عاد المشهد إلى كورغامي، الواقف بصمت فوق السور الحجري العملاق.
انطفأت الذكريات، كأنها حُلُم مرّ في لحظة…
وعيناه البنفسجيتان الآن تحدقان نحو راجنار، الذي كان يتشكل من الظلال خلفه.
رغم أنهما كانا يقفان على ارتفاع شاهق، يقارب التسعمئة متر عن سطح الأرض،
إلا أن كورغامي لم يُبدِ أي اهتمام بالخطر…
فقد كان هناك شيء واحد فقط يشغل باله:
رؤية أخته…
والآن بعد أن لمحها من بعيد، واطمأن عليها…
كان قد حان وقت الرحيل، لا ليبتعد… بل ليقترب أكثر.
همس بهدوء:
"راجنار… لننطلق."
أجاب الصوت الغامض من بين الظلال:
"أمرك."
وفي لحظة، تبخّرا كأنهما لم يكونا هناك قط…
كأن الريح قد محتهما من الوجود.
ثم…
ظهرا فجأة أمام منزل كورغامي القديم.
كان الحي خاليًا تقريبًا،
إذ أن معظم السكان خرجوا لاستلام حصص الطعام التي توزعها القوافل،
وهذا الوقت…
كان الأنسب للزيارة.
كورغامي لم يتحرك فورًا.
ظلّ واقفًا أمام الباب، ينظر إليه كما لو أنه يرى أطياف ماضيه تقف خلفه…
أمه، أباه، أميشيا تركض نحوه بضحكتها الطفولية…
كل ذلك صار رمادًا، لكنه لا يزال حيًّا في ذاكرته.
عندما وضع كورغامي يده على مقبض الباب الصدئ،
ودفعه ببطء…
"ككيييييك..."
صدر صوت صريرٍ حاد، كأن الباب يشكو من الوحدة التي عاشها كل هذه السنين.
كان الباب قديمًا جدًا، يكاد يتآكل من الحزن والغبار.
دخل كورغامي بهدوء، وعيناه تتفحصان كل شيء كأنه يعود إلى قبره… أو وطنه.
وفور أن تبعه راجنار، اصطدم رأسه بحافة الباب العليا!
"آخ!"
رفع رأسه وهو يفرك جبهته، فاستدار كورغامي نحوه، ينظر لوجهه المصدوم…
ثم فجأة، وبدون مقدمات…
"هاههاهاها..."
أطلق كورغامي ضحكة صادقة، دافئة، لم يسمعها راجنار من قبل.
لم تكن سخرية.
كانت ضحكة نقية… نابعة من قلبٍ خُدش طويلاً، لكنه الآن… لمح بريقًا صغيرًا في داخله.
تجمّد راجنار في مكانه، مذهولًا.
منذ أن رافق سيده كورغامي، لم يره يبتسم… ناهيك عن الضحك.
لكنه الآن، يضحك.
وعندها فقط، فهم.
كل ما في الأمر… أن كورغامي كان سعيدًا برؤية أخته.
دلف كورغامي إلى الداخل، تتبعه خطوات راجنار البطيئة بعد الصدمة.
رائحة الغبار القديمة ما زالت كما هي…
لكنها لم تكن كريهة بالنسبة له، بل مألوفة… كأنها رائحة الطفولة نفسها.
كل شيء في المنزل بقي تقريبًا كما تركه:
ذلك الكرسي الخشبي المكسور بجانب المدخل،
الصندوق المعدني الذي استخدموه كمائدة،
وذلك السلم الذي يصدر صوتًا خافتًا عند كل خطوة.
أشعة الشمس كانت تتسلل من الشقوق الصغيرة في الجدران،
ترسم خيوطًا ذهبية على الأرضية المتشققة،
وكأنها تحاول إضاءة الذكريات العالقة في زوايا الغرفة.
"كل شيء ما زال كما هو…"
تمتم كورغامي، يمشي ببطء نحو الطاولة التي جلس حولها مع عائلته ذات يوم.
لامس سطحها بيده، ومسح طبقة خفيفة من الغبار.
راجنار كان صامتًا… ينظر حوله باستغراب.
لم يكن يتوقع أن يعيش سيد الظلام في مكان كهذا.
قال كورغامي بصوت منخفض، أقرب للهمس:
"هنا… كانت أمي تطبخ... وهنا أبي يصلح المصباح الوحيد الذي نملكه…"
ثم نظر نحو الزاوية القريبة من السلم، وأشار:
"وهناك… هناك كنت أضع أميشيا على كتفي وأدور بها حتى تضحك…"
توقف للحظة، ثم قال بابتسامة باهتة:
"كل شيء تغيّر… إلا هذه الذكريات."
كان يمتنع عن الابيام لكنه امام هذه الذكريات..لم يستطع ان يبقى ذلك الشخص البارد.."
....
رغم أنه اختفى لمدة عام، إلا أن كورغامي علم أن عائلته لم تعد تقطن هنا.
لقد انتقلوا إلى مكانٍ أبعد، خلف الجدار، في أحد أحياء المدينة "S"، حيث الفقر أقل وطأة… أو هكذا يُقال.
ومع ذلك، كان لهذا المنزل المنسي في الأحياء الفقيرة سحر خاص لا تمحوه المسافة.
كل زاوية، كل كسر في الحائط، كل لمسة غبار كانت تحمل ذكريات.
ذكريات لم يمتلكها أحد سواه.
صعد كورغامي ببطء إلى الطابق الثاني، والدرج يصدر صوت أنين خفيف تحت قدميه.
في الأعلى، لم يكن هناك سوى بابٍ واحدٍ ينتظره.
باب غرفته.
دفعه بهدوء، وكأنّه لا يريد إزعاج الزمن.
الغرفة كانت كما تركها تقريبًا…
ذلك السرير الخشبي القصير ما زال في الزاوية، ملاصقًا للباب.
فوقه قطعة قماش قديمة، صغيرة، كان يضع رأسه عليها بدلًا من وسادة.
وعلى طرف السرير، قماش رمادي خشن، خاطه مرارًا وتكرارًا، حتى أصبح أشبه برداء حرب قديم،
لكنه كان كافيًا ليقيه برد الشتاء القاسي.
على الجهة المقابلة، تلك النافذة الصغيرة التي تطل على الحي…
يتذكر تمامًا كيف كانت أميشيا تقفز كل صباح لتفتحها،
ثم تنادي الجيران بصوت خافت:
"آسفة إن أزعجناكم… فقط أريد إيقاظ أخي."
ثم تركض نحوه وتصرخ باسمه دون فائدة،
وفي النهاية… تقفز فوقه لتوقظه ضاحكة.
رسمت الذكرى ابتسامة على وجهه… لكنه لم يكن يعلم إن كانت من الحنين… أم من الألم.
وقف وسط الغرفة صامتًا،
وكل شيء فيها بدا وكأنه يحتضنه رغم الغياب…
والجدران المتشققة،
كان لها صدى من الطفولة،
ومن البراءة التي سُرقت مع الوقت.."
وعندما التفت كورغامي إلى الجهة المقابلة من الغرفة،
رأى ذلك الدُرج الصغير أمامه…
بمرآته المكسورة، كما كانت دائمًا.
ابتسم بصمت.
كم وقف أمام هذه المرآة…
يعدّل ثيابه البسيطة، يتفقد مظهره الوحيد كل يوم،
قبل أن يغادر ليكمل ما يشبه الحياة.
لكن الدُرج… لم يكن مجرد أثاث.
كان مخبأه الصغير.
اقترب بخطوات هادئة،
وانحنى ببطء كما اعتاد أن يفعل منذ سنين.
مدّ يده نحو المقبض الصغير،
وحاول فتحه… لكنه لم يتحرك.
صمت لثانية… ثم اتسعت عيناه.
– "آه… المفتاح…"
همس لنفسه وكأن الصبيّ القديم فيه استيقظ فجأة.
رفع قطعة القماش الرمادية عن سريره،
بحث أسفلها برفق… وها هو المفتاح.
صدأ خفيف على أطرافه، لكن الشكل مألوف.
أدخله في القفل… "كليك".
فتح الدُرج.
رائحة قديمة انبعثت، مزيج من ورقٍ وعطرٍ باهت وذكريات.
كان في الداخل… صور.
صوره مع أمه، وأبيه، وأميشيا…
صورهم أمام هذا المنزل، على السطح،
وفي العيد، وفي الشتاء، حين كانوا يضحكون رغم كل شيء.
مدّ يده نحو إحدى الصور،
يده اهتزت قليلًا.
كان فيها هو، طفل بوجه مغطى بالتراب…
وأميشيا بجانبه، تمسك بيده، ووردة صغيرة خلف أذنها.
ظل يُحدّق فيها لثوانٍ طويلة.
"هل كنا حقًا سعداء؟"
قالها بصوتٍ منخفض، لم يكن يحتاج لإجابة.
....
وقف راجنار عند زاوية الغرفة، لا يعلق، لا يتدخل،
عيناه السوادء معا النقوش البنفسجية في داخلها... تراقبان كورغامي وهو يتحرك كطفلٍ وجد لعبته القديمة بعد طول غياب.
كان سيده، من اعتاد الصمت والجليد،
الآن يُقلّب الأشياء القديمة بعينين تلمعان ببريقٍ خافت،
بريق لم يره منذ زمن.
البنفسجي في عيني كورغامي لم يكن فقط لونًا،
كان شرارة… ذكرى… ضعفًا ربما.
"هل سيتمكن من تحمّله؟"
تساءل راجنار في نفسه، دون أن يُظهر أيّ انفعال على وجهه الصخري.
– "إن لم يتحمل…"
همس لنفسه،
"فهذا العالم… سيدفع الثمن."
وفي تلك اللحظة، قطع الصمت صوت مألوف…
"كريك…"
صدر من الباب…
ذلك الصرير القديم، الذي لم يتغير رغم مرور الزمن.
التفت كورغامي فورًا،
وبقي راجنار ثابتًا في مكانه،
يده تقترب قليلًا من مقبض سيفه… فقط احتياطًا.
"هل عاد أحد؟"
وفجأه سمع اصوات اخرى.."
كانت أصوات خطواتٍ خفيفة تتسلّل من أسفل الدرج، وكل خطوة تحدث صريراً خافتاً كأنها توقظ ذاكرة نائمة في الجدران.
كورغامي وراجنار لم يتحركا. كانا متّحدين تمامًا مع الظلال في أحد أركان الغرفة، مثل أشباح من ماضٍ لم يُدفن بعد.
ظهر طرف فستان أبيض بسيط على الدرج، يتمايل برقة مع حركتها، تزيّنه خطوط خضراء كأوراق نبتة في ربيعها الأول.
تدلّى شعرها الأسود حتى مرفقيها، يهتزّ مع أنفاسها، فيما ظلال القبعة البيضاء التي تعلو رأسها تلقي بنصف وجهها في غموض ناعم.
صعدت بخفّة، وكأن الدرج كان يعرفها، أو يشتاق لها.
ثم توقفت أمام باب الغرفة، دفعت الباب العتيق الذي أصدر صريرًا عتيقًا كما في المرات السابقة، ودخلت...
عيناها الخضراوان تأملتا المكان بصمت، تحملان في عمقهما طفولة لم تُنسَ وقوة لم تُفهم بعد.
دخلت تبحث عن شيء محدد... عن الدرج. لقد أخبرتها أمها أن تأخذ ذلك الدرج القديم، آخر ما تبقّى من كورغامي، قبل أن يغيب.
لكن كورغامي لم يكن غائبًا. كان هناك، يراقب، يختنق بالحنين.."