المجلد الأول-طفل الظل [shadow slave]
الفصل 85 : خطوة واحدة في كل مرة
المترجم : [محمد]
____________
في جوفِ عشِ ذلك الطائرِ اللصِ الحقير، جلس ساني وقد اعتلى العبوسُ محيَّاه وقبض على كفيه بشدة.
كان أمرٌ خارقٌ للعادةِ يحيقُ بهم منذ أن وطئت أقدامُهم تلَّ الرماد. والآن بعد أن استرجع تحذير كاسي، بات جليًّا أنَّ عقولَهم قد نالَ منها التأثير، فغدوا سريعي النسيان، لا يلبثُ انتباهُهم أن يتشتت.
حتى الآن وهو على بيّنةٍ من الأمر، كان التفكيرُ بذهنٍ صافٍ عسيرًا بشكلٍ لافت. لقد استنفدَ الأمرُ جلَّ ما في جعبته من قوةِ إرادةٍ كي يُبقيَ على بصيصِ وعيٍ بهذا الخللِ الطارئِ على ذاكرته.
ظلت أحداثُ الأيامِ القليلةِ المنصرمةِ يكتنفُها الغموض. استعاد ساني ذكرى أخرى، فأغمضَ عينيه وقد استبدَّ به الإحباط.
أتراهم أمضوا بضعةَ أيامٍ فحسب فوق أديمِ هذه الجزيرة؟ إنَّ عددَ شظايا الظلِّ التي حازَها من التهامِ ثمارِ شجرةِ الروحِ ليُنبئُ بغيرِ ذلك. كان من الواردِ جدًا أن يكونَ شهرٌ بأسرهِ قد انقضى منذ أولِ مرةٍ تذوَّقوا فيها تلك الثمار.
وكانت عقولُهم تتلاشى شيئًا فشيئًا مع شروقِ كل شمسٍ وغروبها. وقريبًا، قريبًا جدًا، لن يتبقى منهم أثرٌ يُذكر، مجرد هياكلَ خاوية، تجوبُ المكان وهي لا تزالُ تتقلَّدُ وجوهَهم.
امتقع لونُ ساني.
وبشعورٍ بالهلعِ أخذَ يتنامى في دواخله، أدركَ أنَّ ثمةَ فجواتٍ سَحيقةٍ في ذاكرته. لم يعد بوسعِهِ تذكُّرُ كيفَ بلغوا تلَّ الرماد، ولا إلى أين كانت وجهتُهم في المقامِ الأول. أشياءُ أخرى كذلك غدت ضبابيّةً مبهمةَ المعالم.
'تمالك نفسك.'
رغمَ حجمِ الضررِ الذي لحقَ بذاكرته، ظلَّت هناك منافذُ لفهمِ ما كانَ يدور، ومن ثمَّ، لربما، درءُ ويلاته. فهو، في نهايةِ المطاف، قد استطاعَ تذكُّرَ تحذيرِ كاسي. وذلك يعني أنَّ ذكرياتِهم لم تُطمسْ كليًا، وإنما اعتراها التشويشُ حسب.
الخطوة الأولى: مجاهدةُ ذلك الإغواءِ الجامحِ بالانزلاقِ مُجددًا إلى لُجَجِ النسيان.
ما كان الصمودُ أمام هذا الإغواءِ المتواصلِ الذي يداعبُ عقلَه بالمهمةِ الهيِّنة، لكنَّه استطاعَ أن يُدبِّرَ أمرَهُ، في الوقتِ الراهنِ على الأقل.
الخطوة الثانية: السعيُ لفهمِ سرِّ قدرتِهِ هو على تذكُّرِ هذهِ الأمور.
حينَ توسَّلت إليه كاسي أن يتذكّرَ الرقمَ خمسة، لا بدَّ وأنَّها كانت على عِلمٍ مُسبقٍ بأنَّه سيحظى بسمةٍ جديدة. وكنتيجةٍ لذلك، فطنَ هو لوجودِ تلك السمةِ الخامسةِ الغامضة، الأمرُ الذي أسفرَ عن هذا الكشفِ المروِّع.
ولكن، لمَ لمْ يستطعْ أن يمحوَ وجودَ السمةِ الخامسةِ من ذاكرتِهِ تمامًا؟
ما الذي جعلَهُ فريدًا إلى هذا الحد؟ حتى أنَّ كاسي قد صرَّحت بأنَّه الوحيدُ القادرُ على ذلك. لماذا هو، وليس نيفيس؟
فركَ ساني صدغيه في إعياء. ثم، كشرارةٍ وُقِدت في عتمة، واتتهُ ومضةُ إدراكٍ خاطفة.
"[بلا شك]!"
إنَّ سحرَ [بلا شك]، المنبثقَ من كفنِ محرِّكِ العرائس، هو ما أكسبَهُ ذلك القدرَ الضئيلَ من الصمودِ في وجهِ الهجماتِ الذهنية. ولهذا السببِ كانَ أقلَّ عُرضةً لذلكَ النسيانِ المُفزِعِ الذي دهمَهُم في تلِّ الرماد.
كانَ ذلك هو السببَ في كونِهِ آخرَ من وافقَ على التهامِ تلكَ الفاكهةِ "المُعجِزة". وهو ما يُفسِّرُ ذلك الشعورَ المتكررَ الذي كان يجتاحهُ بأنَّ الأمورَ ليست في نصابها. وكانَ أيضًا الوحيدَ الذي استطاعَ تذكُّرَ تحذيرِ كاسي، وإنْ طالَ بهِ الأمد.
لقد علمت كاسي بأمرِ كفنِ محرِّكِ العرائس، ولهذا آثرتهُ هو على نيفيس.
'فتاةٌ نبيهة.'
إذن... حالتُهم المُضطربةُ تلك كانت وليدةَ هجومٍ ذهني. ولكنْ، من تراهُ يملكُ القدرةَ على مهاجمتِهم في هذهِ الجزيرةِ الموحِشة؟
كانت الإجابةُ باديةً للعيان.
"تلك الشجرةُ الملعونة!"
ألقى ساني نظرةً إلى أسفل، مستشعرًا عرقًا باردًا يتفصَّدُ من ظهره.
لقد كانت شجرةُ الروحِ، في حقيقةِ الأمر، كائنًا هائلاً، عتيقًا، ومُريعًا يفوقُ كلَّ وصف. إنْ كانَ حدسُهُ في محلِّه، فلا بدَّ أنَّ قوَّتَها تفوقُ الخيالَ بمراحل. لقد خشيَ حتى مُجرَّدَ التفكيرِ في رُتبتِها وتصنيفِها.
"فلا غروَ أنَّها استطاعت أن تمتصَّ رحيقَ الحياةِ من منطقةٍ شاسعةٍ بكاملها في المتاهةِ القرمزية."
ولا عجبَ أنَّها استطاعت البقاءَ والازدهارَ في هذا المكانِ السَّعيري. بل لعلَّها كانت، من بينِ كلِّ ما في هذا الجحيمِ من فظائع، أشدَّها هولاً وبأسًا.
أخيرًا، أدركَ ساني كُنهَ السببِ الذي حالَ دونَ اقترابِ أيِّ مخلوقِ كابوسٍ آخرَ من تلِّ الرماد. فحتى الوحوشُ كانت ترتعدُ فَرَقًا من شجرةِ الروح.
...باستثناءِ تلكَ الكائناتِ المُريعةِ بالقدرِ نفسِهِ التي تقبعُ تحتَ أمواجِ البحرِ المظلمِ السَّحيق.
ما كانَ من سبيلٍ إلى تدميرِها. فشجرةُ الروحِ كانت أضخمَ وأقدمَ وأعتى من ذلك بكثير. للحظةٍ، راودتهُ فكرةُ إضرامِ النارِ فيها، لكنَّهُ سرعانَ ما نحَّاها جانبًا. إنَّ إحراقَ هذا العملاقِ الشاهقِ ليتطلَّبُ ثورانَ بركانٍ هادرٍ أو ضربًا من ضروبِ التدخلِ الحاكميِّ القاهر.
'إذن، فما السبيل؟'
بعدَ أنْ أعملَ فِكرَهُ لبعضِ الوقت، قرَّرَ ساني ألا يتسرَّع، وأن يمضيَ قُدُمًا، خطوةً إثرَ خطوة.
أولاً، كانَ لزامًا عليهِ أن يقفَ على حقيقةِ وضعِهِ فيما يتعلَّقُ بسماتِه.
عندَ استدعاءِ الأحرفِ الرونية، حاولَ مُجددًا أن يقرأَ وصفَ السمةِ الخامسةِ المستترة.
وكانت النتيجةُ كما هي. تيقَّنَ من وجودِها، لكنَّه ظلَّ قاصرًا عن استجلاءِ ماهيتِها مهما بذلَ من جُهدٍ مُضنٍ.
'الأرقام.'
وإذْ أكَّدَ لنفسِهِ أنَّهُ لا يزالُ من المُحالِ عليهِ فكُّ طلاسمِ هذا اللغزِ بمفردِه، وجَّهَ ساني جُلَّ اهتمامِهِ إلى سمةِ [علامة الألوهية]. فبرزت أحرفٌ رونيةٌ جديدةٌ أسفلَ وصفِها:
[علامة الألوهية] وصف السمة: "تحملُ عبيرًا إلهيًا أثيريًا، كما لو أنَّ كائنًا ما قد لامسَها لمحةً خاطفةً ذاتَ يوم، منذُ دهرٍ سحيق."
[علامة الألوهية] مستعدةٌ للتطور. هل تودُّ المتابعة؟
أجابَ ساني "نعم" دونما إبطاء.
وعلى الفور، تبدَّلَ اسمُ السمةِ ووصفُها. فقرأَ الأحرفَ الرونيةَ الجديدة:
السمة: [شرارة الألوهية].
[شرارة الألوهية] وصف السمة: "كلُّ نارٍ تبتدئُ بشرارة. وفي أغوارِ روحِك السحيقة، تتوهجُ شرارةٌ يفيضُ منها نورٌ إلهيٌّ وضَّاء."
لم يستشعرْ أيَّ تغييراتٍ في كيانه. بدا الأمرُ وكأنَّ السؤالَ عمَّا إذا كانَ يرغبُ في المضيِّ قُدُمًا أم لا كانَ مُجرَّدَ إجراءٍ شكلي، وأنَّ السمةَ قد تطوَّرت بالفعلِ حينَ التهمَ قطرةَ الإيكور.
'لقد تعاظمَ انتمائي للألوهية إذن. لا بأس. وإن كنتُ لا أزالُ أجهلُ كُنهَ جدوى ذلك...'
أتُرى [شرارة الألوهية] هذه هي العلَّةُ وراءَ قدرتهِ الآن على سبرِ أغوارِ الذكرياتِ وكشفِ آلياتها الداخلية، فضلاً عن أمورٍ أخرى كالظلالِ في بحرِ الروح؟ إنْ كانَ الأمرُ كذلك، أهيَ مَيْزةٌ يشتركُ فيها كلُّ المستيقظين ذوي الانتماءِ الإلهيِّ الرفيع، أم أنها نفحةٌ خُصَّ بها دون سواهُ؟
لسببٍ ما، أحسَّ ساني بأنَّهُ الخيارُ الأخير. لقد تلقَّى قطرةَ إيكور من كائنٍ يُدعى ويفر، ومن ثمَّ غدا قادرًا على رؤيةِ الخيوطِ التي حِيكَتْ بها الذكريات، مانحةً إيَّاها سماتِها المتفرِّدة. لم يكن عسيرًا إدراكُ هذهِ الصلة.
إنْ صحَّ هذا، أفيعني ذلك أنَّ هناك أنماطًا متمايزةً من الألوهية؟ وأنَّه قد ورثَ نزراً يسيراً من نمطٍ بالغِ الخصوصيةِ منها؟
أكانَ ويفرُ حاكمًا في الأصل؟ فكلُّ حاكمٍ طرقَ مسامعَهُ اسمُهُ كان يُدعى على هذا النحو: حاكمُ الظل، حاكمُ الحرب... أجل، هؤلاءِ هم فحسب. لم يقعْ إلى سمعهِ قطُّ أسماءُ حُكَّامٍ آخرين.
بيدَ أنَّ اسمَ ويفر كانَ مختلفًا.
ربما لم يكن ويفر حاكمًا البتة…
فلا يُستبعدُ أن يكونَ هو، أو هي، في حقيقةِ الأمرِ، واحدًا من أولئكَ المجهولين.
هزَّ ساني رأسَه، مستشعرًا أنَّه كادَ يسمحُ لذهنِهِ بالشرودِ والانفلاتِ. ما كانَ لهُ أن يسمحَ بذلك الآن...
بتركيزٍ تام، تفحَّصَ سمتَهُ الجديدة، [نسج الدم].
[نسج الدم] وصف السمة: "لقد آلَ إليكَ جزءٌ من سلالةِ ويفرَ المحرَّمة. لقد طرأَ على دمِكَ تحوُّلٌ، وتشرَّبَ صلابةً فريدة."
'إذن... سأغدو أقلَّ عُرضةً للنزفِ مستقبلاً؟ إنَّهُ لتحسينٌ باهرٌ حقًا.'
غيرَ أنَّ ذلكَ لم يُسعفْ ساني في محنتِهِ الراهنة.
لقد آنَ أوانُ الخطوةِ التالية…
كانَ ذلكَ في غبشِ الصباحِ حينَ ترجَّلَ ساني من شجرةِ الروح. لكنَّهُ هذهِ المرةَ لم يحملْ معهُ أيَّ ثمار.
تقدَّمَ نحو كاسي الغافية، وأمسكَ بكتفيها وهزَّها برفقٍ ليوقظَها. ولم يَخْفَ عليه ما في هذا الموقفِ من مفارقةٍ لاذعة، إذ كان صورةً معكوسةً لذاكَ الذي فيه توسَّلت كاسي إلى ساني كي يتشبَّثَ بذكرى الرقمِ خمسة.
أفاقتِ الفتاةُ الكفيفةُ من غفوتِها رويدًا رويدًا، والتفتت صَوْبَهُ وعلى وجهِها مزيجٌ من حيرةٍ وسكينة.
"ساني؟ لمَ أنتَ مستيقظٌ في هذهِ الساعةِ المبكِّرة؟"
تريَّثَ، ثم ارتسمت على شفتيهِ ابتسامةٌ ودودة، وهو يجتهدُ في أن يبدوَ وكأنَّ كلَّ شيءٍ على ما يُرام.
"في الحقيقة، لم يغمضْ لي جفنٌ طوالَ هذهِ الليلة."
عبست كاسي. لحسنِ الحظ، لم يكن بوسعِها رؤيةُ الحالِ المُزريةِ التي كانَ عليها، ولا آثارُ الدمِ الجافِّ على وجهِه.
"حقًا؟ ولِمَ ذلك؟"
هزَّ كتفيهِ.
"خطرَ لي أن أعتليَ شجرةَ الروحِ بحثًا عن بعضِ الثمار. لكنْ، ليسَ ذلكَ بالأمرِ الجلل. اسمعي... إنَّ قدرةَ السمةِ التي خُصِصتِ بها تُمكِّنُكِ من استشفافِ سماتِ الآخرين، أليسَ كذلك؟"
أومأت برأسِها، وما زالت الحيرةُ ترتسمُ على وجهِها.
"أجل. أنتَ تعلمُ ذلك. لمَ هذا السؤال؟"
تريَّثَ ساني هنيهةً، ثم أردفَ بصوتٍ خفيضٍ بالكاد يُسمع:
"هلاَّ ألقيتِ نظرةً على سماتي؟"