غابة تيراثيا، المعروفة بـ"مقبرة الضياء". أرضٌ غشيها الظلام حتى تسربل بها؛ وتوارى الضياء عن أرجائها كأنها لم تعرف النور يوماً. تمتدُّ مدَّ البصر، بل أبعد من أن تُدركها الأعين، وأشجارها التي تبلغ المليارات، تعانقت ظلالها وتشابكت أغصانها؛ فأطبقت على الغابة كسياج محكم، لا يُخترق ولا يُرى ما وراءه. كائنات خرجت من غياهب المجهول، تلوح فجأةً فتُرعب الأبصار، وتغيب كأنها لم تكن، لا يُعرف لها مبدأ ولا يُدرَك لها منتهى .
ضاقت الممالك بهول الغابة، فشيّدت أسوارًا شامخةً تحصّنها من زحف الظلام، تردُّ بأسه عن ديارها. لكن الأرض لم تُحط كلّها بتلك الأسوار، فما كل مدينةٍ أو مملكةٍ قادرةٌ على أن تُقيم حصنًا يحميها، وبقيت قرى ومدن أخرى مكشوفة للعراء، تَلقَى مصيرها كلّ صباح وليلة. هناك، حيث تندفع مخلوقات الغابة كالسيل العرم، تلتهم كل شيء في طريقها؛ فتُمحى القرى كأن لم تكن، ويُطمس أثر الحياة كما يُنسى الزرع في الأرض بعد الجفاف.
ولولا منظمة الإلفوكاي؛ لما قامت للأرض قائمة، ولغشيها الظلام حتى محا أثر الحياة، فأصبحت كأن لم تكن. رجالٌ جُبلوا على الشدائد، وصيغوا من عزمٍ كأنّه الفولاذ، لا تزعزعهم الأهوال ولا تَثنيهم المهالك. تضمّ المنظمة ألوفاً من المحاربين، انتشروا في أصقاع الأرض كأنهم النجوم في ظلمة السماء، كلٌّ منهم عمادٌ لا يلين، وسيفٌ لا يُغمد. تباعدت بينهم الديار وتقطّعت بهم السبل، لكنّهم اجتمعوا على بيعةٍ واحدة، ودربٍ لا يحيدون عنه.
في العام السادس عشر بعد القرن الخامس من تقويم الأرض، وفي أقصى شمال مملكة أوبلان، حيث تعانق الطبيعة صرامة العزلة ويغمر السكون أرجاء المكان، يبرز مقر الإلفوكاي ، المنظمة المسؤولة عن اجتثاث الكوارث الخارقة للطبيعة شامخًا كأنه جزءًا من الجبال المحيطة، متساميًا في جلاله. يشغل المقر رقعة تتجاوز مساحتها مئة ألف مترٍ مربع، ممتدة في أعماق الأرض البيضاء التي تكتسي بالثلوج المتساقطة دون انقطاع.
شُيد المقر منذ أعوام طوال من حجارة سوداء صمّاء، تلمع في صفائها القاسي تحت ضوء الشمس الذي يعجز عن اختراق الغيوم، والرياح الجارفة تحمل معها صدى الأصوات الجهورية من ساحة التدريب الكامنة وراء أسوار المقر حيث يتجمع حديثو العهد ويخضعون لتدريبات قاسية؛ فيرسخون ولاءهم للإلفوكاي ومهمتها السامية في حماية العالم تحت سطوة أعين المدربين الصارمة التي لا تعرف التساهل.
وأما القاعة الكبرى في قلب مقر الإلفوكاي، فهي مهبط السلطة وعنوان النظام، بُنيت على تصميم يُحاكي العظمة والدقة، وسقفها الشاهق يضم بين جدرانه أسرار القيادة العليا. في مركزها يتربع عرش القائد الأعلى شارلمان، رمز القوة والهيبة التي لا تضاهى، عرش يروي في صمته حكايات عن القرارات المصيرية التي غيّرت مسار العالم.
وعلى يمين العرش، انتصب "رايدر" الملقب بـ"الفارس الأبيض"، وقفة المحارب الواثق، تعلوه هيبة لا تخفى على الأبصار. عيناه الحادتان تجولان ببرود وصمت، ترصدان أدق التفاصيل في القاعة. كان "رايدر" الذراع اليمنى لشارلمان وأحد أقوى خمسة مبارزين في العالم. وراء ظهره يتقاطع سيفاه الشهيران ( داركساين) و (سيلفارا) ليمنحاه حضورًا مهيبًا يلفت الأنظار ويزرع الرهبة في النفوس.
وعلى امتداد القاعة، جلس ممثلو الممالك التسع العظمى على جانبي المجلس، برفقة حرّاسهم. لكل مملكةٍ منهم نصيبٌ في القرارات التي تُصاغ هنا، تحت مبدأ الشورى الذي يتيح لكل صوتٍ أن يُسمع، ويسعى الجميع من خلاله إلى تحقيق ما فيه مصلحة العالم.
بدأ شارلمان حديثه بنبرة حازمة، ارتجَّ لها المكان فقال: "إن خطرَ تيراثيا يتفاقم يومًا بعد يوم وكلَّ يومٍ تُزهَق أرواح الأبرياء، إخوتنا المساكين الذين لا يجدون غير أملٍ كالخيط الواهن وسورٍ ضعيف لا يقوى على صدّ مخلوقات الغابة. بل أن منهم من يعيش عُزلًا، لا سور يحميهم ولا عتاد يذود عنهم. الإلفوكاي، رغم بأسهم عاجزون عن أن يكونوا لكل رقعةٍ حصنًا ولكل مدينةٍ درعًا. لذا يا إخوتي، حان الوقت لنتحد في بناء أسوارٍ حصينة تحيط بالمدن والقرى التي تُركت كالأيتام في وجه العاصفة الهوجاء؛ بذلك نمنع الغابة من أن تبتلع عالمنا قطعةً قطعة، ونحمي الضعفاء الذين ينهشهم الظلام كما ينهش الذئب قطيعًا بلا راعً".
ما كاد ينقضي حديث شارلمان حتى نهض سيفانا أوركال، ممثل مملكة ميدغارد، وقد ارتسمت على وجهه تجاعيد الغضب والشكوى، ونبرته تفيض بالتحدي فقال: "مملكة ميدغارد، بكل عظمتها وبأسها استغرقت خمس سنوات كاملة لتشييد سورها العظيم، ودفعت ثمنًا باهظًا كاد أن يغرقها في مستنقع الديون. هل تطلب منّا أن نغوص في ذات المستنقع لأجل مدن وقرى لا تضيف لنا شيئًا؟ هل هذا هو العدل الذي تتحدث عنه؟ أم أن هذا جنونٌ من شخصٍ يطلب منَّا حمل هموم لا تعنينا؟".
ظل شارلمان جالسًا بثبات، ينظر إلى سيفانا بعينين ثابتتين، دون مبالغة في تعبيره، ثم قال بصوت هادئ:" أتظن أن الظلام سيقف عند حدود القرى والمدن الغير محصنة؟ أم أنك توهمت أن شرّ تيراثيا سيعترف بحصوننا؟ إن تخلينا عن الضعفاء اليوم، سنجد أنفسنا وحدنا غدًا، نواجه ذات المصير. العدالة ليست أن نحمي أنفسنا فقط، بل أن نصبح الدرع الذي يصدُّ الشر عن الجميع. فإن كان هذا ما تسميه جنونًا، فاعلم أنني أختار هذا الجنون عن طيب خاطر، على أن أُذكر جبانًا تخلّى عن إخوته في أحلك ساعاتهم. فقل لي يا سيفانا، ماذا سيقول التاريخ عنك؟". عاد سيفانا ليجلس في مقعده وقد ضاقت به الحيلة، وكأنما صواريخ الكلمات قد دكّت أركان منطقه فلم يجد لردّه سبيلاً.
ما لبث أن قام نيفور ثاليون، ممثل مملكة سيرفيليا وأحد أقوى محاربيها، وقد ارتسمت على وجهه ملامحٌ من التردد ما بين القبول والرفض، وقال بصوتٍ يحمل شيئًا من القلق والتساؤل: "لا يروق لي حالهم أيضًا، لكن حتى لو استطعنا بناء هذه الأسوار، هل تظن أنها ستصمد؟ إن خاصية القوة في أسوارِ معظم ممالكنا تكمن في بُعدها عن الغابة، لكن العديد من القرى والمدن التي تسعى لإحاطتها بالأسوار تقع بالقرب من تيراثيا، مما يعني أنها ستتحول بحجمها الهائل إلى طُعمٍ يغري مخلوقات الغابة بالتجمع حولها كما تتجمع النسور حول الجيف. وعندما تنهار تلك الأسوار؛ ستُباد القرى كما يُباد العشب تحت أقدام الخيل. فما الذي سنكسبه حينها؟ سوى موتٍ كان بإمكاننا تجنبه!".
همَّ شارلمان بالرد، ولكن قبل أن تُفتح شفتاه بالكلام، قاطعه صوت آركون شيد، ممثل مملكة فالكونيا، الذي أضنى العمر جسده وأثقلته السنين. تسللت كلماته بين جرأةٍ واستهزاء، مزدانةً بنغمةٍ لاذعة فقال: "أصدقني القول يا شارلمان، أهذه خطتك في الدفاع؟ أم أنك تخفي وراءها حقيقة عجز رجالك عن حماية تلك القرى؟! هل بلغ الإلفوكاي هذا المبلغ من الضعف؟".
كانت مملكة فالكونيا في أوج عظمتها، لا يُضاهى جيشها في صلابته، ولا يُنافس سورها في ارتفاعه، فقد بلغ علو أسوارها أكثر من مئة وخمسون مترًا، شامخةً كالجبال. أما آركون شيد، فقد كان في الماضي ملكًا على تلك المملكة، واليوم هو ممثلها، لكنه لم يفقد شيئًا من هيبته أو قوة كلماته فكأن سُمّ يسري في كل حرف منها.
ما كان من رايدر بعد أن سمع ما قيل إلا أن استلَّ سيفه "داركساين"، فاستوى في مقامه، وعيناه مشتعلة بنيران الغضب، ووجهه صوب آركون، قائلاً بنبرةٍ قاطعةٍ تفيض تهديداً : "احفظ لسانك، أيها العجوز!".
في تلك اللحظة، استلَّ حارسا "آركون" سيوفهما بسرعة خاطفة، ثم وقفا بينه وبين "رايدر"، على الرغم من يقينهما الراسخ بأن لا طاقة لهما بملاقاة شخص تتلمذ وقاتل الى جانب أحد "الإلفاليوس الخمسة". لكن رغم ذلك، تجرّأ أحد الحارسين وقال بصوتٍ لا يعترف بالتردد: "اخفض سيفك، سيد رايدر!". أما آركون، فقد بقي في مكانه، ثابتًا على كرسيه كالصخرة العتيقة، لم تُحرّكه الكلمات ولا السيوف المسلولة. بدا كأنما لا يرى أو لا يبالِي بما يحدث حوله، متأملًا المشهد بعينٍ باردةٍ تفتقر للحركة. بينما اكتفى بقية الممثلين وحراسهم بالنظر إلى ما يجري دون أي تدخل. لكن الرد من رايدر جاء سريعًا، وحمل في نبرته طيفًا من التهكم قائلًا: "هل حقًا عليَّ ذلك؟!".
لحظة التوتر كادت أن تحول المجلس إلى ساحة اشتباك. تحرك رايدر خطوة نحو الحارسين، كأنه سيخطو إلى ما هو أبعد من التهديد، لكنَّ شارلمان، ببصره الثاقب أرسل إلى رايدر نظرة واحدة كانت كفيلة بتوجيهه. فهم رايدر الرسالة فورًا، فأعاد سيفه إلى غمده بهدوء، ثم تبعه الحارسان في ذات الفعل. وبعد هذه اللحظة الحافلة بالتوتر، التي مرت كأنها دهر، رفع شارلمان طرفه إلى المجلس، وألقى ابتسامةً خفيفةً على وجهه، كأنما يهدئ من روع الجميع. ثم قال بصوتٍ ممزوج بالهدوء والحكمة: "يبدو أن الحوار قد استنفد غايته؛ فلنحتكم إلى التصويت".
تبادل الممثلين النظرات بينهم بقلق فلطالما كرهوا هذا التصويت كما يكره الأسير رؤية سيف الجلاد، إذ كان أشبه بمسرحية كُتِبَت نهايتها سلفاً. فكل ممثلٍ من الممثلين التسعة يملك من النسبة 5.6% فقط، بينما شارلمان يحمل في يده كفة الميزان، إذ يمسك بـ49% من الإجمالي، وما عليه سوى أن يكسب تأييد مملكة واحدة ليحسم الأمر لصالحه. أردف شارلمان قائلاً: "من يرى صواب فكرتي ليقف قائماً ومن يرى عكسها ليبقى كما هو".
كانت النتيجة واضحة قبل أن يُسدل الستار على الجدل الدائر. ومع ذلك، ظلَّ الممثلون يتشبَّثون بآخر خيطٍ من الأمل، كمن يحاول إنقاذ سفينة مثقوبة وسط عاصفة هوجاء. لم يكُ أمامهم سوى خيار وحيد وهو أن يتحدوا جميعًا على رفض اقتراح شارلمان، لكن ذلك الأمل الواهن ما لبث أن تبخَّر كسرابٍ في صحراء قاحلة، عندما وقف اثنان من الممثلين تأييدًا لقراره. قال الأول بصوتٍ ثابتٍ رغم توتُّر الأجواء: "مملكة أوبلان تؤيد هذا القرار". ثم تبعه الآخر قائلاً بنبرةٍ مشابهة، كأنهما اتفقا على تقسيم العبء: "ومملكة فالوريا كذلك".
ارتسمت على وجه شارلمان ابتسامة واثقة، كمن كان يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور منذ البداية. نهض قليلاً من مجلسه، ثم قال بصوتٍ راسخ: "أشكركم على تأييدكم، فلتبعثوا برسلكم إلى ملوككم، فالغد هو اليوم الذي نخط فيه بداية ما اتفقنا عليه، فإنا لا نؤخر ما قد آن له أن يبدأ».
وما إن فرغ شارلمان من حديثه حتى انفتح باب المجلس فجأة، فغمرت المفاجأة المكان وملأته دهشةً. إذ دخل ثلاثة من الجنود، اثنان منهما يسيران بتؤدةٍ، يعينان الثالث الذي بدا عليه من التعب ما لا يُطاق، فلا يقدر على المضي بمفرده. تقدموا في صمتٍ مهيبٍ أمام أعين الحضور الذين استولى عليهم الاستغراب والذهول، حتى وصلوا إلى حيث كان شارلمان. فجلس على مقعده مرة أخرى، وقد ارتسمت على محياه آثار الدهشة والقلق، ثم قال بصوتٍ يكاد يخلو من الصوت: "ما الذي يحدث هنا؟".
رد الجنود، فانحنى اثنان منهم إجلالًا، بينما بقي الجندي المنهك يتنفس بصعوبة، وقال أحدهم: "هذا الجندي من فيلق اللورد آزرين، وقد أتى يحمل أمرًا عظيمًا دفعه للسير أميالًا عدة ليصل إليك". تغيرت ملامح شارلمان، ومن دون أن ينبس ببنت شفة، أشار بيده إلى الجندي ليتحدث. وما إن ترك الجندي كتفَي رفيقيه، حتى تقدَّم خطوةً إلى الأمام، فأدرك شارلمان مدى الإرهاق الذي نال منه، فقد بدا الجندي في حالٍ يُرثى لها، وعينيه تكاد تنطق من التعب.
بدأ الجندي حديثه قائلاً بصوتٍ متهدج:
"كنا مع اللورد آزرين في جولة استطلاعية، على بُعد بضعة أميال من مملكة أوفينيا، حتى بلغنا جبل(تيمور) الذي يفصل بيننا وبين غابة تيراثيا، وعندما حانت ساعة العودة، توقف اللورد آزرين فجأة، كأنما تجمّد جسده. ظهر عليه ارتباكٌ عميق، وكان يحدق في الجبل بعينين غارقتين في الحيرة، كما لو كان يرى ما لا نراه. وعندما استفسرنا منه، قال بصوتٍ متقطع: "على الرغم من كثرة المعارك التي خضتها في حياتي إلا أني أشعر بشيءٍ غريب، قوة خفية تدفعني قسرًا نحو هذا الجبل!". ثم أمرني أنا وآخر أن نصعد الجبل لنستكشف ما وراءه. وعندما وصلنا قمة الجبل كانت الصدمة!.
ما إن أتم الجندي كلماته حتى سقط على ركبتيه، كما لو أن الجهد قد أضعفه تمامًا، فاندفع الحارسان لمساعدته، وأمر شارلمان سريعًا بإحضار كرسي له. وما إن جلس عليه، كان وجهه غارقًا في سحابة من القلق، حتى بادره "رايدر" قائلاً بلهجة حادة وقوية: "أكمل، ماذا رأيت؟".
رفع الجندي رأسه بصعوبة، وجسده المرهق يكاد ينهار، فأكمل حديثه بصوتٍ متقطع، ينمُّ عن مرارةٍ عميقة:
"لقد رأيتُ مشهدًا يفوق الخيال، لا تستطيع الفِطَر تصديقه، مخلوقات لا تعدّ ولا تحصى تتدفق من أعماق الغابة كالسيل الجارف، يغمر الأرض ويملأ السماء عددها، وحوش بأشكال تخطف الأنفاس، تقشعر لها الأبدان، يزأر فيها الخوفُ قبل أن تراها، يقودها كائن يفزيد طوله عن الأربعين قدماً، يمسك في يديه فأسين عملاقين، كأنهما جبلان متحركان!"…
ثم قاطعه نيفور سائلًا:
"هل كان رأسه يشبه رأس الثور؟".
فأجاب: نعم، كان على هذا النحو بالضبط!.
نظر شارلمان إلى نيفور، وقد تجلَّت على وجهه ملامح الريبة، ثم قال: "هل تعرفه؟!".
أجاب نيفور بنبرةٍ يكتنفها التردد، وكأنَّ الكلمات لا تخرج من فمه إلا بعد تدبرٍ طويل: "بحسبما تقتضيه المقاييس عندكم، هو بمثابة كارثة من الدرجة الخامسة. لقد حاول غزو (سيراكسيا) قبل بضعة أعوام، حين كانت على وشك إتمام بناء السور، فتصديتُ له بمعونةٍ من جموعٍ من الفرسان، حتى أنني لَمَسْتُ حافة الهلاك بين يديه. لكنه لم يلبث أن أدبر فرارًا عندما أبصر جنود الإلفوكاي بقيادة اللورد (هاربينجر) يتقدمون نحونا".
كان شارلمان على علمٍ يقينٍ بأن نيفور ثاليون، الفارس الجليل ذو المقام الرفيع، لا يولي اهتمامه إلا لما يستحق الثناء حقاً. لكنه لم يُجِبْه مباشرةً، بل توجّه بنظره إلى الجندي نظرةً كانت أبلغ من كل الكلمات، مفادها: "استمر في حديثك".
أخذ الجندي نفسًا عميقًا، ثم قال بصوتٍ يفيض بالحزن:
"عدنا إلى القائد، فأخبرناه بما رأينا، فاجتمع الفيلق بأكمله يسعى لإقناعه بالفرار، لكنَّه أبى، وقال بحزمٍ لا يتزعزع: "إن هربتُ الآن؛ فقد حلَّ الهلاك بسكان مملكة أوفينيا". ثم رفع صوته قائلًا: "لا أحد منكم مُجبر على البقاء، من أراد الحياة فليغادر". لكننا جميعًا دون تردد، أبينا أن نفترق عنه، وعزمنا أن نلقى حتفنا الى جانبه. لكن ولأنني كنت الأسرع في الفيلق، أمرني بالصعود إلى الجبل الكامن في الجهة الأخرى، وقال لي: "عندما ترى فناء آخر فردٍ منا، اذهب بأقصى سرعة إلى شارلمان، وقل له: انقذ اوفينيا".
قام ممثل مملكة أوفينيا من مقعده فجأة، وقد تجسَّد على وجهه الرعب والفزع، وكأنما سُلبت منه الكلمات، فخرجت همساتُه متقطعةً، مفعمةً بالجزع، وقال بصوتٍ متوتر: "بما أنك هنا! هل هذا يعني...؟". توقف لحظة، نظراته غارقة في القلق، يترنح فيها صدى الخوف، ثم تابع بنبرةٍ ترتعش كأوتارٍ مهشمة: "هل يعني ذلك أن... اللورد آزرين... قد..."!.
أكمل الجندي حديثه، وعيناه تفيض بالدموع:
"بعد ذلك، اكتسى الجبل بمخلوقات الغابة، بأعداد لا تعد ولا تحصى. لكن القائد وأتباعه لم يخنعوا، بل ثبتوا كالجبل في وجه الزحف. ابتسم القائد ابتسامة من قلب ملؤه العزم، وأطلق صرخته التي أشعلت عزائمهم، فانطلقوا إلى المعركةِ كالسهم القاتل. كان اللورد آزرين يقاتل ببسالة، مطرده في يده كالسوط القاتل، يزهق أرواح الأعداء مع كل ضربةٍ يصحبها بضعة. درعه الذي كان يشع بلمعة الفضة، تحول إلى لونٍ قانٍ بعدما اغتسلت به دماؤهم. ومع ذلك، بدأ الفيلق يتساقط واحدًا تلو الآخر، حتى سقط القائد في المعركة بعد أن خاض قتالًا شرسًا ضد قائدهم. ثم جاء تدخُّل المخلوقاتِ من الخلف لينهِ المعركة ويقضي عليه..". ثم تساقطت الدموع من عينيه وهو يضيف بصوتٍ مكسور: "لقد مات القائد ميتة عظيمة".
تنفس شارلمان بعمق ليهدئ من اضطراب أنفاسه، ثم جلس منتصبًا وأخذ يحدق في الفراغ للحظات، قبل أن يتوجَّه بكلامه إلى الجنديين قائلاً: "سيكون ضيفنا، خذوه وأكرموه كما يليق، ثم قدّموا له الطعام حتى الشبع".
امتثل الجنديان لأوامر شارلمان، فأخذاه وغادرا القاعة ثم أُغلق الباب خلفهما. وفيما عَمَّ الصمت، قاطع آركون هذا الصمت بنبرةٍ ساخرةٍ قائلًا: "لطالما كانت نهاية لورداتك مشابهة، يموتون بلا مغزى". لكن،بينما كان يتحدث، تلاقت نظراته بنظرات شارلمان، وفجأة، انقضت عليه نظرة من الأخير كالسوط، مليئة بالغضب العارم، فاجتاحت قلبه موجة من الرعب العميق، حتى انحنى رأسه في صمتٍ خانق، وكأنَّ غضب شارلمان قد شلَّ لسانه وسرق منه القدرة على النطق.
لفَّ شارلمان رأسه ناحية رايدر، ثم قال: "الشمس أوشكت على الشروق، فلا شك أنهم يحيطون بأسوار مملكة أوفينيا الآن، ولكن! تلك الأسوار لن تصمد طويلاً. اذهب إليهم، اصطحب من تشاء، واقضِ عليهم."
في تلك اللحظة، دخل جندي آخر بسرعة ووجهه يعكس جُلّ علامات الذعر. انحنى لشارلمان، الذي أذن له بالكلام، فقال الجندي: "سيدي، وصلنا نبأ من أوفينيا يفيد بأن الجيش لم يصل إلى المملكة، بل اتجه شمالاً ".
تحدث ممثل مملكة أوفينيا بدهشةٍ: "شمالًا؟! ماذا يوجد في الشمال؟!". سرعان ما جاءه الرد من نيفور بإبتسامة قائلاً: "مملكة ألتاريا". دهش الممثلون عند سماع الاسم، وما أدهشهم أكثر كانت ابتسامة نيفور، لكن سرعان ما ابتسم شارلمان ورايدر ابتسامة سرور، وكأن الثلاثة قد أدركوا أمرًا غاب عن البقية.
قال رايدر بنبرة ملؤها الدعابة: "هل لا زلت ترغب في أن أذهب؟". ضحك شارلمان قائلاً: "لم يعد ثمة حاجة لذلك". ثم رفع رأسه عالياً بفخر وقال: "لقد هزمهم آزرين، حتى بعد موته".
على مقربةٍ من أسوار مملكةِ ألتاريا، وفوق جيش مخلوقات الغابة، كان يحلّق كائن بأجنحته الخضراء حتى هبط أمام قائد الجيش. لاحظ القائد تلبُّكه فسأله: "ماذا وجدت يا مورفا؟ كم عدد اللوردات؟". بقي صامتًا لبرهة من الزمن ورأسه منتكس لأسفل، ثمَّ تقدَّم مّن كان بجانب القائد قائلًا بتعجُّب: "ألم تسمع سؤاله؟!".
أجاب بهلع: "بلى يا أخي، أعتذر على ذلك. كان يجلس على قمة السور رجلًا واحدًا فقط، ممسك بأداة غريبة بيده. رغم أخذي للحيطة إلا أن عينينا تلاقتا. لقد كانت نظرته باردةً جدًا، لم يتفاجأ! لم يخف! بقي جالسًا كأنما يشهد مشهدًا يوميًا لا يثير فيه أدنى انفعال.
ضحك القائد بصوتٍ عالٍ ثم تبعه قائلًا: "هكذا إذًا! هذا هو سبب استماتة ذلك اللورد في حماية هذا المكان! إذ لا بدّ أنه لا يوجد مَن يحميه سوى الأسوار". واصل ضحكه ثم أردف: "فاريك، اذهب أنت وأخيك وتخلصا من الذي على قمة السور، ثم افتحا الباب من الداخل".
فاريك: أمرك سيّدي. نظر ناحية مورفا الذي كان لا يزال قلقًا لسببٍ يجهله ثم أردف: "اتبعني يا أخي الجبان!".
حلّق الاثنان بإجنحتهما وانطلقا صوب الأسوار، وفي أثناء ذلك حنّ فاريك على أخيه فسأله: "هل كان قويًا؟". فابتسم ناطقًا: "لا تقلق! سأكون برفقتك".
-الأمر لا يتعلق بالقوة فحسب يا أخي! كان أمره مريبًا لسبب لا أستطيع وصفه. وعندما اصبحا قريبين من السور توقف مورفا فجأةً ثم نظر إلى أخيه برعبٍ: "أخي! إنه ليس هنا!". رد فاريك بطمأنته بعد أن أخذ نظرةً على السور ليجد قمته فارغة: "لا بدّ أنه فرّ عند رؤيته لك في المرة السابقة!".
- لا أظن ذلك، الأمر خطير! لنعد. حاول فاريك منعه لكنه كان قد حلَّق بسرعةٍ صوبَ الجيش. تبع فاريك أخيه حتى وصلا إلى المكان الذي من المفترض أن يكون الجيش فيه، لكنّ الجيش لم يكُ مَوجودًا وكأن الأرض قد انشقت وابتلعته!. التفت مورفا صوب أخيه برعبٍ ثم قال وهو يتلعثم: "أين ذهبوا؟!".
وقف فاريك، وعيناه جاحظتان كأنما تجمد الدم في عروقه، ثم رفع إصبعه في فزعٍ شديد نحو السماء. فرفع مورفا رأسه ليشهد أفظع منظرٍ رآه في حياته؛ جيشهم العظيم، المكون من عشرات الآلاف، يطير في السماء، وقد فارقت الروح أجسادهم. ارتد طرف مورفا بنظره إلى أخيه، فارتعش قلبه، إذ فوجئ برؤية أخرى لا تقل رهبة عن سابقتها؛ جسد أخيه قائمٌ بلا رأس، والدم يسيل من بين كتفيه كالسيل الجارف.
حلّق مورفا بسرعة فائقة، يده ممتدة نحو أخيه الذي بدأ يهوي نحو الأرض. أمسك بجسده بين ذراعيه، لكن الحياة قد تلاشت منه، فسقط بين يديه كجسد بلا روح. انفجر مورفا بالبكاء، واضعًا يده على قلبه، كأن الألم قد مزق أعماقه وأصاب وجدانه في مقتل. كان صوت بكائه يملأ المكان، يبكي بحرقة، وكأن كل شيء بالنسبة له قد تلاشى. وبينما كان غارقًا في دموعه، إذ فجأةً تسلل إلى أذنيه صوت غريب، ينساب كالشبح من خلفه. التفت بسرعة، ليكتشف أن الصوت ينبعث من رجل كان يعزف على الكمان، لكنه كان يوجه نظره إلى الجهة المقابلة، معطيًا ظهره تمامًا لمورفا. لم يمضِ وقت طويل حتى أدرك مورفا أن هذا الرجل لم يكن سواه، هو نفسه الذي كان يقف على قمة السور، وأن الأداة الغريبة التي كان يلوح بها لم تكن إلا أداة عزف. تسمرت عيناه على المشهد، فاحتبست أنفاسه واهتز قلبه، وكأن الزمن قد توقف في تلك اللحظة. وفجأةً، كشف له الواقع ما لم يكن ليتصور؛ رأس أخيه الذي كان ذات يومٍ ينبض بالحياة، ممددًا تحت قدم ذلك الرجل.
سرعان ما أوقف الرجل عزفه، والتفت ناحية مورفا ثم دعس الرأس بقوة ليغرسه في الأرض، وتقدم بخطوات ثقيلة نحو مورفا الذي شُل جسده من هول المنظر. وعندما أصبح الرجل قريبًا منه، جلس على ركبتيه أمامه، بحيث كانت ساقاه مثنيتين وجسده منخفضًا، فإذا بمورفا ينظر إلى ملامحه عن كثب، كانت باردة تمامًا، مع ابتسامة ظاهرها لطيف. نطق الرجل قائلاً: "بماذا تشعر؟" ثم وسع ابتسامته أكثر وأردف: "لا داعي لتجيب، فأنا أعلم تمامًا شعورك."
ثم وقف وقبض على الكمان بيد، وأمسك الريشة بالأخرى ثم سار بخطوات واثقة من جانب مورفا، متجهاً صوب المملكة. كانت الريشة تنساب على الأوتار كأنها تُحيك نغمةً جديدة، معزوفة مغايرة لما سبقها، تحمل في طياتها شيئًا مهيبا ومروعًا.
تنهد مورفا بعمق، وقد زفر الصعداء حين أبصر الرجل يمضي مبتعدًا عنه، لكن لم يمض إلا هنيهة حتى انقلب المشهد رأسًا على عقب؛ إذ بدأت جثث رفاقه، التي كانت معلقةً في السماء، تهوي واحدة تلو الأخرى، وكأنها قطرات مطر تنهال بغزارة، وفي خضم ذلك الخراب، كان مصير مورفا محتومًا، إذ داهمته تلك الجثث المتساقطة بأعداد هائلة، فألقت بثقلها عليه، لتكون وطأة النهاية التي أودت بحياته. استمر الرجل في العزف على الكمان، بينما كانت خطواته تتجه بثبات نحو المملكة، لا يعيره أي اهتمام لما يحدث وراءه، وكأنما كان في عالمه الخاص، حيث تتناغم الأوتار مع صمت اللحظة، بينما تتوالى الأحداث من خلفه كظلال لا تأثير لها على لحنه الهادئ.
ومع بزوغ شمس ذلك اليوم، انفجرت البشرى كالنار في الهشيم، فانتشرت في الآفاق كما ينتشر الندى في صباحٍ مشرق، فبلغت من أقاصي الأرض إلى مغاربها. الجيش الجرار الذي كان يزحف نحو "أوفينيا"، لقي حتفه على مقربة من التاريا على يد أحد "الإلفاليوس".