المجلد الأول - طفل الظل [Shadow Slave]
الفصل 94: معركة في الأعماق
المترجم: [محمد]
____________
لأنه أراد ذلك.
للمرة الأولى، لم يكن قلب ساني غارقًا في الخوف أو اليأس. بل كان ممتلئًا بسخط متحدٍّ. لقد سئم الانحناء تحت وطأة العالم، والتشبث بخيط أمل واهن في الخفاء، والعيش في ظل الخوف الدائم، مستعدًا دائمًا لفعل أي شيء، والتخلي عن كل شيء... فقط ليحيا يومًا آخر. لم يعد ذلك كافيًا.
لقد أراد أن يجعل العالم هو من ينحني لإرادته.
أراد أن يعيش كإنسان، لا كحيوان.
في الأشهر الماضية، تغيّر ساني دون أن يدرك. بطريقة ما، صار ساخطًا على نمط حياته القديم، ذاك الذي كان فيه البقاء على قيد الحياة بأي ثمن هو الهدف الوحيد. لطالما كان السؤال: هل سيبقى حيًا؟ لكن الآن، بات السؤال الأهم:
كيف
ما الفائدة من التحرر من السيادة... إن عاش كعبد؟
صرّ على أسنانه، وغطس في أعماق الهاوية.
احتضنه الماء البارد ككفن دفن. لم يكن يرى شيئًا في ذلك السواد اللعين، واعتمد فقط على حاسة الظل لتوجيهه. لسع الملح الجروح في يديه والعلامات على عنقه، فتوهّج الألم، لكنه لم يُعره اهتمامًا. استخدم قوته العظمى ليدفع جسده أعمق وأعمق داخل الظلمة.
كان يشعر بالمخالب العملاقة تتحرّك في المياه من حوله، تلتف حول حطام القارب المدرّع وتسحبه نحو فمٍ عملاق مختبئ في الأعماق. مرة أو مرتين، اضطر للَّي جسده بشدة ليتفادى واحدة منها.
ومع ذلك، لم تَظهر أيّ علامة على كاسي. وبدأت رئتاه تحترقان.
وغاص ساني أعمق.
عند ذلك العمق، بدأ ضغط الماء يُعيق حركته، وجعل كل دفعة منه أكثر ثقلاً. حتى مع تعزيز جسده بقوة الظل، كان هناك حدٌ لما يمكنه تحمّله. شكّ ساني أنه لولا تأثير نسج الدم، لكان قد اختنق منذ وقت طويل.
والأسوأ... أنه كان يقترب أكثر فأكثر من الجسد الفعلي لذلك الرعب المجهول الذي دمّر سفينتهم. لم يكن قادرًا على الإحساس بهيئته الكاملة بعد، لكن من حجم المجسات المحيطة به، كان من الواضح أن الوحش ليس ببعيد.
ثم لاحظ شيئًا أخيرًا.
على بُعد مسافة قصيرة، كان هناك ظلٌ صغير يصارع ظلًا أكبر وأشرس.
كاسي!
جمع ساني ما تبقّى من قوته وسبح نحو الفتاة العمياء بأقصى سرعة ممكنة. ومع اقترابه، بدأت تفاصيل ما يجري تتضح.
كانت كاسي تُسحب نحو الأعماق، وقد التفّت مجسات أصغر حول جسدها. لا تزال تقاوم، تحاول التحرر، لكن حركتها كانت تضعف مع كل ثانية. كانت تختنق.
مفعمًا بالغضب، اندفع ساني إلى الأمام وأمسك بتلك المجسات، فشعر بلحم زلق ينبض تحت قبضته.
لو خُيّر، لما لمس هذا الشيء أبدًا. لكن القتال تحت الماء كان معقدًا… ولتوجيه أي ضربة فعّالة، كان عليه أولاً أن يجد دعمًا يثبّت منه حركته.
استدعى النصل اللزوردي، وشدّ عضلاته كافة، وشقّ المجس عند النقطة التي كان يلتفّ فيها حول جذع كاسي. كان يعلم أن ضربته لن تُحدث ضررًا بالغًا، وقد تباطأت بفعل مقاومة المياه السوداء الثقيلة.
ومع ذلك، كان نصل سيفه حادًا بما يكفي ليمزق اللحم، فانبثقت سحابة من الدم الداكن من الجرح.
اهتزّ المجس بعنف، وارتدّ جانبًا كما لو أنه يحاول التخلّص من مهاجمه. اندفع ساني في الظلمة، متشبثًا بالحياة، وحرّك نصل تاتشيه إلى أعلى، ممزقًا اللحم الإسفنجي.
لم يتوقع أبدًا أن يقطع المجس بضربة واحدة. لا قوة في العالم كانت لتسمح بذلك. لكن السيوف وُجدت لتخترق… وتقطع.
دفع النصل بعمق، وغاص ساني في لحم الوحش. وعندما أوشك طرف النصل أن يلامس الجرح، غيّر قبضته وسحب التاتشي إلى الأسفل. تمزّق الجسد تحت حد الشفرة، بالكاد يقاوم.
تدفّق الدم بغزارة، وبضربة أخيرة، انقطع المجس تمامًا.
أخيرًا، تمكن ساني من تحويل انتباهه إلى كاسي ليرى حالتها.
وما شعر به جعله يعبس. كانت الفتاة العمياء بالكاد في وعيها.
كان عليه أن يُخرجها إلى السطح فورًا.
أزاح بقايا المجس الممزقة عن سيفه، وأحاط جسد كاسي من جذعه، وشعر ببرودة جلدها من خلال قماش زيّها الرقيق.
حاولت المقاومة بضعف، غير مدركة أن من يحتضنها هو ساني، لا الوحش. ضغطها إلى صدره، ورفع رأسه، لتصطدم موجة من اليأس بجدران عقله.
كانت رئتاه تتألمان، خاليتين من أي هواء. جسده بدأ يفقد قوته ببطء، يتلوّى من ألم الاختناق، ويصرخ شوقًا لهواء نقي. حتى لو كان قادرًا على الرؤية، فإن رؤيته كانت لتبدأ بالتلاشي الآن.
وكان السطح لا يزال بعيدًا.
والأسوأ من ذلك... أن رعب الأعماق قد تنبّه الآن إلى موقعه. كانت مجسات لا تُعد تتحرك بالفعل، تحاصرهما بجدارٍ من اللحم لا يمكن اختراقه. بعد لحظات قليلة، سيتحوّلان إلى لُقم ميتة في أحضان ذلك الوحش البحري المدمر.
لم يكن ساني يعرف كيف سينقذهما.
لكنه لم يكن ليتخلى عنهما.
بقبضته الحرة، شقّ الماء، ممسكًا بكاسي بشدة، وسبح بكل ما أوتي من قوة. كانت المجسات تقترب، تسد كل منفذ. صرّ على أسنانه و…
في اللحظة التالية، تحوّل الماء المحيط بهما فجأة إلى بياض نقي.
غمر ضوء ساطع محيطًا واسعًا من البحر الملعون، طامسًا كل أثرٍ للظلام. كان الانفجار الضوئي شديدًا لدرجة أنه اخترق جفني ساني، وأحرق عينيه.
كأن شمسًا مصغّرة اشتعلت فجأة في الأعماق، حوّلت الهوّة السوداء اللامتناهية إلى فراغ أبيض متلألئ. هاجت تيارات مضطربة من المياه المشعّة، ونشرت الفوضى في أرجاء العالم.
راحت المجسات العملاقة تتشنج وتتلوي بجنون، كما لو كانت تتعذّب من ألم لا يُحتمل. انهار الحاجز الجسدي الذي كان لا يُخترق.
ولم يكن ساني ليفوّت هذه الفرصة.
شدّ جسده المرهق، واندفع نحو السطح، متفاديًا المجسات المتموجة. وبينما الشمس البيضاء الغاضبة تشتعل في الأعماق، بات يرى أشكال المجسات بوضوح، فتحرك أسرع وأسرع، مدفوعًا بيأسه.
كان يعلم أن الصعود بهذه السرعة يحمل خطرًا عليه، لكن لم يكن هناك خيار. لم يتبقَ الكثير من الحياة في جسديهما.
كانا بحاجة إلى الهواء.
وعلى الرغم من أن الوهج الأبيض خبا بعد لحظات، إلا أن ذلك لم يهم. فقد كان ساني قد تجاوز بالفعل حاجز المجسات، يسبح بجنون.
كان يخشى ألا يُفلح. فقد بدأ وعيه يتلاشى، يذوب في قبضة العدم الباردة. رغم معرفته بأنه غارق في الماء، لم يستطع مقاومة رغبة يائسة لفتح فمه والاستنشاق. كانت عضلاته تتشنج، وقد نضب منها الأكسجين منذ زمن.
…ثم، أخيرًا، شقّ ساني السطح برأسه. انفجر بالألم، واستنشق الهواء بشراهة، وهو يسعل بعنف.
كاسي، التي كانت بين ذراعيه، فعلت الشيء نفسه. صدرها يهتز صعودًا وهبوطًا، وهي تبتلع الحياة من الهواء النقي. لم يشعر ساني بقيمة الهواء من قبل كما يشعر بها الآن... ولا حتى حين اختنق بهواء الضواحي المسموم.
لقد نجوا.
حاول أن يستعيد رباطة جأشه، ونظر حوله. كان الضوء الأبيض قد اختفى منذ مدة، كأنه لم يوجد من الأساس. عاد الظلام الدامس يبتلع العالم.
لكن... بعيدًا في الشرق، كانت أولى خيوط الفجر تلوح خلف الأفق.
أحكم ساني قبضته على كاسي، وأبصر اليد الحجرية العملاقة... ثم سبح في اتجاه الضوء.
_____
صورة من أحد القراء اساني وهو ينقذ كاسي: