عادت ليلى إلى شقتها في السادسة صباحًا، الشمس لم تشرق بعد، والبرد في الشقة الخالية كان يلسع جسدها من تحت الملابس الرخيصة التي لم تغيرها منذ الأمس، لم يكن لديها طاقة لتبديلها أصلًا، فتحت الباب ببطء، أغلقته خلفها دون حتى أن تنظر، وسقطت مباشرة على الأرض، لم تمشِ خطوة واحدة، كأن قدميها لم تعودا تملكان الحق في حمل جسدها، وضعت رأسها على ركبتها، تنفست ببطء، ثم بكت، ليس من الخوف، بل من الذل، ذل أن تُعامَل كمجرمة وهي لا تملك حتى ثمن محامٍ يثبت أنها لا تعرف معنى كلمة "احتيال إلكتروني"، بكت حتى جفّ حلقها، ثم سقطت في صمتٍ قاتل.مرت الساعة تلو الأخرى، دون أن تتحرك، حتى رن الهاتف، رقم مجهول، لم تفكر كثيرًا، فقط أجابت، جاءها صوت أنثوي هادئ، لكنه يحمل شيئًا غريبًا من البرود والسلطة: "أنتِ ليلى يوسف؟"، ردت بصوتٍ مبحوح: "أيوه... مين؟"، ردّت المرأة: "أنا من جهة مهتمة بوضعك، وسمعنا عن التحقيق اللي حصل، عندنا عرض ممكن يغيّر وضعك تمامًا... تحبي تسمعي؟"، صمتت ليلى، بين الاستغراب والتوجس، ثم قالت: "جهة؟ أنهي جهة؟"، أجابت المرأة ببرودٍ واضح: "مش مهم الاسم، المهم إننا بنشتغل مع ناس محتاجين بداية جديدة... بفلوس كويسة... وبدون أوراق"، لحظتها عرفت ليلى أن المكالمة هذه ليست عادية، ولا الجهة التي تتحدث منها المرأة جهة "قانونية"، لكنها لم تُغلق الخط، شيء داخلها أراد أن يسمع، ربما الفضول، وربما اليأس، فقالت المرأة: "لو عايزة تسمعي، نتقابل النهارده بالليل في كافيه عند شارع النصر، عندك استعداد؟"، أجابت ليلى بعد لحظة: "حاجي".أغلقت الهاتف، وظلت تنظر إلى السقف، قلبها ينبض بشيء لا تستطيع وصفه، خوف؟ لا... بل شيء أشبه بالخدر، وكأنها تعرف أنها تقترب من لحظة تغير حياتها للأبد، لكنها لا تملك رفاهية التراجع.في السابعة مساءً، كانت جالسة في الكافيه المطل على شارع النصر، ترتجف من البرد والقلق، ترتدي ملابس بسيطة، شعرها مربوط على عجل، ووجهها خالٍ من أي زينة، دخلت امرأة ثلاثينية، أنيقة لدرجة مربكة، عطرها فخم، وملابسها تقول إنها ليست من عالم ليلى، جلست بثقة أمامها، وقالت دون مقدمات: "أنا سهى، ودي فرصتك عشان تغيري مصيرك"، صمتت ليلى، ففتحت المرأة حقيبة جلدية ووضعت ظرفًا بني اللون أمامها: "فيه هنا 10 آلاف، مقدمة، تقدري تاخديهم وتمشي، أو تسمعي للآخر وتقرري"، سألتها ليلى بصوت خافت: "مقابل إيه؟"، قالت سهى بهدوء: "تشتغلي معانا، مش شغل رسمي، لكن مرتب، وضمان، ومفيش إجبار على أي حاجة"، سألتها ببراءة محطمة: "يعني... شغل إيه بالظبط؟"، قالت المرأة بهدوء شيطاني: "مرافقة لرجل أعمال، اسمه يوسف المنسي، بيحتاج بنت محترمة تظهر معاه في المناسبات، حفلات، سفر، صور... بس، مفيش حاجة تانية، العلاقة باختيارك، وكل حاجة قانونية... ولو عجبتيه، ممكن يشغلك عنده بشكل دائم، مرتب محترم، شقة، عربية، مستقبل"، بقيت ليلى تنظر إليها، لا تعرف إن كانت تحلم أم تحترق، عشر سنوات من التعب، لم تجمع عشرة آلاف جنيه، والآن تُعرض عليها هكذا؟ هل هو فخ؟ أم فرصة؟صمتت طويلاً، ثم قالت: "ماشي... أحتاج أفكر"، ردّت سهى بابتسامة صغيرة: "خدي الظرف، وفكري، لكن متأخريش، الفرص مش دايمًا بتيجي"، ثم غادرت كما جاءت، تترك خلفها نارًا تشتعل في قلب ليلى.في تلك الليلة، لم تنم، ظلت تدور في الشقة الصغيرة كأن الجدران تخنقها، المال فوق الطاولة، يتحداها، يقول لها: "خدي"، وترد روحها الضعيفة: "بأي تمن؟"، استدعت ذكريات أبيها، وجهه، صوته، ضحكته، يده التي كانت تمسح على رأسها وتقول: "مافيش حاجة أغلى من كرامة البنت يا ليلى"، لكنها فجأة صاحت: "أبويا مات! وكرامتي مش بتدفع الإيجار!"، ثم جلست على الأرض تبكي مرة أخرى، ولكن دموعها هذه المرة لم تكن بكاء، بل تفريغًا نهائيًا لمقاومة قديمة، كانت تنهار تمامًا، وحين اقترب الفجر، حملت الهاتف، واتصلت على الرقم.قالت: "أنا موافقة".في اليوم التالي، تم تحديد لقاء رسمي في مكتب بشارع التسعين، مبنى زجاجي فاخر، صعدت ليلى بخطى مترددة، فتحت لها سكرتيرة أنيقة الباب، وقادتها إلى مكتب كبير حيث كانت سهى في انتظارها بابتسامة واثقة، قالت لها: "النهاردة بس تعارف، يوسف المنسي هيشوفك، ولو عجبتيه، تبقي في حسابه من النهاردة"، جلست ليلى على كرسي ناعم كأنها جالسة على نار، قلبها يقرع أبوابها بقوة، بعد دقائق دخل رجل خمسيني، طويل، مهيب، وسيم برزانة الكبار، وقف أمامها ونظر إليها نظرة تقييم دقيقة، ثم قال: "اسمك؟"، ردت: "ليلى يوسف"، قال بابتسامة جانبية: "أنتي أحسن من الصور"، ثم جلس وبدأ يتحدث بلطف غير متوقع: "أنا مش محتاج واحدة تضحكلي وبس، أنا عايز وجه محترم أقدر آخده معايا مناسبات وسفر، مش عايز فضايح، ولا لعب أطفال... بتقدري تلعبي الدور ده؟"، نظرت إليه ليلى وقالت: "لو الدور محترم... أقدر"، ضحك وقال: "أنتي شجاعة"، ثم أشار إلى سهى وقال: "ابتدوا من بكرة".بدأت ليلى مرحلة جديدة تمامًا، كانت البداية لقاءً في فندق خمس نجوم، ثم مناسبة دبلوماسية، ثم حفلة في منتجع بالجونة، كل شيء كان جديدًا: المكياج، الملابس، الكعب العالي، التصوير، الموسيقى، نظرات الناس، وابتسامات الرجال، لكنها كانت تتعلم بسرعة، تراقب، تقلد، وتضبط نغمة صوتها، حتى أصبحت "نسخة" جديدة من ليلى، نسخة مصقولة، هادئة، جميلة، ولكنها... فارغة.مرّت أسابيع، لم يطلب منها يوسف شيئًا خاصًا، فقط الظهور، والكلام اللبق، وكان كريمًا معها في كل شيء: شقة فاخرة مفروشة، حساب بنكي، بدل ملابس، حتى أنها بدأت تنسى أنها كانت على وشك السقوط في السجن، لكن داخلها كان شيئًا يتآكل، كل ليلة، حين تنزع المكياج وتنظر إلى نفسها في المرآة، كانت تسأل نفسها بصمت: "أنا بقت إيه؟"، حتى جاء ذلك اليوم.اتصلت بها سهى مساءً وقالت: "يوسف عاوز يشوفك لوحدك... دلوقتي"، سألتها ليلى: "لوحدي؟ فين؟"، قالت سهى بهدوء: "في جناحه في فندق الفورسيزون"، سكتت ليلى، قلبها ارتجف، قالت: "يعني... اللي كنت خايفة منه جه؟"، ردّت سهى: "مفيش حاجة بالإجبار، لكن دي اللحظة اللي بتفرّق البنات اللي بتكمل... عن اللي بترجع من نص الطريق"، أغلقت ليلى الهاتف، جلست على السرير، تفكر، عشرون دقيقة وهي تحدق في الجدار، ثم وقفت، غيّرت ملابسها، وذهبت.حين فتحت باب الجناح، كان يوسف واقفًا عند الشرفة، يشرب كوب نبيذ أحمر، استدار نحوها، وقال بهدوء: "تعالي"، جلست في الصالة، لم تقترب، هو اقترب، جلس على الكرسي المقابل، وسألها بهدوء: "عارفة أنا عايزك ليه؟"، ردّت بصوتٍ خافت: "أظن"، قال: "مش عايز أستغلك، ولا أؤذيكي، لكن محتاج شريكة، على طريقتي... بعقليتي... تكون جنبي"، نظرت إليه، شعرت بشيء من الاحترام، لكن شيئًا آخر كان أعمق... خوف؟ لا، بل إدراك أنها وصلت إلى نقطة اللاعودة، وأن القرار الآن سيكون خاتمة كل ما قبلها، أو بداية ما بعدها، أغمضت عينيها، تذكرت أباها، البيت القديم، الجوع، الذل، الغرفة الباردة، تذكرت وجهها وهي تبكي على الأرض، ثم قالت: "أنا آسفة... مش قادرة"، وقف يوسف، نظر إليها طويلًا، ثم أومأ برأسه وقال: "براحتك... لكن الطريق ده ليه قوانينه"، غادرت ليلى الجناح وهي تمشي بثبات، رغم أن قلبها كان يصرخ، وفي الخارج، جلست على رصيف الفندق، والهواء البارد يضرب وجهها، أمسكت هاتفها، نظرت إلى صورتها في الشاشة، ثم همست: "أنا لسه ليلى... لسه فيّا حتة من البنت اللي كانت بتحلم تعيش بكرامة"، ثم قامت... ومشت.

2025/04/26 · 7 مشاهدة · 1050 كلمة
نادي الروايات - 2025