1 - شرارة الإنسان /القصة الأولى /

الفصل الاول

القصة ١: شرارة الإنسان:

لهب صغير اشتعل في قلب بابل… فصار بداية لصراع لا ينطفئ.

سلطةٌ تدّعي القداسة، وعبدٌ يبحث عن النجاة، ونارٌ لا تعرف الرحمة ولا الولاء.

منذ تلك اللحظة الأولى، بدأ السؤال الأبدي:

هل يغيّر الزمن جوهر الإنسان… أم أن وجهه الحقيقي لا يتبدّل؟

//بابل — قرب أسوار المدينة، حوالي ١٧٥٠ قبل الميلاد //

النهار يستيقظ على الماء. قنوات الري تلمع كأشرطة نحاسية تحت الشمس، والهواء محمّل برائحة الطين الرطب، وبآثار الدخان القادمة من أفران الخبز. من أعلى، يظهر ظل الزقورة ككتلة صامتة تحرس المدينة، بينما الأسواق تبدأ في هديرها: بائعون يشهقون، حمير تجرّ عربات، ونساء يلطّخن الأواني بالطين. في حافة الحيّ، بين دهليز متعرّج وازقة، يقبع ورشة حدّاد لا تكاد الناس يبالغون في وصفها، لأن ما يحدث فيها يبدو للحاضر وحشياً، وللمستقبل مبشّراً. " نَبَار " يرفع الجزء الأحمر من الحديد على سندانه. يضرب بيده كفه قد نُحِتَت بالعمل ، والنتيجة صفاء نحاسيّ الصوت يوقظ المدينة للأمر الواقع: معدن لامع يرد الصدى. نَبَار في الخامسة والثلاثين، عيونه تتذكّر لهيب النار قبل أن تذكّره، ويداه تتقاسمان حرارته. لم يكن رجلاً عادياً في الحي؛ كان صانعاً أداة تغيّر أشياء لم تفكر بها حتى الأصوات. قبل شهرين لم تكن ورشته تختلف كثيراً من حيث الشكل، لكن في ليلة رطبة، بعد تجربة منسية مع الفحم والطرائق القديمة، اكتشف نَبَار طريقة لتوجيه الهواء في الفرن، تعديل في شكل النفّاخة، خليط من الفحم وطين صلب كالمادة، فارتفعت حرارة اللهب بحيث سمحت بصهر معدن بنقاء لم يعرفه الحدادون قبل. لم يكن اسماً للاكتشاف بعد؛ كان لهباً يتقدّ وراء بابين طينيين، وخوفاً يختبئ في عيون صاحب الاكتشاف. جاء المزارعون أولاد الصباح حاملين أغصان سعف يشكرون: المحراث الجديد الذي صنعه نَبَار اقتلع جذوراً كانت تستحيل اقتلاعها بالسكاكين السابقة. لم تعد الأرض تهمس بالجوع بنفس اللهجة. الأطفال يجرّبون مقبض المناجل، والنساء يضحكن بصوت أعلى. هذا كان جانب النور: حياة أسهل، خبز أكثر، جوع أخف. لكن لم تمضِ أيام حتى وصل الخبر إلى أسماع من في السلطة. ساعي من البلاط، متكئ على درعه، جاء يحمل ختم الحاكم. أرسل الحاكم "حمور-إيل " طلباً رسمياً: القدوم إلى القصر. ليس بصفته مكرّماً وحسب؛ بل كصانعٍ سيشرح صنعته لصانعي السيوف. قصر حمور-إيل كان ثقيلاً بالصمت الذي يسبق الحسم. الجدران مطلية بشرائط رخامية، والبوّاب يقفون كأعمدة بشرية. دخل نَبَار بخطواته الثقيلة، وقدرة على الكلام أخذت منه بعض منها. أمام العرش، حيث يجلس الحاكم ليس فقط كقاضٍ بل كقوى تتصوّر نفسها صانعة للقدر، عرض نَبَار قطعه: محراث بحدّ متين، فأس لا تنكسر بسهولة، شفرة تحمل لحماً وتترك الأواني سليمة. – ما تقول إن هذه الأشياء تستحقّ أن يكون لها مكان بين أسلحة جيشي؟ تساءل الحاكم بصوت رتيب. نَبَار لم ينهض بالكلية عن فخذه: صنعتها لأرضٍ تأكل. لتزرع، لتعبد الأرض، لتسمح للناس أن يناموا في أمان. ابتسم الوزير الذي يقف خلف الحاكم ابتسامة ليست فيها ضيافة: الحرب تحتاج من يضمن لها استمرارها. ولتبقى المدينة، لا بد من قوة تحميها. الحديد الذي تذيبونه اليوم سيصون قوانينكم غداً. في قصر السلطة لا يكون النقاش عن الخير والشر؛ يكون عن الحماية والمصلحة. اقتنع نَبَار أولاً بوعود الثواب: زيت، طحين، حُماة لورشته. ثم اقتنع بضغط الجوع: أبناء الحيّ يحتاجون إلى قوة الدفع. ثم، وعلى نحو أعمق، احتال عليه شعور الضائقة الشخصية، رغبة في الاعتراف، في أن يذكر اسمه بين أسماء المدينة. عاملٌ بسيط اسمه نَبَار لم يكن جاهزاً ليقايض حرّيته بمجد صغير، لكنه كان إنساناً، والإنسان يُبقِي فخوره في مكان ما تحت الجلد. عاد إلى ورشته ليبدأ؛ تحوّلت المطرق إلى نسخٍ من نفسها: أدوات لحقول، أدوات لسجون. بدأ بصنع رماح، رؤوس نحاسية أكثر حدة من السابق، دروع تهتدي شكلها باعتبارها حاجزاً. كل قطعة يمرّرها عبر النار تُشعره بخلل. في ليل عمل طويل، وبينما يسكب المعدن في القوالب، مرّت أمامه صور: الأطفال يضحكون على محراثه، رجلٌ جريح يحمل رأساً قد تُصنع منه رماح، امرأة تهدهد مولودها بجانب بقايا قريتها المحروقة. لا توجد في ذهنه معادلة بسيطة تعطيه راحة: هل الحياة التي جلبها لاكتشافه تُعدّ صفحته البيضاء، أم أن الدم الذي سيُسفك بها سيغلقها إلى الأبد؟ " نِسا " جاءت إليه مرّة، جالسة على عتبة الباب. كانت كتابة على ألواح الطين صارت هوايتها، وقدرتها على رؤية الناس بعيون لا ترحمهم بالحب جعلتها رفيقته في كثير من الليالي. – هل كنت أتوقع أن يأتي هذا؟ قالت وهي تلوّح بلوح طيني مكتوب عليه أبيات. نَبَار هز رأسه: – لم أفكر أبداً أن تكون النار سبب قتلى. نِسا: – النار لا تقرر خلافاً، نَبَار. لكنها تمنح من يملكها قدرة على القرار. وهؤلاء الذين يملكون القدرة لا يسألون كثيراً عمّا سيحترق على الطريق. في بيت المدينة، وسط أصوات الطبول التي تعلن جمع الضرائب، أخذت منشورات الملكية شكلها: قوائم من المدن التي يتوقع الحمولة، خرائط تظهر طرق القوافل، تعليمات لصنع مزيد من الرماح. ثم جاء الخبر: الحمولة على الطريق، وجيشٌ سينطلق. في الصباح الذي خرج فيه الجيش، كان نَبَار يظهر على بوابة الورشة، يحاول أن يتلمّس الحق الذي ارتضاه. دخلت عربة تحمل أول دفعة من الصناديق الجديدة. عندما فتح أحد الجنود غطاء صندوق، نظر إلى الرمح في يده: حدة ونصل من معدن لم يعرفه من قبل. قال بصوتٍ لم يفهمه : هذه ستخيفهم. الجيش خرج، والدخان ارتفع في الأفق بحضوره الحاسم. لم يكن هناك في البداية فرق بين القرى التي احتُرقت والحقول التي أزهرت. الأيام التالية أظهرت الفرق: من استُخدمت أدوات نَبَار في الحقول أصبح له حصّة أكبر من الطعام؛ من استُخدمت قطعته في الحرب فقد أملاً في الشتاء القادم. وصلت الأخبار تباعاً: قريتان احتُرقتا لأنهما رفضتا دفع الجزية. نَبَار رأى الأسماء تتبدل على الرسم: "حروب حمائية" صارت تُكتب في سجلات القصر بحروف رسمية بينما تُلفظ في الصدور كجملة واحدة: "فرض النظام". في وسط كل ذلك وقع حدث لم يستطع نَبَار تجاهله. جاءه رجل من قرية مجاورة، وجهه مشوّه بدخان الحريق، عيناه تحاولان أن تكتشفا إن كان في الورشة سبب للألم الذي في صدره. – ألم تكن تصنع لنا مِحراث؟ سأل الرجل بلسان يلتقط الكلمات بصعوبة. نَبَار، وقد تلوّثت يديه بالحديدة، قال بصوتٍ مكسور: نعم… وماذا حدث لك؟ – صنعوا منه سكاكين وسيوف. أحرقوا بيت أختي، قال كلماته كأنها حجر. لم يبقَ شيء سوى رماد واسم. لم تكن الكلمات تبرئه، لكنها حركت شيئاً في داخله: ليس فقط الخوف من العقاب، بل شعورٌ أعمق بالمسؤولية. كل عملية إذابة حديد، كل نمط يقرّب قطعة من الانصهار، لم تعد مجرد صنع؛ صار قراراً أخلاقياً. لكنه رجل واحد، وفي المدينة قوةٌ أبسط: هي القوة التي تطلب طاعته. في ليلةٍ تالية، وبعد أن ضاق صدره عن رؤية حرقٍ جديد، قرّر نَبَار أن يفعل شيئاً. في دفعة من الرماح التي كان من المفترض أن تُحمّل إلى ساحة الحرب، أدخل بصمته بعمق، ليس بصمة الغضب، بل تقنية صغيرة تُضعف على مقاس غير مرئي: سبيكة تجعلها تنكسر عند الضغط فوق اللازم. ليست تدميراً فجّاً، بل نوعاً من مقاومة مخادعة. لم يخطط لإنقاذ مطلق، لكنه رغب في تثبّت وجود خيارٍ آخر، نوعٍ من السقوط المبرمج للآلة. الجيش وصل للمواجهة. أثناء القتال، إحدى رماحه انكفت وتكسّرت في لحظة فارقة، فتعثّر فرس، وتجمّدت خطة كاملة. نتيجة ذلك، نجا عشرات من أهل القرية التي كانت هدفاً. الأخبار انتشرت كخلل في آلة. القصر لم يرضَ بهذا العطل. الوزير أرسل رجاله ليبحثوا عن سبب. لم يكن العثور على نَبَار أمراً عسيراً؛ أمور كهذه لا تختبئ من توازن السلطة طويلاً. جُلب إلى البلاط، ووقف أمام نفس العرش الذي قبِلته موته ونارته قبل أسابيع. قال له الحاكم بصوتٍ بارد: من أنت حتى تقرر من يعيش؟ نَبَار، وقد حاصرته الأسئلة من كل اتجاه، لم يجد كلمة دفاعية سوى الحقيقة البسيطة: صنعت ما طلبتم. لكنني لم أصنع من أجل أن يمزّق اللحم عن صدر الإخوة. حينها، حُكم عليه: غرامة، وعمله في مشروعات المدينة عدة سنوات بلا حرية. لم يكن ذلك عقاباً بالمعنى القاسٍ فقط؛ كان درساً بأن من يخترع لا يملك آخر الكلمة. من صنع أدوات لا يملك دائماً سلطة استخدام ما صنع، والناس الذين يحكمون يمتلكون دوماً الوسائل ليجعلوا من اختراعك قانوناً. لم يمت نَبَار، لكنه مات في أجزاء. مات جزءٌ من فخره، وجزءٌ من حلمه. عاد إلى ورشته بعد سنوات، وقد تغيرت اليد التي تقبض المطرقة: أصبحت أكثر توتراً، أقل اندفاعاً. نِسا لم تعد تأتي بنفس تكرارها؛ كانت تكتب الآن بصوتٍ أخفّ، كما يكتب الناجي على لوح الطين بعد أن يترك بصمة يده. نَبَار جالس أمام الفرن، يترك قطعةً من معدن تبرد على الطاولة. أمامه لوح طيني كتبت عليه نِسا بيتين: لم تُحرِق النار القرى، إنما أحرقناها بأيدينا نحن. سألوا إن تغيّر الإنسان؛ فأجابت النار بأنها لم تغيّرنا… نحن الطفاية والمشعل معاً.

نَبَار يحدّق في الحروف الطينية طويلاً. لا يملك جواباً نهائياً. كل ما استطاع أن يعيشه هو ثقل سؤالٍ صارخ: هل يتغيّر الإنسان فعلاً عبر الزمن، أم أن أدواته فقط هي التي تغير شكل الظاهر؟ هل كان الناس في زمنٍ بعيد أطيب حقاً، أم أنهم كما رأى في عين الوزير وفي قوام الجنود كانوا دوماً قادرين على جعل النور سيفاً؟ .

النهاية ليست خاتمة. الرماد لم يزل على حافة الفناء، والجمر لم ينطفئ تماما؛ لكنه لم يعد جمر نَبَار وحده. أصبح جمر التاريخ. وظل السؤال يتردد كطبل خلفي في أذن القارئ: هل الإنسان يتبدّل مع الزمن… أم أن الزمن فقط يبدّل أقنعته؟

2025/10/03 · 11 مشاهدة · 1423 كلمة
Don Doflamingo
نادي الروايات - 2025