المجلد الأول-طفل الظل [shadow slave]
الفصل 84 : الحبة السوداء
المترجم : [محمد]
___________
حدث ذلك في اليوم الذي انقضّوا فيه على شيطان الدرع وأردوه قتيلاً. في ذلك الوقت، كان الإعياء قد بلغ من الثلاثة مبلغَه. بعد أن ابتعدوا عن جثة المخلوق العملاق وعثروا على مكان آمن للاختباء، تهاووا على الأرض وغطّوا في نومٍ عميقٍ على الفور.
لكنهم لم يهنأوا بذلك النوم طويلاً.
فبعد ساعة أو اثنتين، أيقظت كاسي ساني وهي تهزُّ كتفيه. وكانت سحناتُ الرعب ترتسم بوضوح على محيّاها.
"ساني! ساني! استيقظ!"
استعاد وعيه في لمح البصر، فنهض منتفضًا واستدعى شظية الغسق، وقد تملّكه الخوف من أن يكونوا قد هوجِموا.
ومع ذلك، لم يكن هناك أحدٌ سوى كاسي التي اعتراها الفزع ونيفيس التي وقفت متأهبة، في وضعٍ مماثل، وسيفها مسلولٌ ومستعدٌ للضرب.
رمق ساني الفتاة الكفيفة بنظرة حائرة.
"كاسي؟ ماذا دهاكِ؟"
أمسكت بكتفيه مجددًا، ودنت بوجهها منه هامسةً بنبرةٍ متوسِّلة:
"ساني، عليك أن توقفه! أرجوك! أنت وحدك من يستطيع ذلك!"
قطّب ساني حاجبيه، وقد استعصى عليه فهم ما الذي كان يُفترض به أن يوقفه على وجه التحديد.
'هل أتتها رؤيا أخرى؟'
قال بنبرةٍ هادئة محاولاً التخفيف من روعها:
"لا بأس، كاسي. اهدئي وتنفّسي بعمق. أخبرينا بما جرى. ابدئي من البداية..."
هزّت رأسها بعنف.
"ليس هناك وقت! سأنسى بعد قليل! كلنا سننسى! لكن عليكَ أنتَ أن تتذكر!"
'كلنا سننسى بعد قليل؟ ماذا تقصد بذلك؟'
هتفت كاسي، وعيناها الكفيفتان لا تريان وقع الذهول على وجه ساني:
"عليك أن تتذكر يا ساني! خمسة! إنه خمسة! تذكَّر جيدًا! عليك أن تتذكر! إنه خمسة!"
تذكَّر... خمسة؟
بدت كلمات الفتاة الكفيفة مبهمةً لا تحمل أي معنى. أحاطها ساني بذراعه بحذر، مستشعرًا رجفة جسدها التي نمّت عن مدى خوفها.
"حسنًا، كاس. أعدكِ أنني سأتذكر. خمسة، أليس كذلك؟ انظري، يصعُب جدًا نسيانُ أمرٍ كهذا."
كانت نيفيس ترمقهم بعبوس، دون أن تغفل عن تفحص الأرجاء بين الحين والآخر بحثًا عن أي نذير خطر. لسببٍ ما، كانت كاسي توجه حديثها إلى ساني وحده، غير مكترثةٍ بها.
'تُرى، ما الذي ظنّت أن بمقدور ساني فعله وتعجز عنه النجمة المتغيرة؟'
عند سماع رده، هدأت الفتاة الكفيفة قليلاً، وإن كان الخوف لا يزال متملكًا منها.
"جيد. جيد. تذكر، إنه خمسة. لقد وعدت..."
أخذ صوتها يخفتُ شيئًا فشيئًا، وكأنَّ الشكَّ بدأ يساورها حيال ما تقوله. بالكاد استطاع ساني تمييز همهماتها الخافتة.
"... فكلما ازداد تعقيد الفكرة، استحال التشبث بها. لذا لم يسعني سوى إخباركم بهذه الكلمة المفردة، فهي أبسط ما يمكن نقله... وحين يحين الأوان، لعلها تغير مجرى الأمور..."
منتقيًا كلماته بعناية، سأل ساني بتردد:
"كاسي؟ هل بوسعكِ إخبارنا بما حدث بالضبط؟"
ما إن سمعت الفتاة الكفيفة صوته حتى جفلت ورفعت رأسها نحوه.
كانت بقايا الخوف لا تزال عالقة بعينيها، لكن الارتباك كان قد طغى عليها.
"هاه؟ هل حدث شيء؟"
رمش ساني.
'أليست هي ذاتها من أيقظتهم والفزعُ يعتريها؟'
"انتظري... لمَ أيقظتنا إذن؟"
ولسببٍ غامض، وجد نفسه يجاهد ليتذكر تفاصيل الدقائق المنصرمة. كانت المحادثة التي دارت بينهم لتوّها قد بدأت تتلاشى من ذاكرته كضبابٍ خفيف.
'أظن أنني ما زلت مترنحًا بعض الشيء بسبب الاستيقاظ المفاجئ. قلة النوم تُضعِف التركيز بحق...'
"أردتِ أن تخبرينا شيئًا. كان له علاقة بـ... آه... الرقم خمسة؟"
عقدت كاسي حاجبيها.
"خمسة؟ ولمَ خمسة؟"
لم يدرِ ساني ما يقول، فقد كان السؤال ذاته يراوده.
"لا فكرة لدي."
في حيرة من أمره، التفت إلى نيفيس، آملاً أن تسهم في جلاء الموقف.
كانت النجمة المتغيرة تقف على بعد خطواتٍ قليلة، تعلو وجهها نظرة شاردة. استشعرت تحديقته، فرمقته بدورها وسألت:
"لمَ استللتَ سيفك؟"
نظر ساني إلى شظية الغسق، محاولاً عبثًا أن يتذكر لمَ استدعى تلك الذكرى.
"آه... لستُ واثقًا. ولمَ استدعيتِ أنتِ سيفكِ أيضًا؟"
خفضت نيفيس بصرها إلى سيفها وكأنها تلاحظه للمرة الأولى، وارتسمت على وجهها علامات الريبة.
"ما الذي دها رؤوسنا اليوم؟"
بعد أن أيقن أن لا جدوى من انتظار العون من نيفيس، تنهد ساني وعاد بنظره إلى كاسي:
"هل أتتكِ رؤيا أخرى؟"
انتفضت الفتاة الكفيفة، واتسعت عيناها اللتان امتلأتا بالرعب مجددًا.
"رؤيا... نعم، لقد رأيت رؤيا. رؤيا مريعة... مفزعة..."
"وماذا رأيتِ؟"
صمتت لبرهة، محاولةً استجماع شتات ذاكرتها. ارتسم عبوسٌ عميق على جبهتها. وأخيرًا، قالت كاسي بصوت خافت:
"رأيت... جبلاً... جبلاً من الجثث. تكدّست أعدادٌ لا تُحصى من الجثث بعضها فوق بعض حتى شكّلت رابيةً مضرّجةً بالدماء. وفي ذروتها، كانت هناك حبّةٌ سوداء صغيرة تطفو فوق بِركةٍ من الدماء..."
صمتت للحظات، ثم استطردت:
"أعتقد أن هذا كان من الماضي. ولكن بعد ذلك رأيت المستقبل... المستقبل. لقد كنا نحن. آه، يا حكام! لقد كنا... كنا..."
ارتعش صوتها وتوقفت، وكأنها لا تقوى على البوح بما رأت.
انتظر ساني قليلاً، ثم سألها بحذر:
"كنا ماذا؟"
التفتت إليه الفتاة الكفيفة وقد اعتلت وجهها نظرة حائرة.
"ماذا؟"
حكَّ ساني مؤخرة رأسه متسائلاً في نفسه: 'عمَّ كنا نتحدث قبل لحظات؟'
"كنتِ... آه... تخبريننا عن رؤيتكِ. على ما أظن؟"
عبست كاسي.
"... أي رؤيا؟"
ومما زاد الطين بلة، أن ساني نفسه لم يكن متأكدًا. تذكّر شيئًا ما عن الرقم خمسة و... بذرة؟
ولسببٍ مجهول، أحسَّ بأن لهذا الرقم أهميةً قصوى. ولكن لمَ؟ لم تكن لديه أدنى فكرة.
"لقد نسيت."
فجأةً، خفضت نيفيس، التي كانت تقف على مقربة، يديها وأعادت سيفها الذي كانت تُمسك به لسببٍ غامضٍ إلى غمده. نظرت إليهما بشيء من الحيرة، وسألت بتردد:
"لمَ أنتم مستيقظون يا رفاق؟ علينا أن نرتاح. قد تنجذب بعض الأشياء إلى جثة الشيطان، لذا من الأفضل أن نستعيد كامل قوانا في أسرع وقت ممكن."
كان ساني شارد الذهن، وقد نسي بالفعل حديثه مع كاسي. رمش بعينيه عدة مرات، ثم صرف الأمر برمته عن باله، وقرر العودة إلى النوم. لم يكن لأيٍّ من هذا معنى على أي حال. ربما كان الإرهاج قد بلغ منهم مبلغًا جعل عقولهم خاملة...
لقد شعر بإعياء شديد.
... بعد بضع ساعات، وحين لمحَ ظلُّه ذلك المخلوق المجنح يحوم حول الجزيرة، استيقظ مجددًا. بحلول ذلك الوقت، كانت ذكرى تحذير كاسي قد غدت مجزأة وضبابية إلى حدٍّ بدت معه كحلمٍ سرياليّ.
غير أن البذرة كانت قد غُرِسَت بالفعل في أغوارِ لاوعيه.
والآن، وقد آتت تلك البذرة أكلها، استطاع ساني أخيرًا أن يشقَّ طريقه عبر ضباب النسيان ويتذكّر كل شيءٍ بوضوح.