المجلد الأول-طفل الظل [shadow slave]
الفصل 87 : خطة الهروب
المترجم : [محمد]
_______
كانت نيفيس لا تزال جاثمة على الطرف الغربي للجزيرة، تمعن النظر في لجج المياه السوداء الآخذة في الانحسار. تكاد لا تحرك ساكنا منذ أن وقعت عليها عين ساني آخر مرة.
وحين نظر إليها بعينين صافيتين، وقد تبددت عنهما آثار الإعياء وذهول العقل المنهك، كان بمقدوره أن يلحظ أشياء لم يفطن إليها من قبل.
أدرك أن شعر نيف قد ازداد طولا بالفعل. ففي أيام الأكاديمية، كان شعرها قصيرا ومسرحا عادة إلى الجانب. أما الآن، فقد غدت تلك الخصلات الفضية طويلة بما يكفي لتغطي أذنيها، متهدلة في فوضى تناقض بريقها المعهود.
وبدا وجه النجمة المتغيرة أكثر نحولا، وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيها وارتسم على محياها تعبير شاحب مفعم بالكآبة. تلاشت ثقتها المعهودة وحيويتها، ليحل محلهما سكون مضن وفتور منهك.
بدت وكأن داء خفيا ينهشها من الدواخل، محولا ببطء تلك الفتاة التي كانت ذات يوم تشع إشراقا إلى طيف باهت من ذاتها السابقة.
خامر ساني شك بأنه يعرف ماهية هذا الداء.
لقد أدرك منذ أمد بعيد أن لنيفيس هدفا غامضا، وأن تصميمها على بلوغه لم يكن أقل من مخيف. ويبدو أن تلك الإرادة المتأججة في صدرها كانت من القوة بحيث استطاعت أن تقاوم حتى سحر مفترس الروح.
ومع ذلك، فبينما بقيت المشاعر راسخة، تبخرت الذكريات الفعلية. وهكذا، تركت نيفيس تتوق بشغف إلى شيء تجهل كنهه، دون أن تجد سبيلا لفهم طبيعة هذا الشوق العارم أو إخماد لهيبه. وكان هذا الصراع الداخلي الممض هو مكمن دائها وسبب حالتها المزرية.
اقترب منها، وجلس ساني قبالتها، متأملا وجه نيف، وكله أمل أن يرى بريق التصميم الذي لا يلين يشع مجددا من عينيها الرماديتين الصافيتين.
"مرحبا، نيف."
أدارت رأسها نحوه دون أن تنبس ببنت شفة. جز ساني على أسنانه، مستشعرا غضبا أسود يغلي في صدره كالمرجل.
'تلك الشجرة المقيتة!'
"لدي ما أخبرك به."
جاهدًا للحفاظ على هدوئه وكي لا يغفل أي تفصيل، قص ساني على نيفيس كل ما توصل إليه. أخبرها عن رحلته إلى الأجزاء العليا من شجرة الروح، وعن العش العملاق الذي اكتشفه، وعن نسل الطائر اللص الحقير وكيف قضى عليه، وعن تلك الذكرى العجيبة عديمة الرتبة والنوع، وعن السمة الجديدة التي نالها، وتلك الخفية التي اكتشفها بمحض المصادفة.
وأخيرا، كشف لها ساني عن ماهية تلك السمة، وعن الطبيعة الحقيقية لمفترس الروح، وعن المدة التي أمضوها على الجزيرة، وعما طواه النسيان من ذكرياتهم.
عندما فرغ من حديثه، لم يطرأ أدنى تغيير على ملامح النجمة المتغيرة. أشاحت بوجهها بعيدا، وقالت ببرود:
"أرى."
رمش ساني.
"أترين؟ هذا كل ما لديك لتقوليه؟!"
نظرت إليه وارتسمت على شفتيها ابتسامة قاتمة.
"وماذا تريدني أن أقول؟"
فغر فاهه أمامها وهو يشد قبضتيه.
"رائع! يا له من أمر فظيع! أحسنت صنعا يا ساني! قولي أي شيء على الأقل! أيعجزك أن تتصرفي كإنسانة للحظة؟!"
أشاحت بوجهها مجددا، ولم تجب. حدق فيها ساني لثوان، ثم قال بصوت خائر يائس:
"لقد ضللت السبيل ولا أدري ما يتوجب فعله. أخبريني ما العمل يا نيف. كيف لنا أن ننجو بأنفسنا من هذا المأزق؟"
صمتت لبعض الوقت. كاد ساني أن يفترض أن النجمة المتغيرة قد نست بالفعل كل ما أخبرها به، لكنه لمح عندئذ شرارات من وهج أبيض تتراقص في أعماق عينيها.
نشطت نيفيس قدرة سمتها، مستعينة بالألم لتبقي على صفاء ذهنها أطول فترة ممكنة.
أخيرا، نظرت إلى البحر الأسود الآخذ في الانحسار وقالت:
"علينا أن نبني زورقا."
رمش ساني.
"ماذا؟"
تنهدت النجمة المتغيرة وأدارت وجهها لتنظر إليه.
"لقد مكثنا هنا، في هذه الجزيرة، لعدة أسابيع. تطمس عقولنا ببطء بفعل شجرة الروح، محولة إيانا إلى أرقاء لها. إلى الأبد. ومع ذلك، فإن العملية لم تكتمل بعد."
أومأ برأسه، مصغيا بانتباه.
"ما هي الأفكار التي غرستها شجرة الروح في أذهاننا؟ أنها خيرة وعظيمة. وأن ثمارها شهية مرغوبة. وأنه لا ينبغي لنا مغادرة الجزيرة، بل البقاء على مقربة منها ما استطعنا. الفكرتان الأوليان تبدوان منطقيتين تماما. أما الثالثة، فليست بهذه البساطة."
أشارت نيفيس إلى الامتداد الشاسع للمياه السوداء.
"من هذه الفكرة الثالثة، يمكننا أن نستنتج أن تأثير سحر شجرة الروح يضعف مع البعد. وإذا ما باعدنا ما يكفي من مسافة بيننا وبين الشجرة، فإن تأثيرها سينحسر وينكسر."
أشرق وجه ساني حين استوعب منطق نيف. إذن كان هناك مخرج! ما عليهم سوى مغادرة تل الرماد والفرار، دون الالتفات إلى الوراء حتى يزول وسم مفترس الروح ذاك من أرواحهم. ولكن...
"ولكن لم زورق؟ لم لا نهرب سيرا على الأقدام فحسب؟"
خفضت النجمة المتغيرة رأسها وقالت بهدوء:
"محال أن نبلغ القلعة سائرين على الأقدام. مآلنا الموت لا محالة. لقد كنت متغطرسة جدا فيما مضى لأظن... حسنا، لا يهم الآن. سيستغرق الأمر عدة أشهر للتجول في فوهة البركان عبر المتاهة، خاصة الآن بعد أن فقدنا صدى ظلالنا. وكل يوم نمضيه هناك هو يوم إضافي نخاطر فيه بملاقاة ما قد يفتك بنا دون أن نكلف أنفسنا حتى عناء المقاومة."
تنهدت.
"لقد حالفنا الحظ بالفعل للبقاء على قيد الحياة كل هذه المدة. ولكن في نهاية المطاف، ومهما قاتلنا وثابرنا، فقد واجهنا شجرة الروح. كان ينبغي أن تكون تلك هي نهايتنا. أتدرين مدى ضآلة الاحتمال الذي أتاح لنا حتى فرصة خوض هذا الحديث؟"
هز ساني رأسه مترددا.
"أولا، كان علينا أن تضم مجموعتنا صاحبة وحي لترى المستقبل. بعد ذلك، كان لزاما على كاسي أن تصوغ وتنفذ خطة جهنمية في غضون تلك الفترة الوجيزة التي ظلت فيها ذاكرتها لم تمسسها شائبة. وقد انبنت تلك الخطة على حقيقة وجود شخص في مجموعتنا يحمل درعا مستيقظا من المستوى الخامس، شخص مولع بسمات حماية العقل النادرة للغاية، لا أقل ولا أكثر..."
فالمستيقظون ذوو الميل للكشف كانوا قلة نادرة. أما النائمون الحائزون على ذكرى تضاهي كفن محرك العرائس فكانوا أشد ندرة.
"... ثم كان على هذا الشخص أن يعثر على العفريت العظيم ويقتله. وبشكل لا يصدق، كان عليه أن يحصل منه على ذكرى سلالة حقيقية. هل أنا بحاجة لشرح مدى استحالة تصديق هذه السلسلة من الأحداث؟"
هز ساني رأسه ببطء.
أغمضت نيفيس عينيها.
"ما أقصده هو... إذا توجهنا إلى المتاهة، فسنصطدم لا محالة بشجرة روح أخرى تالية، وحتى لو نجحنا بأعجوبة في النجاة من تلك المواجهة، فستكون هناك أخرى، ثم أخرى. عاجلا أم آجلا، مصيرنا الموت."
نظرت غربا، حيث كانت آخر بقايا البحر المظلم تتلاشى خلف الأفق.
"أما إذا بنينا زورقا واستعنا بعصا كاسي لنفخ الأشرعة بالرياح... فإما أن تلتهمنا كائنات الأعماق، أو لعلها لن تلقي لنا بالا البتة. إنها مقامرة في كلتا الحالتين. إما أن نموت، وهو ذات المصير الذي ينتظرنا لو عدنا إلى المتاهة، أو أن ننجو. وإذا نجونا، فسنتمكن من قطع مئة، وربما حتى مئتي كيلومتر في ليلة واحدة. مسافة تفوق بأشواط كل ما قطعناه حتى الآن."
تجمد ساني، مأخوذا بهذا الرقم.
ففي كل الأسابيع التي سبقت معركتهم مع شيطان الدرع، لم يقطعوا ما يزيد على مئة، أو ربما مئة وخمسين كيلومترا من تمثال الفارس العملاق. لقد كان ذلك شوطا كبيرا، خاصة بالنظر إلى وعورة كل خطوة يخطونها عبر المتاهة القرمزية.
أن يقطعوا كل هذه المسافة، وربما أكثر، في يوم واحد... كان ذلك أمرا لا يصدق. ولكن...
'الإبحار... في البحر المظلم؟'
فجأة، سرى في أوصاله برد قارس، وشعر بضآلة شأنه إلى حد مريع.