الفصل الواحد والثلاثين – رحلة الانتقام والنهاية

مرّت ثلاث سنوات منذ آخر لقاء حاسم في الأراضي المركزية، وكانت الأيام تتخللها معارك وصيد لا ينتهي. تغير شيرو كثيرًا خلال هذه الفترة؛ فقد تحول من تنين شاب يبحث عن الحقيقة إلى صياد شرس، لا يرحم في مواجهة أعدائه الضعفاء والوحوش التي تتربص في الزوايا المظلمة للعالم. أصبح يخرج في ليالي مظلمة، يحلق بذكاء وبسرعة لا يُمكن لأعدائه مواكبتها، يستهدف الصيادين المبتدئين والمتقدمين من الرتبة البرونزية والفضية، الذين ما زالوا يعتمدون على أسلحتهم التقليدية والسحر البسيط. لم يكن هدفه مجرد البقاء، بل كان يسعى لجمع الخبرة والقوة، ليضيّع بهما بصمته في معارك الانتقام.

في إحدى الليالي، حيث كانت السماء تخيم عليها غيوم ثقيلة وثابتة، انطلق شيرو وحده على ارتفاع منخفض فوق سهول الأراضي المركزية. كانت رياح الشتاء تعصف بخفة، تحمل معها أصواتاً خافتة من معارك بعيدة، وأصوات دماء تذوب بين الصخور. لم تكن هذه الليلة سوى واحدة من ليالي الانتقام التي عاشها، لكنه كان يشعر اليوم بمرارة خاصة. ففي أعماق نفسه، ومع كل سهمٍ سُقط في جسد صياد مبتدئ، كانت تزداد ذكريات الماضي، وتنبض في قلبه نبضاتٍ حارقة من الحقد.

حينما وقف شيرو على حافة وادٍ مهجور، تعمق في صمته، وبدأ يتحدث مع نفسه، صوته يصدح وسط الرياح الباردة:

"كنت إنساناً يوماً... إنساناً ضعيفاً، يخضع لنفسه ولمصلحة الآخرين. لقد عانيت من جشعهم وأنانيتهم، من خوفهم المتواصل وحقدهم الذي لا ينتهي. أتذكر كيف كنت أحلم بالحرية، وكيف كنت أبحث عن مكان يليق بكرامة الإنسان... لكن الآن، لقد أصبح كل شيء مختلفاً. أنا تنينٌ، لا أقبل أن أكون مجرد فريسة في هذا العالم القاسي."

تلك الكلمات كانت كالسهم تخترق أعماق قلبه، فتذكره بألم سنوات مضت، حينما كان البشر يظلمون ويستغلون بعضهم البعض، ويتركون القلوب لتنهار تحت وطأة الأنانية. ومع كل ذكرى من تلك الأيام، كان شيرو يشعر باندفاع غضب لا يُمكن كبحه، يقلب في داخله نار الانتقام.

وفي إحدى المعارك، واجه شيرو مجموعة من الصيادين الضعفاء الذين كانوا يترصدون في زوايا الغابة. لم يكن هدفهم هو الدفاع عن أرضهم، بل كانوا مجرد جحافل تتبع أوامر كبار القادة في إمبراطورية سولاريس. انطلقت المعركة سريعاً؛ استخدم شيرو سرعته ونَفَسه الناري بكل شراسة، وقضى على كل من يقف في طريقه دون هوادة. كانت تلك اللحظات عبارة عن رقصة قاتلة، حيث كانت الأسهم السحرية تتطاير، وتتساقط أصوات النداءات الأخيرة لمن ماتوا في تلك المعركة. ورغم أن الأثر الجسدي كان واضحاً على جسده؛ جروح عميقة وحروقٍ لا تُشفى بسهولة، إلا أن روحه كانت مشتعلة بعزم لا يلين.

بعد انتهاء المعركة، جلس شيرو وحده على صخرة كبيرة، ينظر إلى السماء التي تبدو وكأنها تبكي معه دموع الليل. رفع رأسه ونظر إلى جراحه، وكل ندبة تحكي قصة معركة، وكل جرح يروي مأساة من خيبات أمل. فكر شيرو في تلك اللحظات التي كان فيها بشرياً؛ كيف كان يحلم بالحب والحرية، وكيف خُذل من قبل أنانيّة البشر، وكيف تركت تلك التجارب أثراً لا يُمحى في روحه. هكذا تحدث مع نفسه:

"يا ليتني لم أعد إنساناً. لقد خلّفت تلك الأيام بصمة لا تُنسى في قلبي، وتركوا فيّ جروحاً لن تُشفى مهما مرّ الزمن. لم يعد الإنسان يستحق الرحمة. إنهم أخوان من جنس واحد، لكنهم يخونون بعضهم البعض، ويسعون وراء مصالحهم على حساب الآخرين. سأتركهم خلفي، ولن أعود أبدًا إلى ذلك العالم الذي ملأته الأنانية والخيانة."

مع مرور الوقت، بدأت إصابات شيرو تندمل ببطء، لكن الجروح النفسية ظلت عارية، تُذكره بوجوه ماضية وصورٍ ضائعة. في إحدى الليالي الهادئة، وبعد صيدٍ طويل استنفد كل قواه، قرر شيرو أن يعود إلى مكان شهد وفاة رفاقه. كان ذلك المكان على حافة الأراضي المركزية، حيث انطلقت رصاصات السهام وتُركت آثار الدمار على كل حجر. كان المكان يشهد على معركة لم تُمحَ من الذاكرة، ومع كل خطوة يخطوها هناك، كانت روحه تعاود استرجاع صور أصدقائه الذين سقطوا.

جلس شيرو بين أحجار مهدت رفاقه الموت، وعيناه تلتقطان كل تفصيل؛ الرائحة الكريهة للدماء المختلطة بالغبار، والهدوء الثقيل الذي خيم على المكان بعد الضوضاء. في صمت ذلك المشهد المروع، تحدث شيرو مع نفسه مجددًا:

"لقد ماتوا هنا، كل واحد منهم كان بمثابة شمعة أضاءت ظلمة هذا العالم، والآن بقيتُ وحدي. ليس مجرد تنين، بل إنسانٌ كان في يوم من الأيام يعيش بأمل، لكن الأمل مات مع الخيانة والأنانية. سأحمل ذكراهم، وسأحول كل ألم إلى قوة، وكل دمعة إلى نيران تُضيء طريقي نحو العدالة."

تلك اللحظة كانت بمثابة نقطة تحول حاسمة؛ فقد أدرك شيرو أن معركة الانتقام لم تنتهِ بعد، وأنه رغم كل ما مرّ به، يبقى ضعيفًا في مواجهة القوى البشرية المتنامية حول حدود الأراضي المركزية. فقد رأى بنظره البشري أن تلك الأراضي لم تعد آمنة، وأن جداراً من الصيادين يحيط بها، يحرسها بحزم، وكأنهم يشكلون حصناً يحمي أسرارهم من كل من يحاول الاقتراب.

شعر شيرو بالغضب يتصاعد فيه، وكأن كل نبضة في قلبه تنادي بالثأر. لم يعد يتحمل فكرة أن يبقى في عالمٍ يُحتقر فيه التنين، عالمٍ يُعتبر فيه البشر أنفسهم أعلى منزلة. وبعد ساعات طويلة من التأمل والحديث الداخلي مع نفسه، قرر شيرو أخيرًا أن الوقت قد حان للمغادرة.

وقوفه على حافة الأراضي المركزية كان لحظة مؤلمة؛ فقد كان ينظر إلى الحدود المحصنة، حيث كانت صفوف الصيادين تتمايل تحت قيادة أمراء الحرب البشرية. أخذ نفساً عميقاً، وأخذ يحدق في تلك الجدران التي تفصل بين عالمه والعالم الذي يحكمه البشر.

همس لنفسه بصوتٍ مكسور ولكنه حازم:

"لن أعود إلى ذلك العالم. لقد أصبحتُ ضعيفًا أمامهم، أو ربما لم أكن يومًا قويًا بما يكفي للمواجهة. سأغادر هذه الحدود، وسأذهب نحو أرض الظلال، حيث سأجد القوة التي أحتاجها، وسأعيد بناء نفسي بعيدًا عن أنظار هؤلاء الذين لا يرحمون."

وفي نهاية تلك الليلة الباردة، وبينما كان القمر يُضيء المكان بنوره الخافت، انطلق شيرو وحده؛ ترك وراءه الأراضي التي شهدت معاناة وألم رفاقه، متجهًا إلى مملكة الظلال. كان ذلك القرار بمثابة فصل جديد في حياته، فصلٌ من الانطواء والبحث عن الذات، وفصلٌ يعلن بداية حرب داخلية، حربٌ بين الضعف والقوة، بين الألم والانتقام.

بينما كان يطير نحو أفق مجهول، كانت دموعه تختلط بدماء الجراح التي لا تُشفى، وحكايات الماضي تُهمس في أذنيه: "سوف تجد قوتك في الظلام، يا تنين، ولا أحد يستطيع أن يمحو إرثك."

وهكذا، انقطع صدى الماضي خلفه، وانطلقت رحلة شيرو إلى عالم لم يره من قبل؛ عالم حيث تتحكم الظلال في مصير التنانين، وحيث تبدأ قصص الانتقام من جديد.

نهاية الفصل الواحد والثلاثين.

2025/03/26 · 2 مشاهدة · 979 كلمة
GK TV
نادي الروايات - 2025