الفصل الثالث: بين الرحيل والبقاء
مرت ثلاثة أيام لم تخرج فيها ليلى من شقتها، لم تتصل بأحد، ولم ترد على أي مكالمة من سهى أو حتى يوسف، كانت تنام لساعات طويلة، تأكل بصمت، وتحدق في سقف الغرفة كأنها تسأل الله: "أنا عملت إيه؟"، كانت تشعر بشيء لم تفهمه: مزيج من الانتصار والخسارة، كأنها كسبت نفسها لكنها خسرت كل ما حولها، كانت تعرف أن سهى لن تنتظر طويلًا، وأن يوسف لن يقبل الرفض بصمت، لكنها قررت تختفي مؤقتًا، تبحث عن الطريق الأصعب: أن تعود "ليلى" من جديد.في اليوم الرابع، نفد ما في الثلاجة من طعام، وما في الحقيبة من مال، فاضطرت للنزول، ارتدت عباءة بسيطة، غطت شعرها، وخرجت كأنها خارجة من سجن اختياري، مشيت في الشوارع القديمة، الشوارع اللي كانت تعرفها من أيام ما كانت تشتغل في محل ملابس صغير، دخلت نفس المحل، لكنها وجدت وجوهًا جديدة، وحين سألت عن "مدام ناهد"، أخبروها أنها ماتت من سنة، شعرت أن الزمن يضربها صفعة أخرى، وكأن كل باب تحاول الرجوع إليه مغلق، خرجت من المحل ووقفت أمام الباب، ثم فتحت حقيبتها، وأخرجت الرقم القديم لصديقة قديمة: "دعاء"، ترددت، ثم اتصلت.ردّت دعاء بصوت متفاجئ: "ليلى؟! أنتي فين؟ مختفية ليه؟"، قالت ليلى بصوت منخفض: "ينفع أشوفك؟"، ردت فورًا: "تعالي، أنا في الورشة بتاعة أخويا، جنب محطة مترو المعادي"، ذهبت ليلى، وهناك كانت المفاجأة.دعاء لم تعد نفس الفتاة التي تعرفها، كانت ترتدي حجابًا أنيقًا، ومكياجها خفيف، تضحك برزانة، وتجلس في مكتب صغير داخل الورشة التي يديرها أخوها، وحين رأت ليلى، احتضنتها بقوة وقالت: "وحشتيني... كنت فاكراك سافرتي"، نظرت إليها ليلى وقالت بابتسامة حزينة: "سافرت... بس جوا نفسي"، جلستا في ركن صغير من الورشة، وبدأت ليلى تحكي، ليس كل شيء، لكنها قالت ما يكفي ليفهم القلب الطيب اللي في دعاء أن صاحبتها تعبت، وانكسرت، وضاعت، وكانت بتدور على أي خيط يرجّعها، ردّت دعاء بصدق: "اسمعي... أنا مش هسألك عملتي إيه، ولا ليه... بس اللي أعرفه إنك لسه تقدري تبتدي من جديد، أنا اشتغلت هنا بعد طلاقي، وكنت زيك، حاسة إني اتحرقت، بس ربنا ما بيسيبش حد"، سألتها ليلى: "يعني تفتكري لسه فيه باب يتفتح؟"، ردت دعاء بعين تدمع: "طول ما النفس طالع... فيه باب".عرضت عليها دعاء إنها تشتغل معاها في حسابات الورشة، مش مرتب كبير، بس بداية، وافقت ليلى، وبالفعل بدأت من اليوم التالي، الحياة رجعت تمشي ببساطة: شغل من ٩ لـ٥، أكل خفيف، أوقات صمت، ونوم بضمير مرتاح، لكن الماضي... ماكانش نايم.في أحد الأيام، وهي خارجة من الورشة، وجدت سيارة سوداء فخمة تقف أمام الباب، ومن الزجاج، رأته... يوسف، ينظر لها نظرة ثابتة، لم تتحرك، لكنه أشار لها أن تركب، تجاهلته، مشت للمترو، لكنه لحق بها، فتح باب السيارة ونزل، وقف أمامها وقال: "مش كده يا ليلى... ماينفعش تختفي كده، مش أنتي اللي تكسري الكلمة"، ردت ببرود: "أنا حرّة، ولا في عقد بينّا"، قال بهدوء: "بس فيه اتفاق، فيه فرصة كنتي تقدري تبقي فيها حاجة كبيرة، ليه ترمي كل ده؟"، قالت: "مش عايزة أبقى كبيرة في نظر الناس وأنا صغيرة في نظري"، نظر لها طويلاً، ثم قال: "أنا اللي غلطان، افتكرتك زي الباقي، بس واضح إنك غير"، ثم أخرج ظرفًا صغيرًا من جيبه وقال: "آخر حاجة مني... مش فلوس، دي ورقة توظيف في شركتي، شغل إداري، بمرتب حلو... لو لسه عايزة تعيشي بكرامة"، نظرت للورقة، ثم إليه، قالت: "كرامتي مش محتاجة ورق، بس شكراً"، واستدارت ومشت.مرت شهور، وتغيرت أشياء كثيرة: ليلى أصبحت أكثر هدوءًا، أكثر وعيًا، وأكثر صلابة، لم تعد تبكي بسهولة، ولم تعد تصدق الوعود، كانت تستيقظ كل صباح بشعور بسيط لكنه قوي: "أنا كملت، رغم الكسر"، حتى جاء اليوم الذي عادت فيه إلى شقتها القديمة لتجمع بعض الحاجات، وجدت على الباب ظرفًا أبيض، فتحته، وجدت فيه صورة... صورتها مع يوسف في الحفلة الأولى، ورسالة قصيرة: "الفرص ما بتيجيش كتير... لو غيرتي رأيك، الرقم هو هو"، شعرت بشيء يتسلل لها، خوف؟ لا... إحساس إن الماضي بيراقبها، وأن العالم ده ما بيقفلش أبوابه بسهولة، لكنها قررت وقتها إنها تحرق الصورة، وترجع تمشي، حتى لو الطريق طويل، لأنه طريقها هي، مش بتاع حد تاني.