ركضت يوكو والرصاص يتطاير حولها. مرت رصاصة بجانب أذنها... وأخرى شقت الهواء عند قدمها.
لكنها لم تتوقف. بعد وقت غير معلوم... بدأ كين يتحرك ببطء. عينيه ارتجفتا أولاً، ثم انفجر صوته بصرخة حادة:
كين (يصرخ وهو ينهض): "دااااان!!! دان!!! لاااا!!!"
صدى صوته تمزق بين جدران الدمار من حوله، كانت يوكو جالسة بجانبه، وجهها مرهق، وعيناها محمرتان من كثرة البكاء. وما إن استيقظ كين حتى رمت نفسها عليه وعانقته بقوة.
يوكو (وهي تحاول تهدئته): "أنا هنا... كين، أنا معك... ارجوك، فقط تنفس..."
ارتجف كين في حضنها، وأخذ يئن كطفلٍ مكسور. وعاد يبكي بصوت خافت وشهيق متقطع... رفع كين رأسه ببطء، نظر حوله بذهول، ثم التفت يساراً وتسمرت عيناه فجأة.
كين (بهمس مصدوم): "أبي؟"
كان جسد أكاكو ملقى على الأرض، نصفه مغطى بالتراب والدماء، وهناك ثقب عميق في صدره، ووجهه شاحب كالأموات... لكنه كان ما يزال يتنفس. ركض كين إليه زاحفاً على يديه وركبتيه، وجثا عند جسد والده المرتجف:
كين (بنبرة محطّمة): "أبي... هل... هل ستموت وتتركني أنت أيضاً؟! هذا يكفي! أرجوك... لا تفعلها أنت أيضاً!"
فتح أكاكو عينيه ببطء... وارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة.
أكاكو (بصوت متهالك): "كين... اقترب..."
اقترب كين أكثر، وانهار على صدر أبيه. عيناه انهمرتا بالدموع التي لم تعد تجف. رفع أكاكو يده المرتعشة، ووضعها على شعر كين كما كان يفعل في العادة.
أكاكو: "يا بني... لم يتبقَّ لي الكثير... لكن يجب أن تعرف الحقيقة قبل أن أغادر..."
كين (يصرخ بخوف): "لا! لا تقل هذا! لا تودعني! لا تتركني وحدي يا أبي! لا أريد العيش في هذا الجحيم بدونك!!"
أكاكو (بصوت مبحوح): "أنا آسف يا كين... لكن استمع إلي جيداً. الملك سيروس... هو ليس فقط سبب هذه الحرب... إنه أخي... إنه عمك."
كين (بصوت مصدوم): "ما... ماذا قلت؟ سيروس... هو عمي؟"
أغلق أكاكو عينيه للحظة، كأنه يستعيد ذكرى موجعة.
أكاكو: "كنتُ أميراً في مملكة كاجي... لكنني نُفيت. هربت من ظلم أخي، من شره... كان يعذبنا، ويفسد كل شيء... كنت أظن أنني أستطيع أن أبني عائلة بعيدة عن ظله... لكن ظله أطول من أن يُهرب منه."
كين (بألم): "لماذا لم تخبرني...؟"
أكاكو (بصوت يختنق): "كنت أريدك أن تعيش بسلام... أن تبقى طفلاً لا يعرف الحقد. لكن الآن... لم يعد هناك خيار."
سعل أكاكو بشدة، وخرج من فمه الدم، ثم أمسك بيد كين بقوة.
أكاكو: "اسمعني جيداً يا بني... بداخلك قوة عظيمة... فاكن النار... من دم اليوكاجي. ستستيقظ قريبا...
وحينها ستفهم... وستعرف ما يجب عليك فعله."
كين (يتوسل والدموع تخنقه): "أبي... مالذي تقوله؟ أرجوك لا ترحل... أرجوك، فقط ابقَ قليلاً بعد...!"
أكاكو (بابتسامة حزينة وهو يلفظ وصيته): "إذا كنت تريد الإنتقام... فافعلها من أجل من ماتوا بظلم، لا من أجل الغضب وحده. لكن أرجوك، لا تسمح للحقد أن يأكل قلبك... عِش وتذكّرنا بحب، لا بكراهية. هذا كل ما أريده لك يا بني."
خرج آخر نفس من فم أكاكو، ثم هدأ صدره وتوقفت يده عن الارتجاف.
كين (يصرخ بكل قواه): "أبييييييييييييييييي!!!"
ارتمى كين على صدر والده بجسده المرتجف، ودموعه عادت تنهمر كالسيل.
كين (وهو يهز جسد والده بقوة): "أبي!! أرجوك استيقظ!! لا تفعل بي هذا!! لا تتركني الآن... لا تتركني وحيداً!!"
كان يصرخ وكأن قلبه يُنتزع من مكانه.
كين (بصوت يختنق ويكاد ينكسر): "هل... هل ستجعلني يتيماً؟! لقد أخذوا أمي... إيميلي... دان... حتى إخوتي الذين لم يولدوا بعد! لا يمكن أن ترحل أنت أيضاً... لا يمكن..."
صرخ من جديد ولكن هذه المرة كانت صرخته مليئة بالألم النفسي والجسدي في الوقت نفسه.
كين (بعينين دامعتين وهو يدفن رأسه في صدر أبيه): "أبي... أنت أكثر شخص أحببته في حياتي... كيف يمكنني أن أعيش دونك؟ كيف؟!!"
شدّ بيديه على قميص والده الملطخ بالدم، وكأن إحكام قبضته سيعيد النبض إلى صدره... لكنه لم يعد هناك شيء.
ظل كين على تلك الحالة لأكثر من ساعة. في هذا اليوم، لم يفقد كين عائلته فقط... فقد طفولته. فقد قلبه.
بعد مدة، وقف كين ببطء كمن أُجبر على مغادرة مكان دفن فيه قلبه. التفت إلى يوكو التي كانت تحدّق في النيران التي كانت تحاصر الزقاق بشكل دائري بلا مخرج، وملامحها شاحبة من الرعب.
كين (بصوت خافت، متكسر): "يبدو أن دورنا قد حان... من الأفضل لنا أن نموت معاً جميعاً..."
يوكو (بهمس مرعوب): "لا... لا تقل ذلك... لا أريد... لا أريد أن أموت!"
كان كين غارقاً في اليأس، فاقترب من النيران التي كانت تحاصرهم، ثم حدق بها.
كين (وهو يهمس): "كل شيء احترق بالفعل... فلماذا لا أحترق أنا أيضاً؟"
مدّ يده اليسرى نحو النيران. حاولت يوكو أن تصرخ، أن تمنعه... لكن كين لم يتوقف. دفع كين كفه ببطء وبلا تردد إلى قلب اللهب! في تلك اللحظة، تغير كل شيء. بدلاً من أن تحرقه النيران... احتضنته. توهّج اللهب حول يده كأنه يعانقها، لا يؤذيها. وبدأت الشرارات الحمراء تلتف حول ساعده، ثم صعدت إلى كتفه، وجسده بأكمله امتلأ بطاقة دافئة... لكنها ليست مؤذية.
كين (بصوت مبحوح): "أنا... لا أشعر بأي ألم..."
يوكو (بصدمة مذهولة): "كين... يدك!!"
نظر كين إلى كفه. كانت النيران تشتعل فوقها، لكنها لا تحرقه. وشيئاً فشيئاً... بدأت النار تتحرك بانضباط كأنها تسمعه.
كين (بصوت ينبض بالحياة): "أبي... كان على حق... إنها النار... إنه الفاكن..."
مدّ يده للأمام بقلبٍ مليء بالغضب والعزم. وفجأة، انفجرت النيران من حوله وتفرّقت بقوة خارقة، وفتحت له ولـ يوكو ممراً في وسط الجحيم، وكأن البحر انشق أمامه!
يوكو (بدهشة وذهول): "لقد... لقد أطاعتك النيران!"
كين (وهو يتنفس بعنف): "هذه قوتي... من دمي... من عائلتي... من اليوكاجي. وأنا لن أترك أحداً آخر يموت بسبب سيروس بعد الآن!"
بعدة مدة، وصل يوكو وكين إلى الشاطئ. وأثناء مشيهم، ظهر أمامهم فتى مراهق يبدو في الخامسة عشرة، وكان يجلس وسط الأنقاض. شعره أشقر فوضوي، عيناه خضراوان باهتتان، وجسده مغطى بالندوب والدماء الجافة. ما إن لمحهم حتى وقف بصعوبة وسار نحوهم بخطوات مترنحة، لكن صوته بدا دافئاً رغم كل شيء:
الفتى: "مرحباً... هل أنتما بخير؟ تحتاجان للمساعدة؟"
كين (بصوت واهن، ونظراته مثقلة بالتعب): "نحن لا نعرف إلى أين نذهب... منزلنا تدمر... وعائلاتنا... ماتوا جميعاً."
الفتى (بصوت مرتجف): "لقد حدث لي الشيء نفسه... اعتقدت أنني سأموت تحت أنقاض منزلي، لكنني زحفت وخرجت... فقط لأجدهم جميعاً موتى. لم يبقَ أحد."
يوكو (بصوت مرتعش): "ماذا سنفعل الآن؟ هل سنذهب إلى دار الأيتام؟"
صمت للحظة، ثم رفع رأسه قائلاً:
الفتى: "ربما... أو يمكننا الهرب. اسمي راندي، وعندي فكرة... جزيرة أوراكانو قريبة من هنا. لدي قارب خشبي صغير، إن لم يتحطم، قد نستطيع الوصول إليها."
كين (وهو يحدق بالمدينة التي تآكلت): "لا أظن أن أمامنا خياراً آخر... هذا المكان لم يعد صالحاً للعيش."
راندي: "إذاً، اتبعاني."
بدأ الثلاثة بالمشي فوق الركام، يحاولون بكل طاقتهم أن لا ينظروا إلى الوراء. كان التعب قد سيطر عليهم بعد هذا اليوم الطويل القاسي. وبعد وقتٍ قصير، وصلوا إلى الشاطئ. رغم الخراب المحيط به، إلا أن الشاطئ بدا وكأنه نجى بمعجزة.
كان القارب الصغير هناك متماسكاً رغم الأمواج. ركبوا جميعاً، وبدأ راندي يجدف بمساعدة خفيفة من كين ويوكو، حتى غلبهم التعب. في لحظة ما، استسلما للنوم، فناما في حضن راندي الذي بقي مستيقظاً وهو يحدق بالبحر والنجوم.
في صباح اليوم التالي، استيقظ كين أولاً. لم تكن هناك أم تناديه، ولا سرير دافئ... فقط هدير الموج، والسماء. نظر حوله... ثم تذكّر كل ما حصل له في الليلة الماضية. اختنق صدره بالدموع، وأجهش بالبكاء بصوت خافت. استيقظت يوكو وراندي على صوته، فاقترب منه راندي بهدوء واحتضنه.
راندي: "لا بأس... أعتقد أننا سنصل خلال ساعة."
واصلوا التجديف بصمت، وهم يتأملون البحر الأزرق المنعكس عليه ضوء الشمس، وشيئاً فشيئاً، بدأت اليابسة تظهر في الأفق.
كين: "أهذه أوراكانو؟"
راندي: "نعم... لقد لقد وصلنا."
يوكو: "هل هي كبيرة؟"
راندي: "ليس كثيراً... سكانها يقاربون المليون ونصف."
اقترب القارب من اليابسة ونزلوا بصمت. كانت ملابسهم ممزقة، وجلودهم متسخة، وأعينهم مثقلة بالحزن. كان كل من يراهم يعرف أنهم خرجوا من جحيم.
يوكو (بهمس): "إلى أين سنذهب الآن؟"
راندي: "لا أعلم..."
وفجأة، اقترب منهم رجل يرتدي زي رسمي.
الرجل: "هل أنتم من مملكة روبي؟"
راندي: "نعم، فقدنا عائلاتنا وهربنا بالقارب."
الرجل: "هناك العديد من الناجين في هذا الاتجاه. اذهبوا وابحثوا عن أقاربكم، ربما تجدون أحداً."
أشار الرجل بيده نحو حشد كبير من الناس المتجمعين تحت الخيام. وبدأ الثلاثة بالسير نحوه.
وفجأة، توقف راندي وصرخ:
راندي: "خالي! خالتي!!"
ركض إليهم، واحتضنهما وهو يبكي، بينما تبادل كين ويوكو نظرات صامتة.
كين: "كم أتمنى أن أجد أحداً... أي أحد."
يوكو (بهمس): "لا نعلم..."
وفي تلك اللحظة، سُمعت صرخة من بين الحشود:
امرأة: "يوكو؟! يوكو!!!"
يوكو (باندهاش): "عمتي؟!"
ركضت إليها وارتمت في حضنها وهي تبكي:
يوكو (بصوت مرتجف): "عمتي! لقد ماتوا كلهم!"
عمة يوكو (بصوت حزين): "أعلم يا حبيبتي... ظننتكِ قد رحلتِ معهم. لكنكِ ما زلتِ هنا... هذا كل ما يهمني الآن..."
يوكو: "هل يمكنني العيش معكِ؟"
العمة (وهي تضمها): "بالطبع يا صغيرتي."
لكن ما إن أشارت يوكو إلى كين، حتى تبدلت ملامح العمة.
يوكو: "وهذا كين... صديقي. فقد عائلته أيضاً."
العمة (ببرود): "أنا آسفة، لا يمكنني الاعتناء بأطفال آخرين. لدي ما يكفيني من المصاعب."
يوكو (بتوسل): "لكنه لا يملك أحداً! لا يمكن تركه!"
العمة: "هذا ليس من شأني. لنذهب الآن."
شدّت العمة على يد يوكو وسارت بها رغم صراخها.
يوكو: "كين! انتظرني! أريد أن أودعك!"
لكن العمة لم تلتفت، وكأن توسلات ومشاعر يوكو لا تعني لها شيئاً. ظل كين متجمداً في مكانه وهو يشاهد صديقته تُسحب بعيداً.
كين (وهو يصرخ بصوت يتهدج بالبكاء، ويلوح لها): "وداعاً يا يوكو! سنلتقي مجدداً... أنا متأكد!"
ظلّ واقفاً هناك وحده... للمرة الأولى في حياته، بلا أم... بلا أب... بلا أخ... بلا أخت... وبلا صديقة. لكنه كان ما يزال على قيد الحياة. وذلك كان كافياً... ليبدأ رحلة حياة جديدة.
مرّت الساعات كأنها دهور، بينما جلس كين وحده على ذلك الكرسي الخشبي المهترئ في طرف الشاطئ. لم يبقَ أحد. كان الناس قد غادروا واحداً تلو الآخر، كلٌّ منهم وجد من ينتظره، أو على الأقل، وجد وجهاً يعرفه. أما كين، فقد بقي وحده، يتأمل الأفق بعيون تائهة، وعيناه ما زالتا تدمعان بصمت. احتضن نفسه، كأن جسده يبحث عن حضن والدته ووالده، أو يدي إيميلي... أو صوت دان.
انحنى برأسه، وأطلق شهقة خافتة. لم يبكِ هذه المرة بصوتٍ مرتفع، بل بدموع ثقيلة تنزلق بصمت على وجنتيه المتسختين. وفجأة، سمع صوت خطوات هادئة على الرمال. رفع رأسه ببطء، ورأى رجلاً عجوزاً يقترب. كان يبدو في أواخر السبعينات، شعره أبيض ناعم يتطاير مع الريح، ووجهه مليء بالتجاعيد، لكن عيناه الزرقاوان كانت لا تزال فيهما حياة، ووسامة صامتة نجا بها من الزمن.
الرجل (بلطف): "مرحباً يا بني... هل أنت تائه؟"
كين (وهو يمسح دموعه بخجل): "أنا لا أعرف إلى أين أذهب... لم يبقَ أحد لي."
جلس العجوز بجانبه، وأخرج من سترته منديلاً صغيراً وقدّمه له، ثم قال:
العجوز: "لهجتك ليست من هنا... هل أتيت من روبي؟"
كين (بهمس مبحوح): "نعم... قُصفت مدينتنا. ماتت أمي... وأبي... وأختي... وأخي... وحتى التوأمان اللذان لم يولدا بعد."
سكت العجوز لحظة، ثم وضع يده بلطف على كتف كين، وقال:
العجوز: "أنا آسف يا بني... اسمي لاود، يمكنك مناداتي بـ 'الجد'."
كين: "أنا اسمي كين..."
لاود: "أخبرني، أليس لديك أي قريب؟ أحد قد يبحث عنك؟"
كين (وهو يهز رأسه): "لا أحد... لقد انتهى كل شيء.;
نظر لاود إلى الفتى المكسور بجانبه، ثم تنهد وقال:
لاود: "إذاً... تعال معي. لا أملك الكثير، لكن لدي منزل دافئ، وبعض الطعام. يمكنك أن تعيش معي يا كين. لن تكون وحدك بعد الآن."
رمش كين بدهشة، ثم رفع رأسه ببطء وقال بصوت خافت:
كين: "حقاً...؟"
لاود (بابتسامة هادئة): "أجل يا بني... لقد فقدت عائلتي منذ وقتٍ طويل، ربما قدّر لنا أن نجد بعضنا الآن."
نظر كين في عينيه مطولاً... ثم أومأ برأسه، وقف، وسار خلفه بصمت.
مرّت السنوات، وكين الآن في الحادية عشرة من عمره. لم يعد ذلك الطفل الضائع تماماً. أصبح يستيقظ كل صباح على صوت لاود وهو يعد له الإفطار، ويذهب إلى النوم بعد أن يحكي له الأخير قصصاً من شبابه المليء بالمغامرات، قصص عن حروب قديمة، ونساء أحبّهن، وأماكن بعيدة زارها حين كان شاباً متهوراً.
تعلّم كين منه الكثير عن الصبر، عن الطهو، عن القتال. لكن... في أحد صباحات الشتاء الباردة، جلس كين وحيداً على مائدة الإفطار. لم يكن هناك صوت يُناديه من المطبخ، ولا رائحة خبز دافئ تملأ المكان. في ذلك اليوم... أدرك كين أن الوقت الذي عاشه مع لاود قد انتهى. وأن الوحدة... قد عادت إليه مرة أخرى.
يتبع...