"إذًا، لتبدأ الحفلة..." قالها كورغامي بينما لا يزال يطفو في السماء المظلمة والممطرة، كان ينظر إلى الأسفل… نحو ذلك الضوء الوحيد، الذي بدا كأنه يطرد الظلام من حوله بالقوة.

كان جيف يطفو في الهواء أيضًا، لكن على ارتفاع أعلى قليلاً، وخلفه كان الحاجز ينبض بشرر ضوئي قوي… كأن النور فيه يحتضر.

لكن جيف لم يهتم، واصل النظر إلى الأعلى فقط، بعينيه الزرقاوين… اللّتين بدأ الضوء يتسرّب من داخلهما.

كان مركّزًا… على كورغامي فقط. لا يريد تكرار الخطأ. ذلك الخطأ القاتل، حين فقد تركيزه لثانية واحدة فقط.

كانت عباءة كورغامي السوداء، ذات الخطوط البنفسجية في أطرافها السفلية، تتمايل بعنف مع الرياح الممطرة التي تعصف بكل اتجاه. لقد ابتلّت بالكامل… لكنه لم يهتم.

كورغامي عدّل وقفته قليلًا، ثم بدأ يجمع الظلام من حوله، بقوة… نحو جسده. كأنه ثقبٌ أسود… يبتلع كل شيء يدور حوله.

"ماذا ينوي أن يفعل الآن؟!.. عليّ أن أوقفه… مهما كلّف الثمن!" صرّ جيف على أسنانه، ثم جعل سيف الضوء يختفي… ليظهر داخل كفه مباشرة. وانطلق بسرعة نحو كورغامي، أملاً أن يوقفه… قبل أن يفعل شيئًا لا يمكن عكسه.

"أنا آسف… أميشيا. يبدو أننا… لن نلتقي مجددًا. لكنني سأقتل جيف… وأجعل الأبطال يبتعدون عنك… وعن والدينا. لذلك لا تقلقي… سأقتله حتمًا." تمتم كورغامي في نفسه.

تحرّكت الحلقات في عينيه البنفسجيتين، ثم… بدأ اللون البنفسجي بالاختفاء. واستُبدل… بظلام دامس.

"أغغغغغ…" صرخة عميقة خرجت من قلب كورغامي، حين انفجرت الآلام في كل أنحاء جسده. الظلام لم يكن طاقة هذه المرة… بل كان هو المتحكّم.

توقّف الجسد عن تسريب الطاقة، وبدأ بابتلاعها… كل ما يقترب يُسحب إلى الداخل، ثم يُدفع به بقوة نحو… عينيه.."

"هاه… هاهاهاه..."

انفجرت ضحكات كورغامي الشيطانية من خلف قناعه،

وهو يحدّق في جيف، القادم نحوه بسرعة، وسيف الضوء النقي يشقّ المطر مثل شُعلة تتحدّى الليل.

"أوه… يبدو أنك مستعجل على نهايتك، أيها البطل."

قالها كورغامي بنبرة هادئة... أكثر رعبًا من الصراخ.

ثم رفع يده اليمنى ببطء، وبدأت كل الطاقات المظلمة حوله تنجذب بقوة نحو عينه اليمنى.

تلوّت الظلال حول جسده كأنها كائنات مذعورة… تُساق نحو مصيرها.

العين ذاتها بدأت تتوهج… لا بل تبتلع الضوء.

ثم…

"فكّ الختم الأول..."

"من عين الحاكم المظلم…"

"الطاقة المظلمة: تبعثر الوجود."

انفجر كل شيء.

الهواء تمزق.

السماء سكتت للحظة…

حتى صوت المطر اختفى.

من عينه انطلقت موجة سوداء، بلا صوت… بلا حرارة… لكنها كانت تحمل إحساسًا واحدًا: "النهاية."

جيف رفع سيفه النوراني، ناويًا صدّ الهجمة، لكن في اللحظة التي انطلقت فيها طاقة العين، اجتاحه شعور خطر قاتل، لم يكن مجرد إحساس، بل إنذار غريزي صرخ في أعماقه: "لا تواجهها... اهرب فورًا!" بلا تفكير، قام بحركة دوران خاطفة، تفادى بها الطاقة السوداء في آخر ثانية. لكن بمجرد أن تجاوزته، شعر بانفجار مظلم خلفه، طاقة عظيمة ومشؤومة تمزق الهواء.

بووووم!

المنطقة التي كانت قد تحوّلت لصحراء متفحمة بسبب هجوم راجنار قبل دقائق، اختفت تمامًا. الضربة الأخيرة من عين كورغامي أكملت ما بدأه الظل، ولم تترك خلفها إلا حفرة بحجم مدينة، حفرة سوداء، بلا قاع، وكأنها لعنة مزّقت طبقات الأرض نفسها. الهواء أصبح خانقًا، المطر توقّف، والرعد سكت، وكأن كل شيء حولهما بدأ يخاف من الظلام أيضًا.

جيف كان يطفو في الهواء، لكنه كان بالكاد يتنفس. عروقه كانت مشتعلة، وضوء جسده بدأ يتقطّع، وعبائة البيضاء كانت ممزقه من اماكن مختلفة ، ظهره كان يتصبّب عرقًا، لكن المطر أخفى ذلك، وصدره يرتفع ويهبط بسرعة غير طبيعية.

شعر بجسده يقترب من حدوده. كان صدره يشتعل من الداخل، وكأن النور ذاته بدأ ينهشه. "تبًا... تلك الضربة..." تمتم، وهو يضغط على فمه كي لا يصرخ، "لو أنني لم أتحرك في اللحظة الأخيرة، لكنت الآن تحت الأرض... لا، لتم مسحي تمامًا."

يداه كانتا ترتجفان، والسيف في قبضته بدأ يفقد تماسكه... لا بسبب الرعب، بل لأن جسده بدأ ينهار. لقد استهلك الكثير من طاقته في محاولة مجاراة كورغامي، والآن، هذه التقنية الملعونة... كانت أكثر مما تحتمله خلاياه.

بينما جيف بالكاد كان يطفو، أنفاسه متقطعة، جسده منهك، والضوء فيه يتلاشى كشمعة في مهب الريح. لكن ما لم يكن يعرفه… هو أن كورغامي كان حاله أسوأ.

في السماء، ما زال كورغامي في مكانه، لكن عينه اليمنى التي أطلق منها تلك التقنية المحرّمة… بدأت بالارتعاش. اللون الاسود الدامس بدأ يتلاشى، لتعود العين لطبيعتها، لكنها لم تكن طبيعية تمامًا، الدماء تقطر منها، تسيل ببطء على خده الأبيض،خلف القناع وبدات بالخروج، وتختلط بماء المطر.

كورغامي سعل بقوة، وتطايرت الدماء من فمه، كانت كثيفة، داكنة، أشبه بسائل قَتَلَه الظلام من الداخل. جسده كان يرتجف، نبضه غير منتظم، والضغط الذي خرج منه قبل لحظات… عاد لينهار عليه. لم يستطع الصمود.

وفجأة… سقط.

جسده ارتطم بأرضية الجدار العملاق، بقوة، وارتفعت المياه الراكدة حوله بفعل السقوط. بقعة من الدماء بدأت تنتشر من تحته، وتذوب وسط البرك، لكن ظلال جسده بقيت ساكنة… كأنه لم يعد قادرًا على النهوض.

في تلك اللحظة… فتح القائد عينيه بصعوبة، ورفع رأسه، ليرى كورغامي مرميًا على بُعد عشرات الأمتار منه، بلا حراك.

تسارعت أنفاسه، أدرك الخطر.

"جيف!!!" صرخ بأعلى صوته، صوته مليء بالرهبة، الألم، والتحذير، "إنه ساقط الآن… اقتله فورًا!!"

جيف سمعه، وهبط ببطء من السماء، أقدامه تلامس الأرض الثقيلة، الرطبة، والبرك تعكس وجهه المرهق. كانت خطواته بطيئة، ثقيلة، ووجهه شاحب من الإرهاق… لكن عينيه لا تزالا مشتعلة، رغم الألم.

أمسك سيفه بكلتا يديه، رغم الألم في عضلاته، رغم التشققات التي بدأت تظهر على جلده من فرط استهلاك الطاقة.

السماء فوقهم كانت تغلي.

الرعد اشتد، واشتد أكثر… والبرق أصبح أشبه بسياطٍ تُجلد بها السماء نفسها.

وفي الأفق… آثار الانفجار لا تزال تلوح، سحب سوداء متراكمة تدور ببطء فوق الحفرة العملاقة، وكأنها تتغذى على ما بقي من الكارثة.

جيف استمر في التقدم، يجرّ خطواته فوق الحجارة والماء… متجهًا نحو خصمه الذي قتل كل حراس الحاجز، وقام بتعذيب قائدهم ،باقتلاع يديه وقدمة اليمنى ،وخرق احدا عينية ،كان عازم على تحقيق العدالة،وانهاء هذا للابد.

"وأخيرًا... سأقتل هذا الوحش، وأتخلّص منه." تمتم جيف لنفسه بنبرة مليئة بالمرح، لكن في داخله، كان هناك شيء آخر… تعاطف صامت، رغم كل ما حدث.

لم يكن يملك أي سبب حقيقي يدفعه لذلك، سوى أنه على علاقةٍ بأخته الصغرى… أميشيا.

تذكّر جيف جيدًا اليوم، حين تلقّى نداء الطوارئ: "تم القضاء على جميع حراس الحاجز، ولم تبقَ إلا إشارة حياة واحدة… القائد". صدمة، لم يكن ليتخيّل أن من فعلها... هو كورغامي.

قبل ساعتين .."

في منزل عائلة كورغامي..."

، كان على مائدة العشاء مع عائلة كورغامي. قصرهم المتواضع، الجدران الهادئة، الأضواء الباهتة… لكن الشيء الذي آلمه أكثر من أي شيء، لم يكن الحديث، ولا الصمت… بل الكرسي الرابع على المائدة.

كان فارغًا.

اعتقد أنهم تقبّلوا فكرة أن كورغامي قد مات… أو ربما لم يعد واحدًا منهم. لكنه فهم الحقيقة، ذلك الكرسي أثبت له العكس تمامًا.

كانوا ينتظرونه… حتى لو لم يقولوا شيئًا.

جيف كان يستمتع بالجو العائلي، حتى رنّت ساعته فجأة، بإشارة إنذار حمراء، عالية. القيادات العليا لاتحاد الأبطال طلبوا منه التدخل فورًا، ومعه أميشيا، بحكم أنهما ثنائي في المهمات. لكن جيف طلب منها أن تبقى.

وانطلق وحده، بأقصى سرعته.

كانت إشارة حياة القائد تضعف… وتؤشر بأنه قد يموت خلال دقائق. وبينما كان يعبر السماء بسرعة الضوء، رأى انفجارًا هائلًا يهز الأفق… لكنه تجاوزه، لم يكن لديه وقت ليتوقف.

صعد نحو الجدار العملاق، ذلك الحاجز الذي يبلغ ارتفاعه ثلاثة آلاف متر.

وحين قفز فوق قمته… رأى الكابوس.

القائد… كان ممدّدًا على ظهره، فوق صخرة كبيرة، مغمض العين، إلا واحدة… كانت مفتوحة، وفيها حجر غريب يخترقها. ذراعاه؟ مقطوعتان. وساقه اليمنى؟ مبتورة تمامًا. وبركة دماء ضخمة تشكّلت تحته، وكأنها تسحب الحياة من جسده ببطء.

جيف شعر بقشعريرة حادة تخترق عموده الفقري.

لم يكن يرى القائد فقط… بل كان يرى الموت نفسه، ماثلًا أمامه.

وكان هناك… ذلك الشخص.

ذو العباءة السوداء، يقف بثبات، الظلام يتجمّع حول كف يده، نظراته ثابتة على جسد القائد، وكأنه يهمس له بشيء… شيء لم يسمعه جيف، لكنه أحس به.

ذلك الشخص… كان كورغامي.

وعندما كانو على وشك الخروج من باب القصر ،توقف جيف فجأة والتفت ونظر لاميشيا .

"أميشيا، لا يمكنكِ المجيء."

قالها بصوت منخفض، لكنه حاسم.

رفعت أميشيا حاجبيها بدهشة، صوتها فيه حنق مكبوت:

"ماذا تعني بـ"لا يمكنكِ المجيء"؟ نحن فريق، والمهام المصنفة لا يُنفذها طرف واحد! هذا خرق صريح لقواعد اتحاد الأبطال!"

ردّ جيف وهو يضع قفازاته بسرعة:

"أنا أعرف القواعد جيدًا... وسأتحمل العواقب."

اقتربت منه، نظراتها تتوهج:

"تتحملها؟! لا تتصرف وكأني عبء، جيف! أنا بطلة مثلك—"

قاطعها بنبرة لم تكن قاسية… بل ثقيلة:

"أعلم."

صمت لثانية… ثم أضاف:

"لكن هذه المرة… لا أريدك أن تذهبي. فقط… ابقي، مع والديكِ."

نظرت إليه مطولاً، لم تفهم لماذا بدا عليه التوتر... كانت المعلومة الوحيدة التي وصلتهم أن الحاجز تعرّض لهجوم، والقائد على وشك الموت. كل شيء في الأمر غريب، ومقلق… لكنه لم يكن مبررًا كي يخرق القواعد بهذا الشكل.

ورغم ذلك… لم تجادله أكثر.

ربما لأن نبرة صوته، تلك الطريقة التي قال بها "مع والديكِ"، لم تكن مجرد طلب... كانت رجاءً خفيًا.

تنهدت، وخفضت نظرها نحو الأرض، ثم تمتمت:

"حسناً… عد بسرعة."

هز رأسه، وفتح الباب.

وقبل أن يخطو خارجًا، أوقفته كلماتها الأخيرة:

"جيف…"

ولكنه لم يستمع ،لها بل استدار ،وانطلق جيف بسرعة، وكأنه يطير فوق الأرض، يختفي في أفق المدينة دون أن ينتظر.

انتظرت أميشيا لبرهة قصيرة، تنظر خلفها إلى بستان الورود الذي يحيط بالقصر.

هبت رياح قوية فجأة، تمايلت الأشجار والأزهار بعنف، وكأن الطبيعة نفسها تشعر بالعاصفة القادمة.

عاد المشهد للوقت الحالي.."

......

كان جسد كورغامي ملقى على الأرض، يلهث بثقل، الدماء تتساقط من فمه، وعيناه البنفسجيتان تومضان بضعف، بينما جسده يرتعش من ردة فعل القوة المحرمة التي استخدمها. جيف اقترب بخطوات سريعة، ملامحه متشنجة، عينيه الزرقاوين تغليان بالغضب. توقف أمام كورغامي، نظر إليه بحقد، ثم تمتم من بين أسنانه: "كم من الأبرياء ماتوا بسببك؟" ولم ينتظر ردًا، بل ركل كورغامي بقوة في خاصرته. تأوه كورغامي بصوت خافت "اغغ..." لكنه لم يصرخ، لم يتوسل، فقط رفع رأسه قليلًا… وابتسم. ابتسامة خبيثة، مشقوقة من خلف القناع، تتسلل منها نبرة استهزاء، كأن الألم نفسه لا يعني له شيئًا.

"تبتسم؟!" صرخ جيف، وهو يرفع قدمه ويركله مرة أخرى، وهذه المرة في وجهه، ثم في صدره، ثم في بطنه. كل ركلة كانت مشحونة بالغضب، لكنها لم تكسر تلك الابتسامة الباردة على وجه كورغامي. وعندما التقت أعينهما للحظة، لمح جيف وهجًا بنفسجيًا خافتًا في عين كورغامي… نفس العين التي أبادت كل شيء قبل قليل.

فقد جيف أعصابه، صرخ: "اصمت للأبد!" وركله بكل ما يملك من قوة، فطار جسد كورغامي في الهواء واصطدم بالحاجز العملاق. دوى صوت الارتطام بقوة، وتبعته شرارات كهربائية اندفعت من الحاجز، وصعقت جسد كورغامي وهو ينزلق ببطء على سطحه قبل أن يتكئ على ظهره بثقل. الرعد كان يجلجل، والضوء البرقي يعكس على قناعه المكسور جزئيًا، وكورغامي… ينظر إلى جيف. لا صرخة، لا تنهيدة، فقط نظرة باردة، فارغة، مع ابتسامة شاحبة كأن كل ما حدث لم يكن إلا البداية.

كان جيف يتقدم بخطوات بطيئة نحو كورغامي، عيناه الزرقاوان تغيم فيهما الغضب، والحزن… وصوت الرعد خلفه كأنما يصرخ بدلاً عنه.

"هل ترى هذا ممتعًا؟" قالها بصوت منخفض، يرتجف من داخله، وكأن السؤال موجه للعالم كله، لا لكورغامي وحده. "هل قتل كل أولئك الحراس… كان مجرد متعة بالنسبة لك؟"

كورغامي لم يرد. فقط كان يتكئ على الحاجز، جسده متعب، لكنه لا يزال حيًا… ونظراته لا زالت باردة.

تابع جيف بصوت يحمل مرارةً حقيقية: "ماذا فعلوا لك أيها الوحش؟! كانوا مجرد حراس… لم يرفعوا سيوفهم بعد…"

اقترب أكثر، صوته انخفض لكنه أصبح أكثر حدةً: "هل تظن أن عائلاتهم… أطفالهم… سيغفرون لك؟"

صمت كورغامي، ثم زفر ببطء، ورفع رأسه قليلًا وهو يحدق في جيف من خلف القناع المشقوق. ثم بصوت خافت، لا يحمل أي ندم، تمتم:

"هم فقط... كانوا يقفون في طريقي."

"ولكن أنا… لا أراها تسلية… بل جزءٌ من شيءٍ أعظم… شيءٍ أكبر منكم جميعًا…"

يسعل الدم، ثم يكمل بصوت مخنوق لكن ثابت:

"أنا أُعدّ هذا العالم لنهايته… لإبادة الأبطال بالكامل."

تنهيدة متقطعة، ثم نظرة باردة:

"سأقتل أقرباءهم، أصدقاءهم، أحباءهم… كل من قد يجعلني أتردد… أو أندم لاحقًا."

ابتسامة مريرة تظهر خلف القناع:

"لن أترك شيئًا… يمكن أن يجعلني اشعر بالندم ،لانني لم اتخلص منه.."

تجمّد جيف في مكانه للحظة.

"…ما هذا؟"

فكر في نفسه وهو يحدّق في كورغامي الذي بالكاد يستطيع الادكاء بالحاجز، ومع ذلك… ما زال يتكلم كأن العالم تحته، كأن الألم لا يعني شيئًا.

"هل فقد إنسانيته تمامًا؟"

ثم قبض على قبضته بقوة، عروق يده انتفخت، ووجهه صار أقرب للغليان:

"أنت لست مريضًا فقط… أنت مجنون تمامًا… ومجرد عاله على المجتمع."

اقترب منه خطوة بخطوة، ببطء ولكن بثبات.

"لهذا السبب… يجب أن أنهيك بنفسي."

بينما كان جيف يمد يده ليمسك بكورغامي، صرخ القائد من بعيد، صوته مبحوح متشقق من الألم:

"جيـف… لا تقترب…"

لكن صوته بالكاد سُمع، وقد فات الأوان.

في اللحظة التالية، تحركت بقع سوداء على الأرض تحت أقدام جيف، تسللت ببطء مثل ظلٍّ يتغذى على الغفلة…

ثم فجأة —

بوووووم!

ارتفعت من الأرض مسامير الظلام — حادة، قاتلة، خرجت بانفجار مفاجئ، واخترقت جسد جيف من كل الجهات!

"أغغغغغغ!!"

صرخ بصوتٍ ممزق، وركبتيه خارتا من الألم. اخترقت إحدى المسامير فخذه، وأخرى كتفه، وثالثة شقت جانب بطنه.

جيف ترنّح، الدم يتفجر من جسده، أنفاسه متقطعة.

لم يكن مستعدًا… لم يشعر بها قادمة.

"كـ... كيف؟! ما هذه التقنية؟!"

قالها وهو يلهث، يحاول أن يقف، ولكن ساقه لم تعد تطيعه.

من فوق الدماء، كان كورغامي لا يزال راكعًا، جسده يهتز من التعب، ودم يتسرب من فمه. لكنه ابتسم من خلف قناعه ابتسامة باردة، وقال بصوت خافت:

"مسامير الظلام… لا تحتاج للضوء كي تراك. يكفي فقط… أن تكون غافلًا."

كورغامي حاول النهوض…

لكن ساقيه خانتاه.

ارتجف جسده، ثم سقط على ركبتيه وهو يلهث، والدم يسيل من تحت القناع، متقطّرًا من فمه وعينيه البنفسجيتين اللتين بدأت تتلاشي ألوانهما.

"ليس الآن..."

همس بصوت مبحوح.

ضغط على الأرض بكفه المرتجف، وبدأ يجمع ما تبقى من طاقته المظلمة.

يده الأخرى ارتفعت ببطء، تتوهج بهالة باهتة قاتمة، طاقة شبيهة ببقايا نارٍ على وشك الانطفاء.

ضلوعه كانت مكسورة، صدره يعلو ويهبط بشدة… وكل نفسٍ كان يقتطع من عمره.

لكن رغم كل ذلك… وقف.

ببطء.

بألم.

بكبرياء مشوّه.

ووقف.

وقف كورغامي، مائلًا بجسده، ويده تتوهج، والدم يتدفق بصمت خلف القناع. لم يكن فيه شيءٌ سليم… سوى الإرادة.

كورغامي، المتكئ على نفسه، رفع يده المرتجفة…

وآخر ما تبقى من طاقته السوداء، تجمّع ببطء في كفه كدوامة موت صامتة.

الهواء أصبح أثقل، الظلال بدأت تتحرك كأنها تهمس له:

"اضربه… أنهِ كل شيء."

وجيف، المصاب، الملطخ بدمائه، لم يعد يملك طاقة للمقاومة.

كل ما فعله… هو أن وقف بثبات، وعيناه تحدّقان نحو كورغامي.

"هيا… اقتلني."

تمتم بها في داخله، وقد تقبّل النهاية.

لكن فجأة…

انشق،صدر كورغامي من فعل الرياح.

كان الحاجز يصمد... دائماً. لم يُصمم فقط ليكون جداراً فاصلاً بين قارة البشر وقارة الوحوش، بل ليكون رمزًا للحماية، للحدّ الفاصل بين الفوضى والنظام. لعقود طويلة، تلقّى الضربات من كل الجهات—أنصال الوحوش، نيران الأبطال، طاقات السحرة، وهجمات المارقين. كانت كل ضربة تُترك كندبة على جسده المضيء، ثم تُرمم، وتُنسى. لكنه في كل مرة... كان يصمد.

إلى أن جاء هذا اليوم

في قلب المعركة، بعد كل ما حدث، كانت أميشيا، عظيمة، تشق الهواء بنداء هجومها: "منجل الرياح!" اندفع الهجوم بسرعة، ضاربًا صدر كورغامي بقوة صاعقة. لم يستطع تفاديه، لم يكن يملك ما يكفي من القوة بعد، فارتد جسده إلى الوراء بقسوة. تحطم قناعه الأسود ذو الخطوط البنفسجية، وتناثرت شظاياه في الهواء. وفي اللحظة ذاتها، تحت وطأة الصدمات المتراكمة، الشقوق القديمة، المعارك المتلاحقة... انكسر الحاجز. لم تكن ضربة أميشيا السبب الوحيد، بل كانت القطرة الأخيرة في كأسٍ امتلأ منذ زمن. انفجرت أضواءه، تطايرت أجزاؤه كشرارات تتوهج في السماء، وفتحةٌ واسعة تمزقت في قلبه، كأن الحاجز نفسه قرر أن يتنحى عن حراسة العالم.

كورغامي طار جسده عبر الفتحة، يتهاوى ببطء داخل قارة الوحوش، تحمله الرياح الداكنة كأنها تبتلعه. أما جيف، فقد كان يلهث وهو يشاهد كل شيء أمام عينيه. كان يتقبل موته قبل لحظة فقط، ولكنه لم يتوقع أن تكون أخته الصغيرة هي من ستحميه. لم تتعرف عليه. لم تكن تعرف أن الذي هاجمته هو شقيقها المفقود.

وحين كاد جسد كورغامي يختفي داخل العتمة، التقت عيناه المنهكتان بعيني جيف للحظة خاطفة. عينا كورغامي البنفسجيتان المدمّيتان، المكسورتان، كانتا تقولان شيئاً لا يحتاج إلى صوت:

"عليك حمايتها ... من كل شيء."

ثم أغمض عينيه، وسقط.

2025/07/07 · 6 مشاهدة · 2500 كلمة
نادي الروايات - 2025