بعد مضي ستة سنوات، كانت الشمس تلقي بأشعتها الذهبية على معبدٍ عتيق، لا يزال شامخًا بقدم الزمن الذي مر عليه. في هذا المكان المتواضع، وُلدت الحكمة وتراكمت التجارب. كان المعبد، رغم بساطته، يمتلك هالة من السلام والسكينة بين جدرانه المبنية من الحجر الرمادي، يبدو كما لو كان يحتضن روحًا خفية تسبح في أرجائه.
في أحد الأركان الهادئة للمعبد، كان الشاب مونجيرو جالسًا على حجرٍ أملس، ممسكًا بعصا صغيرة يرسم بها خطوطًا عشوائية على الأرض الترابية. لم يكن مونجيرو شابًا عاديًا، فقد كانت ملامحه تفصح عن عالم قديم يحمل في ثناياه قصص الاسياد والرجال. كان شعره الأصفر الناعم مثل الشمس، يصل شعره الى رقبته وخصلت شعر التي تخرج من منتصف شعره، متعشبكًا كأعشاب برية يبحث عنها الريح. لكن ما كان يجذب الانتباه حقًا هي عيناه الحمراوان، أشبه بجمرتين من نار تشتعلان في ظل الفجر، ليس بالمقتل لكنه ليس ضعيف، يعيش في المعبد كأنه جزء أصيل من طبيعته الهادئة.
كانت هناك فتاة تتجول في غابة المعبد، تقترب بحذرٍ وخطواتٍ هادئة، حيث كان أمامها مشهدٌ آسر. شعرها الأبيض القصير كان مرتبًا، وأخصلاه تتراقص في نسيم الصباح بلطفٍ كأنها أوراق الزهور النادرة. كانت عيناها زرقاوين كألماس، تلمعان ببريقٍ نادر يعكس بساطة وسرٍ غامضٍ.
كان اللقاء بينهما محض صدفةٍ. الفتاة، التي تدعى روسلين، كانت تبحث عن مواد علاجية نادرة، حيث دفعتها الغابة نحو أعماق الأسرار المخفية. وبصوتٍ يشبه همس الريح، استوقفتها نظرات مونجيرو، فنمت بينهما لحظة تجمدت فيها الزمن.
المكان حيث التقيا كان مغمورًا بنور الشفق، أشعة تخترق الغابة لتلقي بظلال ذهبية على الأرض الرطبة. حديث العصافير واختلاط الرياح بأوراق الشجر كان يتمايل كأوتار موسيقية، تعزف لحن لقاء غير متوقع.
بدأت روسلين بالحديث، صوتها كان مشبعًا بالقوة والحنان معًا، كأنها تحمل إرث نساء حكيمات وعاشقات في آن واحد. قالت: "من أنت يا صاحب العيون المتقدة؟ ماذا يخبئ لك القدر في جعبة الزمن؟"
ابتسم مونجيرو، ابتسامةً تفصح عن جرأةٍ وتحد، وقال بلهجةٍ تفيض بشجاعة مزدوجة بين حكمته وبساطته: "أنا مونجيرو، عاشق الضوء وسط ظلال الماضي. وأنتِ، يا حاملة البياض والصمت، ماذا تبحثين في هذا المكان الذي لا يعرفه إلا من دخل في قلبه السلام وخرج منه كل شيء؟"
حين كانت الكلمات تتبادل بينهما، ظهر على أفق السماء صراع جديد. كانت علامة صغيرة تشير إلى وجود تهديد ملموس. فجأةً، ظهر شيطان ضعيف، لكن برودته وتجمد عينيه كشفت طبيعته الشريرة. حاول الشيطان أن يقترب، لكن الفتاة كانت مستعدة لمواجهة التحديات.
تحولت الحركة في المكان إلى مشهدٍ مهيب، حيث بدأت الفتاة بتوجيه ضربات رشيقة نحو الشيطان. كان جسدها مثل الرياح.
ورغم أن الشيطان كان ضعيفًا، إلا أن عزيمته كانت تعكس رغبة جهنمية في الفتك والتدمير. بينما كانت الفتاة روسلين تتنقل برشاقة تامة، مثل نسمة هواء تتسرب بين أصابع الزمن، وأبرقت ضرباتها مضيئة كبرق يبرق في ليلة مظلمة.
ازداد توتر المكان، وتحولت الغابة المحيطة بالمعبد إلى ساحة معركة مهيبة. كانت الأشجار الكبيرة تبدو كأنها أعمدة شاهقة في معبد طبيعي، كل واحدة منها تروي حكاية عمر زاخر بالتجربة والصمود. الأوراق الجافة التي كانت تحت أقدامهم تكسرت كأنها تهمس بأسرار دفينة.
في حين أن يدها اليمنى كانت تتحرك كالكالسيف الحاد، كانت عين مونجيرو تتابع تفاصيل الهجوم والدفاع بدقة متناهية، مثل رسام يدرس لوحة قبل أن يضع فرشاه عليها. لم يكن يتكلم، ولكن من أعماق صمته كانت تنبع هالة من الفهم العميق.
تراجع الشيطان خطوةً، وكان وجهه يحمل ملامح الغضب واليأس ممزوجة، لكنها كانت اللحظة المناسبة لمونجيرو للانخراط في القتال. حمل عصاه الصغيرة، رغم أن ظاهرها يخفي قوتها الحقيقية، وظل يراقب تحركات الشيطان، مستعدًا للضرب في أي لحظة.
في لحظة حاسمة، تلاقى نظرات مونجيرو بالشيطان، وكأنهما يختبران عزيمة الآخر. بدا مونجيرو كالنسيم الهادئ الذي يخفي خلفه عاصفة لا تعرف الهوادة. تحرك بحركةٍ سريعة، وحاول الشيطان مواجهته، لكن مونجيرو أنهى القتال بحركة مباغتة، مستخدمًا قدراته الخاصة، حيث أشرق منه ضوء كما لو كان شروق الشمس وسط الظلام الدامس.
مع اختفاء الشيطان، عادت السكينة لتعم المكان وكأن شيئًا لم يكن. استنشقت روسلين نفحة هواء عميقة، ثم رمقت مونجيرو بنظرة تحمل بين ثناياها الامتنان والتقدير.
"لم أتوقع أنك تحمل هذا القدر من القوة، يا مونجيرو," قالت بهمس، رغم أن صوت كلماتها كان يعج بهيبة المعركة التي شهدتها.
مونجيرو ابتسم، لكن الابتسامة لم تكن ابتسامة نصر، بل كانت تعبر عن فهم عميق للمكان والدور الذي يكتب لهما في سجلات القدر. قال بصوت هادئ ولكن حازم، "العالم مليء بالأسرار. نحن نعيش لنسبر أغوارها ونحمي ما يمكن حمايته. يبدو أن لقاءنا هذا ليس مجرد صدفة، روسلين ."
المعبد كان شاهداً، الحجر الرمادي والبني تحت أشعة الشمس الذهبية، يحمل في طياته ذكريات لا تعد ولا تحصى. الشجر من حولهم، الذي شهد لحظات الشر والخير معًا، عاد ليغني أغاني السلام مجددًا، حاملاً في أوراقه قصص شجعانٍ سبقوا هؤلاء الحاضرين.
تلك اللحظة كانت بداية لتآلف الروح بين مونجيرو ودقات الشيطان، تتشابك حياتهما كما تتشابك أغصان الشجر، لتكمل رحلة نحو اكتشاف معنى الوجود ودورهم في حماية ما تبقى من الحكمة القديمة، وسط عالم يتجدد بلا توقف.
دخل مونجيرو وروسلين المعبد القديم، كان الصمت هو سيد الموقف، كأن المكان يحبس أنفاسه ليستقبلهم. الحجر الرمادي والبني تزين بنقوش قديمة، كل نقش يحكي حكاية أجيال مضت، كأنها صفحات كتاب مفتوح للعالم، لكنها مغلقة على من لا يملك مفتاح الحكمة.
جلست روسلين على وسادة منسوجة بعناية، لونها الزمردي يتيح جلوسها براحة، بينما مونجيرو وقف بجانبها، ينظر إلى تمثال قديم لراهب يجلس في تأمل، كأنه همس الزمان.
بدأت روسلين الحديث، بصوتها الناعم الممزوج بالقوة قائلة: "مونجيرو، هل تعتقد أن السلام هو غياب الحرب فقط؟"
ابتسم مونجيرو، ابتسامة تحمل حكمة الأجداد وطبيعتهم البسيطة، وقال: "السلام، يا روسلين، هو أكثر من مجرد سكون الحروب. إنه حالة من الوعي الروحي والتصالح مع الذات. إن السلام هو كالشمس التي تلقي بظلالها على الحياة، تضحك وتبكي، لكنها دوما حاضرة، تلهمنا بالدفء وبالأمل."
نظرت إلى تمثال الراهب العتيق أمامها، فكرت للحظة في كلماته ثم قالت: "ولكن، ماذا عن الموت؟ أليس هو نقيض الحياة وهل يوجد حقًا مكان تتعايش فيه الحياة والموت بسلام؟"
أجاب مونجيرو، وعيناه الحمراوان تتوهجان كجمرتين بألق حكيٍ، وقال: "الموت يا روسلين، ليس نقيض الحياة، بل جزأ منها، مثلما الليل ليس نقيض النهار، بل جزء من دورة الزمن. وفي المعبد القديم، نتعلم أن الموت هو عبور، باب يفتح لنعود حيث بدأنا. الحياة والموت يتشابكان كخيوط في نسيج معقد وعميق، يكملان بعضهما البعض."
صمتت روسلين لبضع لحظات، كأنها تتأمل كلامه بعمق، ثم قالت: "عندما نظرت في عينيك أول مرة، رأيت قوة وسكينة في نفس الوقت. كأنك تحملان حكمة تتجاوز سنوات عمرك. من أين تأتي بهذه القوة؟"
ابتسم مونجيرو ابتسامة خفيفة، كأنها نظرة تغمرها قصص الماضي وحكمته، ثم قال: "القوة الحقيقية، يا روسلين، ليست في العضلات أو في القوة الجسدية. هي تأتي من فهم النفس والعالم، من قبول الضوء والظلام معًا. الروحانيات التي تعلمتها هنا، في هذا المعبد، تعلمنا كيفية مواجهة الشدائد بشجاعة، وكيفية أن نكون نبعًا للسكينة للآخرين."
هزّت روسلين رأسها مؤيدًة، وأضاءت عيناها الألماسيتيان كأنها تعكس نور الكلمات التي سمعته من مونجيرو. "أشعر كما لو أنني وجدت جزءًا من إجابة كانت تختبئ في أعماقي. هذا المكان يمتلك حضورًا استثنائيًا، كأنه يحتضن حكمة الماضي بروح الحاضر."
صمت مونجيرو، كأنه يمنحها الوقت لاستيعاب عمق الحديث، ثم قال: "هكذا هي الحياة، رحلة بحث لا تنتهي عن المعاني الحقيقية. نحن نبحث في أعماق ذواتنا والعالم من حولنا، نتعلم ونتطور. وكل لقاء نخوضه ليس صدفة، بل هو جزء من تلك الرحلة."
ابتسمت روسلين وهي تشعر بطاقة جديدة تسري في جسدها. قالت بحرارة: