فوق المقبرة على علو منخفض. كانت تعبر في مسار دوري فوق الجبل، كما تفعل طائرات التدريب الخاصة بجيش زيتارا عادةً.

ولكن كين تجمد تماماً… عيناه اتسعتا بشدة، ونبضه انفجر في صدره دون إذن. صوت الطائرة… ذلك الصوت… لم يكن مجرد صوت. كان الجرس الذي يفتح أبواب الجحيم في ذاكرته.

كين (يهمس وهو يحدق في السماء): "لا… لا…"

رنّ الصوت في أذنه مجدداً، لكنه لم يعد في الحاضر… بل في الماضي. عاد هناك… عاد إلى روبي. عاد إلى تلك السماء السوداء المليئة بالدخان، النيران، الصراخ، القنابل وهي تمزّق الأرض. عاد لطفولته، حيث وقف في أحد الشوارع وهو يبكي بشدة، بينما كانت النيران تلتهم المنازل، والجثث تملأ الزوايا.

تذكر جثة أمه التي كانت تحترق… تذكر جثة أخته الصغيرة التي ماتت مختنقة بجانب أمها… تذكر دماء دان المتناثرة على الجدار بعد أن سقط أمامه مضروباً بالرصاصة… تذكر وجه والده الشاحب وهو يموت بين ذراعيه بعد أن قال وصيته. عينا كين تاهتا في الفراغ… صوت الطائرة عاد وكأنها تشقُّ قلبه بصوتها الحديدي.

كين (يهمس وهو يبدأ بالارتجاف): "توقفوا… أرجوكم… لا أريد أن أسمعها… لا أريد أن أراها مجدداً…"

لكن الذكريات كانت أسرع من توسّلاته. وفجأة، ظهر وجهه في الثالثة عشرة من عمره في ذهنه… ذلك الوجه الغاضب الملطّخ بالدماء… والضحكات المجنونة التي أطلقها وهو يطعن ويقطع ويُفجّر جنود العدو بلا رحمة. كان يقتلهم بالعشرات… ويضحك دون أي ندم. يداه كانتا ترتجفان الآن… وصراخ داخلي بدأ يتمزق من صدره.

كين (يصرخ): "تـــــــــــوقفوا!!!"

وقف فجأة، ثم نظر إلى شاهد قبر نيورو، وبدأ يضرب رأسه عليه بقوة! ضربة… ثم ثانية… ثم ثالثة… الدم بدأ ينزف من جبهته! لكن كين لم يتوقف.

كين (وهو يصرخ بهستيريا): "اخرسوا! اخرسواااا!!!"

صوت الطائرة اختلط مع صوته، لكن كين لم يكن يفرق بين الواقع والوهم بعد الآن. أصبح غارقاً في أعماقه، في حروبه الخاصة، في ذكرياته الدموية، في قذارته التي لم يستطع تطهيرها. ضرب رأسه مجدداً وصرخ، لكنه لم يكن صوت طفل… كان صوت مراهق محطم، منهار، تائه، يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، يعاني من الذنب العميق، ومن الرفض الداخلي لذاته.

كين (يهمس وهو ينهار على الأرض، ووجهه مغطى بالدم والدموع): "أنا السبب… أنا كل شيء سيء… أنا لم أستطع إنقاذهم منذ 8 سنوات، ولم أستطع إنقاذك الآن… نيورو!"

عينا أكيرا توسعتا إلى أبعد حدّ، فما فعله كين قد تجاوز توقعاته! ظل متجمداً لبضع ثوانٍ، ثم رأى كين يرفع رأسه مجدداً.

كين (بصوت مختنق، دامع، محطم): “اصمتوا… اصمتوا جميعاً!!”

وهوى برأسه مرة أخرى نحو شاهد القبر بقوة أشد من سابقاتها. صوت الاصطدام كان كفيلًا بإحداث رجفة في قلب أكيرا.

أكيرا (يصرخ): "كــــــــــــين!! توقـــــــــف!!"

انطلق أكيرا من خلف الشجرة التي كان يختبئ خلفها، وركض بكل ما أوتي من سرعة. اقترب من كين الذي رفع رأسه مرة ثالثة وهو مستعد لضرب نفسه مجدداً، ولكن قبل أن أن يفعل ذلك…

أكيرا (يصرخ بأعلى صوته): "كــــــــــــين!!!"

اندفع أكيرا كالسهم، وأمسك بذراعيه الاثنتين من الخلف بقوة.

أكيرا (بصوت حاد وهو يجذبه): "توقّف أيها الأحمق! كفى! ستكسر جمجمتك مجدداً، اللعنة!!"

قاومه كين لثوانٍ، كانت عضلاته مشدودة بالكامل، وجسده يتشنّج. لكن أكيرا لم يتركه.

أكيرا (وهو يضمه من الخلف بشدّة): "اهدأ! أنا هنا! أنا معك!! لن أتركك تنهار هكذا، أتسمعني؟!"

لكن كين لم يستجب… استمر بالارتجاف وفمه نصف مفتوح، يبكي كمن سقط من حافة لا عودة منها.

كين (بصوت مبحوح وهو يقاوم): "أتركني… أنا لا أستحق… دعني أتحطّم… دعني أنتهي…!"

أكيرا (بغضب وهو يهزّه): "اخرس!! لا تجرؤ على قول هذا مجدداً!!"

صمت كين لثانية، كان ما يزال في ذروة اضطرابه، لكن صرخة أكيرا صفعته وأعادته للحظة إلى الواقع.

أكيرا (بعينين لامعتين وهو يجثو أمامه): "أتعلم ما رأيته؟ رأيتُ أحد أعز أصدقائي… أذكى شخص عرفته… أقوى منّي ألف مرة… ينهار كطفل محطم. هل تظنني سأقف الآن وأتركك تحطّم نفسك كما كنتُ أفعل من قبل أمامي؟!"

لكن كين لم يرفع عينيه.

أكيرا (بصوت أكثر رقة): "أنت لست السبب، كين… لست كل شيء سيء. ما حدث لعائلتك… ما فعله سيروس… ما فعله ماكيا… ليس ذنبك."

كين (بهمس مشقق): “أنا من قتل نيورو…"

أكيرا: "كلا. نيورو مات بسبب ماكيا، مات بكرامته. ولو كان الآن هنا ورأى كيف تبكي عليه بهذا الشكل، لقال لك: توقف عن جلد نفسك أيها المجنون…"

ثم مدّ يده ووضعها على كتف كين.

أكيرا: "هذا الألم الذي ينهشك من الداخل… ليس لأنك خالياً من المشاعر، بل لأنك تملك قلباً أكبر مما كنت تظن."

بدأ كين يهدأ قليلاً… عيناه نصف مغمضتين، والدموع لا تزال تتساقط، لكنه لم يقاوم أكيرا بعد الآن.

أكيرا (بصوت خافت وهو ينظر إلى كين): "أتعلم يا كين… طوال حياتي، لم يقل لي أحد 'أنا أحبك'…كنتُ مجرّد نكرة… غريب الأطوار… مستذئب هجين. لم أكن أنتمي لأي مكان. البشر يكرهونني… والذئاب يحتقرونني. لا أحد يريدني."

ثم ابتسم بسخرية حزينة وتابع:

أكيرا: "لا زلتُ أتذكر أول مرة حاولت فيها الانتحار… كنت في السادسة من عمري. وقفت على حافة برج مرتفع… وصرخت في السماء بأعلى صوتي: 'هل هناك أحد يسمعني؟'"

نظر إلى السماء الملبّدة بالغيوم وكأنها ما تزال تجهل الإجابة.

أكيرا (بهمس): "ما من أحد أجاب. ولا أحد قد اهتم."

ثم نظر إلى كين مباشرة، ونبرته أصبحت أكثر جدية ودفئاً:

أكيرا: لكنك يا كين… أنت لست مجرد وريث فاكن أو شخص يريد الانتقام… أنت إنسان يا كين. مكسور؟ نعم. غاضب؟ طبعاً. مخيف؟ جداً. لكنك إنسان… وإنسان حيّ، لا يزال قلبه ينبض… لا يزال يبكي. وإن كنت تعتقد أنك لا تستحق الحياة… فأنا سأظل أقاتل لأجلها بدلاً عنك… حتى تتذكّر لماذا تستحقها."

أنهى أكيرا كلماته بنبرة خافتة، لكن واثقة… ولم يكن ينتظر من كين رداً. فقط جلس بجانبه بصمت… كأن صوته قد قال ما عجز قلبه عن تحمله طوال عمره. ظل كين جاثياً هناك… شهقاته الخفيفة ما تزال تمزق سكون الهواء.

أخذ نفساً عميقاً… ثم آخر… ثم ثالث، قبل أن يمد يده ببطء ويمسح دموعه التي بلّلت وجهه، وكأن ذلك المسح كان محاولة أخيرة لاستعادة توازنه. لم ينظر إلى أكيرا، ولم يقل شيئاً. فقط نظر نحو الأرض وكأن بقايا روحه ما زالت تحاول العودة إلى مكانها.

أما أكيرا، فنهض بهدوء لينفض الغبار عن بنطاله، وأدار وجهه إلى الجانب الآخر محافظاً على هدوءه. هدوء غريب استقر بينهما… لكنه لم يكن بروداً… بل كان احتراماً للحظة الانهيار، وللحقيقة التي خرجت أخيراً.

بعد لحظات، لمح أكيرا شيئاً بجانب الحصى على الأرض… كانت تلك علبة السجائر الصغيرة الخاصة بكين، والتي سقطت حين بدأ انهياره. انحنى والتقطها بيده، ثم فتح غطائها برفق، وسحب منها سيجارة واحدة ليضعها بين شفتيه دون أن ينظر إلى كين، ثم سحب سيجارة أخرى ومدّها نحو كين.

كين (ينظر إليه من زاوية عينه، بتعب): "حقاً؟"

أكيرا (يبتسم ابتسامة خفيفة): "لا تتوقع مني أن أواسيك بعناق… دعنا نحترق معاً، بطريقتك."

نظر إليه كين لثوانٍ بتردد… لكن شيئاً في هذا التصرّف الغريب المليء بالصدق جعله يقبل. أخذ السيجارة من بين أصابعه بصمت، ووضعها في فمه. مدّ كين إصبعه ببطء، وبحركة خفيفة، أشعل شعلة صغيرة من ناره… واقترب بها من سيجارة أكيرا أولاً، ثم أشعل سيجارته هو الآخر.

وبدون أن يتبادلا كلمة إضافية… جلسا هناك بجانب شاهد قبر نيورو، ودخان السجائر يتصاعد منهما في صمت ثقيل، كأنّه اعتراف خفيّ بما لا يمكن قوله عنهم، وعن من رحلوا، وعن من تبقّوا يحملون في صدورهم ما لا يُحتمل.

كلّ منهما كان يحمل قلباً مكسوراً أكثر من الآخر… لكن في تلك اللحظة، لم يكن الألم عبئاً فردياً. بل كان مشتركاً تماماً كالدخان. صامتاً… مُرّاً… وحقيقياً.

يتبع…

2025/04/22 · 6 مشاهدة · 3587 كلمة
Sara Otaku
نادي الروايات - 2025