في أعماق الزنزانة السفلية، حيث لا يصل ضوء القمر ولا يسمع صوت الريح، ساد صمت مطبق كأن الزمن نفسه توقف هناك. الجدران السوداء المتشققة تنزّ عرقًا باردًا، والسلاسل السبع السوداء التي قيدت الجسد الراكد في المنتصف، لم تتحرك قيد أنملة منذ سنوات طويلة.
وحين غادر العجوز كرومكا بخطواته المتثاقلة، تاركًا خلفه الظلام المطبق ورائحة الحديد الصدئة، بدأ شيء يتغير.
ارتجّ الهواء فجأة. ظهر وميض أزرق خافت في الهواء، كأن الفراغ انشق ليكشف عن باب أثيري مضيء. الباب لم يصدر صوتًا، لكن حضوره وحده أحدث خللًا في توازن المكان. خرج منه رجل في الثلاثينات من عمره، بشعر أزرق داكن ينسدل على كتفيه وقرنين طويلين يلمعان تحت الضوء الأزرق، وعينين حمراوين كأنهما اشتعلتا من الجحيم ذاته.
وقف بصمتٍ، مراقبًا ذلك الجسد المقيد، ثم اتسعت شفتيه في ابتسامة مائلة، لا تخلو من العبث واليقين.
تحرك الرأس المقيد أخيرًا. فتح أدريان عينيه ببطء، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، غريبة، أقرب للرضى من المفاجأة. نظر إلى الرجل بنظرة لم تكن حادة كما توقعها أحد، بل كانت هادئة… سعيدة.
ثم تكلم.
"إذاً… هل حان الوقت أخيرًا لفك هذه القيود؟"
لم يجب الرجل مباشرة، بل تقدم خطوة، وكأن اقترابه وحده كان كافيًا لجعل الأرض تتنفس بثقل. ثم قال بصوت ناعم يحمل في طياته ظلالًا من عوالم أخرى:
"لقد حصلنا على واحد… وتبقى اثنان. وأنت أحدهما."
لم يُذكر من هو الأول، ولم يكن بحاجة إلى ذلك.
أدريان لم يتفاجأ.
كأن كل شيء كان محسوبًا منذ البداية.
كأن الوقت الذي انتظر فيه كان مجرد مرحلة لا بد أن تنتهي.
ضوء القيود السوداء بدأ يرتجف بهدوء، كأنها تدرك أن النهاية قريبة.
وكأن شيئًا… ما عاد ينام في الأعماق.
النهاية.
...
...
في قلب قصر عائلة سكارليث المتهالك، حيث كانت الجدران تتصدع والأرضية مغطاة بدماء لا تزال دافئة، وقف جاستين وسط الخراب الذي خلفه. كانت عيناه تشتعلان بجنون، وجسده المشوه ينبض بقوى مظلمة. يده اليمنى، المليئة بالعيون المتحركة، ارتجفت بشوق للمزيد من الدمار، ونصف وجهه المظلم أضفى عليه مظهرًا مرعبًا.
على الجانب الآخر من القاعة المدمرة، وقف كاستر رافيندال، رئيس عائلة رافيندال، بهيبته المعهودة. بجانبه، مرافقه العجوز، رجل ذو لحية رمادية كثيفة، وجهه مليء بالتجاعيد العميقة، لكنها لم تكن تجاعيد الضعف، بل تجاعيد الحكمة والمعرفة العتيقة٬ يحمل عصا طويلة تتوهج برموز غامضة. كانت أعينهما مركزة على جاستين، يدرسان كل حركة وكل نفس.
ابتسم جاستين ابتسامة ملتوية، وقال بصوت يقطر سخرية: "كاستر، هل تظن أن كلماتك ستثنيني؟ لقد تجاوزتُ حدود البشرية، وأصبحتُ شيئًا لا يمكنك تخيله."
رد كاستر بهدوء، وعيناه تضيقان: "لقد رأيتُ الكثير في حياتي، جاستين. وما أصبحتَ عليه الآن... ليس إلا ظلًا لما كنتَ عليه. القوة التي تمتلكها ليست ملكك؛ إنها مسروقة، ومصير كل سارق أن يُكشف أمره."
ضحك جاستين بصوت عالٍ، ثم رفع سيفه المرعب، الذي كان ينبض بطاقة سوداء تتلوى حول نصله. "دعنا نختبر ذلك، كاستر. لنرَ من سيبقى واقفًا في النهاية."
بلمح البصر، اندفع جاستين نحو كاستر بسرعة تفوق التصور، سيفه يلمع بوهج قاتم. لكن كاستر كان مستعدًا؛ بحركة سريعة، لوّح بيده، مشكلاً حاجزًا من الطاقة الزرقاء أمامه. اصطدم سيف جاستين بالحاجز، محدثًا انفجارًا هائلًا هز أرجاء القصر.
تراجع جاستين بضع خطوات، ثم ابتسم بخبث. "حاجز قوي، لكن إلى متى سيصمد؟"
أجاب كاستر بثقة: "طالما أحتاج."
تدخل المرافق العجوز، رافعًا عصاه، وبدأ يتمتم بتعويذات قديمة. فجأة، تشكلت دوائر سحرية تحت أقدام جاستين، تتوهج بألوان متعددة. شعر جاستين بقوة غريبة تحاول تقييده، فزمجر بغضب، محاولًا التحرر.
"تظنان أنكما قادران على إيقافي بهذه الحيل؟" صرخ جاستين، وعيونه المتعددة على يده اليمنى تتوهج بلون أحمر دموي.
بدأت العيون على يده تفتح وتغلق بسرعة، مطلقة أشعة من الطاقة السوداء نحو كاستر ومرافقه. تفادى كاستر الأشعة برشاقة، بينما رفع المرافق العجوز حاجزًا سحريًا لصد الهجمات.
استغل جاستين الفرصة، مستخدمًا قدرته على تمديد يده، فاندفعت يده اليمنى نحو كاستر بسرعة مذهلة. لكن كاستر، بتجربة المحارب المخضرم، تفادى الهجوم في اللحظة الأخيرة، وقام بتوجيه ضربة مضادة بسيفه، قاطعًا جزءًا من يد جاستين الممدودة.
زمجر جاستين من الألم، لكن جرحه بدأ يلتئم فورًا بفضل قدرته على التجدد الفوري. "ألم أقل لك، كاستر؟ لا يمكنك إيقافي."
تبادل الثلاثة الهجمات، كل منهم يستخدم مهاراته وقدراته بأقصى طاقتها. كان القصر ينهار من حولهم، والجدران تتساقط، والسقف يتشقق، لكنهم كانوا غارقين في معركتهم، غير مبالين بالدمار المحيط.
في لحظة من الهدوء النسبي، وقف الثلاثة يتنفسون بصعوبة، يدرسون بعضهم البعض. قال كاستر بصوت منخفض: "جاستين، هذا الطريق الذي تسلكه لن يؤدي إلا إلى هلاكك."
ابتسم جاستين ابتسامة حزينة، وقال: "ربما، لكنني اخترتُ هذا الطريق، وسأسير فيه حتى النهاية."
نظر كاستر إلى مرافقه العجوز، وتبادلا نظرة فهم صامتة. ثم، بخطوة حازمة، تقدم كاستر نحو جاستين، مستعدًا للجولة التالية من القتال.
استعد جاستين أيضًا، سيفه ينبض بطاقة مدمرة، وعيناه تشتعلان بتصميم قاتل.
ابتسم كاستر بسخرية وقال: "جاستين، هل تظن أن دمجك لوحوش من المستوى العظيم سيمنحك النصر؟ بالكاد استوعبتَ جزءًا ضئيلًا من قوتهم. لم تكن أنت من أخضع هذه المخلوقات، بل أدريان."
ضحك جاستين بصوت منخفض، ثم قال: "كاستر، دائمًا ما كنتَ ثرثارًا. لنجعل أفعالنا تتحدث."
...
...
...
في القصر المتهالك لعائلة سكارليث، كان الدخان يتصاعد من الحطام المتناثر. السقف لم يعد سوى فتحات واسعة تسمح للقمر بأن يسكب نوره الباهت على ساحة المعركة، حيث تعجّ الأرضية بقطع الزجاج المحطم وبقع الدم الطازجة التي لم تجد وقتًا لتبرد. وفي مركز هذه الفوضى، سادت لحظة صمت ثقيلة، وكأن الزمن نفسه توقف ليراقب.
كاستر رافيندال كان أول من تحرك، عيناه تشعّان بتصميم لا يتزعزع. رفع يده بهدوء، ومعها ارتفعت الرياح، والتفّت حوله دوامة من الطاقة الداكنة الزرقاء، تتناثر منها رموز قديمة تشبه الكتابات المنقوشة على ضريح إله منسي. ومن راحة يده، تجمّع الضوء، ثم تشكّل رمحٌ أسود... لم يكن مصنوعًا من مادة معروفة، بل بدا وكأنه وُلد من الفراغ، من الغضب، من الذكريات الدامية، ومن الألم المتراكم عبر قرون.
شهق المرافق العجوز بصوت خافت، يعرف تمامًا ما يعنيه ذلك الرمح:
"رمح الغفران الأخير..."
اندفع كاستر كالسهم، الأرض تحت قدميه تشققت، والهواء تمزق مع كل خطوة، والرمح الأسود يتحول إلى امتداد من غضبه وماضيه وألمه، واستهدف به قلب جاستين مباشرة.
لكن—
حدث المستحيل.
في اللحظة التي كان من المفترض أن يثقب الرمح صدر جاستين... ظهر فتى.
كان وكأنه خرج من العدم، بين ومضة وسكون. بدا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره، لكن وجوده وحده بثّ رعشة في جسد كاستر، وفي شيءٍ أعمق... في روحه.
كانت له قرون سوداء ملتوية للخلف، ناعمة عند القاعدة لكنها تنتهي بطرف مدبب قاتم كالسواد المطلق. شعره الأسود طويل، غير مرتب، متدلٍ على كتفيه ووجهه. ملامحه حادة لكنها ليست خشنة، بل أشبه بالهدوء الذي يسبق الانفجار، بالجمال الذي يخفي الخراب.
عيناه...
كانتا كمرآتين باردتين... بلا شرر، بلا حياة. فقط الفراغ.
والرمح؟
اخترق نصف صدره الأيسر، وحطم جزءًا من وجهه. لكنه لم يتحرك.
يده اليمنى، الوحيدة الباقية، كانت تمسك بالرمح بثبات غير بشري، وكأن الألم لم يكن له معنى.
من خلفه، ظهر جاستين مجددًا... لكن هذه المرة، وجهه مخفي تحت قناع أبيض باكٍ، الدموع الدموية الجافة قد انحدرت من العينين المجوفتين للقناع. وقف هناك، صامتًا، يشاهد الفتى أمامه. كأن بينهما ميثاق غير منطوق... أو لعنة.
كاستر تجمد في مكانه، والهواء من حوله تلبّد، وحتى رموزه السحرية تراجعت قليلاً.
"مَن... هذا؟"
همس المرافق العجوز، يخطو للخلف دون إرادة.
الفتى لم يقل شيئًا. فقط حطّم الرمح العالق في جسده بيده الوحيدة، تناثر شظايا سوداء في الهواء، وكأنها رماد مخلوق مات ألف مرة.
ثم رفع عينيه نحو كاستر.
"ما أنتَ؟" سأل كاستر، صوته يرتجف للمرة الأولى منذ عقود.
ردّ الفتى أخيرًا، صوته هادئ، فارغ من أي انفعال:
"لستُ ما... بل متى."
لم يكن هناك وقتٌ للاستيعاب. فجأة، تشققت الأرض تحت أقدام الجميع، وخرجت يد عملاقة من الظلال، مغطاة بعروق متوهجة وعيون نصف مغلقة. ضربت الأرض، فتهاوى القصر المتصدع تمامًا.
القتال لم ينتهِ. بل بدأ الآن حقًا.
جاستين، بخطوة خاطفة، كان خلف كاستر، لكنه لم يهجم، بل مدّ يده نحو الفتى... وكأن الفتى ملكه.
لكن الفتى استدار، وبصوت أكثر برودة من الموت:
"لا تلمسني."
الزمن... تمزق.
حرفيًا، تشققت فراغات من الفضاء خلف الفتى، دوامات من صور مجهولة لأماكن محترقة، جثث مقلوبة، عوالم تنهار. كل خطوة من الفتى كانت تمحو الواقع من حوله تدريجيًا.
جاستين كان يبتسم خلف قناعه.
"أخيرًا... بدأت تخضع إلي."
كاستر أطلق سلسلة من التعويذات، لكنه شعر أنها لا تؤثر. حتى الرؤية أصبحت مشوشة، كما لو أن القوانين تغيرت.
"إنه... ليس بشريًا..."
تمتم العجوز، قبل أن تندلع موجة طاقة من الفتى وتطيح بهما إلى الخلف، مئات الأمتار.
السماء احترقت.
نعم، لونها تغير فجأة، وتحولت إلى حُمرة قاتمة، ثم سوداء.
وعينٌ ضخمة فتحت وسطها.
عين واحدة، لا تنتمي لكائن حي، ولا حتى لحاكم. بل تنتمي لفكرة... لكابوس.
"من هذا الفتى؟!" صرخ كاستر، ينهض من بين الأنقاض، جسده مغطى بالجروح.
ردّ جاستين أخيرًا، صوته مكتوم من خلف القناع:
"شيطان..."
وتوالى القتال بعد ذلك على مستوى آخر تمامًا.
الضربات لم تكن مجرد طاقة وسيوف، بل ذكريات تتجسد، أشباح ماضٍ لم يعشه أحد إلا هذا الفتى، صرخات تنبعث من الثقوب في السماء، وأحجار تتحول إلى وجوه تصرخ قبل أن تنفجر.
كاستر، رغم قوته، بدأ يتراجع.
المرافق العجوز، الذي ظن نفسه عاشر الموت من قبل، أدرك أنه لم يرَ شيئًا بعد.
أما الفتى... فكان ساكنًا.
---
---
---
ملاحظة المؤلف: أقتربنا من نهاية المجلد الأول والذي هو بنفس عنوان هذا الفصل "صدى الخراب"