الفصل الثاني : إدراك

لا أتذكر لحظة ولادتي، لكني أتذكر الظلام.

كانت العلية مكانًا باردًا ورطبًا، والهواء فيها ثقيل برائحة العفن.

لا أحد هنا يعرف اسمي، ولا يبدو أن أحدًا يريدني.

أسمع صوت القطرات تتساقط من سقف متصدع، وأرى الغبار يرقص في خيوط الضوء الخافتة التي تدخل من نافذة صغيرة.

كنت أزحف على الأرض الباردة، أراقب كل شيء حولي بعينين حمراوين، كانتا الشيء الوحيد الذي يذكرني أني على قيد الحياة.

لم تكن هناك أصوات سوى همسات الخدم البعيدة، وخطوات لا ترى، تمر خلف الباب، تترك لي أشياء باردة كالصحن والخبز والماء الذي لا طعم له.

مرت شهور، وأنا وحيدة، أراقب وأتعلم الصمت، لأن البكاء هنا لا يجدي نفعًا.

كنت أتعلم أن أنظر للناس وأحاول فهم تعابير وجوههم، حتى وإن لم أستطع تفسير ما أشعر به.

في عامي الأول، كانت حياتي مجرد انتظار، أزحف وأنتظر، أنتظر خطوات أو أصوات، أو حتى نظرة ترحّم، لكن لم تكن هناك.

عندما بلغت سنة ونصف، بدأت أتمالك قدميَّ المرتعشتين وأتأرجح عليها.

كنت أضحك عندما أقع، وأضحك أكثر عندما أتمكن من الوقوف والمشي بخطوات صغيرة وثابتة.

وفي عامي الثاني، بدأ العالم يأخذ ألوانًا جديدة في خيالي.كنت أتحدث إلى نفسي بصوت خافت، أنادي الأشياء بأسماء اخترعتها من عالمي الصغير: الجدار المكسور صار "العجوز"، والنافذة المغلقة أصبحت "العين النائمة".

لم يكن أحد يسمعني، لكني كنت أعيش في عالمي الخاص، حيث كل شيء له معنى وسر لا يعرفه أحد.

ومع الليل، تأتي الأحلام.

أحلام غريبة، مليئة بأماكن وأناس لا أعرفهم.

أرى أضواءً تومض فوق رؤوس الناس، مبانٍ عالية لا تصدر أصواتًا سوى الصمت، وأشخاصًا يضحكون في حدائق خضراء.

فتاة صغيرة تشاهد شيئًا مضيئًا على شاشة، تمشي في شوارع مزدحمة، تحمل أشياء ملفوفة بيديها، وتشرب من أكواب ملونة.

كل مرة أستيقظ منها وأنا مشوشة، لا أفهم ماذا تعني، لكنها تجعلني أشعر بأن هناك شيئًا آخر ينتظرني خارج عتمة العلية.

في كل حلم، تظهر امرأة.

وجهها مألوف، رغم أنني لا أستطيع تذكر اسمها.

تمد يدها لي، تبتسم، تناديني باسم لم أسمعه من قبل، وأشعر بدفء غريب يملأ قلبي.

لكن قبل أن ألمس يدها، أستيقظ، وتبقى ابتسامتها معلقة في ذهني.

الدموع تنساب على وجهي، لكني لا أصرخ.

تعلمت أن الصمت هو صديقي الوحيد، وأن دموعي قد تكون أكثر دفئًا من صراخي الذي لا يسمعه أحد.

في عامي الثالث، بدأت أدرك أنني مختلفة.

أرى أشياء لا يجب أن أراها، وأشعر بأحاسيس غريبة تسكن داخلي.

(إيلارا : سأشرح كل شيء عن الخيوط و الأحاسيس لاحقا انا اخبركم بما تراه هي بينما هي طفلة لذا لا يمكنني الكشف عن قوتها الخاصة الآن )

أحيانًا تشتعل عيناي بحمرة تشبه النار، وأشعر بقوة خفية تنمو بداخلي.

لكن لا أفهم ماذا يعني كل هذا.

كنت أسمع همسات في الظلام، كلمات لا أفهمها لكنها تملأني بالطمأنينة والقلق في نفس الوقت.كنت أبكي وأضحك في آنٍ واحد، كأنني أتخبط في عالم لا أنتمي إليه.

كنت وحيدة، بين جدران عتيقة ورائحة العفن، لكن قلبي كان يحمل أسرارًا وأحلامًا لا يعرفها أحد.

شيء بداخلي يهمس لي:

"أنتِ لستِ كما يراك الجميع... أنتِ شيء آخر."

لم أكن أفهم ما يعنيه هذا الكلام، لكنني صدقته بصمت، وكأن هذا الوعد هو كل ما أملك لأتمسك به.

وهكذا، بين الظلمة والأحلام، بين الخوف والأمل، نشأت.

طفلة في عالم كبير لا يفهمها، لكن في داخلها عالماً كاملاً من الغموض والقوة، ينتظر أن يكشف.

تسلل ضوء القمر بهدوء من النافذة الصغيرة .

أغمضت عيناي وجدت نفسي واقفة في حديقة واسعة، تحيط بي أشجار وأزهار لم أرَ مثلها من قبل.

بين ألوانها الزاهية، رأيتها تجلس على مقعد خشبي، بملامح مألوفة تحفر في ذاكرتي.

شعرت بغصة في صدري وكأنني أعرفها منذ زمن بعيد.

نزلت دمعة واحدة من عيني، دون أن أتحكم بها، وخرج صوتي أجش من بين شفتي:

*"أمي..."*

ابتسمت لي بحنان، ومدت يدها لتلمس وجهي برقة لا توصف.

لكن في لحظة، تغير المشهد فجأة.

اختفت الحديقة، وتحولت إلى غرفة صغيرة ومظلمة.

جلست على سرير قديم، بجانبه امرأة ترتدي ثوبًا أبيض بسيطًا، تنظر إليّ بعيون مملوءة بالحزن.

كان شعرها أسود كالليل، ووجهها شاحبًا كالقمر.

رفعت يدها ولمست شعري، وقالت بصوت ضعيف:

*"لم يعد هناك مكان لك هنا، يا صغيرتي."*

لم أفهم الكلمات، لكن قلبي تمزق.

شعرت بثقل رهيب يضغط على صدري، وكأن العالم كله ينهار داخلي.

تذكرت فجأة مشاهد من حياة أخرى، حياة لم أعرفها من قبل.

كنت أرى نفسي في مدينة غريبة، بين مبانٍ شاهقة وأضواء لامعة.

أصدقاء يلعبون حولي، وابتسامات تملأ وجوههم.

كانت هناك امرأة... أمي.

كانت تضحك، وتلمس وجهي بحنان لا يشوبه ألم.

لكن شيئًا حدث.

حصلت مشكلة كبيرة، شعرت بالخوف والضياع.

وكنت أرى تلك المرأة تضع رأسها بين يديها، تبكي بحرقة.

رجعت إلى الغرفة المظلمة، وكانت المرأة أمامي تبكي بصمت.

همست:*"أنا آسفة...."*

شعرت أن قلبي يتوقف عن الخفقان.

دموعها أصبحت دموعي، وحزنها أصبح حزني.

ثم جاء مشهد آخر.

كنت واقفة على جسر عالٍ، أراقب المياه الداكنة تهدر تحتي.

كنت وحيدة، لا أحد يناديني، ولا أحد يراني.

فجأة، سمعت صوتًا يناديني باسم لا أعرفه، لكنه بدا مألوفًا.

أدرت رأسي لأرى ظلاً بعيدا يلوح لي بالوداع.

استيقظت من ذلك الحلم…

لقد أصبحت شخصًا آخر.

توقفت برهة، شعرت بشيء يتغيّر داخلي، كأن خيطًا مشدودًا بين عالميْن قد انقطع، وترك خلفه وضوحًا مؤلمًا.

الآن... فهمت.

لقد مت.

متُّ من شدة الحزن، بعد رحيل أمي…

لقد ماتت بالسرطان، وكنت أنا وحيدة في عالمٍ أنهكني، ثم... انتهى كل شيء.

لكني لم أختفِ.

لقد تجسدت.

أستيقظ في جسد طفلة رضيعة حديثة الولادة، ملفوفة في قماش باهت، داخل حضن رجل عجوز لا أعرفه، بينما تجرنا عربة لا أعرف وجهتها.

كان المطر يتساقط، والدنيا صامتة... وكأن العالم يستعد ليبدأ من جديد.

وصلنا إلى قصر بارد، كبير، لا دفء فيه.

حملني أحدهم إلى علية مظلمة، وأغلق الباب خلفي.

كنت خائفة، فكل شيء بدا غريبًا ومخيفًا...

لكن وجه تلك الخادمة العجوز القبيح، وابتسامتها الشريرة، جعلني أضحك.

ضحك لم يكن فرحًا… بل محاولة يائسة لصدّ الوحدة.

كنت مختلفة.

كنت أفكر بطريقة لا يفترض بطفلة رضيعة أن تفكر بها.

أحلل، ألاحظ، أراقب.

كان لديّ وعي غريب… لا يشبه الأطفال.

كنت منبوذة.

الخدم يتجنبونني، بعضهم يضربني دون سبب، والكل ينظر إلي وكأني كائن دخيل.

وعيناي…

عينيّ القرمزيتان.

كل من رآهما، تجمّد، تراجع، خاف.

ربما لهذا أنا منبوذة…

ربما لأنني لا أنتمي لهذا العالم.

الآن بدأت أربط الخيوط:أنا في جسد طفلة غير شرعية على الأرجح.

منبوذة بسبب نسبها…

ومطاردة بالكراهية بسبب تلك العينين.

تمامًا كما في الروايات.

لكن الفرق أنني أنا البطلة… والواقع أكثر قسوة.

لكني لن أموت هذه المرة.

لن أستسلم.

لن أُمحى.

سأنجو.

(مرحبا معكم إيلارا في الفصول القادمة سأرفق صورا مع كل فصل للتوضيح فقط امنحوني بعض الوقت و شكرا لكم على القراءة ❤️♥️🖋️)

2025/08/19 · 14 مشاهدة · 1025 كلمة
نادي الروايات - 2025