[جزيرة أورانيو – الساحل الجنوبي – عند الغروب]
كانت أمواج البحر تضرب الصخور الحادة بصوتٍ عميق. وقفت سيلينا عند مقدمة السفينة، شعرها الأحمر يرفرف مع الريح الباردة، وملامحها هادئة… لكنها ليست مطمئنة.
سيلينا (بهمس): "هذه هي أورانيو… أخيراً."
ظهر آرثر من وراءها وهو يحمل حقيبة صغيرة على ظهره، وسيفه القصير يتدلّى من خاصرته. رمق الجزيرة بنظرة سريعة، ثم رفع حاجبه.
آرثر (بتنهيدة): "تبدو ميتة أكثر مما توقعت."
سيلينا (بصوت بارد): "هي كذلك… أغلب الذين تم نفيهم إلى هنا لم يُعرف عنهم شيء بعد ذلك."
اقتربت السفينة الملكية من الشاطئ الصخري ببطء، وبعد لحظات، ارتطمت بالشاطئ، ووقف القبطان العجوز على السطح وهو يرفع قبعته احتراماً للوريثين.
القبطان (بصوت جهوري): "وصلنا بأمان… بأمرٍ من جلالة الملك. بعد هذا… أنتما لوحدكما."
سيلينا (بهمس شبه داخلي): "هذه الأرض… لا ترحب بأحد."
آرثر كان على نقيضها تماماً، قفز من السطح الأمامي بليونة مدهشة، وبدلاً من الهبوط الصامت، داس على الصخور المبللة وكأنه يتحدى سقوطه، ثم لفّ معطفه حول خصره، وسحب السيف القصير من غمده لينظر إليه.
آرثر (وهو يبتسم بثقة ويغمز للقبطان): "أخبِر والدي أنني سأجعل هذه الجزيرة تصرخ باسمي."
أحد البحارة (يهمس لزميله): "هذا الصبي… لا يعرف الخوف."
سيلينا (وهي تنزل من السلم بحذر دون أن تلتفت): "بل يعرفه… لكنه لا يعترف به."
هبط الاثنان على الشاطئ الرمادي… وصوت الأمواج خلفهما بدأ يختفي مع ابتعادهم عن الساحل. كانت سيلينا تمشي بخطوات مدروسة، أما آرثر فكان يتقدم بخفة، وكأنه في نزهة وليس مهمة.
آرثر (ينظر حوله): “يا لها من جزيرة كئيبة… لا أرى أيّ شيء يشبه قصورنا."
سيلينا (تتأمل الصخور والطرقات): "لا شيء هنا يشبهنا، ولن يشبهنا. هذا المكان طُرد منه كل ما يشبه النبلاء."
وصلا إلى طريق ضيق يمتد بين تلّين، وعلى جانبيه بقايا أعمدة حجرية متهالكة لمنازل قديمة… النوافذ مغطاة بخشب رطب، والسقوف نصفها مهدّم. مرّ رجل مشرد بعينين شاحبتين وهو يسحب عربة صدئة، نظر إليهما لحظة ثم أكمل طريقه دون كلمة.
آرثر (بهمس لأخته): "هل هذا فندقهم؟ أم هو مجرد نصب تذكاري للفقر؟"
سيلينا: "نحن بحاجة إلى مأوى حقيقي… لا لفندق متهالك."
تقدّما نحو إحدى البنايات التي كانت تبدو أقل خراباً من البقية. وكان عليها لوحة خشبية متآكلة بالكاد يُقرأ عليها: "نُزل البحر الضائع". فتح آرثر الباب فصدر صرير مزعج، وكانت الرائحة أشبه بمزيج من ملح البحر والخشب المتعفن. في الداخل، استقبلهم رجل أصلع بوجه خشن وذقن لم يُحلق منذ أيام، وكان واقفاً خلف طاولة خشبية.
صاحب النُزل (بصوت أجش): "غرفة مزدوجة؟ أم أن كل منكم يريد جناحاً راقياً؟"
آرثر (بابتسامة تهكّمية): "إن كان لديك جناحاً راقياً… سنشتري المكان بالكامل."
سيلينا (تقاطع بهدوء): "نريد أفضل غرفة لديك… وبحالة مقبولة."
نظر الرجل إليهما بتعب، ثم أعطاهم مفتاحاً صدئاً، وأشار برأسه نحو الدرج.
صاحب النُزل: "الطابق الثاني، الغرفة الأخيرة… السرير لا ينهار كثيراً."
آرثر (يأخذ المفتاح): "يا للترف."
صعد سيلينا وآرثر الدرج الخشبي بصمت ثقيل. وبعد لحظات، وصلا إلى الغرفة المطلوبة. فتح آرثر الباب بالمفتاح الصدئ… ومع أول دفعة، كاد الباب يخرج من مفصله.
آرثر (متجهماً): "آه، رائع… الباب يوشك على الانتحار."
دخل الاثنان إلى الغرفة، وفور أن نظرت سيلينا حولها، انكمشت حواجبها بانزعاج. الغرفة كانت ضيقة جداً، وجدرانها متشققة، والستارة الرمادية كانت بالكاد تغطي النافذة الصغيرة، بالإضافة لوجود سريرين خشبيين متهالكين.
سيلينا (ببرود): "أهذه حقاً غرفة؟ أم سرداب مؤقت للناجين من المجازر؟"
آرثر (يركل قدم السرير فتصدر صريراً حاداً): "سأرفع دعوى قضائية ضد الدولة بأكملها على هذه الإهانة المعمارية!"
اقترب آرثر من الخزانة ثم فتحها… فسقط أحد أبوابها على الأرض.
آرثر (ينظر للسقف): "هذا كابوس! هذا لا يمكن أن يكون حقيقياً!"
سيلينا (تمسح الغبار من النافذة): "هذه أورانيو، آرثر. ليس لدينا خدم ولا قصور هنا."
آرثر (بغضب وهو يخلع سترته): "أنا ابن سيروس! وريث مملكة النار! هذه الغرفة الخشبية المهترئة لا تليق حتى بظلّ خادمي الشخصي!"
لم يحتمل آرثر أكثر. رمى سترته على أحد الأسرة المتهالكة، ثم فتح الباب بعنف وخرج وهو يتمتم بالشتائم النبيلة. ثم نزل بسرعة ووقف أمام الطاولة التي جلس خلفها صاحب النُزل.
آرثر (بغضب مقنّع خلف نبرة رسمية): "هل هذا أفضل ما لديكم؟! الغرفة أشبه بمقبرة علّقت لافتة 'مرحباً' على بابها!"
صاحب النُزل (ببرود وهو يمضغ شيئاً غير واضح): "الغرفة لا تطبخ، ولا تتكلم، ولا تشتكي. إنها مثالية."
آرثر (يضع يديه على الطاولة): "أنا ابن الملك… هذا المكان لا يصلح حتى لإيواء الذباب!"
صاحب النُزل (يرفع عينه للمرة الأولى، بنظرة متعبة): "في أورانيو، الذباب يدفع… والملوك يتعلمون كيف ينامون على الخشب."
صمت آرثر لثانية… ثم شهق مستهزئاً، وضرب الطاولة بخفة. ثم صعد السلالم مجدداً والشرر يشتعل في عينيه من الغضب. فتح باب الغرفة بسخط، ثم دخل دون أن ينظر إلى سيلينا.
آرثر (بغضب ساخر): "هذا المكان لا يليق حتى بفأر نَبيل."
سيلينا (وهي تجلس على السرير، تقلب دفتر ملاحظاتها): "أهلاً بك في الواقع."
آرثر (ينزع قفازيه ويقذف بهما على الطاولة): "لا يمكنني البقاء في هذا الكهف الموبوء. أحتاج إلى هواء نقي… إلى شيء لا تُشَم فيه رائحة العفن."
ثم وقف أمام حقيبته الجلدية الملكية، وفتحها بحذر كما لو أنها كنز. أخرج منها عباءة حريرية داكنة اللون، مطرزة بخيوط ذهبية على شكل شعلة تلتف حول قلب، وربطها على كتفيه بدقّة فنية.
آرثر (بفخر): "إذا كان عليّ أن أعيش بين الحطام… فعلى الأقل سأبدو كأنني أمتلك هذا الحطام."
سيلينا (تراقبه دون رفع رأسها): "سيرحب بك المشردون كملك الموضة الجديد. فقط تأكد أن عباءتك لا تلتقط القمل."
آرثر (ينظر إليها بابتسامة جانبية وهو يرتب طوق قميصه المخملي): "كل شيء بي يلفت النظر… حتى القمل سيشعر بالامتنان."
ثم نظر إليها بتوقع، كمن ينتظر أن تنهض.
آرثر: "هيّا نخرج. أرفض أن أضيع غروب الشمس وأنا أتنفس عفن الخشب."
سيلينا (تتنهد وتغلق دفترها): "لن نخرج لاستكشاف الجمال… بل سننزل إلى قاع المدينة. على الأقل دعني أرتدي شيئاً لا يجعلني أبدو كأحد جثث هذا المكان."
أخذت سيلينا معطفاً رمادياً بسيطاً ولفته على كتفيها، ثم تبعته نحو الباب دون كلمة إضافية. خرجا من النُزل عندما بدأ ضوء الغروب ينسحب ببطء، تاركاً السماء مغطاة بألوان برتقالية داكنة وبنفسجية خافتة. الشوارع كانت ضيّقة وموحلة، تتناثر فيها بقايا عربات قديمة ووجوه مرهقة من الحياة.
كان آرثر يسير بخطى واثقة كأنه في عرض ملكي، عباءته تتمايل مع كل حركة، وسيفه القصير يلمع من خاصرته. نظر إليه بعض المارة بدهشة، وبعضهم بحقد… لكن آرثر لم يبالِ، بل بدا وكأنه يستمتع بكل نظرة.
سيلينا (بهمس وهي تقترب منه): "آرثر… استعراضك هذا قد يُكلّفنا. نحن لسنا هنا لنتباهى… بل لتنفيذ مهمة. لا نعلم من يراقبنا."
آرثر (يرد دون أن ينظر إليها): "ومن قال أنني أختبئ؟ نحن أبناء سيروس. لسنا من النوع الذي يزحف في الظل."
توقفت سيلينا للحظة، ثم حدّقت فيه بنظرة ثابتة، بينما واصل مشيه بثقة لا تنكسر.
آرثر (بصوتٍ أعلى قليلاً وهو يفتح ذراعيه): “أترين هذه الجزيرة؟ يمكنها أن تلعنني، أن تراقبني، أن تهمس ضدي كما تشاء… لكن لا أحد هنا يمكنه أن يمنعنا من فعل ما نريده. نحن نحمل فاكن النار… إن اقترب أحد فسيُحرق قبل أن ينطق بكلمة."
مرّ الاثنان عبر زقاق ضيق بنفس الرائحة الكريهة، وعلى جانبيه، ظهرت مجموعة من الأطفال بالكاد تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة. وجوههم نحيلة، ملابسهم ممزقة، وأعينهم تراقب الدخلاء كأنهم غرباء من كوكب آخر. توقف آرثر أمامهم دون تردد، ثم رفع ذقنه وابتسم تلك الابتسامة المتعجرفة التي يعرفها الجميع.
آرثر (بصوتٍ عالٍ): "اوه، أول رعاياي! يا لها من مفاجأة أن أجد جمهوراً بهذه السرعة."
رمق الأطفال بعضهم بنظرات فارغة، اختلط فيها الخوف بالفضول.
سيلينا (بصوت منخفض): "آرثر…"
آرثر (يتجاهلها): "اسمعوا جيداً أيها النبلاء الصغار. هذه الجزيرة قد تكون نسيتكم، لكنكم الآن في حضرة وريث النار!"
ثم مد يده إلى جيبه الداخلي وأخرج كيساً صغيراً وفتحه، وأخرج منه خمس عملات ذهبية لامعة. لَوّح بها للحظة، ثم رماها في الهواء باتجاه الأطفال. اصطدمت العملات بالأرض وسرعان ما انقضّ الأطفال عليها وكأنها خبز نازل من السماء. بعضهم بدؤوا يتصارعون بهدوء وتوتر، وبعضهم خجل أن يلمسها بسرعة.
آرثر (بابتسامة ساخرة وهو يدير ظهره): "لا تنسوا من منحكم وجبتكم القادمة… أخبِروا الجزيرة أن ابن الملك سيروس قد وصل."
سيلينا (وهي تحدق فيه بوجه خالٍ من التعبير): "أحياناً لا أعرف إن كنت تهتم أم تتلاعب."
آرثر (دون أن يلتفت): "وماذا لو كنت أفعل كلاهما؟"
ركض اثنان من الأطفال بأقدام حافية عبر الزقاق، وجوههم متسخة لكن عيونهم كانت تلمع لأول مرة منذ زمن. أمسك أحدهم العملة الصغيرة بكلتا يديه وكأنها كنز مقدّس، ثم صرخ بصوت مبحوح:
الطفل: "سأشتري خبزاً! سأشتري بيضاً! ماما ستأكل اليوم!"
أما الآخر فكان يضحك وهو يركض نحو زاوية السوق، وبدأ يصرخ لصاحبه:
الطفل الثاني: "نحن أغنياء اليوم! نحن أغنياء!!"
فيما بقي ثلاثة آخرون واقفين في أماكنهم، ينظرون إلى آرثر بدهشة والدموع تترقرق في أعينهم، ثم ركع أحدهم فجأة على الأرض وهو يضم العملة إلى صدره.
طفل (بصوت باكٍ): "شكراً… شكراً يا سيدي… لم يُعطنا أحد شيئاً بهذا الحجم من قبل…"
اقترب طفل صغير آخر، وعيناه ترتجفان وهو يرفع العملة باتجاه آرثر وكأنه يعيدها له.
الطفل الصغير (بصوت خافت): "هل… هل هذا اختبار؟ إن لم تكن لي… يمكنك استعادتها… فقط لا تغضب."
وقف آرثر أمام الطفل الصغير، ثم ضحك ضحكة قصيرة فيها مزيجٌ بين التسلية والتفاخر.
آرثر (ينحني قليلًا وهو يهمس للطفل): "أنا لا أستعيد شيئاً أعطيتُه بكرم الملوك… حتى لو كان لأقدامٍ حافية."
ثم وقف مجدداً ورفع ذقنه، ومدّ يديه جانباً وكأنه على مسرح ضخم!
آرثر (بصوت عالٍ وهو يلتفت إلى بقية الأطفال): "أرأيتم؟ أنا لا أغضب من الفقراء… فقط من الحمقى!"
ثم غمز وأدار ظهره بثقة وبدأ يمشي مبتعداً. تبادل الأطفال النظرات، ثم بدأوا يهمسون لبعضهم بإعجاب.
أحد الأطفال (بهمس مدهوش): "إنه لا يغضب… إنه أمير حقيقي!"
آخر (يمسك بالعملة ويبتسم): "هل تعتقد… أنه سيبقى هنا؟"
ثالث (بصوت خافت وهو ينظر نحو السماء): "لو كان هذا حلماً… فلا توقظوني."
أما سيلينا، فقد وقفت في الخلف تراقب هذا المشهد الغريب بنصف ابتسامة.
سيلينا (تتمتم): "حتى عندما تحاول إظهار نرجسيتك… ينتهي بك الأمر بإلهام المساكين."
وبينما استمر الأطفال في التحديق بأعين مبهورة، بدأت بعض العيون الأخرى تُراقب من بعيد… عيون لم تكن بريئة ولا متأثرة. خلف جدار متهالك، تجمّع ثلاثة فتيان مراهقين بملابس ممزقة ووجوه مغطاة بالتراب. أحدهم كان طويلاً وله شعر أسود كثيف وعينان عسليتان حادتان، أشار نحو سيلينا وهمس للآخرين:
المراهق: "تلك الفتاة تحمل حقيبة جلدية فاخرة. إنها نادرة هنا."
رفيقه (بصوت منخفض): "ماذا لو كانوا نبلاء حقيقيين؟"
المراهق (بابتسامة ملتوية): "النبلاء لا يأتون إلى أورانيو دون حماية… وهؤلاء؟ يتباهون دون حماية أنفسهم."
ثم انطلق كالبرق وركض عبر الزقاق، وفي ثوانٍ، وصل خلف سيلينا التي لم تكن قد شعرت بشيء.
المراهق (يصرخ داخلياً): “الآن!”
مدّ يده بسرعة وسحب الحقيبة من كتفها بعنف، ثم استدار وبدأ يركض!
سيلينا (تشهق وتلتفت): "ماذا…؟!"
آرثر (يلتفت بسرعة، ملامحه تتبدّل من الغرور إلى الغضب): "هاه… هذا خطأ كبير أيها الجرذ الصغير!"
أخرج آرثر سيفه القصير فوراً، بينما رفعت سيلينا يدها وبدأت تجهّز لهباً خافتاً في راحتها. انطلق المراهق وهو يركض بين الأزقة، كان يظن أن فريسته قد أصبحت في حوزته. أما آرثر الذي لم يكن في مزاج للتسامح، رفع سيفه القصير عالياً، واشتعل النصل بانفجارٍ من لهب أحمر داكن.
آرثر (بصوتٍ عالٍ غاضب): "حين تسرق من النار… فلا تشتكِ حين تحترق!"
ثم هوى بالسيف نحو الأرض بقوة! فاصطدم النصل بالأرض وخرج منه شِقٌّ ناري، اندفعت منه موجة ضغط جعلت الصخور تتشقق، والبلاط القديم يتفكك كأنه زجاج هش. انقلبت الأرض تحت أقدام الفتى، فتعثّر وسقط على ركبته بينما كادت الحقيبة تفلت من يده.
وفي نفس اللحظة… كانت سيلينا قد رفعت يديها وراحت ترسم بأصابعها حركة دائرية في الهواء، فتكونت دائرة نارية ضيقة حول المكان لتحاصر الصبي بداخلها!
سيلينا (بصوتٍ بارد): "لم تكن لتذهب بعيداً على أية حال."
وقف الفتى في المنتصف وهو يلهث، عيناه تتنقلان بين الدائرة النارية وآرثر المستشيط غضباً، وقد بدأ يتقدّم نحوه بخطى بطيئة وواثقة.
آرثر (بصوتٍ منخفض وهو يشير بالسيف): "لديك ثلاث ثوانٍ لتقرر إن كنت ستعيد الحقيبة… أم أنني سأستعيدها من رمادك."
رغم تردّد المراهق وخوفه، إلا أنه بقي ثابتاً وهو يضغط على الحقيبة بقوة، وكأنه يريد التمسك بكرامته، لا بالمال.
سيلينا (بصوت منخفض لكنه مشحون بنبرة قاتلة): "أحياناً… يجب على الناس أن يتذكروا أنهم ليسوا من يحكمون المشهد."
أغلقت يدها ببطء، فاشتعل اللهب من حول الفتى أكثر، وبدأ الهواء يضيق. بدأت الحرارة الخانقة تخنقه، حتى شعر وكأنّ أكسجين العالم كلّه ينفد من حوله. ارتجف وهو يتراجع خطوة، لكن النار لحقت به. أما آرثر، فقد رفع سيفه وأوقفه أمام وجهه، ثم أماله قليلاً لتظهر انعكاسات النيران على النصل، وتقدّم منه أكثر بهدوء.
آرثر (بابتسامة شيطانية): "أتعلم ما الفرق بين السرقة من الناس… والسرقة من الأمراء والملوك؟ في الحالة الأولى قد تسجن… في الثانية، قد تختفي ببساطة."
ثم ضرب السيف بحركة واحدة في الهواء! وانفجرت شرارة نارية عبر طرف الدائرة، ووصلت لقدم الصبي ولكنها تصبه. ركع الفتى على الأرض وهو يصرخ:
الفتى (يصرخ): "حسناً! حسناً! خذوها! خذوا الحقيبة فقط… لا تحرقوني!!"
رماها أمامه وهو يرتجف، ثم تراجع بسرعة حتى التصق بجدار الحجر خلفه. أخذ آرثر الحقيبة دون أن ينحني، فقط مدّ سيفه والتقطها من الحزام الجلدي. ثم نظر للفتى نظرة خالية من الرحمة.
آرثر: "تذكر هذا اليوم جيداً… فقد سمح لك النبلاء بالنجاة."
أما سيلينا، فأغلقت قبضتها مرة أخرى، واختفى اللهب فجأة كأن شيئاً لم يكن.
سيلينا (ببرود): "لو كنتَ أذكى بقليل… لسرقت من غيرنا."
ثم استدار الاثنان وغادرا الزقاق بخطى راقية، بينما ظل المراهق جالساً هناك وهو يحدّق في الحائط بعيون متّسعة، وكأنّه رأى الموت يبتسم له… ثم يدير ظهره.
سيلينا (ببرود): "لم أكن أعتقد أن أول تفاعل لي مع سكان الجزيرة سيكون سحب حقيبتي من على كتفي."
آرثر (وهو يعيد سيفه بغضب إلى غمده): "نُرسل من مملكة النار، ونُستقبل بالبكاء والسرقة. يا له من ترحيب ملكي."
بدأ الاثنان يمشيان مجدداً في الشارع الضيق، ووجوههما تعكس مزيجاً من الانزعاج والخذلان.
سيلينا: "الأسوأ من الحقيبة، هو أنك ما زلت تتباهى في الشوارع وكأنك في عرض أزياء."
آرثر (يرفع حاجبه): "وما المشكلة إن كان هذا هو العرض الوحيد هنا يستحق النظر؟ على الأقل، لفتُّ انتباه الجزيرة أسرع من أي خطاب رسمي."
سيلينا (بزفرة ثقيلة): "لفتَّ الانتباه؟ نحن لا نحتاج إلى المزيد من السارقين."
وبينما كانا يسيران، ظهرت رائحة دخان من الزاوية التالية. نظرت سيلينا إلى اليسار، وهناك، جلس رجل ثلاثيني مشرد تحت بقايا مظلة صدئة، كان ضعيف الجسد، ملتحٍ، ويمسك بسيجارة نصف محترقة بين إصبعيه. كان يسعل بقوة، وكل سعلة تُخرج صوتاً كأن صدره يتمزق من الداخل.
الرجل (وهو يسعل بعنف): "ككك… لعنة… كككك… الهواء هنا… لا يرحم…"
مدّ يده المرتجفة ليأخذ نفساً من السيجارة، لكنه بالكاد أمسكها. اقتربت سيلينا منه بخطوات بطيئة دون أن تتكلم، ثم فتحت حقيبتها الصغيرة وأخرجت قارورة ماء زجاجية. وقفت أمامه للحظة، ثم مدّت يدها بها دون أن تُظهر أي مشاعر.
سيلينا (ببرود): "اشرب. لا تبدو أنك ستعيش كثيراً إذا استمريت على هذا الشكل."
نظر الرجل إلى سيلينا بعينان متأثرتان بالدموع والسعال.
الرجل (بصوت مبحوح): "هذه… لِـ… لي؟"
سيلينا (بجفاف وهي تترك الزجاجة في يده): "أنا لا أحتاجها الآن."
أخذ الرجل الزجاجة بين يديه المرتعشتين، وشرب منها كأنها ترياق… وكل جرعة كانت تُحدث صوتاً مبللاً يتخلله السعال. ثم أبعدها عن فمه، وأغمض عينيه للحظة.
الرجل: "هذه… أول مرة أشرب فيها شيئاً نظيفاً منذ ثلاث سنوات."
نظر الرجل إلى سيلينا وعيناه تلمعان بمزيج غريب من الامتنان والحسرة.
الرجل (بصوت أجش لكنه أهدأ): "أنتم لستم من هنا… هذا واضح."
آرثر (بتنهيدة وهو يتكئ على الجدار): "وهل في هذه الجزيرة من يتحدث دون أن يسعل؟"
سيلينا (ببرود): "منذ متى وأورانيو في هذه الحالة؟"
صمت الرجل لثوانٍ، ثم ألقى نظرة على أطراف الطريق المهجور، وكأنه يتأكد من أن لا أحد يراقب. وبعدها بدأ يتحدث بنبرة خافتة مليئة بالمرارة:
الرجل: "منذ أكثر من خمسة عشر عاماً… قرر الإمبراطور ماكيا تحويل الجزيرة إلى منفى. لم يكن يريد فقط إبعاد الساموراي والخونة عن العالم… بل أراد أن يعاقبهم بأسوأ طريقة: أن يتركهم يعيشون."
آرثر (بتعبير مصدوم): "يعيشون؟"
الرجل (بصوت ثقيل): "بل يُدفنون أحياء. كل من عارض ماكيا… أو كان قريباً من أحدهم، نُفي إلى أورانيو. لم يفرّقوا بين رجل وامرأة، بين مقاتل أو طفل. حتى أطفال الخونة الذين لم يكن لهم يد في شيء، دُفعوا إلى هنا مثل القمامة."
سيلينا (تنظر حولها): "وهكذا أصبحتم… منفيين في وطنٍ ميت."
الرجل: "هذا ليس وطناً. هذه مقبرة…"
اقترب آرثر قليلاً وهو ينظر إلى الرجل بنظرة أكثر جدية.
آرثر: "قلت خونة وساموراي… هل يوجد ساموراي لا يزالون هنا؟"
هز الرجل رأسه ببطء.
الرجل: "قليلون. معظمهم قُتلوا في سنينهم الأولى… بعضهم قاوم… هناك مَن انكسروا، وهناك من اختفوا ببساطة. يُقال أن في أعماق الجزيرة… صنع ما تبقى من الساموراي المنفيين ملجأً، لكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب."
سيلينا (بصوت خافت): "لماذا؟"
الرجل (بهمس): "لأنهم لم يعودوا بشراً كما كانوا… القهر والتجويع جعلهم أشبه بالوحوش."
ساد الصمت للحظة، وحتى آرثر الذي لم يتوقف عن السخرية طوال اليوم، بدا وكأنه بدأ يأخذ الأمور بجدية.
آرثر (يهمس): "والدي أرسلنا إلى هذا الجحيم ليختبرنا…"
الرجل (بصوت متهالك): "إن كنتم تنوون البقاء هنا… فلا تثقوا بأحد. من يعيش في الجحيم، لا يبحث عن النور… بل يتعوّد الظلمة."
سيلينا (بصوت هادئ لكنه مشحون): "ماكيا لم يُنشئ نظاماً… بل مقبرة مفتوحة، دفن فيها الأبرياء وهم أحياء، وسَمّاها عدالة."
آرثر (يضحك بخفة، يمرر يده على مقبض سيفه): "ذلك العجوز اللعين… أُقسم أن هذا المكان يشبه شخصيته: متعفن، مسموم، ويظن أنه خالد."
سيلينا (تنظر إلى الحائط المتآكل): "السلطة التي تُبنى على كسر الأبرياء لا تدوم… هي فقط تصرخ أطول قبل أن تنهار."
آرثر (بنظرة جانبية ساخرة): "سيأتي يومٌ نعلِّق فيه صورته المحترقة على جدران هذا النُزل البائس. لا لنتذكره… بل لنتأكد أننا دفنّاه جيداً."
تقدّمت سيلينا بضع خطوات إلى الأمام، ثم التفتت إلى الرجل الجالس، ونظرت في عينيه بهدوء لم يكن فيه شفقة… بل شيء أعمق.
سيلينا: "ماكيا بنى سوراً بين البشر وكرامتهم… ووالدنا قضى حياته وهو يحفر تحته."
آرثر (يميل برأسه بخفة): "قريباً جداً… هذا الجحيم سيتلاشى. ومن صنعه سيُجبر على رؤيته وجهاً لوجه."
حدق الرجل فيهما بصمت، وفجأة اتسعت عيناه وكأن شيئاً ضرب ذاكرته. تراجع قليلاً إلى الوراء، وراح يتأمل ملامحهما بتمعّن… الشعر الأحمر، عيون آرثر الزرقاء، وعيون سيلينا الرمادية، الثقة، الكبرياء، النبرة التي لا تناسب هذا المكان.
الرجل (بصوت مختنق): "أنتم… أنتما…"
آرثر (يبتسم بشقاوة وهو يفتح ذراعيه): "ها قد بدأ العرض."
الرجل (يهمس بذهول): "أنتما… أبناء الملك سيروس؟!"
سيلينا: "أجل."
الرجل (يتمتم): "لم أصدق أن الملك سيروس سيفعلها يوماً… لقد أرسل أولاده إلى الجحيم ذاته…؟"
سيلينا (بصوت منخفض، تتقدم خطوة بخفة): "أرسلنا… لا لنهرب من النيران، بل لنتعلم كيف نُشعلها من الداخل."
آرثر: "هذا ليس جحيماً… بل مسرح. ونحن هنا لنكتب نهايته."
الرجل (بصوت به أمل صغير): "إن كنتما حقاً أبناءه… فربما… ربما ما زال هناك أمل."
سيلينا: "نحن لم نأتِ للأمل… نحن أتينا للحساب."
آرثر (بابتسامة جانبية): "ولأول مرة… سيكون الدم الذي يُراق، ليس دم الأبرياء."
الرجل (ينظر إلى الزجاجة في يده، ثم ينظر إليهما بخجل): "شكراً… على الماء… وعلى الكلمات التي لم أظن أنني سأسمعها هنا يوماً."
أومأت سيلينا برأسها بخفة دون أن ترد، بينما اكتفى آرثر بابتسامة نصفها سخرية ونصفها احترام، ثم لفّ عباءته حوله واستدار.
آرثر (وهو يمشي): "اشرب جيداً، أيها العجوز… قد تحتاج قواك حين تبدأ الجزيرة بالتحرّك."
تبعته سيلينا بصمت، وبقي الرجل جالساً وهو يراقبهما، ثم نظر إلى السماء المظلمة وهمس لنفسه:
الرجل (بصوت خافت): "سيروس… إن كانوا من دمك حقاً… فالعالم على وشك أن يتغير."
ثم أغمض عينيه وأخذ نفساً عميقاً… وكأن أول قطرة ماء شربها أعادت إليه شيئاً من الحياة التي نُزعت من هذه الجزيرة منذ زمن بعيد. كانوا يتحدثون عن سيروس بثقة، يدافعون عنه بشراسة، ويعلّقون على اسمه آمال التغيير… لكن الحقيقة؟ لم يكن أحدهم يعرف سيروس حقاً.
يتبع…