المجلد الثاني – شيطان التغيير [Shadow Slave]
الفصل 111: مخلوق أدنى
المترجم: محمد
_____
استفاق ساني من ذلك الشعور القمعي الذي خنق العالم بأسره. لقد اقتربت الشمس من الغروب، وسقط ظلّ البرج القرمزي السحيق مجدّدًا على المدينة الملعونة.
كان بإمكانه رؤية ذلك البرج الشامخ من أي نقطة في هذه الأطلال الكئيبة؛ إنه يلوح في الأفق فوق الشاطئ المنسي كأنه فأل مظلم أبدي. كان شكله دائريًّا وضخمًا إلى حد يصعب تصديقه، جذوره تنبثق من بحر لا نهاية له من الشعب المرجانية القرمزية، وقمته تختفي وراء طبقات كثيفة من السحب الرمادية.
طوال الأشهر القليلة الماضية، اعتاد ساني وجوده وتعلّم ألا يُوليه اهتمامًا؛ فالتفكير في ذلك البرج كان سيقوده بالتأكيد إلى الجنون. بعد كل شيء، في مكانٍ ما داخله يكمن الأمل الوحيد للعودة إلى العالم الحقيقي… وكان ذلك الأمل ساميًا.
تثاءب ساني، وقام ببطء مدًّا ذراعيه. لقد عاد إليه مزاجه الجيد، الذي تراجع لفترة وجيزة لسببٍ غامض. كانت لديه فرصةٌ هذه المرة لوضع أحداث الليلة السابقة في نصابها الصحيح، فاستحضر أجرأ ما حدث لنفسه مؤخرًا: امتلاكه لـ«القديسة الحجرية» وتحوّلها إلى ظلٍّ قوي. كانت معجزة حقيقية.
حرك ساني فكره بجدية. فقد كان الآن في مياهٍ مجهولة حيال كيفية تربية هذا المخلوق الغامض كحيوان أليف. لقد اختفت الإثارة الأولية التي شعر بها حين أدرك قدرة قديسة الظل على استهلاك الذكريات لالتقاط شظايا الظل، وحلّت مكانها سلسلة من التساؤلات المحرجة.
لقد دام وجوده على الشاطئ المنسي نحو ستة أشهر كاملة، وخلالها تمكن فقط من جمع ثلاث ذكرياتٍ صالحة لتغذية الظل، مما منحها ست شظايا ظل فقط. وبوتيرة التقدّم هذه، سيحتاج إلى ستة عشر عامًا كاملًا قبل أن يجمع مائتي شظية ظل المطلوبة في الأحرف الرونية!
حتى بين أرفع الرتب في جيش جونلوغ، لم ينجُّ أحدٌ على الشاطئ المنسي لأكثر من عشر سنوات. أما ملك القلعة نفسه فلم يمكث هنا أكثر من ثماني سنوات، وقد نجا طوال تلك المدة بفضل حظه الفذّ. صحيح أن قدرات ساني القتالية ستزداد بوجود فارس حجري في خدمته، لكنّها رغم ذلك كانت رحلة طويلة.
وبينما كان يحسب حساباته، لاحظ ساني الصندوق الحديدي الذي يخبئ فيه ثروته المتراكمة بشق الأنفس من شظايا الروح. تشوّش ذهنه للحظةٍ، ثم اقترب بترددٍ من الغطاء ونظره مليًّا.
وفق معايير الشاطئ المنسي، كان ساني ثريًّا إلى حد بعيد. فقد كانت ثروته تكفي لشراء الكثير من الأشياء في القلعة؛ من أبسطها إلى أكثرها ندرة وصعوبة في الحصول. بعض تلك الأشياء التي قد تبدو بسيطة لكنه لم يرغب حتى في التفكير فيها، لأنها كانت متاحة في فخوخ اليأس المظلمة التي لا يريد العودة إليها.
غير أن ما أثار حماسه حقًا هو إمكانية الحصول على كمية هائلة من الذكريات. فالذكريات القوية ذات الأسحار المفيدة لا تباع بثمن بخس، بل كانت باهظة الثمن للغاية. لكنه لم يكن يهتم كثيرًا بنوعية الذكريات، بقدر اهتمامه بكميتها. فطالما كانت قدرات قديسة الظل تلتقط شظايا ظلٍّ من أي ذكرى، مهما بلغت دناءتها، يكفي أن يجمع العدد اللازم.
لو أنفق كلًّا من شظاياه على شراء الذكريات، لزادت قوتها بصورةٍ ملحوظةٍ. وفي المستقبل، كان بمقدوره أن يمزج ما يحصل عليه من قتل الوحوش (شظايا الظل) مع ما يشتريه من ذكرياتٍٍ (باستخدام شظايا الروح) ليربّع سرعة نموّه التقريبي! قد يقلّص ذلك المدة الإجمالية إلى شيءٍ مقبولٍ، رغم أنه لا يزال محفوفًا بالمخاطر.
إلا أن ثمة مشكلة كبيرة تعتري خطته: إن بدأ ساني في إنفاق عددٍ هائلٍ من شظاياه، فمن المؤكد أنه سيجذب الانتباه. ولقد تعرّض بالفعل لمطارداتٍ من قلة متهورين حاولوا سرقته، رغم أنَّهُ اشتهر بحسه الدفاعي. أما لو أصاب الاهتمام الجنوني عين غونلوغ نفسه… فلن تكون نتائجه سوى كارثةٍ حتمية. ثم ثمة نيفيس، التي لم يكشف لها سبب جعل وجودها أيَّ خططٍ غير مجدية. بدا الأمر وكأنها تحفظ سرًا لا يعرفه سواهما.
تنهد ساني وتراجع عن هذه الفكرة مؤقتًا. ثم قال في نفسه:
— قد أعود إلى هذه الخطة لاحقًا… لكنّ أولى مهامي الآن أن أتحرّى عما إذا كان استهلاك الذكريات الطريقة الوحيدة لزيادة قوة الظل.
بعد فترةٍ قصيرةٍ، كان ساني يتحرك بحذرٍ عبر متاهةٍ حجريةٍ في المدينة المهجورة. استطاع أن يندمج تمامًا مع الظلال، مما منحَهُ ميزةً على أي أحدٍ آخر يجرؤ على استكشاف الأطلال الملعونة ليلاً. ومع ذلك، حتى هو كان دائمًا على شفير الموت؛ لقد نشأ أسياد تلك الشوارع الحقيقية هنا منذ العصور القديمة، وحال جذب الانتباه فسيُباد حتمًا.
لقد نجا البشر هنا عبر تعلّم تجنّب الساقطين والاصطياد من بين أضعف الوحوش. ففي أحيانٍ كثيرةٍ لم تكن هناك مخلوقاتٌ أضعف متاحة، وكان صيدها دائمًا محفوفًا بالمخاطر. ورغم ذلك، فإن هذا كان عمل ساني الآن.
في النهاية، بلغ المنطقة التي شاهد فيها مخلوقًا بعينه قبل أيامٍ قليلةٍ. ولقد كان مألوفًا لدى ساني بالفعل.
بعد كل شيء، لقد كاد ذلك الوحش يقضي عليه في السابق.
هناك، في أحد الشوارع المظلمة، كان قائدُ مئةِ «الزبالين» قد اعتاد صنع مخبأه، فتسلّق ساني فوق عمودٍ حجريٍّ طويلٍ، ووقف صامتًا في الظلمة، يراقب.
مرّت ساعةٌ وراء ساعةٍ ببطءٍ شديدٍ. لكنّ الصياد الجيّد لا يطيش عزيز الصبر. هاجسُهُ كان يراقب الأطلال الشبحية ثانيةً ثانيةً، وهو يختبئ في الظلال الدامسة.
وفي النهاية، كرَمَهُ الحظُّ أخيرًا.
فمن خضم الدجى الدامس لإحدى المباني المنهارة، خرج أخيرًا ذلك الوحش الضخم المهدِّد: قائدُ مئة «وحوش الزبّال». تقدّم المشهد رعبًا: كان درعه المعدني الأسود مزخرفًا بنقوشٍ قرمزية، ومن خلفه يطول منجلان عظميّان يخدشان الحجرَ كوشمٍ بشعٍ. بدا مخلوقًا صُنع لذِكرىِ أهوالٍ مرعبة؛ رجلٌ مدرعٌ لكنه أكثر مكرًا ووحشيةً من أي إنسان.
ابتسم ساني في صمتٍ؛ لقد حان وقت المحاكمة.
ومع ذلك، قبل أن يخطُو القائدُ خطوةً واحدةً، اندلعت فجأةً شرارةٌ قرمزيةٌ ساطعةٌ من أعماق الظلال؛ فانفتحت بوابات العتمة أمام القديسة الحجرية. ظهرت فارسته الحجريّة الرشيقة، وخفّضت رفّةَ درعها، مستندةً نصل سيفها على صخرةٍ باهتةٍ. كانت خيوط الدخان الرمادي الشبحي تتلوى من تحت خوذتها، ومن تحت درعها الجرانيتي ينساب وهجٌ داكنٌ هادئٌ.
توقف كل من الوحش الضخم والقديسة الحجرية، متبادلين النظرات في لحظةٍ قصيرةٍ، ثم انتفضَت الدراما إلى الوجود... وكأنَّها فتحت أبوابَ الجحيم.