الفصل التاسع: بقايا من رماد

انكسار الضوء على حواف الروح

هدوء الليل في قصر يامازاكي لا يُطمئن. إنه أشبه بموسيقى جنائزية خافتة، تنبعث من عمق الجدران كأنينٍ قديم، كأن الحجارة ذاتها تتذكّر وتبكي. الجدران تبدو وكأنها تتنفس ببطء، شهقة تلو أخرى، تحمل في زفيرها حزنًا عتيقًا لا اسم له، حزن كُتب بلغة لا تُقرأ، لكن تُشعر في العظم والجلد.

والسقوف تعاني رعشة صامتة، كأنها تحتفظ بصرخة لم تُطلق بعد. كل شيء ساكن، نعم… لكن السكون هنا ليس راحة، بل توتر مشحون، كوتر كمان عتيق مشدود حتى الحافة، ينتظر اللمسة التي ستكسره.

الهواء راكد، لكنه يلسع الجلد كأنفاس شبحٍ يهمس من زمن منسي. رائحته معقدة، غامضة، كأنها طيف من حريق قديم وكتب مهجورة وأثر عطر سيدة لم تعد تمر من هذا الممر. كل ذلك يتمازج في نَفَسٍ واحد، كأن المكان يتنفس الماضي بدل الهواء.

وفي قلب هذا السكون الغريب، ينبض القصر بقلق دفين، لا يُرى بالعين، بل يُشعر في الرجفة التي تسري في العظام، في اختفاء الأصوات قبل لحظات من صدورها، في ارتعاشة الستائر دون ريح.

إنه خوف لا يصرخ… بل يهمس ببطء، ككائنٍ بلا شكل يزحف من الزوايا، يتنقل على الجدران، يتسلل إلى الروح، يبحث عن مأوى جديد يسكنه. ككائنٍ أزليّ، ينساب عبر الزوايا، يبحث عن جسدٍ يتقمصه.

مرّ أسبوعٌ على الحادثة، لكن آثارها ما زالت تنزف في الجدران كما تنزف في صدر هوشي. القصر لم يعد كما كان، والصمت الذي كان يومًا سمة الأرستقراطية، صار اليوم ركام خوفٍ يخنق الأنفاس.

هوشي، الذي خرج من سريره بعد أيام من سكونٍ ثقيل كالغيبوبة، لم يعد هو الرجل الذي كان قبل أسبوع.

وجهه شاحب بلون الرماد، عيناه غائرتان كأن النوم هجَره إلى الأبد، ونظرته لا تعود من الفراغ بسهولة. في هذه الليلة، جلس على شرفة غرفته، يُحدّق في القمر الذي بدا وكأنه تعرض لتشققٍ قديم، يشقّ وجه السماء بين الغيوم كما تشق الندبة قلب الذاكرة.

الهواء بارد، يحمل طعماً معدنيًّا، كأنّه خرج من قبوٍ منسيّ تحت الأرض. ومع ذلك، لم يرتدِ معطفه. كأنه لم يعد يشعر بالبرد… أو كأن جسده لا ينتمي تمامًا لهذا الطقس بعد الآن.

وما يزال يتذكر، كأن الزمن رفض أن يطويه.

لهيب أزرق… ذلك اللهب الذي لا يَطفئه ماء، ولا يترك رمادًا. الرجل الذي احترق، واختفى… وكأن العالم طُوي عند تلك اللحظة.

رائحة الجلد المحترق لا تزال عالقة في ذاكرته رغم غياب الدخان.

رفع يده اليمنى، تأمل أصابعه، ولا يزال يشعر بالرجفة الخفية التي لا تغيب. لقد أخبر الجميع بأنها جروح سطحية، لكنه يعلم أن الحريق الحقيقي كان داخله.

في الأسبوع الماضي، بذل جهدًا مضنيًا ليقنع نفسه أن ما حدث مجرد وهم عابر. جلس يستمع لتقارير دوني وكأنها ترانيم يومية تُبعده عن الجنون، تظاهر بالاهتمام حين تحدث هاتوري، بل وتقبل زيارة والده النادرة، كأنها محاولة يائسة للتشبث بعالمٍ ينهار ببطء من حوله.

لكن شيئًا ما كبر في داخله، مثل بذرة مظلمة تتغذى على الصمت.

– "أنا أحتضر… ليس في الجسد، بل في المعنى."

قالها بصوت مبحوح، نابع من أعماق الذاكرة لا من الحلق. كانت كلماته تتساقط كحبات رمادٍ ساخن، لا تشتعل ولكنها تحرق.

رفع عينيه إلى السماء، يبحث عن شيء لم يعد يؤمن بوجوده—نجمة، إشارة، حتى صمتًا مختلفًا. لكن السحاب كان كثيفًا، والقمر شاحب كجسدٍ طُعن في وضح النهار. لا عزاء هناك، فقط امتداد من ظلمةٍ معلّقة.

أدار وجهه نحو الشرفة، حيث ترتجف أوراق الأشجار الخريفية بصوت يكاد يشبه الهمس البشري. بدا له أن الليل يتنصّت، أو ربما أنه هو من صار همسًا يسير في جسد الليل، لا وزن له، ولا يقين.

كان يعلم أن ما احترق لم يكن ذلك الرجل الغامض وحده، بل شيء ما فيه، شيء لم يجد له اسمًا بعد. وربما لن يجد.

لكن الأسوأ من كل ذلك… أن كل ما جمعه مع فريقه من معلومات، تلك البيانات السرية، الصور، المراسلات، الاسماء… اختفت. اختفت كما يذوب الحبر في المطر، كما تتبخر الأحلام عند الاستيقاظ.

السيرفرات التي قضوا أيامًا وأسابيع في اختراقها، التنقيبات التي أنهكتهم، ملفاتٌ كانت ستفتح بوابة إلى الحقيقة… تلاشت. لا أثر لها. مهما حاولوا استرجاعها، واجهوا ظلالًا رقمية خالية، ملفات تالفة، رموزًا غامضة تظهر ثم تختفي، كأن أحدًا ما أزالها من الزمن نفسه.

هوشي شعر حينها أن كل شيء ضاع. لم يكن فقدًا للبيانات فحسب، بل لإيمانه بأن الجهد يُثمر.

وها هو ذا، جالسٌ في ليلٍ لا نهاية له، يحدق في لا شيء، ويتساءل: هل هُزموا قبل أن تبدأ المعركة؟

في اللحظة التي خطرت فيها هذه الفكرة، دوى في داخله صدى غريب، كأنه صوت من داخله يردّدها بنبرة ساخرة. لم يكن سؤالًا بقدر ما كان اعترافًا موجعًا، وكأن كل ما فعله في الشهور الماضية كان مجرد خيال مطلي بالأمل.

نهض فجأة، كمن أفزعه حلم، أو كأن شيئًا داخله انتفض أخيرًا ضد هذا الخضوع الصامت. لم يفكر، لم يحلل… فقط تحرك. ساقاه قادته إلى الداخل بخطوات ثقيلة، مترددة، كأن الأرض ترفضه، أو كأنها تطلب منه الاعتراف أولًا.

دخل حمّامه الخاص، الفسيح والمكسو برخام أبيض رمادي يعكس ظلاله وكأنها أشباح تراقبه من كل زاوية. المرايا العالية عكست وجهه المُنهك، الغريب، عينا رجل رأى أكثر مما يجب، وجسد يحمل بقايا نار لم تُطفأ بعد.

فتح الصنبور، وتدفقت المياه الباردة كأنها خيطٌ من الزمن نفسه. حنى جسده وغسل وجهه ببطء، مراتٍ متتالية، كأن الماء قادر على أن يُنقّيه، أن يُطفئ ما عجز الزمن عن إطفائه. تساقطت القطرات على الرخام مثل همساتٍ حزينة، وارتجفت أنامله تحتها.

رفع رأسه ونظر إلى انعكاسه مجددًا. لم يرَ قائدًا. لم يرَ هوشي الذي يعرفه. بل شبحًا يقف في منتصف معركة لا يملك فيها سلاحًا.

أغمض عينيه، وأخذ نفسًا عميقًا. كان عليه أن يقرر: إما أن يستسلم، أو أن ينهض. لا خيار ثالث في حربٍ مثل هذه، خاصةً حين تكون العدوَّ فيها… هو نفسه.

لكن وسط ذلك الظلام الكثيف الذي اجتاح أعماقه، لمع وميضٌ خافت في قلبه، كأنّه همسة بعيدة… صوتٌ منسيّ تردّد داخل صدره كصلاةٍ قديمة:

"افعل هذا… من أجلها."

يوي…

وجهها خُيّل إليه كما كان في تلك الليلة، حين اقتربت منه بخجل، تطلّ إليه بعينين واسعتين، تحملان ألف خوف… وألف حب لم يُعلن بعد.

لم يكن ما فعله عبثًا. لا ذاك اللهب الذي التهم أيامه، ولا الليالي المشتعلة بالسهر، ولا الدم الذي أراقه، ولا الجنون الذي بدأ ينهش روحه. كلّ شيء… كان من أجلها.

من أجل أن تبقى يوي آمنة… ولو في الظل. أن تبتسم… ولو من بعيد. أن لا تصلها يدُ الخطر، أن لا يطالها ظُلم أو خوف أو ألم، مهما كلّفه ذلك من ثمن.

حتى لو لم تعرف يومًا ما الذي فعله، حتى لو لم تبادله مشاعره، لم يكن ينتظر منها شيئًا. لا حبًا، لا شكرًا… فقط أن تعيش. أن تُضيء حياتها كما تستحق، دون أن يعكّر صفوها وجع، أو يلاحقها ماضٍ، أو يتهدّدها غد.

كانت رغبته خالصة… حبًّا لا يتملك، لا يطالب، لا يقيد. مشاعر نقية، لا هوس فيها ولا ادّعاء… رغبة نقيّة في أن تحيا من يُحب، بسلام…..

وفجأة… فتح عينيه. كأنّ نفسه استيقظت فجأة من سباتٍ عميق…. جسده ما زال يرتجف…

كمن يتذكر أنه لا يزال حيًّا….. لكن في أعماقه، شيء بدأ يستيقظ من سباته الطويل.

رفع رأسه ببطء نحو المرآة، كأنما يجر ثقله لا جسده فقط، بل ثقل سنين كاملة من الندم، من المحاولات التي انتهت إلى حافة الهاوية. تطلّع في انعكاسه، فرأى ما هو أكثر من مجرد وجهٍ شاحب متعب؛ رأى ظلاً لما كان يومًا إنسانًا، رأى عينيه تغرقان في سوادٍ خافت، كأن كل الضوء الذي كان فيه قد انسحب، ولم يترك سوى بقايا نواة صغيرة، تتقد بصمت، تقاوم الانطفاء بصبرٍ موجع. لم يكن يعرف إن كان ما رآه قوة... أم مجرد عناد أخير.

ارتجف صدره وهو يسحب نفسًا طويلًا، كأن الهواء بات ثقيلاً في هذا المكان الضيق. حاول أن يملأ رئتيه بالهدوء، لكنه لم يجد إلا الحريق القديم يعاود الاشتعال داخله، ذلك الألم الذي اعتقد أنه دفنه مع الليالي الباردة. تمتم بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيه المرتجفتين: "لن أنتهي هنا... ليس بعد كل هذا." لم تكن الكلمات وعدًا، بل اعترافًا أخيرًا، كأنّه يشهد على نفسه، كأنّه يطلب منها البقاء رغم كل شيء.

مدّ يده إلى المنشفة، ببطء يشبه الوداع، ومسح وجهه، لا ليجفف الماء، بل ليخفي ما انسكب من دمعٍ لم يرد له أن يُرى. وتراجع خطوة إلى الوراء. لم تكن حركة بسيطة، بل أقرب إلى انكماش روحٍ تستعد لما لا يمكن احتماله، كأنّه وقف عند الحافة مجددًا، لكن هذه المرة... لا لينظر إلى الأسفل، بل ليقفز نحو ذاته، نحو كل ما هرب منه طويلًا.

لن يفرّ هذه المرة. لن يهرب من ماضيه، من ضعفه، من الخوف الذي ظلّ يطارده في كل مرآة، في كل حلم. سيواجهه، بكل ما فيه من تشققات وألم. وسوف يحميها… حتى لو احترق مجددًا.

خرج من الحمّام ببطء، كل حركة فيه تقول إنه لا يزال مكسورًا، لكنه للمرة الأولى، كان مكسورًا وواقفًا. ارتدى رداءه الداكن كمن يتسلح من جديد، لا ليخوض معركة ضد العالم، بل ليحمي قلبه، ذلك القلب الذي لا يزال يضرب لأجلها.

سار في الممر الطويل داخل القصر، بين الجدران التي حفظت صمته، والظلال التي احتضنت وحدته يومًا. لم يكن الممر أضيق مما هو عليه، لكنه شعر وكأنّه يسير في داخله لا خارجه. كانت خطواته ثقيلة، لكنها ثابتة. كأنّ كل ألمٍ فيها شهادة على أنه ما زال قادرًا على المضيّ، وإن لم يبقَ منه الكثير.

لم يعرف إلى أين يقوده هذا الطريق... ربما إلى مواجهة جديدة، ربما إلى نهاية لا مفرّ منها. لكنه هذه المرة، لم يكن ضائعًا. هذه المرة، تذكّر بوضوحٍ مؤلم، لماذا بدأ كل هذا. من أجلها.

نقطة اللاعودة: وسط نُذر العاصفة

في تلك اللحظة المعلّقة بين الليل والفجر، حين راحت السماء تُفلت أنفاسها الأخيرة من قبضة الظلام، وتتهالك كأنها أرهقها الحلم الطويل، بدأت تتشح تدريجيًا بوشاحٍ رمادي باهت، يمتدّ على صفحة الأفق مثل حبرٍ تائه فوق ورقٍ خشن. بدا المشهد كله كمقطع بطيء من حلمٍ نصف مكتمل، يتردّد بين البقاء والرحيل، كأن الفجر لم يحسم أمره بعد. وفي عمق ذلك التردّد، انزلقت سيارة سوداء فاخرة في شوارع ناغويا الخاوية، ببطء مدروس يشبه خشوع كاهنٍ يتقدّم وسط أطلال معبد قديم.

لم تكن تتحرّك، بل تنساب كما تنساب القصائد على لسان شاعرٍ غائب عن الزمان. كأنها كائن أسطوري نهض من رماد أسطورة يابانية نُسيت تحت غبار المعابد، تمشي كما لو أن الطريق كُتب لأجلها وحدها، وكأنها تحفظ خرائط المدينة عن ظهر قلب، تعرف كل منعطف وكل شقٍّ في الأرصفة كما يعرف العازف أوتار كمانه، فتتفادى الصدع قبل أن يُرى، وتلوي مع الأزقة كما لو أنها خُلقت من ظلّها.

كان لمعان الطلاء الأسود العميق يعكس شظايا الضوء المترنّح كأنها شارات نذير، تتراقص على سطح السيارة مثل طلاسم من ضوء وظلال، تنذر، تهمس، وتلوّح دون أن تُفصح. ولم يكن لمحركها أي صوتٍ يُسمع، بل كانت تتحرّك بصمتٍ غريب، أشبه بتنفسٍ خافت يوازي نبض المدينة المختبئ تحت جلد الصمت. تسير بانسيابية تجعل من الليل نفسه يتراجع احترامًا، برقّة راقصة كشبحٍ يؤدي رقصة وداع أخيرة فوق مسرحٍ لا حضور فيه سوى الأشباح والذكريات.

كل شيء فيها كان يوحي بالقدر، كأنها جزء من نبوءة تتجلّى الآن أمام عيون مدينة نائمة. من لون طلائها الذي بدا كمياهٍ سوداء ساكنة، إلى انسياب عجلاتها على الأسفلت المبلّل كأنها تمشي فوق مرآة الحاضر، إلى النوافذ المعتمة التي عكست الشوارع دون أن تفشي ما تخبئه في أحشائها. كأنها لا تنقل راكبًا، بل قدرًا يتشكّل على عجلات. كل حركة، كل اهتزاز غائب، كل ظلّ يمتدّ على جسدها اللامع، كان يهمس بأن ما سيأتي لن يشبه ما مضى، وأن المدينة، منذ تلك اللحظة، لن تعود كما كانت أبدًا.

ناغويا، تلك المدينة التي بدت وكأنها غارقة في حلمٍ جماعيٍ طويل، لا يريد أن ينتهي، كانت تستلقي تحت غطاء من الصمت الثقيل، صمت لا يشبه السكينة، بل أشبه ما يكون بالرهبة التي تسبق الانفجار، بالحبسِ الأخير للأنفاس قبل أن ينهار كل شيء. بدت المدينة ككائنٍ ضخم نائم، يتقلب في فراشه، يتململ، لكن لا يستفيق. شوارعها الخالية تشهد على هذا الخدر الغامض، وكأن الزمن نفسه قد توقف هنا ليراقب من بعيد.

الأرصفة، مبلّلة بندى الليل والمطر المتقطّع، لم تكن مجرد أحجار صمّاء، بل بدت وكأنها تحفظ آثار الأقدام الغائبة، وتردد صدى خطواتٍ لم تعد تُسمع. النوافذ، مغلقة بإحكامٍ كأنها عيونٌ أُجبرت على الإغماض، تخفي خلف زجاجها المعتم قصصًا معلّقة بين الحنين والخوف، وبين الانتظار ونسيان ما كان يُنتظر.

القطط الشاردة، بعيونها الواسعة اللامعة، كانت تتحرّك بين الأزقة كما لو كانت حرّاسًا للأسرار، تعرف جيدًا أين تنام الظلال، وأين يُخزَّن التاريخ، تتسلّل بخفةٍ العارف، كأنها جزء من نسيج المدينة لا يمكن فصله. كانت تظهر وتختفي مثل ذكرى مرّت سريعًا في البال، كأن وجودها نفسه نوعٌ من الطقس، أو من النبوءة.

الهواء، على الرغم من سكونه الظاهر، كان مشحونًا بشيءٍ لا يُوصف. يمكن للمرء أن يشعر به ينساب بين الأبنية كما لو كان كيانًا حيًا، يهمس، يراقب، يحمل في طيّاته بقايا رائحة الأمس: تبغٌ ثقيل، عطرٌ منسي، مطرٌ قديم، وشيءٌ آخر يشبه وعدًا لم يُكتب له أن يتحقق. وعدٌ يتأرجح بين الحنين والخذلان، بين الرجاء وضباب الخيبة.

كل زاوية في ناغويا كانت تنطق بالصمت، وكل تفصيل – من فتات الورق العالق في زاوية الرصيف، إلى أعمدة الإنارة التي تخفق نورها كأنها تتنفس ببطء – كان يوحي بأن المدينة تقف على حافة شيءٍ لا اسم له بعد. شيءٍ في الطريق... شيءٌ يقترب.

أضواء النيون الخافتة ظلت تخفق بإصرار عنيد، كنبض قلبٍ أنهكته الأيام، لكنها ما زالت تقاوم التوقف. كانت تتوهّج وتخبو على إيقاع غير منتظم، كأنها تلهث في محاولة يائسة لإبقاء المدينة متيقظة، أو لعلها تنذر بأن ثمة شيئًا ما يقترب — شيئًا لا يُرى، لكنه يُحَسّ، يتحرّك في العتمة كما تتحرّك النبوءات في عقل نائم.

في كل ومضة، تنعكس تلك الأضواء على برك الماء الراكدة التي خلفها المطر، فتحوّل سطحها الموحل إلى مرايا غريبة، تبث ومضاتٍ تشبه الإشارات المشفّرة. إشاراتٌ لا يقرأها إلا من ذاق مرارة الانتظار، وعرف كيف يخاطب الصمت بلغة لا تُقال. بدت تلك البرك وكأنها نوافذ إلى عوالم موازية، ترسل رسائلها للقلوب المنكوبة وحدها، لمن عاش في العتمة طويلًا حتى أصبح يرى فيها أكثر مما يرى في الضوء.

في هذه المدينة التي تنام بعين وتبقي الأخرى يقِظة، لا يوجد شيءٌ عادي. كل سكونٍ فيها مؤقت، وكل همسةٍ تسبق عاصفة، وكل تفصيل — مهما صغر — يحمل في طيّاته إنذارًا. الصمت فيها لا يطمئن، بل يُقلق، كأنه جلدٌ رقيق يُخفي تحته زئيرًا لم يُطلق بعد. وكل نبضة نيون كانت بمثابة خفقة قلب المدينة وهي تتحضّر لما لا يمكن تجنّبه.

كان السطح الأملس للسيارة السوداء يلتقط ارتعاشات أضواء النيون كما لو أنه قماشٌ أسود تُرسم عليه جداريات من الضوء والظل، تتبدّل مع كل لمحة، كأنها قصة لا تُروى بالكلمات، بل تنبض بالألوان وحدها. انعكاسات الضوء كانت تتراقص على هيكلها كأشباحٍ ناعمة، تنسج حكاياتٍ منسية على جسدٍ صامت، وتبعث فيها حياة مؤقتة لا يدركها إلا من يقرأ الجمال بعيني الحنين.

كانت الشوارع، لا تزال مبتلّة من مطرٍ سابق، تلمع كبشرة مدينة خارجة من حلم طويل. وعلى الإسفلت الغارق، انعكست ناغويا مقلوبة، كما لو أن العالم انقلب في لحظة خاطفة، فصار كل شيء يرى من مرآة ماء: الأبنية، الأضواء، وحتى الغيم الهارب من الشرق — كلّها بدت كأنها انعكاس لعالمٍ بديلٍ أكثر صدقًا، وأكثر ألمًا.

ثم بدأت حبات المطر تتساقط مجددًا، لا بعنف، بل برفقٍ مؤلم، تنزلق فوق الزجاج الأمامي كدموعٍ خجلة. كان صوتها الناعم، حين تلامس الزجاج، أقرب إلى تهويدة حزينة تهمس بها السماء لطفلٍ على وشك الفقد. كل قطرة حملت معها شيئًا: ذكرى لم تندمل، تنهيدة عابرة، أو ربما وعدًا عتيقًا نسيه الزمن. المطر لم يكن مجرد ماء — كان رسائل من فوق، من عالمٍ يعرف ما سيأتي ولا يملك حق التحذير.

أما الهواء، فقد كان مشبعًا برائحة الإسفلت المبلل، مزيجٍ خام من الأرض والمطر والتعب، تتخلله بين الفينة والأخرى نفحات عطرٍ زهريٍ ناعم، يتسلّل من حدائق نائمة في أطراف المدينة، حدائق لم يستيقظ أهلها بعد، وكأنهم أيضاً يؤجلون النهوض، انتظارًا لما سيحمله هذا الصباح الرمادي.

تحرّكت السيارة بسلاسة مريبة، كأنها مفصّلة على مقاييس الليل، تزحف بثقة هادئة كزئبقٍ يتبع خطوطًا غير مرئية على خريطة الخطر. كل التفاف لعجلاتها كان محسوبًا، كأنه مدروس في غرفة عمليات سرّية، وكل انحناءة على الطريق بدت كتحية خافتة لظلٍّ يتربص على قارعة الانتظار. لم تكن مجرد مركبة، بل أداة طقسية، تتحرّك كما يتحرّك النمر في الغابة — لا يُحدث ضجة، لكنه يترك أثرًا في الهواء، ورجفةً خفية في الأعصاب.

على جانبي الطريق، كانت أضواء المدينة البعيدة تلمع وتتراقص، تلوح مثل نجومٍ هاربة سقطت من قبة السماء، لكنها لم ترتطم بالأرض، بل استقرت على الأرصفة المهجورة، تنير الطريق لمن اعتاد أن يمشي داخل العتمة لا خارجها. كل ضوء منها كان يوحي بأن الظلام ليس سوى مسرح، وأن أولئك الذين يعرفون كيف يقرأون الظلال، يمكنهم أن يروا ما لا يُرى.

داخل السيارة، وتحديدًا في المقصورة الخلفية الجلدية الفاخرة التي تفوح منها رائحة التبغ المعتّق والمخمل المحروق، جلس السيد كينتا بهدوء حجري، كتمثالٍ خرج من كتاب أساطيرٍ قديم، يحمل في ملامحه عبء زمنٍ مضى وثقل قراراتٍ لم تُنسَ. كان جسده ساكنًا، مشدودًا بصرامةٍ لا تحتاج إلى كلمات، وهالته تنبعث من حوله كما ينبعث البخار من صخورٍ مقدّسة بعد المطر.

الظلال المنعكسة من المصابيح الخارجية راحت ترسم على وجهه خرائط من الألم والصمت، خطوطًا تبدو كندوبٍ قديمة نحتها الزمن بإزميل الخسارة. لم تكن صرامته مفتعلة، بل كانت متجذّرة في العمق، ولها جذورٌ من حروبٍ لم تُروَ، وندوبٍ لم تلتئم. عيناه، السوداويتان كجوف كهفٍ بلا قاع، كانتا تحدّقان إلى الفراغ أمامه، لكن من ينظر فيهما كان يدرك أنه لا يرى اللحظة، بل ما بعدها — المستقبل الغامض الذي تدلّت فوقه سيوف معلّقة بخيط الحذر.

لم يلتفت كينتا إلى السائق، ولا إلى الحراس المرافقين الذين جلسوا في الأمام كصخور صامتة. لم يكن بحاجة إلى النظر إليهم — وجودهم جزءٌ من نظامٍ مبرمج، لا يحتاج إلى تأكيد. كان عقله غارقًا في دوامة لا قاع لها، يتقلب فيها على مهل، بين الذكريات والاحتمالات، بين الخوف المُنكر واليقين العاجز. في تلك اللحظة، دوى داخله صدى اللقاء المرتقب — اجتماع حاسم مع قادة فروع الياكوزا، في وقتٍ يترنح فيه التوازن بين الولاء والتمرد.

الشقاق بين عائلة ناغامورا والعائلة المنشقة، دانتي، لم يعد نزاعًا قابلاً للاحتواء؛ لقد تحوّل إلى شبحٍ يتجوّل في الأزقة، ويزرع الشكّ في القلوب القديمة. وكينتا، الذي لطالما عرف متى يتقدم ومتى يختفي، بات يعلم أن الزمن هذه المرة لا يمنحه رفاهية التأجيل، ولا فسحة التردد. كل قرار بات كرصاصة في المسدس — لا رجعة فيه. وكل خطوة، مهما كانت صغيرة، قد تعني نهاية سلالة، أو بداية عهد جديد محفوفٍ بالدم.

كان يعرف أن ما سيُقال الليلة، وما سيُكتم، هو ما سيصنع الفجر الآتي، إن أتى.

في المقعد الخلفي للسيارة التي تمضي كطيفٍ أسود فوق اسفلت ناغويا الرطب، رفع كينتا يده ببطء مدروس، كمن يوقظ طقسًا سرّيًا لا يعرفه سواه. كانت حركته مزيجًا من وقار الكهنة ودقّة الجراح، فيها انضباط من عاش عمره داخل دوائر النار ولم يحترق — بل صار جزءًا منها.

من جيب سترته الداكنة، استخرج علبة "Sobranie Black Russian" المغلّفة بجلد أسود ناعم، تتلألأ حروفها الذهبية الخافتة تحت وهج المصابيح العابرة كأنها تعاويذ محفورة على غلاف مخطوطة محرّمة. لم تكن علبة سجائر، بل صندوق أسرار، تحوي داخله نَفَسًا آخر من رجل لا يدخّن ليملأ صدره، بل ليفرغ ذاكرته.

فتحها بأصابع لا ترتجف، وانتقى واحدة كما ينتقي الجندي رصاصته الأخيرة — سيجارة طويلة بفلتر ذهبي منقوش عليه شعار عائلة يامازاكي: تنين ملتفّ حول زهرة لوتس شبه متفتّحة، وكأنها لا تزال تتردّد بين الازدهار والانطفاء.

من الجيب المقابل، أخرج ولاعته. لم تكن مجرّد أداة اشتعال، بل قطعة أثرية منحوتة بدقة على هيئة تنين ينقضّ على ذيله، يدور حول نفسه في دورة لا تنتهي — رمز الخلود في ثقافة لا تؤمن بالفناء، بل بالتحوّل. كانت ثقيلة في راحة اليد، كأنها تحمل وزن ميثاق قديم، وكل نقرةٍ عليها تستدعي شُعلة لا تُشعل فقط، بل تُطلق وعدًا دفينًا.

بلمسة خفيفة، اشتعل لسان اللهب — ذهبيًّا وخافتًا كعَين مفتوحة في عتمة. لامس رأس السيجارة، فاشتعل الطرف بوهجٍ أحمر، كأنه ختمٌ ناري يُجدد صكّ ولاءه للصمت. استنشق كينتا الدخان ببطء، كمن لا يبحث عن متعةٍ، بل عن استدعاء — سحبة طويلة كأنها نَفَس كائنٍ قديم، يُعيد تشكيل ما تقشّر بداخله بفعل الزمن.

رائحة التبغ الممزوجة بنفحات فانيليا داكنة ولمسات كرز أسود معتّق، راحت تملأ المقصورة تدريجيًا، لا كدخان سيجارة، بل كبخور مذبح داخل معبدٍ مخفيّ — عبق كثيف يحمل طابع الفقد، وشيئًا من الحنين البعيد لأشياء لا يمكن تسميتها.

خرج الدخان من فمه كشبحٍ لذكرى، يلتفّ من حوله ثم يتلاشى بهدوء، كما لو أنه يودّع شيئًا لم يولد بعد. لم يكن يدخّن، بل كان يعقد صُلحًا مع أشباحه، يُرضيها، يُسكّنها مؤقتًا، ليمنح نفسه لحظة صفاء في قلب إعصارٍ لا يزال في طريقه.

في تلك اللحظة، في المقعد الخلفي من السيارة التي تمضي في شوارع نائمة، بدا كينتا وكأنه ليس جزءًا من الزمن، بل شاهده الأخير — رجلٌ يتنفّس الرماد، ويفكّ شيفرات القدر، سيجارةً بعد أخرى.

ثم مدّ يده إلى الجيب الداخلي لسترته بسلاسة رجلٍ يعرف ما يبحث عنه، وأخرج جهازًا لوحيًا نحيفًا، مكسوًا بإطارٍ معدني داكن كأنما صُنع من ظلال الليل ذاتها. ما إن لامست شبكيته مستشعر البصمة، حتى انبعث من الشاشة وهج باهت بلون الفجر المريض، غمر ملامحه المتوترة بضوءٍ باردٍ يشي بما يعتمل داخله.

ثم مدّ يده إلى الجيب الداخلي وأخرج جهازًا لوحيًا نحيفًا، فتحه ببصمة عينه، فظهر على الشاشة نورٌ باهت أضاء ملامحه المتوترة. لحظة قصيرة فصلت بين الضوء واندفاع الذاكرة، لكنها كانت كافية لإعادة كل شيء إلى الواجهة.

لم يكن التقرير الذي ظهر أمامه عاديًا، ولم يكن وصوله مفاجئًا. لقد طلبه بنفسه من دوني، بعد أن رأى هوشي ممددًا على السرير، مصابًا، غارقًا في صمت الأسى، دون أن يفهم كينتا ما جرى. لم يكن القلق عادة في قاموسه، لكنه تلك الليلة، تسلّل إلى قلبه كما يتسلّل الدخان من شقوق الجدران القديمة.

هو لم يرد التدخّل. لم يشأ أن ينتزع من ابنه حقه في إدارة معركته. كان يعلم أن الطريق الذي اختاره هوشي لا يُمهد بوصايا الأُباء، بل يُفرَش بالنار والتجربة. ومع ذلك، لم يستطع كينتا أن يقف مكتوف اليدين، والظلال تزداد كثافة، والخطر يتكاثر خلف الكواليس. أراد فقط أن يعرف، أن يراقب من بعيد، وإن احتاج الأمر... أن يتدخل من حيث لا يراه أحد.

ولذلك لم يتردد دوني. لم يخفِ شيئًا. ولاؤه لم يكن محل جدل، فالسيد كينتا لم يكن مجرد زعيم سابق، بل الأصل، الجذر، والعهد الذي لا يُنكث. نقل له كل ما توافر من بيانات ومشاهدات وتحليلات، بإخلاصٍ لا يعرف الالتفاف

راحت التقارير تتكدّس على الواجهة الرقمية كأشباح تتزاحم لتُدلي بشهادتها: فشل في استعادة بيانات من الخادم المركزي، إصابة هوشي أثناء تنفيذه المهمة في الزقاق الخلفي، ومذكرة سرية مشفّرة تشير إلى ظهور "لهب أزرق" في مقبرة قديمة بأطراف طوكيو — لهبٌ وصفته الصور الأولية بأنه غير قابل للتصنيف.

حدّق في الشاشة دون أن يرمش، كأن كل سطر يمر أمام عينيه كان ينزع قطعة من قلبه. كل تقرير لم يكن مجرد معلومة، بل تذكير بخيطٍ آخر ينفلت من نسيج السيطرة. أصابعه تجمّدت فوق الشاشة عند صورة حرارية غريبة — مشهد ضبابي لطيفٍ لا تنتمي خطوطه لأي هيئة بشرية معروفة. كتلة من وهجٍ أزرق تسبح في الظلمة.

تنفّس كينتا بعمق، شهيقًا ثقيلًا كأنما يسحب هواءً من قاع هاوية، ثم أطفأ سيجارته في المنفضة الكريستالية أمامه بحركة بطيئة محسوبة، راقب الرماد يتناثر كما لو أنه يشهد انهيار يقينٍ قديم.

همس لنفسه، بالكاد خرج صوته من بين شفتيه: "إنها ليست مجرد نار... إنها تشبه ذلك اللهب... هناك... في المشفى."

وفي لحظة صامتة خاطفة، انفجرت في رأسه الذكريات — أروقة المستشفى القديم تغص بالصراخ، لهبٌ يزحف على الجدران ككائن حي، رائحة البلاستيك المحترق ممزوجة برائحة الخسارة، وظلالٌ تبتلع الضوء… وظلٌّ واحد لم ينسه أبدًا.

كان يعلم في قرارة نفسه: ذلك اللهب لم ينطفئ أبدًا. لقد عاد — بل لم يغادر يومًا.

ذلك اليوم لم يكن حادثًا — كان كسرًا داخليًا ما زال ينزف رغم مرور السنوات.

الآن، تلك الصورة، ذلك اللهب الأزرق الغامض، كانا يعيدان كل شيء إلى نقطة البداية، وكأنهما يشعلان من جديد جذوة ماضٍ ظنّ الجميع أنها انطفأت إلى الأبد، لكن لهيبها لم يخمد، بل ظلّ يختبئ في الظلال ينتظر اللحظة المناسبة ليعود ويشتعل. في صمتٍ مثقل بالتوتر والقلق، اتصل بدونِي بصوتٍ خافت لكنه محمّل بإرادة صلبة، نبرة لا تقبل الجدل:

"افتح الملف المغلق في قبو الأرشيف... ليعلم هوشي ما نحاول دفنه ونسيانه."

ألقى الجهاز اللوحي ببطء على المقعد المقابل، كأنه يطرح ثقلًا ثقيلًا من فوق كاهله، ثم أسند ظهره إلى المقعد ببطء وهدوء، وكأنّه رجلٌ يقف على حافة هاوية لا مفرّ منها، اختار طوعًا طريقًا محفوفًا بالنيران واللهب، طريقًا نحو جحيمٍ لا عودة منه، حيث لا مكان للضعف ولا للندم، فقط عزيمة لا تلين وإصرار على مواجهة المصير مهما كانت التكاليف.

لحظة صمتٍ تامة عمّت المقصورة، كان الهواء محملاً بثقل الذكريات والهموم، يتسلل عبره عبق الماضي المختلط برائحة التبغ والدخان التي لا تزال تلوح في الأفق. لم يعد كينتا يملك رفاهية التردد، فقد اتخذ قراره الحاسم، وقرر أن يخوض المعركة الأخيرة، معركة الحقيقة والذاكرة التي ستغير مجرى حياته، وربما حياة من حوله، إلى الأبد. كانت تلك اللحظة كأنها نقطة ارتكاز، نقطة لا رجعة بعدها، حيث يتحول كل شيء إلى معركة لا هوادة فيها بين النور والظل، بين الأمل واليأس.

بعد فترة وجيزة، توقفت السيارة أخيرًا أمام واجهة الفندق الكبير، حيث ارتفعت الأبنية الزجاجية الشاهقة كحراس صامتين يشهدون على قصة جديدة على وشك الانطلاق. انعكست أضواء المصابيح الأمامية على الواجهة اللامعة، كأنها شعاع مسرحي قوي يسلط الضوء على لحظة الافتتاح الحاسمة، اللحظة التي تسبق انطلاق العرض العظيم والمصيري في حياة كينتا. كان كل شيء هنا معدًا بدقة ليتوج فصلًا جديدًا من حياته، فصلًا يحمل في طياته أملًا وثقلًا لا مثيل لهما.

خرج كينتا من السيارة بخطى واثقة وثابتة، كأنه يمشي على سجادة من لهبٍ خفي لا تشعر بحرارته، وكأن قطرات المطر التي بدأت تتساقط بهدوء من السماء تحترم مكانته، فتتردد في ملامسته، وتغير مساراتها لتتجنب قدميه بكل خشوع، كما لو أن الطبيعة نفسها تمنحه وقفة إجلال في هذا المشهد الغارق في صمت ثقيل وأمل مكبوت. كانت السماء تعزف لحناً صامتاً يتناغم مع ثقل خطواته التي لا تعرف التراجع، بينما حاولت قطرات المطر عبثًا أن تخترق حاجز العظمة الذي يحيط به، محاولة بلل معطفه الفاخر، لكنها اصطدمت بجدار هالة الحسم التي تحيط به، فبائت محاولاتها بالفشل.

اقترب كينتا من أحد الخدم، الذي تقدم فورًا بأدب جم، ورفع له المعطف الفاخر الموشح بخيوط الحرير الياباني الأصلي، المطرّز بنقوش دقيقة من خيوط ذهبية تشبه تنينًا أزرق يتلوى، رمز القوة والحكمة والسر الخفي الذي يكتنف ماضيه ومستقبله. التقط كينتا المعطف بين يديه بحنان يمزج الحزم بالرهبة، كأنه يمسك بجزءٍ من تاريخه الثقيل ومصيره المترتب. ثم ارتداه برقة المحارب الذي يلبس درعه قبل أن يخوض معركة مصيرية، درع لا يحميه فقط من برد الليل القارس، بل يحصن روحه من العواصف القادمة، ويشد أزره في مواجهة المجهول.

في تلك اللحظة، بدا كينتا كملك مستعد للحرب، محاطًا بهالة من الغموض والهيبة التي تجعل من حوله ينحني خشية أو احترامًا. كأن الأرض تهمس باسمه، والسماء ترسل له رسائل من فوق الغيوم، وكأن الزمن كله يتوقف ليستمع إلى دقات قلبه الثقيلة التي تخبر العالم بأن هذا الرجل قد عبر نقطة اللاعودة، وأن ما سيأتي لا مفر منه مهما عظمت التضحيات.

على الرصيف، استقبله ستة خدم رسميين يرتدون ملابس سوداء أنيقة، موشحة بحواف ذهبية براقة تلمع في ضوء الليل الخافت، وكأنها تروي قصة طويلة من الولاء والاحترام. انحنى الخدم بانسجام شبه طقوسي، حركة متناغمة تنبع من احترام عميق لا يحتاج إلى كلمات لتفسيره. وعلى جانبي المدخل، وقف الحراس، مشدودين كأعمدة صلبة، رفعوا سيوفهم بانضباط تام وصمت مطبق، كأنهم يؤدون طقس استقبال إمبراطور قادم من عالم آخر، يشع حضوره هيبة وسلطة لا تقبل المنازعة.

لم ينطق بكلمة….

، ولم يحتج إلى ذلك….

في عينيه وحدهما كانت هناك قصة كاملة: وجع لم يلتئم، حب لم يُفصح عنه، ونار لم تنطفئ. مع كل خطوة يخطوها نحو بهو الفندق، كانت الجدران ترتعش قليلاً، كأنها تتهيأ لتشهد ما لا يمكن التراجع عنه، لحظة ستغير مسار حياة كينتا إلى الأبد، وتكتب فصلاً جديدًا في أسطورة هذا الرجل الذي اختار مواجهة مصيره بلا تردد، متحديًا كل ظلام.

لقد تجاوز نقطة اللاعودة، تلك اللحظة الحاسمة التي تتلاشى بعدها كل طرق الرجوع، ويصبح الماضي مجرد ظل بعيد لا يمكن الوصول إليه. لم يعد هناك سبيل للعودة إلى ما كان، ولا خيار سوى التقدم للأمام في درب مجهول ومليء بالتحديات. هذه اللحظة الخالصة، حيث يتقاطع المصير مع القرار، كانت بداية رحلة جديدة، رحلة لن يعرف فيها سوى الإصرار والمواجهة، مهما علت العواصف أو كثُر الظلام.

بداية العصر الجديد وانقلاب موازين القوة

في قلب المدينة النابض، حيث يتعانق الحداثة مع عبق التاريخ، يقف فندق هوتارو بلازا شامخًا كرمزٍ للفخامة والهيبة، يحتضن بين جدرانه جناحًا خاصًا، مصممًا بعناية فائقة ليكون ملاذًا للنخبة، ومسرحًا لقصص تُكتب هنا بألوان القوة والرقي. الجناح ليس مجرد غرفة، بل هو قطعة فنية متكاملة تُجسد الروح اليابانية في أبهى صورها.

حين تطأ قدماك عتبة الجناح، تستقبلك أعمدة رخامية ضخمة، كأنها أعمدة معبد قديم يحرس سرًا دفينًا. الرخام الأبيض المصقول يعكس ضوء النجف البلوري فوقه، مانحًا الأرضية لمعة كالمرآة، وكأنك تمشي فوق سطح بحيرة هادئة في ليلة قمرية. هذه الأعمدة، الموشحة بنقوش دقيقة يابانية تقليدية، تحكي حكايات الأجداد وتُراث الأزمان، حيث يمكن لكل من ينظر إليها أن يشعر بثقل التاريخ وروح الأجداد تحيط به من كل جانب.

أعلى رأسك، تتدلى نجف كريستالية ضخمة بألاف القطرات المتلألئة التي تتراقص أضواؤها الخافتة على الجدران والأثاث الفاخر، فتخلق مشهدًا بديعًا كأنه سماء ملبدة بالنجوم المتلألئة. كل قطرة من بلورات النجف تحمل معها وهجًا من الفخامة يتسلل إلى كل زاوية، ليمنح المكان هالة ساحرة تخطف الأنفاس.

الجو مشبع بأنغام آلة الكوتو اليابانية، التي تنساب في الهواء كنسيم رقيق يعزف على أوتار المشاعر، موسيقى تتغلغل في أعماق النفس، تهدئ الروح، وتوقظ الحواس. تنبعث روائح البخور الهادئة من مزهريات خزفية مزينة بأزهار نادرة ونضرة، تنثر عبيرها بعذوبة، كأنها تنسج خيوطًا من السلام والسكينة في أرجاء المكان.

الأثاث مصنوع من خشب الساكورا الداكن، منحوت بدقة متناهية، يضم وسائد حريرية منسوجة يدويًا بألوان هادئة تتناغم مع الجدران المطلية بألوان البيج والكريمي الدافئة، لتشعر وكأنك داخل لوحة زيتية تنبض بالحياة. ستائر حريرية ثقيلة تكسو النوافذ العالية، تطايرت منها خيوط ذهبية، تسمح للضوء بالتسلل بلطف، مضفية على المكان ضوءًا ذهبيًا خافتًا، يحيط بالجناح بهالة من الحميمية والدفء.

ووسط هذا المزيج الخلاب، تنتشر اللوحات الخطية اليابانية، التي تصور مناظر طبيعية ساحرة ومشاهد من حياة الساموراي، تجذب الأنظار وتدعوك للتأمل في قصص تلتقي فيها الأسطورة بالواقع.

كل هذا يُنسج بعناية ليجعل من الجناح ليس فقط مكانًا للاجتماعات، بل تجربة حسية كاملة، حيث يُمكن للزائر أن يغوص في عمق التراث الياباني، ويشعر بثقل المكان وروحانيته، كأن الزمن قد توقف لحظةً ليمنحه هذا المأوى المقدس.

ألقى السيد كينتا كلمةً قصيرة وسط حضور مهيب، لا تتجاوز بضع دقائق، لكنها كانت كافية لتفرض صمتًا ثقيلًا يشبه الإجلال، وتترك أثرًا طويلًا في أرواح الحاضرين قبل عقولهم. امتدح خلالها بدقّة متناهية حسن التنظيم والتنسيق، مشيدًا بعناية التفاصيل التي لم تُترك للصدفة، بل صيغت كأنها جزء من طقسٍ أكبر، مُتقن ومُرعب في صمته. كلماته، وإن بدت مختصرة، حملت ثقل الجبال، تخرج من بين شفتيه كالسيف المصقول: لامعة، دقيقة، ومشحونة بوعد لا يُقال صراحة، بل يُفهم بالحدس.

نبرته كانت نبرة من لا يحتاج إلى رفع صوته كي يُسمع، ولا إلى استعراض كي يُهاب. خلف كلماته، كان ثمة تحذير مبطّن: من يظن أن الأمس لا يزال يحكم اللعبة... عليه أن يعيد قراءة المشهد من جديد، لأن قواعد اللعبة تغيّرت، واليد التي تمسك القلم الآن مختلفة.

وما إن أنهى كلمته، حتى تقدّم مدير الفندق الرسمي بخطى محسوبة، وانحنى بانضباط فائق، ثم أشار بذراعه نحو ممر طويل ينفتح من بين جناحي القاعة الكبرى، قائلاً بصوت خافت يقطر احترامًا: "من فضلك، سيد كينتا... الردهة بانتظارك."

بإيماءة خفيفة، تحرّك كينتا. انفتحت الأبواب المزدوجة أمامه ببطء طقسي، كأنها لا تُفتح لخطوات رجل، بل لقدر يمشي على قدمين.

وهناك... خلف تلك الأبواب، كان المشهد مختلفًا تمامًا.

رُدهة فسيحة تتخللها رائحة الخشب المعتّق والجلد الفاخر، تطغى عليها أضواء ثريات كريستالية ضخمة تتدلّى من سقف مرتفع كقبة معبد، تضيء الأرضية الرخامية الموشّاة بخيوط سوداء كأنها شروخ الزمن نفسه. في المنتصف، تلتقي الخطوط الداكنة عند نقطة واحدة، كأنها تجرّ الجميع إلى مصير مشترك لا مفر منه. وعلى الجدران، نقوش يابانية تقليدية تصوّر معارك من زمن الساموراي، تطلّ من خلف زجاج سميك بعيون صارمة تراقب الداخلين كأنها تحاكمهم صامتة.

على جانبي الممر، اصطفّ علية القوم في صمت مهيب: زعماء عشائر، قادة فروع، رجال لا تُذكر أسماؤهم إلا همسًا في هوامش تقارير الاستخبارات، ووجوه رمادية تعرف كيف تُخفي السكين خلف الابتسامة. كانوا يقفون بصرامة ووقار، يمدّون الأيدي تباعًا، لا لتقديم التحية فقط، بل كأنهم يقدّمون اعترافًا ضمنيًا بأن زمنًا جديدًا قد بدأ.

دخل كينتا بخطوات موزونة كنبض طبلٍ قديم، يوزّع الهيبة في صمته، ويبعث إشارات لا تُقرأ بالكلمات. صافحهم واحدًا تلو الآخر، لا يتسرّع ولا يتباطأ، يده الحازمة تختبر معادن الرجال، ونظراته، وإن كانت هادئة، تشقّ طريقها كالسكاكين، تقرأ الوجوه، تفتّش خلف الأقنعة، ترصد لحظات الارتباك والصلابة.

كان المشهد صامتًا لكنه مشحون بالتوتر، كأن الردهة نفسها تختنق بالمعاني المعلّقة في الهواء: همسات خافتة، عطور رجالية فاخرة، تبغ نادر، ونظرات تقول أكثر مما تصمت عنه.

وفي نهاية الصف، وقف السيد موري، زعيم فرع ناكاشيما، رجل ثقيل الظل، له جسد مصقول بالعراك، ولحية مهذبة تشي بالانضباط، ونظرة ذئب عجوز يعرف متى يهاجم ومتى يراقب. لم يمدّ يده فورًا، بل تقدّم خطوة، انحنى بانضباط يليق بكبار رجال الظلال، ثم قال بصوت عميق خالٍ من الرياء:

"يسعدنا أن نرحب بك، سيد كينتا. هذا الاجتماع... لن يكون كبقية الاجتماعات. إنه الحد الفاصل بين الأمس والغد."

أجابه كينتا بابتسامة ضيقة لا تكشف أسنانها، لكنها تحمل بين شقّيها نصلًا مصقولًا: "لنجعل هذا الاجتماع بداية عهد جديد... عهد لا يُبنى على رماد الأمس، بل على جمره المتقد. عهد تُكتب قوانينه باليقظة، لا بالندم... وتُرسم حدوده بالاحترام، لا بالشفقة."

ثم أشار إليه موري بيده، ليدعوه إلى قاعة الاجتماعات الكبرى.

تقدّم كينتا عبر ممرٍ ضيق مفروش بسجادٍ أحمر داكن كأنما غُمس في دم التاريخ، وعلى جانبيه شموع طويلة مشتعلة في حوامل ذهبية، نيرانها ثابتة لا تتراقص، كأنها تشهد على كل من عبر هذا الطريق. وفي نهاية الممر، ارتفعت بوابتان خشبيتان من خشب الأرز القديم، محفور عليهما تنينان متقابلان، أحدهما ينفث نارًا، والآخر يبتلعها — في تمثيل خفي للصراع الأبدي بين من يخلق النار ومن يلتهمها.

وحين فُتحت الأبواب، اجتاحت رائحة الجلد والورق العتيق المكان، وساد صمت مفاجئ كأن الجدران نفسها تحبس أنفاسها.

دخل كينتا القاعة، يتقدّم بخطى واثقة نحو طاولة الاجتماعات الطويلة في المنتصف. من خلفه، أُغلقت الأبواب بهدوء، تاركة الماضي خارجًا، ومعه كل الشكوك والولاءات القديمة. هنا... في هذا المكان، تبدأ اللعبة — لعبة لا فوز فيها إلا لمن يعرف متى يُحرق، ومتى يُحترق.

دلف السيد كينتا إلى القاعة الكبرى، وخلفه أُغلقت الأبواب الخشبية الثقيلة ببطء، كأنها تغلق خلفه فصلًا، وتفتح أمامه عصرًا جديدًا.

كانت القاعة مُعدة بعناية لا تُخطئها العين. أرضية داكنة من خشب الكوجي الياباني الثمين، طاولة مستديرة ضخمة تتوسط المكان، تحيط بها مقاعد جلدية عميقة بألوان داكنة، وأمام كل مقعد لوحة صغيرة تحمل اسم الجالس بخط يدوي محفور بعناية. الإضاءة كانت خافتة، تتسلل من بين الفوانيس المعلقة على الجدران، فيخلق تباينًا يجعل من الوجوه هالات أكثر منها ملامح، ويُضفي على الأجواء رهبة سردابٍ مقدس.

جلس كينتا في المقعد المركزي دون أن ينبس بكلمة. لم تكن الحاجة إلى الكلام ضرورية، فالحضور وحده كان إعلانًا لا يُخطئه أحد. شيئًا فشيئًا، بدأ باقي القادة في أخذ أماكنهم، وفي زوايا القاعة انزوى الحُرّاس الشخصيون، يراقبون كل تفصيلة، وكل نظرة، وكل إصبع يُرفع دون تصريح.

في المقاعد الأولى إلى يمينه ويساره، جلس ممثلو الجهات الكبرى: فرع "كوسوغاوا" الشرس، فرع "ميناتا" المعروف بحنكته الاقتصادية، وفصيل "آراكي" الذي لطالما تحرك على الحافة بين الولاء والتمرد. وأبعد قليلًا، جلس رجلان لا تُخطئ العين التوتر بينهما — السيد جينتا من الجنوب، وصاحب النفوذ الحديدي، والسيد ناغو من الشرق، الذي لا يتردّد في تهديد من يعترضه، ولو بالكلمات المبطّنة.

كانا ينظران إلى بعضهما البعض بشيء من الازدراء المكتوم، كأن صراعًا خفيًا يحترق تحت الطاولة. وكلٌ منهما يعرف أن الآخر لن يتراجع خطوة دون أن يُظهر مخالبه. في السابق، كان لقاءهما كفيلًا بتأجيل أي قرار، أما اليوم... فثمة يد جديدة على الطاولة، يد لا ترتجف، وعيون لا تلتفت إلى الوراء.

ومع بداية الجلسة، دوّى صوتٌ أجش من طرف الطاولة:

"لقد تأخرنا كثيرًا على الحسم."

كان المتحدث رجلاً مسنًا، بملامح تثير القشعريرة في النفوس. شيخ أشيب الرأس، عيونه جاحظة كأنها ترقب ما وراء الحاضر، وأنفه المعقوف يضفي على وجهه قسوة لا تخطئها العين. تجاعيد وجهه لا توحي بالحكمة فقط، بل بشيء أعمق... وأظلم. في صوته مزيج من الاستخفاف بالضعف وحنين للدم القديم.

لم يقدّمه أحد. ولم يستفسر عنه أحد. لكن من يعرف، يعرف... أن وجوده في هذا المكان ليس صدفة.

كان اسمه محفورًا على لوحته: «تاكامي هانزو».

لم يتكلّم كثيرًا. لكن نظراته كانت تتجول بين الحاضرين كما لو أنه يزن كل شخص بقيمةٍ لا يعرفها سواه. وبين الحين والآخر، كان يُصدر صوتًا أقرب إلى الشخير الساخط، عندما تُقال جملة لا تروقه.

ثم اعتدل السيد كينتا في جلسته، ورفع يده بهدوء، كأن صمته الطويل لم يكن إلا جزءًا من المسرح.

"اجتمعنا اليوم"، قال بنبرة ثابتة، "ليس لنتبادل الاتهامات... بل لنرسم ما بعد الفوضى. النزاعات أحرقت مواردنا، وفتحت ثغرات في جدران إمبراطوريتنا. اليوم... تُطوى تلك الصفحة."

ثم نظر مباشرة نحو جينتا وناغو، اللذين كانا يحدقان ببعضهما بنارٍ لا تخبو.

"الخلاف بينكما أنهك الجميع. وإن لم يُحسم هنا... فسينتقل إلى الشارع. وأنا لا أُفاوض في ظل الفوضى."

ساد الصمت، لكن لم يُقاطع أحد.

ثم تابع:

"من هذا اليوم، ستُدمج قوى المناطق الجنوبية والشرقية — تحت راية واحدة. راية يمازاكي."

تبادل الحضور نظرات سريعة، وبعضهم كتم أنفاسه. لم يكن هناك من يتوقع حلاً بهذا الجذر. لكن ما فاجأهم أكثر، هو أن جينتا لم يعترض. وناغو... ابتسم بخفوت.

"مقابل ماذا؟" سأل ناغو، ناظرًا إلى كينتا كمن يطلب اعترافًا.

أجابه كينتا بصوت أبطأ، لكن أكثر حدة: "مقابل البقاء. ومقابل امتيازات تُثبت الولاء الجديد. كل من يلتزم، سيكون شريكًا في إعادة توزيع النفوذ تحت العهد الجديد."

هنا، انحنى موري قليلًا، وأخرج وثيقة من حقيبة جلدية سوداء، ووضعها على الطاولة. أوراق سميكة، مختومة بختم عائلة يمازاكي.

"هذه الاتفاقية الجديدة"، قال موري. "بموجبها، تُعاد هيكلة السلطة، وتُؤسس هيئة مركزية تُدير التحالف. القوى الإقليمية ستبقى، لكنها تحت إشراف مباشر."

مدّ كينتا يده، ووضع ختم العائلة في منتصف الوثيقة.

"هذا هو حجر الأساس. ومن يرفض، فليعلن موقفه الآن... قبل أن يُدفن مع الأمس."

لم ينبس أحد. حتى الأشيب... اكتفى بابتسامة باهتة، كأن في داخله شيئًا يعرفه الجميع... لكن لا يجرؤون على السؤال عنه.

وبين الصمت والترقّب... بدأت أولى ملامح العهد الجديد تُرسَم بالحبر... والسكين.

عند مفترق الضوء والصدفة

كان الصباح قد بدأ ينساب على شوارع طوكيو بصمتٍ بارد، كأن المدينة تتنفس للمرة الأولى بعد ليلٍ طويل. لم تكن قد استيقظت تمامًا بعد؛ الأرصفة لا تزال تلمع بندى الليل، والضوء الخافت يتسلل من خلف نوافذ البنايات الشاهقة مثل خيوط حلم يتردد في البوح.

الهواء مشبع برائحة المطر القديم، ومزيج خافت من القهوة الأولى والسجائر الصباحية التي أشعلها عمّال النظافة والسائقون المتعبون. أضواء الإشارات تتبدل على تقاطعات خالية تقريبًا، تعكس ألوانها على الطرقات المبللة، فتمنح الشوارع مظهرًا أقرب للوحات زيتية خجولة لم تكتمل بعد.

تمرّ السيارات القليلة ببطء، محمّلة بالنعاس، نوافذها المغبّشة تحجب وجوه السائقين الذين يطاردون بداياتهم. المتاجر ما تزال مغلقة، إلا من بعض آلات البيع التي تصدر همساتٍ إلكترونية في فراغ المدينة.

المدينة، في تلك اللحظة، لم تكن طوكيو السريعة، الصاخبة، المتوهجة... بل كيانًا ضخمًا يتقلب في فراشه، بين آخر كابوسٍ ليلي وأول همسة ضوء.

كانت ناتسومي تقود دراجتها النارية السوداء عبر أحد الأزقة الضيقة في حي يوتسويا، حيث تتشابك أسلاك الكهرباء فوق الرؤوس كشبكة عنكبوت مهترئة، وتنبعث من النوافذ نصف المغلقة روائح الشاي القديم وحساء الفطور الباكر. كانت المدينة لا تزال تتثاءب في كسَل، فيما كانت ناتسومي في سباق صامت ضد تعبٍ ينهش أطرافها ببطء.

عيناها نصف مغمضتين، تتراقص فيهما ظلال الليلة الماضية. خوذتها مرفوعة قليلاً عن جبينها، تكشف عن خصلات شعرها المتعرقة وعلامات الإرهاق المرسومة بوضوح على وجهها. الهواء البارد يلسع بشرتها المكشوفة، لكن لا شيء فيه يُنعشها. كانت تقود ببطء، ليس حرصًا على الطريق، بل لأن جسدها ببساطة لم يعد يملك طاقة للعجلة.

لم تنم منذ أكثر من يوم، ولم تأكل منذ البارحة، والمعدة الخاوية بدأت تصدر أصواتًا خفيفة، تتناغم مع نبض رأسها المتعب. شعرت كأن عظامها تتحرك بتردد، وكأن دمها فقد حماسته المعتادة… ذاك الحريق الداخلي الذي اعتاد أن يدفعها للأمام، اختفى. أو ربما أُخمد مؤقتًا.

كانت تبحث — أو هكذا أقنعت نفسها — عن مقهى يفتح مبكرًا. مكان يقدم قهوة سوداء مرة دون أسئلة، ومقعدًا لا يطلب شيئًا سوى الصمت. لكن الحقيقة الأعمق، أنها لم تكن تبحث عن قهوة، بل عن لحظة هدوء. أو عن مخرج غير معلن من يومٍ آخر لا يشبه الحياة.

في كل شارع تمرّ به، كانت تنظر إلى الأرصفة الخالية بنظرة غريبة: لا تنتظر أحدًا، لكنها كانت تأمل أن تجد شيئًا — أي شيء — يعيد لها الإحساس بأنها لا تزال موجودة فعلاً.

وفي لحظة خاطفة، بينما كانت ناتسومي تلتفّ حول زاوية مبللة بحواف من الطحالب والبرد، انزلقت عجلة دراجتها فوق بقعة زيت خفية. لم يكن هناك وقتٌ للتفكير. فقط شعور خفيف بعدم الاتزان... ثم خلل مفاجئ في التوازن.

ارتطم الإطار الأمامي بعجلة قمامة صدئة عند طرف الرصيف، فاختنق صوت المحرك بعنف، وتهاوت الدراجة الثقيلة إلى جانبها بصوت معدني مكتوم، تبعه صدى ارتطام غطّى على همسات الصباح.

حاولت ناتسومي أن تتماسك، لكن جسدها كان أبطأ من الخطر. انزلقت قدمها، وسقطت على ركبتها اليسرى بقوة، بينما استقرت الدراجة إلى جوارها، محاصرة نصف جسدها تقريبًا. شعرت بلسعة ألم حادة، كأن إبرةً ساخنة غرست فجأة في مفصل ركبتها.

"تفو...!" بصقت بغيظ وهي تحاول دفع الدراجة عنها، لكن الألم شدّ عليها بقسوة، ومنعها من النهوض.

ثم، وسط الصمت المشوّش، جاءها صوت ناعم، دافئ على نحوٍ غريب، كأنه نزل من مكان أعلى من هذا الزقاق الرمادي.

"هل... أنتِ بخير؟"

كان الصوت خجولًا، لكنه صادق... يحمل ذلك التناقض العذب بين الحذر والنية الطيبة، كما لو أن صاحبته لا تعرف كيف تكون جريئة، لكنها في تلك اللحظة لم تستطع أن تبقى في الظل. جاء ناعمًا، واضحًا، يشبه نسمة صباح بكر، تتردد قبل أن تلامس خدك—خجولة لكنها صادقة في حضورها. لا يحمل استعجالًا، ولا يطلب شيئًا، لكنه يملأ الفراغ بين الصمت والقول بشيء يشبه العناية.

رفعت ناتسومي رأسها ببطء، وصوت دقات قلبها بدا لها أعلى من صوت الريح. ووقعت عيناها على فتاة تقف بجانبها، تمسك بمظلّة شفافة تقطر منها قطرات ندى، انحبست على سطحها كحبّات زجاج صغيرة، تلمع في الضوء الخافت كأنها نجوم سقطت من سماء مائية.

جسد الفتاة كان منحنيًا بخفة، كأنها تحاول الاقتراب دون أن تُخيف، وكأنها تتردد بين أن تقترب أكثر أو أن تعتذر وتنصرف. في تعبير وجهها كان هناك شيء من الحذر، شيء من اللطف المكبوت، كمن يعرف أن وجوده قد يُربك، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل نداء القلب.

كانت ترتدي زيًّا مدرسيًا نظيفًا، مكويًا بإتقان يكشف عن شخصية مرتبة، منظمة أكثر مما ينبغي. حقيبة جلدية داكنة مشدودة بإحكام على كتفها النحيل، كأنها تخاف أن تفلت منها أشياؤها أو جزء من عالمها المرتب بعناية. شعرها الطويل الأسود، المشوب بلمحة زرقاء خفيفة، كان ينسدل على كتفيها بهدوء مائي، يتمايل مع نسيم الصباح كوشاح من حبر حيّ، فيه نعومة الحكايات التي لا تُروى.

أما بشرتها، فكانت بيضاء نقيّة، لكن ليس بياضًا باردًا… بل أقرب إلى الخزف الياباني العتيق—رقيق، هشّ، ومثير للخوف من أن يتشقق. نوع الجمال الذي لا يُحدق فيه طويلاً دون أن يراودك شعور بالذنب، أو بالحنين لشيء لا تعرفه.

لكن أكثر ما شدّ ناتسومي لم يكن مظهرها الخارجي، رغم غرابته.

كانت عيناها...

زرقاوان، نعم، لكن ليس كأي زرقة أخرى. كانتا مثل بحر ساكن في شتاءٍ نائم، بارد، غير مضطرب… لا تموج فيه الريح، ولا ينعكس عليه شيء. فيهما صفاء مخيف، جمال أقرب إلى الحزن منه إلى الدفء. نظرة لا تبحث، ولا تنتظر، بل تشاهد فقط. عينا شخص رأى الكثير، وفقد أكثر مما ينبغي. لكن خلف ذلك الصفاء، كان هناك شيء مألوف. شعورٌ خفيف كـ"ديجافو" مزعج، كأن ناتسومي رأت هاتين العينين من قبل، في حلم؟ في ماضٍ بعيد؟ في مرآة مهشّمة ربما؟ لم تستطع أن تجزم… لكنها شعرت بشيء يتحرك في صدرها ببطء، كأنه ذاكرة تستعد للعودة.

على شفتي الفتاة، كانت ترتسم ابتسامة صغيرة، هادئة… ابتسامة لا تعرف الفرح الكامل، لكنها لم تُصنع من الحزن وحده. لم تكن مجاملة، ولا حتى علامة شفقة. بل كأنها تنتمي إلى عالم آخر. ابتسامة من يعرف الكثير، ويرفض البوح. ابتسامة خفيفة كظلّ ورقة فوق ماء، كأنها تخفي شيئًا قديماً… هشًا… متردداً في الظهور، يخشى أن يُكسر إن نُظر إليه طويلاً.

وكان كل شيء فيها... هادئًا أكثر من اللازم، غريبًا أكثر مما ينبغي، وجميلاً بطريقة أربكت ناتسومي، دون أن تفهم السبب تمامًا.

لثوانٍ، لم تسمع شيئًا سوى نبضها المتسارع وصوت المطر الخفيف وهو يتساقط على المظلّة الشفافة مثل همس بعيد. الهواء كان باردًا، لكن الدفء الذي لفّ المشهد لم يأتِ من الطقس—بل من حضور تلك الغريبة، التي بدا أنها خرجت من حلم ناتسومي القديم دون أن تذكر متى حلمت بها.

"أنا بخير…" تمتمت ناتسومي أخيرًا، بصوت متكلف أقرب إلى العناد منه إلى الحقيقة، وهي تحاول أن تدفع جسدها إلى الوقوف. حاولت أن تبدو قوية، كما اعتادت. لكن ركبتها خانتها، ويدها ارتجفت قليلاً حين وضعتها على الأرض لتنهض.

ولم تمر لحظة حتى تقدّمت الفتاة بخطوة سريعة، صوت حذائها المدرسي ناعمٌ على الأسفلت الرطب.

"ركبتك تنزف قليلاً. لا تتحركي كثيرًا."

كان صوتها هذه المرة أكثر حزمًا، رغم لينه. فيه تلك الطبقة غير المرئية من القلق، كأنها كانت تعرف الألم جيّدًا، وتخافه حتى حين لا يظهر.

ثم جثت على ركبتيها بجانب ناتسومي دون تردد، وكأن الجلوس إلى جوار غريبة على الأرض المبللة لم يكن أمرًا غير معتاد لها. أخرجت من حقيبتها منديلاً أبيض صغيرًا، نظيفًا بعناية، عليه رائحة خفيفة تشبه زهر الليمون المجفف.

لم تقل شيئًا. فقط بدأت تمسح الدم برفق، دون أن تُظهر اشمئزازًا أو ترددًا، أصابعها الصغيرة تتحرك بثقة خافتة، وكأنها تقوم بطقس قديم حفظته عن ظهر قلب.

أما ناتسومي، فقد ظلّت تراقبها في صمت مشوش.

لم تعتد على هذا النوع من العناية. لم تعتد على أن يلمس أحدهم جلدها المحروق دون أن يخفض عينيه، أو يُخفي توتره. كانت تعرف تمامًا ما تعنيه نظرات الآخرين… كم هي سريعة في التحول من الفضول إلى النفور، من التعاطف إلى الخوف. الناس لا يلمسون الندوب. يتظاهرون أنهم لا يرونها، أو يحدّقون فيها أكثر من اللازم. وفي كلتا الحالتين، يشعرونها وكأنها شيء معطوب يجب وضعه في الزاوية.

لكن هذه الفتاة… لم تفعل شيئًا من ذلك.

بل جلست ببساطة، تمسح الدم، تثبت المنديل فوق الجرح بثبات يدٍ صغيرة، لكنها شجاعة. لم ترمش كثيرًا، لم تتراجع. وكأن الجرح لا يخيفها… بل كأنها تعرفه.

"أنتِ..." قالت ناتسومي أخيرًا، وصوتها خرج أثقل مما أرادت، مزيجًا من السخرية والمرارة والدهشة، "ألا تخافين مني؟"

لم تكن تسأل حقًا. كان السؤال أقرب إلى محاولة اختبار، أو حتى نداء يائس لشيء يشبه الحقيقة. صوتها لم يكن فيه عدوانية، بل خفّة شخص اعتاد أن يُساء فهمه، فقرر أن يبدأ الهجوم قبل أن يُجرح مرة أخرى.

لكن الفتاة لم ترد بسرعة. بقيت تنظر إلى ركبة ناتسومي، تُثبت المنديل جيدًا، ثم رفعت عينيها أخيرًا.

"لماذا أخاف من شخص جريح؟" همست، وكأنها تعيد السؤال على نفسها لا لترد عليه فقط، ثم أضافت، بصوت أكثر هدوءًا، "وجميل؟"

ناتسومي تجمّدت.

كانت تنظر إليها، تتوقع نظرة شفقة، أو نكتة غريبة، أو حتى محاولة تهكم. لكن الفتاة قالتها وكأنها ترى ما لا يراه الآخرون… أو لا تهتم بما يرونه. قالتها كمن يصف شيئًا رآه منذ زمن طويل، وكان ينتظر الفرصة ليراه مجددًا.

"جميلة؟" كرّرت ناتسومي الكلمة ببطء، وكأنها تسمعها لأول مرة، وكأن فمها لا يعرف كيف ينطقها عنها، كيف يسمح لها أن تكون حقيقية وهي موجهة إليها. نبرتها اختلط فيها الشك والتعجب، لكن كان هناك شيء أعمق، شيء خافت مثل نور شمعة في غرفة مغلقة… شيء يشبه الأمل، لكنها لم تكن تجرؤ على تسميته. ليس بعد.

وكان وجه الفتاة لا يزال يحمل تلك الابتسامة الغريبة... الهامسة، غير المؤكدة، التي تُشبه وعدًا قديمًا لم يُقطع بصوت، لكنها تخبّئ ما لا يُقال. لم يكن فيها ادّعاء أو مجاملة؛ كانت ابتسامة فتاة لم تتعلّم بعد كيف تُخفي صدقها خلف كلمات دبلوماسية.

"جميلة؟" أعادت ناتسومي الكلمة مرة أخرى، هذه المرة بنبرة أشد جمودًا، كمن يحاول أن يقنع نفسه بأن الأمر لا يهم، أو أنه مجرد مزاح رديء في صباح بائس. "أنتِ تمزحين… أليس كذلك؟"

لكن يوي حرّكت رأسها نفيًا بهدوء، بعينين لا تتهربان. ابتسامتها الصغيرة لا تحمل خجلًا، بل ذلك النوع من اللطف الذي يأتي من عمق، لا من شفقة.

"لا. أقصدها." قالتها ببساطة، كما لو أن الجمال في ناتسومي كان بديهيًا مثل تنفّسها، ثم أضافت بصوت أهدأ، يتردد قليلًا لكنه صادق:

"هناك… شيء فيكِ. قوي، وصادق. مثل… النار. لا تُشبه أحدًا."

قالت يوي تلك الكلمات وكأنها تمشي على أطراف قلبها، تخشى أن توقظ شيئًا كان نائمًا طويلاً. لم تكن نبرة جرأة، ولا إعجابًا تقليديًا، بل شيء هشّ… مثل ورقة جافة تهمس في مهبّ ريح. كانت تختار كلماتها كأنها ترتّب أزهارًا فوق قبر، بلطفٍ لا يخلو من الحزن.

كلمة "النار" لم تكن إهانة، ولم تكن حتى استعارة فارغة. كانت أشبه باعترافٍ خافت، بأن الجمال لا يعني دائمًا النعومة، ولا الطمأنينة، ولا الوجوه المتناظرة. أحيانًا يكون الجمال هو البقاء… البقاء رغم الحريق، رغم الرماد، رغم النظرات التي لا تعرف الفرق بين الندبة والنجاة.

وناتسومي… لم تردّ على الفور.

حدّقت في الفتاة أمامها كأنها تسمع شيئًا لم يُقال لها قطّ، كأن الصوت لم يصدر عن فمٍ صغير، بل عن مساحةٍ بعيدة داخلها كانت مهجورة منذ زمن. نظرتها لم تكن هجومية، ولا دفاعية، ولا حتى متفاجئة. كانت شبيهة بنظرة جندي خرج لتوّه من خندقه، يرمق السماء لأول مرة، ويتساءل إن كانت ما تزال زرقاء.

السكوت طال قليلاً. لم يكن ثقيلًا، بل كأن الزمن نفسه توقّف ليرى: هل سيحدث شيء جديد؟ هل سيحدث شيء… جميل؟

ثم حرّكت ناتسومي رأسها قليلًا، لا لتتفاخر أو تتدلّل، بل كأنها تواسي نفسها أولًا. وقالت، بصوت خفيض… نبرة لم تكن تعلم أنها تملكها، كأنها خرجت من غرفة مظلمة داخلها لم تُفتح منذ أعوام:

"أنتِ أول من يقول لي ذلك… دون أن يهرب بعدها."

كانت الكلمة الأخيرة —"يَهرب"— تنزف أكثر من أي جرح. لم تكن تشير فقط إلى الآخرين الذين أبعدوا وجوههم، ولا إلى كل من انكمش حين رأى الندوب، بل إلى تلك اللحظات الصغيرة التي كانت فيها وحيدة بين الزحام، تتظاهر بالقوة، وتتقن الصمت… لأن الكلام كان دائمًا يُفرّغها بدل أن يُنقذها.

حلّ صمت آخر… لكنه هذه المرة كان يشبه نسمة دافئة، تمرّ على قلبها كأنها تقول: "أنا هنا."

يوي، التي كانت لا تزال تجثو بالقرب منها، خفضت بصرها إلى الأرض، وعضّت على شفتها السفلى للحظة. كأنها تخشى أن تُرى أكثر مما ينبغي، أو أن تُفسر نظراتها خطأ. ثم، ببطء شديد، رفعت عينيها، وقالت، بصوت لا يكاد يُسمع… لكنه مشبع بشيء لا يُزيف:

"لا أعرف… كيف أشرح. لكنكِ بدوتِ لي مثل زهرةٍ نبتت في الرماد… غريبة، نعم، لكنها لا تزال حيّة. ما زالت تقاوم، برغم كل ما حولها."

توقّفت قليلاً، كأنها تنتظر رفضًا، أو ضحكة، أو أي شيء يُثبت أنها قالت أكثر مما ينبغي. لكنها لم تسمع شيئًا.

فأكملت، بصوت أكثر خفوتًا، أكثر خجلًا، وكأنها تبوح بسرّ لا يخصّها وحدها:

"هناك شيء فيكِ… يشبه النور حين يولد من قلب الظلمة. نور خافت، لكنه… لا ينهار. ولا يكذب. ولا يُشبه أحدًا."

ارتبكت في نهاية جملتها، وتراجعت بخفة، كأنها خشيت أن تكون اقتربت كثيرًا.

لكن ناتسومي… لم تتحرك.

كانت تحدّق بها، تحدّق وكأن تلك الكلمات التي قالتها الفتاة —الخجولة، المبللة، الضعيفة ظاهريًا— كسرت شيئًا لم يكسره أحد قبلها. لم تكن تعرف كيف ترد، لأن الكلمات التي قيلت لم تكن بحاجة إلى رد… بل كانت بحاجة إلى تصديق.

وفجأة، شعرت ناتسومي وكأن هناك يدًا غير مرئية امتدت داخلها، ولمست شيئًا ناعمًا، متربًا، مُهملًا منذ زمن بعيد. شيئًا يُشبه الأمل… أو الرغبة في الإيمان بشيء أبسط من الرفض، وأصدق من الخوف.

يوي لم تجب في الحال. فقط نظرت إلى الأرض، وراحت تمسك بطرف كمها بإبهامها، عادة قديمة تعود كلما شعرت أن الكلمات تسبقها، أو أن المشاعر خرجت عن الحد الآمن.

لكن رغم ذلك، أرادت أن تقول شيئًا.

ولم تكن معتادة على الكلام… إلا حين يستحق.

لذلك، وبعد تردد قصير، قالت بصوت خافت، متقطع قليلًا:

"الناس… يقولون هذا كثيرًا."

ثم توقفت، وكأنها تنتظر أن يُقاطعها أحد، أو أن يُقال لها إن ذلك لا يهم.

لكن ناتسومي لم تتكلم، ولم تهرب.

رفعت يوي عينيها ببطء، وتابعت، بصوتٍ فيه رجف خفيف، لكنه صادق:

"هو أيضًا… قالها لي."

لم تُفسّر من "هو". لكنها كانت تشير إلى ذلك الصوت القديم، الذي ما زال يهمس في رأسها بصوتٍ أجش:

"انت غريبة… هذه العيون المقززة."

كانت تذكره، الرجل العجوز، الجالس تحت ضوء مصباحٍ أصفر، يضع الصحيفة جانبًا دون أن ينظر لها، ويقولها كأنها حقيقة بديهية.

لكن ما زاد من ارتباكها كان ذاك الوميض الضبابي للذكرى، شبحٌ يتسلل من عمق النسيان، لا يكتمل ولا يستقر، كحلمٍ مشتتٍ يرفض أن يُفارقها. غرفةٌ بيضاءٌ مشرقة، جدرانها ناصعة البياض، كأنها تفُصلها عن العالم كله بحاجزٍ من النقاء البارد، وإضاءةٌ حادةٌ تفرض نفسها على كل زاوية، تكاد تُحرق الأفق برقتها القاسية.

في تلك الغرفة، يقف رجلٌ يرتدي معطفًا أبيض، صامتًا لكنه ثاقب النظر، كأنه مراقبٌ يتأمل وجودًا غريبًا أتى من عالم آخر، شيء لا يُفسَّر ولا يُحتمل. صوته، حين انطلق، كان باردًا كالمعدن، جافًا كنسمة رياحٍ قاسية تخترق العظام:

"إنها… غريبة. ومضطربة."

ثم تراجع خطوة واحدة إلى الوراء، وكأنها تهديدٌ صامت، أو خطأ قد يلوث محيطه البهيج. كانت تلك الحركة علامة تحذير، كأنها تبتعد عن شيء لا يمكن فهمه أو الاقتراب منه.

ورغم محاولاتها اليائسة دفن تلك الصورة بعيدًا في أعماق ذاكرتها، كانت ترددها بلا هوادة، يعاودها كالصدمة التي لا تلتئم، يطرق أبواب عقلها دون استئذان، يطاردها في صمت، ويترك قلبها في هدوءٍ مرعب من الأسى والارتباك.

رمشت يوي، كأنها تطرد تلك الصور. ثم نظرت إلى ناتسومي وقالت بخجل، وهي تكتفي بنظرة سريعة، لا تدوم طويلًا:

"لكنّكِ لم تقوليها بنفس الطريقة."

وصمتت لحظة، ثم أضافت:

"شعرتُ… أن فيكِ شيئًا يشبهني. كأنّ حزنك... يعرف حزني."

قالتها بصوتٍ يكاد يُهمس، كأنها تخشى أن تُخطئ التعبير، أو أن تُؤخذ كلماتها على غير معناها.

كانت تعلم أن هذه ليست كلمات تُقال بسهولة، ولا تُمنح لأي أحد. لكنها قالتها… لأنها شعرت أن ناتسومي كانت بحاجة أن تسمعها بقدر ما كانت هي بحاجة إلى قولها.

ناتسومي لم تجب.

لكن ابتسامتها كانت حقيقية. ولأول مرة، بلا قناع.

أنهت يوي تضميد الجرح بهدوءٍ متأنٍ، ثم نهضت بتلك الخطوات التي تخفي خلفها ارتباكًا عميقًا، كأنها تخشى أن تزعزع توازن اللحظة الرقيقة التي جمعت بينهما. مدت يدها بخجلٍ، ليس طلبًا، ولا فرضًا، بل عرضٌ صادقٌ وهادئ، لا يتراجع رغم خجله.

أمسكت ناتسومي يدها بلطفٍ، وشعرت في تلك اللحظة بفراغٍ غريبٍ يتلاشى بين أصابعهما؛ إذ وقفت أمام فتاة تبدو صغيرةً، رقيقة، كأنها زهرة نمت في الظل، بينما هي تقف طويلةً، كالبرج الذي يظلّها من عواصف الحياة. هذا الاختلاف بينهما لم يكن مجرد فارق مادي، بل كان كأنهما قصتان مختلفتان تتشابكان في لحظة صمتٍ عميق.

بصوتٍ خافت يحمل دفءً غير معتاد، همست ناتسومي:

"أحيانًا، من يبدو أضعف، يكون أقوى مما نتخيل… يحمل في صمته شجاعة لا نراها."

يوي لم تجب، اكتفت بهزة رأسٍ خفيفة، كأنها تعترف بالكلمات، لكنها لا تستطيع النطق بما في قلبه

ابتسمت، لكن الابتسامة كانت مثقلة بعبء الوعي، وقالت بنبرة رقيقة تختلط فيها العاطفة بالحذر:

ما اسمك؟" كان صوت ناتسومي هادئًا، لكن داخله خفقانٌ خافت، يسبق إدراك أمرٍ جديد.

"يوي." أجابت بصوت خافت، لكنه كان يحمل ثقلًا خفيًا، كأنه ينبوع من القوة المكبوتة، تنبعث من عمق روحها الخجولة.

حين التقت أنظارهما تحت قطرات المطر الرقيقة التي تراقصت على رصيف المدينة المبلل، وبين أضواء الشوارع التي ترشّد الظلام بوهج خافت، شعرت ناتسومي بشيءٍ ثقيل يهبط على صدرها. تلاقت يداهما بتردد، وكأن العالم توقف للحظة ليستمع إلى نبضات قلبين تحاولان أن تفهما بعضهما في خضم هذا الصخب.

فجأة، استيقظت في ذهنها حقيقة مزعجة ومريرة، معلومة كانت مستترةً في ظلال تلك المدينة الصاخبة؛ يوي، الفتاة التي أمامها، ليست مجرد مجهولة عابرة. كانت هي نفسها تلك الغامضة التي ارتبط اسمها بأحاديثٍ مكتومة وأحاديث سُرّية بين مارك، وجين، وهاتوري. تلك الفتاة التي كان هوشي، ابن أخ ناتسومي، قد احتلّت قلبه برقة وحنان لا يعرفهما سوى القليل.

مارك أخبرها بنفسه عن التحقيقات التي تدور حولها، عن الحماية الصامتة التي تحيط بها من الظل، عن الخطر الذي يتهددها، وهي لا تدري.

ابتلعت ناتسومي أنفاسها، ووقفت للحظة تتأمل تلك الفتاة الصغيرة الرقيقة التي تبدو هادئة وخجولة، لكن خلف تلك الهالة الضعيفة تخبئ ماضيًا مظلمًا لا يزال يتنفس في صمت.

وفي قلب هذه الحقيقة، بدا حب هوشي ليوي كزهرة وحيدة تنمو وسط صحراء قاحلة؛ حب نقيّ وهادئ، يُشعل في داخلها نورًا خافتًا، يبدد ظلال الوحدة والخوف التي تحيط بها. ذلك الحب الذي كان سببًا في كل الحذر، وكل الهمسات، وكل الحماية التي لم تُعلن بعد.

ابتسمت ناتسومي، ابتسامة رقيقة مشحونة بعاطفة جديدة، وقالت بنبرة تمزج الحذر بالحنان: "يوي… اسم يحمل في طياته الكثير من الصمت، وربما الكثير من الأمل."

نظرت يوي إليها بعينين تلمعان بالخجل، أهدرت للحظة كلماتها وكأنها تبحث عن شيء في داخلها، ثم همست بصوت خافت، كأنه نسمة خفيفة تحرك أوراق الخريف: "ربما… الصمت هو منزلي… والأمل زائرٌ لا يطيل البقاء."

ضحكت ناتسومي بخفة، لأول مرة منذ أيام، وبدت تلك الضحكة كنسمة دافئة تنفستها المدينة بعد مطر طويل. ذاب شيء متيبّس في ملامحها، وتفتحت ابتسامة صغيرة، حقيقية، لا تحمل سخرية ولا تكلّف. وكأنها، لوهلة، تذكرت كيف يبدو طعم الحياة حين يلامسها أحدهم بلطف.

قالت بهدوء، بصوت يحمل شيئًا من الحذر وشيئًا آخر من الطمأنينة: "أنا ناتسومي."

ارتبكت يوي للحظة، ثم انحنت برأسها قليلًا، كما تفعل حين تخجل، وخرج صوتها خافتًا، كنسمة تهرب من بين أوراق خضراء: "تشرفتُ بكِ، ناتسومي-سان…"

نظرت إليها ناتسومي، وشيء دافئ مرّ في عينيها، ثم ردّت بنبرة مرحة، لكن فيها من الودّ ما يكفي ليذيب كل الجدران: "الشرف لي."

ساد بينهما صمت رقيق. المطر يهمس للأرض من حولهما، ونور الشارع يرتجف على الأسفلت المبلل، بينما تقفان وجهاً لوجه، كأن الزمن توقّف لحظة ليسمح لشيء صغير أن يولد.

لكن عيني يوي تحركتا سريعًا. لاحظت كيف أن لدم قد جفّ على الجلد في خطوط رفيعة على ركبة ناتسومي التي عالجتها بعجل ، وخدوش خفيفة على كفها تحكي عن سقطة لم تكن هينة. وتلك الرجفة الخفيفة في يدها، لم تكن تخفى على من يحدّق بعناية.

شعرت يوي بوخز صغير في صدرها، مزيج من القلق والعجز. أرادت أن تفعل شيئًا، أي شيء، فقط لتمنح تلك الفتاة بعض الراحة، بعض الدفء.

تمتمت بصوت متردد، لكن صادق: "هل… هل تمانعين إن… ذهبنا إلى مكان دافئ؟ ربما صيدلية أولًا… أو مقهى؟"

قالتها بتردد، كأنها تخشى أن تتطفل. لكنها في أعماقها، كانت تريد أن تطمئن. أن ترى ناتسومي تجلس، تستريح، وتضمّد جراحها في مكان لا تهطل فيه السماء على جراحها المفتوحة.

رفعت ناتسومي عينيها، ونظرت إلى يوي طويلاً، وكأنها تقرأ بين الكلمات أكثر مما قيل. ثم ابتسمت، ومالت برأسها بخفة: "المقهى أفضل… الكافيين أسرع من كل الأدوية. وأنا… لا أمانع القليل من الدفء."

كان المطر قد خفّ، وبدأت السماء تميل إلى السكون، لكنّ قلب يوي ظلّ يخفق بخفّة، كأن شيئًا ما أكبر من الوقت يدور من حولها. حين نظرت إلى ناتسومي، لم تكن ترى مجرّد فتاة جريحة تقف إلى جانب دراجة نارية مائلة، بل شيئًا آخر… شيئًا يشبه الحلم الغامض.

كانت ناتسومي ترتدي سترة جلدية سوداء ضيّقة، مغلقة حتى أعلى رقبتها، تكشف عن قوام رشيق كأنه قُدّ من التناقض ذاته. بدت كأحد أولئك الغرباء الذين يخرجون من الظلال — أنيقة بخطورة، مشعّة بألمها. السروال الداكن الممزّق في عدة مواضع، عند الفخذ والركبة تحديدًا، كشف عن الجلد المجروح، وعن ركبة لا تزال تنزف جرحًا خفيفًا.

لكن ما أسر قلب يوي حقًا لم يكن مظهرها الخارجي فقط، بل ما كان يتسلل من بين الشقوق: الحروق التي تغطي أحد جانبَي جسدها، حروق قديمة بملامح مشوّهة، عكست ماضٍ لم تُسأل عنه، ولم تروِه بعد. عينها اليمنى كانت باهتة، خالية من النور، تتناقض مع العين الأخرى التي اشتعلت بلونٍ أحمر داكن، كجمرة لا تنطفئ.

ورغم ذلك… أو ربما بسبب كل ذلك، رأت يوي فيها جمالًا من نوع خاص، جمالًا لا يخجل من ندوبه، ولا يعتذر عن بقاياه.

حول عنقها، استقرّت قلادة سوداء، تحمل خاتمًا معدنيًا محترق الحواف، بدا كأنه نجا من نارٍ ما، كأنه يحمل قصة كاملة لا تحتاج إلى كلمات. لمحت يوي الخاتم، وحدقّت به لحظة طويلة، شعرت أن شيئًا بداخله تعرفه… أو سيعرفه لاحقًا.

إلى جانب ناتسومي، على الرصيف المبتل، استلقت الدراجة النارية التي جاءت بها، جسدها المعدني لا يزال يلمع رغم السقوط، وأضواؤها الخافتة تومض، كأنها تحاول النهوض.

انحنت يوي برفق وساعدت ناتسومي على رفع الدراجة، أصابعها الصغيرة تلتف بحذر حول المقود، وقدماها الثابتتان تدفعان معها بثبات غير متوقع. حين استقرت الدراجة على عجلتيها، التفتت ناتسومي إليها، ونظرة امتنان صامت عبرت وجهها.

ثم مدت يدها، تمسك يد يوي، لا بقوة، بل بثقة.

قالت بصوتٍ دافئ: "هل تركبين معي؟ أعرف مقهى صغيراً، في زاوية هادئة… فيه نوافذ كبيرة، وضوء ناعم، وصمت مريح."

اتسعت عينا يوي، وأحمرّت وجنتاها، لكنها لم تسحب يدها. فقط حدقت في ناتسومي، ثم في الدراجة… ثم عادت لتنظر إليها وكأنها تطلب الطمأنينة.

ابتسمت ناتسومي، ثم انحنت وفتحت الحقيبة الجانبية للدراجة. أخرجت منها خوذة أخرى — بيضاء، أنيقة، يبدو أنها احتفظت بها دائمًا في حال اضطرت لمرافقة أحد. رفعتها بلطف، ووضعتها على رأس يوي بعناية، تُعدل حزامها برفق كأنها تلبسها تاجًا صغيرًا.

توردت وجنتا يوي أكثر، وخفضت نظرها، كأنها تخجل حتى من أنفاسها. كانت هذه لحظة جديدة بالكامل… دفء غير متوقع، قرب لم تفهمه، ولم تحاول الهروب منه.

حين جلست خلف ناتسومي على الدراجة، كانت يداها تتردد، ثم في النهاية، أمسكت بطرف سترة ناتسومي بخجل، كما يتمسك طفل بطرف معطف أمه في الزحام. صوت المحرك دوّى بخفوت، وارتجف قلب يوي معه.

أول مرة في حياتها تركب دراجة نارية. أول مرة تشعر بهذا القرب من شخصٍ لا تعرفه تمامًا، لكنها تثق به رغم كل شيء.

أما ناتسومي… فقد شعرت بشيء غريب يتسلل إلى قلبها. يوي، تلك الفتاة الهادئة، التي يتحدث عنها مارك وجين وهاتوري — الفتاة التي خطفت، دون أن تدري، قلب ابن شقيقها هوشي. لم يعترف لها، لا هي تعلم، ولا هو تجرأ، لكن ناتسومي رأت الآن بعينيها السبب.

في صوت يوي الخافت، في طريقة مسكها الخجول، في نظراتها التي لا تعرف أن تكون جارحة… أدركت ناتسومي أن هذا الحب الذي يسكن هوشي، لم يكن وهمًا.

ومع أول ارتجاج خفيف للدراجة وهي تتحرك، شعرت ناتسومي بشيء جديد يولد بينها وبين يوي.

ربما لم يكن حبًا. ليس بعد.

لكنّه كان بذرة.

تجربة جديدة

ما إن استقرت يوي خلف ناتسومي على مقعد الدراجة النارية، حتى شعرت بقلبها يقفز بطريقة لم تعهدها من قبل. أناملها المرتجفة تمسكت بخجل بطرف سترة ناتسومي، كما لو كانت تخشى أن تزعجها أو تقترب أكثر مما ينبغي. الهواء كان بارداً، مشبعاً برائحة المطر والشارع المبلل، وجسد الدراجة أسفلها كان نابضاً، دافئاً، كائن معدني يستعد للركض.

شغّلت ناتسومي المحرك، واهتزت الدراجة بارتجافة خفيفة، كأنها تتنفس، وفي تلك اللحظة ارتفع صوت ناعم من ناتسومي، ممزوج بلهجة حازمة وحنونة:

"تمسكي جيداً، يوي… بهذا الشكل ستقعين عند أول منعطف."

اتسعت عينا يوي، وازدردت ريقها، ثم رفعت يديها، ببطء، كأنها تخوض طقساً مقدساً، ولفتهما أخيرًا حول خصر ناتسومي. كان اللمس محرجًا في البداية، لكنها وجدت فيه شيئًا غريبًا: طمأنينة دافئة لم تعرف أنها تبحث عنها.

"هكذا أفضل." قالت ناتسومي بابتسامة صغيرة، لم ترها يوي، لكنها شعرت بها.

ثم انطلقت الدراجة.

لم يكن الانطلاق سريعاً، لكن ليُوي، بدا كأن المدينة كلها بدأت تتحرك من تحتها. شوارع مبلّلة، مصابيح مصفرة، أبخرة تتصاعد من البالوعات، أضواء تنعكس على الأرض كأنها لوحات مائية. الهواء كان يصفع وجهها بلطافة، يحمل معه رائحة الشتاء والرغبة في الصراخ من الدهشة.

في البداية، شعرت بشيء أشبه بالذعر، لم تكن تعرف كيف توازن جسدها، أو إلى أي حد يجب أن تميل مع الانعطاف، أو كيف تتنفس دون أن تفقد وعيها. قلبها يضرب صدرها بجنون، وكل حاسة فيها يقظة، تسمع كل شيء، تشعر بكل شيء — اهتزاز العجلات، دفء ظهر ناتسومي، وصوت المحرك المتصاعد والمُطمئن.

لكن شيئاً فشيئاً، بدأ الخوف يذوب. تحوّل إلى حماسة خفيفة، ثم إلى سعادة خجولة، كأنها تكتشف شيئًا كانت تجهله في نفسها: حب المغامرة، حب أن تكون في لحظة لا تُشبه ما قبلها، ولا بعدها.

مرت الدراجة بجانب الحقول الرطبة التي تحدّ المدينة من الجهة الغربية، وهناك، كان الطريق شبه خالٍ، والهواء مفتوحًا على اتساعه. السماء بدأت تنقشع، وانشق الغيم ليظهر منه خط فضي بعيد من القمر. انعكست صورته على البرك الصغيرة، وعلى سطح الخوذة التي ترتديها يوي، كأن الليل يهمس لها بشيء خاص.

كانت الدراجة تسير بسرعة معتدلة، وناتسومي تتحكم بها بخفة، وكأنها ترقص مع الطريق. أما يوي، فشعرت أنها عالقة بين عالمين: عالم الداخل المألوف الذي يطلب الأمان، وعالم الخارج اللامحدود الذي يُغريها بأن تطلق قلبها قليلاً.

همست يوي، بصوت لم تسمعه ناتسومي وسط هدير الرياح: "أنا أطير..."

كانت هذه هي المرة الأولى التي تشعر فيها بأن الأرض لا تقيدها. أن هناك شيئًا ما يشبه الحريّة، حتى لو كانت مؤقتة، حتى لو كانت على مقعد ضيّق، خلف فتاة عرفت اسمها منذ دقائق فقط.

ومع كل منعطف، ومع كل نسمة تمرّ من بين ذراعيها، كانت يوي تقترب أكثر من ذلك الشعور الغريب… الشعور بأن هذه الليلة، بكل ما فيها، لن تنسى.

وأن ناتسومي — بصمتها، بجراحها، بصوتها الهادئ — بدأت تترك أثراً لم تكن تنوي تركه، لكنها تركته على أي حال.

ناتسومي كانت تقود بهدوء غير معهود. عادةً ما تكون رحلاتها بالدراجة مشحونة بالسرعة والعزلة، كأنها تهرب من شيء لا تراه. أما الآن، فكل شيء بدا مختلفاً. كانت تشعر بذراعين ناعمتين تتشبثان بها بخجل، بحرارة خفيفة تخترق سترتها الجلدية وتصل مباشرة إلى قلبها، حيث لم يصل أحد منذ زمن بعيد.

حركة الدراجة صارت أبطأ مما اعتادت، وكأنها تحاول أن تطيل تلك اللحظة، أن تمنحها حقها في الترسّب داخلها.

"يوي..." فكرت، واسمها تردد في عقلها كصدى قديم، مألوف.

الهواء البارد كان يضرب وجهها، لكن الدفء خلفها كان يناقض كل شيء. فتاة صغيرة، خجولة، لا تدري أن حضورها وحده قادر على أن يبعثر ما ظنته ناتسومي ثابتاً داخلها. كان فيها شيء من الهدوء، ومن البراءة... لكن الأهم، شيء من هوشي. لم تستطع تجاهل ذلك. تلك النظرة التي كانت تتكرر حين كان ابن أخيها يتحدث عنها — بغير اعتراف، بغير وضوح، لكن بحب نقي لا يخطئه القلب.

ناتسومي كانت تفكر في كل هذا، والدراجة تسير بين أضواء الشوارع الباهتة. في كل لحظة تشعر فيها بذراع يوي تشد قليلاً عند الانعطاف، كانت تبتسم دون أن تراها، ودون أن تعترف حتى لنفسها كم يعجبها هذا الخوف الجميل… ذلك القلق الذي يربط يوي بها، ولو للحظات.

كانت تعرف أن جراحها ظاهرة — الركبة المكشوفة من بنطالها الممزق، والخدوش على يدها، والحروق التي لم تُخفها السترة المغلقة بإحكام — لكنها لم تكن تتوقع أن ترى كل ذلك في عيني يوي... لا كندوب، بل كشيء جميل، كأنها نظرت إلى ضعفها بشغف، لا بشفقة.

"لو كانت تعرف…" همست ناتسومي لنفسها، وهي تقود الدراجة عبر زقاق ضيّق ينسدل عليه الضوء من لافتة نيون وردية، يرقص انعكاسها على الزجاج المبلل كحلمٍ يوشك أن يتلاشى. "لو كانت تعرف كم أصبحت تهمّني… كل هذا، في لحظة واحدة فقط."

شدّت قبضتها على المقود، لا لتتماسك في القيادة، بل لتكبح تلك الرجفة الخفيفة التي صعدت من قلبها كأنها توقظ شيئًا كان نائمًا منذ زمن بعيد. شعرت بقلق لا يشبه الخوف، بل يشبه التعلّق: تلك الرغبة الغامضة بأن تستمر هذه اللحظة للأبد، وألّا تتغير.

الهواء كان يصفرّ من حولهما، يمرّ على الخدود ويخترق الملابس، لا ليُبرد، بل ليوقظ. المدينة من خلفهما بدت وكأنها تتلاشى، تُصبح ضوءًا باهتًا، وصوتًا بعيدًا، ورائحة مطر قديم. كل شيء فيها — في ناتسومي — كان يتجه نحو شيء واحد: يوي.

الدراجة النارية كانت تهدر بهدوء كأنها تهمس سرًّا لا يفهمه أحد سواهما. ويوي، بتردد أصابعها الملفوفة حول خصر ناتسومي، شعرت وكأنها لا تمسك بجسد، بل بزمن غريب ينقضي… بسرعة وعذوبة.

لأول مرة في حياتها، كانت تركب دراجة نارية. قلبها ينبض بقوة، لكنه لا يصرخ من خوف. بل يهمس… يهمس بإثارة لم تعرفها من قبل، بشيء يشبه الطيران، أو التحرر. الريح كانت تمرّ فوق خوذتها، تداعب خصلات شعرها المتسللة من الخلف، ورئتاها تمتلئان بشيء لا يُسمى: هواء بارد، نقي، لكنه مشبع بمذاق ناتسومي.

عيناها كانت تتسعان مع كل منعطف، وكلما مالت الدراجة، كانت تميل معها أكثر بثقة. شعرت أنها، لأول مرة، لا تقاوم. لا تحاول الإمساك بالأرض، بل تتبع المسار كأنها جزء منه، وكأنها تنتمي لهذا التيار.

في الأمام، ناتسومي كانت تشعر بها. بذراعيها المرتجفتين، باقتراب أنفاسها، بتلك اللمسة الخجولة على خصرها. وابتسمت… ليس بارتياح، بل باندهاش صامت: كيف أن فتاة بهذا الهدوء، بهذا الخوف، استطاعت أن تُحدث فيها هذا الاضطراب.

وفكرت، وهي تعبر شارعًا آخر حيث تنعكس أضواء الزمرد والياقوت على الإسفلت، أن هذا الموضع — هذا الوزن الخفيف الملتف خلف ظهرها — بات له قيمة لا تُقاس بالكلمات.

وفكرت أيضًا، أن يوي، الصغيرة، الخجولة، اللطيفة، لا تعرف بعد… أنها أصبحت، في غضون دقائق، كل ما لم تتوقعه ناتسومي يومًا.

بين بخار الفنجان وصفحات القلب

عند المنعطف الأخير، هدأ هدير الدراجة النارية شيئًا فشيئًا، وبدأت المدينة تستعيد ملامحها الواضحة وسط الضباب الخفيف الذي زحف على الأرصفة. كانت أضواء المقهى تلوح من بعيد، دافئة، بلون العسل، تنساب عبر النوافذ الكبيرة كأنها وعود صامتة بالراحة.

خفّضت ناتسومي السرعة، وبدأت الدراجة تتباطأ فوق الأسفلت الرطب، إلى أن توقفت بسلاسة أمام مدخل المقهى. كان المقهى صغيرًا، تحيط به نباتات متسلقة على الجدران، وتنبعث منه رائحة قهوة ممزوجة بالفانيليا والحنين.

أزالت ناتسومي الخوذة أولًا، فانسدل شعرها الأسود الكثيف مبللًا بخصلات متناثرة، عالقًا على خدها المحروق، يتناقض جمالها بوحشية ساحرة مع تلك التمزقات في الجلد، وتلك العين الرمادية التي فقدت بريقها، تقف في وجه عينها الحمراء المتقدة بالحياة. كانت، كما رآتها يوي تمامًا، شيئًا يشبه الضوء القادم من الظلال.

استدارت ناتسومي نحوها، وبنبرة دافئة قالت:

"وصلنا."

ثم رفعت يدها وساعدت يوي على نزع الخوذة الأخرى، وابتسمت حين رأت خديها المحمرّين وعينيها المتسعتين من الدهشة.

يوي، ما إن وضعت قدميها على الأرض، حتى شعرت وكأنها كانت تطير ثم هبطت للتوّ. كانت أنفاسها متلاحقة، وقلبها لا يزال ينبض بنفس الوتيرة السريعة. نظرت إلى ناتسومي، إلى الدراجة، إلى المكان من حولها، ثم قالت بخجل وهي تضغط على أطراف أصابعها:

"أعتقد… أعتقد أنني كنت أبتسم طوال الوقت."

ضحكت ناتسومي، ضحكة خفيفة لكنها مليئة بالمودة، وقالت:

"كنت تشدّين عليّ كأننا سنسقط من على سطح العالم."

أطرقت يوي برأسها، وابتسمت خجلاً، ثم همست:

"كنت خائفة أن أفلت شيئًا جميلاً."

توقفت ناتسومي لوهلة. تلك العبارة… لم تكن فقط جميلة، كانت صادقة بطريقة لم تكن مستعدة لسماعها.

نظرت إليها طويلًا، ثم مدت يدها بخفة، ومرّرت أناملها على شعر يوي المبعثر من أثر الريح.

"تعالي…" قالت ناتسومي، بصوت أخفض من النسيم، "لنشرب شيئًا دافئًا… وربما نتحدث قليلاً."

ودخلتا المقهى، ومع كل خطوة كانت يوي تشعر أنها لا تترك المدينة خلفها فقط، بل تترك نفسها القديمة، شيئًا فشيئًا، على الرصيف المبتل.

دخلتا المقهى، فغمرهما دفء مفاجئ أشبه بعناق ناعم بعد برد طويل. فاحت رائحة القهوة الطازجة ممزوجة بنغمات الكراميل المحمص، والمكان نفسه بدا كأنه قطعة من كتاب قديم، بنوافذه العريضة التي تطل على الشارع النديّ، والطاولات الخشبية الداكنة التي ترك الزمن بصماته عليها، وموسيقى ناعمة تعزف في الخلفية… بيانو خفيف كأنه يهمس للأرواح المتعبة.

كان هناك عدد قليل من الزبائن الصباحيين، يغرقون في أكوابهم وهدوئهم، ما منح اللحظة خصوصية شبه سحرية. اختارت ناتسومي طاولة صغيرة قرب النافذة، حيث يمكن لضوء النهار الرمادي أن ينساب على أيديهم بهدوء.

جلست يوي بتردد، وعيناها لا تزالان تحملان أثر الرحلة على الدراجة. أما ناتسومي، فجلست بهدوء مقابلها، نظراتها تتفحص يوي في صمت. للحظة، توقف بصرها عند زيها المدرسي، المبلل بعض الشيء عند أطرافه، وحقيبته التي كانت لا تزال متشبثة بكتفها وكأنها لم تخلع عنها بعد عبء اليوم المنتظر.

رفعت ناتسومي نظرها إليها، وبدت في صوتها نبرة قلق صادق:

"كنتِ في طريقك إلى المدرسة، أليس كذلك؟" ثم أضافت بخفة، وهي ترفع حاجبًا: "لا أكون قد سبّبت لكِ تأخيراً، أليس كذلك؟"

هزّت يوي رأسها سريعًا، وابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها:

"لا تقلقي، ما زال الوقت مبكرًا… المدرسة تبدأ في التاسعة، والساعة الآن السابعة فقط." ثم نظرت نحو الساعة الصغيرة المعلقة قرب آلة القهوة وأضافت: "لدينا وقت أكثر مما يبدو."

أومأت ناتسومي، وبدت مرتاحة بعض الشيء، ثم مالت على الكرسي وقالت، وهي تعبث بكُم سترتها الجلديّة بلطف:

"حسنًا إذًا... لن نتأخر، سأوصلكِ بنفسي."

رفعت يوي عينيها إليها، وفاضت نظرتها بشيء يشبه الامتنان، لكنه أعمق. ليس لأنها فقط ستأخذها إلى المدرسة، بل لأن هذه المرأة الغريبة — التي ظهرت من العدم — كانت تعاملها بلطف حقيقي، مقلق في صدقه.

اقترب النادل بهدوء، ووضع كوبين بخارَين من القهوة أمامهما — كوب لناتسومي برائحة الإسبريسو القوي، وآخر ليوي، يحمل على وجهه رغوة ناعمة مرسوم عليها قلب صغير.

تأملت يوي ذلك القلب، وابتسمت بخجل، ثم أمسكت بالكوب بيديها الاثنتين لتدفئ أصابعها.

"أول مرة أجرب القهوة في مقهى… هكذا، وحدي، أو… مع أحد."

رفعت ناتسومي نظرها إليها، ثم قالت بابتسامة جانبية، بينما تستند بكوعها إلى الطاولة:

"إذًا أعتبر نفسي محظوظة."

ضحكت يوي بخفة، وتوردت وجنتاها.

في تلك اللحظة، بدا العالم ساكنًا. مقهى دافئ في صباح رمادي، كوبان من القهوة، وفتاتان كل منهما تحمل ندوبها على طريقتها. واحدة ترتدي زي المدرسة وتحمل خجلًا شفافًا، والأخرى بجلدٍ مشقوق، وخوذة على الطاولة، وعين واحدة ما زالت ترى النور… تبحث فيه عن خلاصها، وربما عن معنى آخر للنجاة.

بينما كان البخار يتصاعد من فنجان القهوة أمامها، رفعت ناتسومي عينيها إلى يوي، ثم مالت قليلاً للأمام، وراحت تتأمل وجهها بفضول هادئ. بدا أن شيئًا ما في نظرات يوي — ذلك التناقض العذب بين براءة ملامحها وعمق عينيها — جعل الفضول يتسلل لنبرة صوتها:

"يوي… بما أنكِ في المدرسة، أخبريني… ما الذي تدرسينه؟ أو، لنقل، ما الذي تحبين أن تدرسيه؟"

قالت السؤال بنبرة رقيقة، لا تحمل تحقيقًا ولا فضولاً جافًا، بل اهتمامًا حقيقياً، كما لو كانت تحاول جمع خيوط صغيرة لتفهم من تكون هذه الفتاة التي وجدت طريقها إلى قلبها دون أن تدري.

رفّت عينا يوي بخفة، وكأنها تفاجأت بالسؤال، ثم أنزلت نظرها إلى كوبها، وكأنها تسترق بعض الدفء قبل أن تجيب. تمتمت بابتسامة خجولة:

"أنا في السنة الأولى… قسم الأدب."

ثم رفعت عينيها إلى ناتسومي وأضافت، وقد احمرّ خديها قليلاً:

"أحبّ الكتب… والكلمات. ليس كثيراً من يفهم ذلك، لكنه… العالم الوحيد الذي لا يخيفني."

لم تقل ذلك لتثير الشفقة، بل بصراحة هادئة تشبه الطريقة التي ينفتح بها كتابك المفضل على صفحة مألوفة. لم ترد أن تتفاخر، ولم تكن تحاول أن تثير إعجاب أحد — فقط كانت صادقة، وبسيطة، كما هي.

ناتسومي ابتسمت، بعينها الوحيدة التي ترى، والابتسامة فيها شيء يشبه الإعجاب الدافئ، وربما شيئًا أبعد من ذلك بقليل.

"الأدب، إذًا..." قالت، ثم أضافت بنبرة أكثر دفئًا:

"هذا يفسر طريقة حديثك. فيكِ شيء… يشبه القصص القديمة. الهادئة، لكن العميقة. التي لا تصرخ، لكنها تبقى معك."

احمرّ وجه يوي أكثر، وابتسمت بخجل، و أمالت رأسها قليلاً وهي تراقب بخجل حركة البخار المتصاعد من الكوب، كأنها تحاول أن تقرأ طالع هذا السائل الغريب الداكن. كانت رائحة القهوة تعبق في أنفها بطريقة لم تألفها من قبل — عميقة، دافئة، لكن تحمل شيئًا من الغموض، كما لو أنها قصة لم تُفتح صفحاتها بعد.

رفعت الكوب بخفة بكلتا يديها، كما تفعل حين تلتقط شيئًا أثمن من أن يُمسك بيدٍ واحدة. قربته من شفتيها، نفخت عليه بحذر كما رأت ناتسومي تفعل، ثم أخذت رشفة صغيرة جداً، لدرجة أن مذاقها بالكاد مسّ لسانها.

وفور أن لمست القهوة شفتيها، ارتجف شيء ما في تعبيرها. اتسعت عيناها ببطء، وفيهما دهشة حقيقية لا تخلو من خيبة طفولية صغيرة. تجمّدت للحظة، وكأنها لم تكن مستعدة أبداً لهذه النكهة — المرّة، المركّبة، التي لا تشبه أي شيء ذاقته من قبل.

أنزلت الكوب ببطء، بنظرة مترددة، ثم همست، وكأنها تعترف بسر غريب:

"آه... هل... هل القهوة دائمًا هكذا؟ طعمها... يشبه الحزن."

لم تكن تمزح، بل قالتها بصدق ناعم، يحمل في نبرته تساؤلًا بريئًا كأنها تواجه وجه العالم للمرة الأولى. كانت عيناها تطلبان تفسيرًا — لا للقهوة فقط، بل لهذا النوع من الأشياء التي لا تُفهم من الرشفة الأولى، بل تحتاج إلى وقتٍ، إلى مرافقة، إلى شخص يشارككها حتى تعتاد عليها.

ضحكت ناتسومي، ضحكة خرجت من بين شفتيها كما يخرج الدفء من مدفأة في ليلة باردة، وهزّت رأسها برفق، وقد بدا عليها شيء من الحنان وهي تميل قليلاً نحو يوي وتدفع نحوها صحنًا صغيرًا فيه مكعبات السكر:

"أجل…" قالت بنعومة، "لكنها تصبح أجمل، حين تُشرب مع من يجعلها أقل مرارة."

اللحظة التي هدأ فيها الحديث، وبين رشفة أخرى من فنجان لا يزال دافئًا بين يدي يوي، مرّت ناتسومي بنظرها إلى صحن صغير من مكعبات السكر في منتصف الطاولة، حيث كانت قطعتان لا تزالان ترقدان هناك، ناصعتان، كأنهما لم تُمسّا.

مدّت يدها بخفّة، وأخذت واحدة منها بين أصابعها الطويلة المتشققة قليلاً عند المفاصل — آثار قتال قديم، أو حياة قاسية لم تُشفَ بعد. نظرت إليها لحظة، كأنها تستعيد ذكرى بعيدة، ثم رفعتها نحو يوي وقالت، بنبرة خافتة لا تخلو من عبثٍ دافئ:

"هل تريدين واحدة أخرى؟ أظنها ستجعلها... أقل مرارة."

يوي ضحكت بصوتٍ خافت، وهزّت رأسها، لكنها مدّت يدها بخجل وأخذت المكعب برؤوس أصابعها، كأنها تلتقط شيئًا ثمينًا من كفّ ناتسومي، شيء لا يُردّ. ضحكتا معًا — تلك الضحكة الصغيرة التي تشبه تنهدًا مشتركًا، أو راحة خفيفة تتسلل من بين الكلمات.

ثم، من دون تفكير، فتحت يوي كفها الأخرى، تلك التي كانت لا تزال دافئة من حمل الكوب، وأخذت مكعب السكر الثاني وقدّمته نحو ناتسومي، بعينين متورّدتين من الخجل، وصوت خافت كالسرّ:

"دورك الآن… لتجعلي قهوتك أقل مرارة أيضًا."

ناتسومي رمشت ببطء، كأنها لم تتوقع هذه اللفتة، ثم نظرت إلى يد يوي، وإلى المكعب الصغير الراقد في راحة كفها. أخذته برفق، لكنها لم تضعه في فنجانها على الفور، بل أبقته في يدها لحظة، وهمست دون أن تنظر إليها:

"ربما… القهوة ليست ما يحتاج التسكير."

ثم ابتسمت — تلك الابتسامة الهامسة، التي لا تُرى إلا إذا كنت تجلس قُبالتها، في مقهى دافئ، حين تكون المدينة كلها نائمة، وقلبك مستيقظ فقط لأجل هذه اللحظة.

يوي نظرت إلى مكعب السكر الصغير بين أصابعها كما لو كان قطعة سحر، ثم أسقطته ببطء في فنجانها، تراقب ذوبانه كأنها تتابع طقسًا مقدسًا. حركت الملعقة بحذر، وصوت ارتطامها بحواف الفنجان كان خافتًا، لكنه بدا لها مريحًا، يشبه طقطقة المطر على النوافذ حين تكون دافئًا في الداخل.

ارتشفت من جديد، وهذه المرة كان الطعم أكثر لطفًا… أو ربما كانت روحها قد اعتادت قليلاً على غرابة هذا المشروب. رفعت عينيها إلى ناتسومي، تلك المرأة ذات الحضور الصامت والعين الوحيدة التي ترى أكثر مما يجب، وقالت بخجلٍ طفوليّ، وابتسامة صغيرة تلوح على زاوية شفتيها:

"ممم… الآن طعمه يشبه… قصة حزينة، لكنك تعرفين أن نهايتها ستكون دافئة."

ضحكت ناتسومي مرة أخرى، لكن هذه الضحكة حملت شيئًا أعمق من التسلية، شيئًا يشبه التعلّق المفاجئ، أو الدهشة التي تصيبك عندما تنبت زهرة في شقّ جدار. مدت يدها بخفة، ومررت أصابعها على طرف الكوب الخاص بها، ثم نظرت إلى يوي وقالت:

"هذا وصف جميل… لم أفكر في القهوة هكذا من قبل."

"ربما لأنكِ اعتدتِ عليها؟" همست يوي، وهي تراقب كيف يتكاثف البخار بينهما كستارٍ من الدفء المؤقت.

"ربما." أجابت ناتسومي، وهي تميل قليلاً إلى الأمام، مرفقها على الطاولة، وعينها اللامعة تتأمل وجه يوي كأنها تقرأ فصلاً جديدًا من رواية لا تريد لها أن تنتهي.

خارج المقهى، كانت المدينة تستيقظ على مهل، والحافلات تمرّ في الشوارع المبتلّة، والضوء الرمادي للفجر يُضيء الواجهة الزجاجية. داخل ذلك الركن الهادئ من المقهى، وبين فتات خبزٍ وسكونٍ مريح، كان هناك شيء يولد — شيء لا يُقال، لكنه يُحس. كأن القلبين، في تلك اللحظة، توقفا عن السؤال، وبدآ فقط… بالاستماع.

تسللت لحظة صمت ناعمة بينهما، لم تكن ثقيلة، بل أشبه بنغمة مرتخية في نهاية مقطوعة موسيقية هادئة. نظرت ناتسومي إلى يوي، تراقب انعكاس ضوء الصباح على عينيها، ثم مالت برأسها قليلًا، وسألت بصوت منخفض، لكنه صادق كمن يريد أن يعرف أكثر مما يقول:

"و… إلى جانب الكتب؟ ما الأشياء التي تحبينها، يوي؟"

تجمدت يوي لوهلة. لم يكن السؤال غريبًا في حد ذاته، لكنه ارتطم بداخلها كنسمة تحمل ذكرى بعيدة. شيءٌ في نبرته، في اهتمام ناتسومي الصافي، جعل قلبها يرفّ برهبة. رفعت عينيها بدهشة خفيفة، كما لو أن أحدًا طرق بابًا في صدرها لم يُفتح من قبل.

"أشياء… أحبها؟" كررت الكلمات بهمسٍ صغير، كأنها تتذوق معناها للمرة الأولى، ثم نظرت إلى يديها، وكأن الجواب يتوارى هناك، بين أصابعها النحيلة.

رفعت نظرها ببطء إلى ناتسومي، وابتسمت، لكن في ابتسامتها ظلّ من المفاجأة:

"لا أحد… سألني ذلك من قبل."

ناتسومي لم ترد، فقط ظلت تنظر إليها بنفس العين الدافئة، تلك النظرة التي تقول: "أنا هنا. ويمكنك أن تقولي كل شيء."

تنهدت يوي بخفة، كأنها تسحب الإجابة من مكان عميق في روحها، ثم قالت:

"أنا… أحب الرسم. كثيرًا. أحب أن أرسم الأشياء التي أراها... لكن أكثر من ذلك، أحب رسم الأشخاص الذين أحبهم. لا أعرف لماذا، لكنه يجعلني أشعر وكأنني أحتفظ بجزء صغير منهم، لا يمكن أن يضيع."

ارتبكت وهي تقول الجملة الأخيرة، وكأنها اعترفت بسرٍ صغير، لكنها لم تندم. فقط خجلت، ونظرت إلى طرف فنجانها مرة أخرى، تمسده بأطراف أناملها.

ابتسمت ناتسومي — تلك الابتسامة التي لا تُرى في الشفاه بقدر ما تُحسّ في القلب، وقالت، بهدوء:

"أحببت ذلك… فكرة أن ترسمي من تحبين كي لا يضيعوا. كأن الفن وسيلتكِ لقول: ‘أنا أراك. ولن أنسى.’"

سرت قشعريرة خفيفة في جسد يوي، ليس خوفًا، بل كأن كلمات ناتسومي لمست وترًا ناعمًا في أعماقها لم يُعزف من قبل. وللحظة قصيرة، شعرت يوي بأن هذا الصباح — بهذه القهوة، وبتلك النظرات، وبتلك الكلمات التي خرجت أخيرًا من قلبها — قد يكون أول لوحة ترسمها دون أن تمسك بقلم الفحم.

تسلّلت ذكرى دافئة إلى قلب يوي كأن شعاع شمس خجول اخترق فجوة ضئيلة في جدارٍ باردٍ ظلّ يحاصرها لسنوات. لم يكن ضوءًا ساطعًا، بل نورًا متردّدًا، خافتًا، لكنه كافٍ ليوقظ شيئًا نائمًا في أعماقها، شيئًا بالكاد تجرؤ على لمسه.

بين دفّتي دفتر الرسم العتيق، ذاك الذي تخبّئه كل ليلة تحت وسادتها كأنّه قطعة من قلبها، كان هناك عالم لا يشبه الواقع كثيرًا… لكنه كان ملاذها. الدفتر لم يكن مجرد أوراق — كان نَفَسًا أخيرًا للذكرى، مأوى للحنين، وصندوقًا زجاجيًا تخشى أن يتشقق إن لم تحتضنه جيدًا. فيه كانت تعيش، ترسم، وتهمس لما فُقد، علّه يعود، ولو في هيئة خطوط.

امتلأت صفحاته الأولى بوجوه لا تعرفها تمامًا، لكنها تحبها كما لو كانت تعرف. ملامح رجل يبتسم من خلف غشاوة الضوء، تحاول أن تتذكر صوته، ضحكته، دفء يديه، لكنها لا تستطيع. مجرد طيف عالق في الزوايا. ظِلّ أكثر من كونه حضورًا.

إلى جانبه، في نفس الصفحة، كانت هناك امرأة… لم ترَها يومًا، لكنها رسمتها من رسمة قديمة مهترئة، ومن الكلمات التي تركها من لم يعودوا، ومن ما كُتب على الهامش بخط ناعم يختلف عن باقي الخطوط. كانت تلك الكلمات أشبه برسائل حب من زمن آخر، كتبتها امرأة لشخص تحبّه بصمتٍ نقيّ، تصفه بعينيها، لا باسم. تقول فيه ما تحبه فيه، بلغة لا تُقال إلا حين تخاف أن يُسمَع صوتها.

يوي لم تحتج إلى شرح. عرفت. لم تُخبرها ذاكرتها — بل شعورها. ومن كره جدّها لعيناها ، تلك العيون التي لطالما أدار وجهه عنها، عرفت أن مَن وُصف في تلك الكلمات كان والدها. وأن من كتبت، كانت أمّها. وأنها — بطريقة ما — خيطهما الوحيد المتبقي في هذا العالم.

كانت ترسمهما كي لا تُمحى ملامحهما. كي تبقى على قيد الحلم. لأن لا شيء آخر بقي.

العائلة الوحيدة التي تبقّت، لم تكن ملاذًا، بل ظلًّا ثقيلًا كان يتكاثر في زوايا البيت كالعفن. كانت تنكمش كلما اقترب صوته، كلما صكّ الأبواب أو تسللت نظراته. لا أحد كان يراها، ولا أحد سألها إن كانت بخير. لم يكن في حياتها دفء… فقط ذلك الدفتر. فقط تلك الصفحات التي تخلق فيها عالمًا لا يؤذيها.

ثم… بدأ شيء يتغير. دون أن تنتبه، تسلّل شخصٌ جديد إلى دفاترها. لم يكن من الماضي. لم يكن شبحًا. لم يكن خيالًا. بل من اللحظة، من أيامٍ قليلة مضت، من حضورٍ شعرت به في صدرها أكثر مما رأت بعينيها.

لم تدري متى بدأت ترسمه. لم تقصد ذلك. فقط، يدها تتحرّك وحدها كل مرة. ترسم بشرته القمحية — لون الأمان الغريب — وكتفيه العريضتين، وطريقته في الوقوف، كأنه لا يحرس المكان… بل يطمئنها هي. ترسم عينَيه، حيث الصمت ليس فراغًا، بل حضورٌ يقول: "أنا هنا. لا تخافي."

كان وجهه يتكرّر، بلا نية، بلا وعي. في الزوايا، على الهامش، بين صفحة وصفحة. ظهر كأنّ قلبها قرّر أن يتذكره حتى لو لم تطلب. كأن شيئًا فيها أراد أن يحتفظ به، أن يحبّه، دون أن يسمي ما تشعر به حبًا.

وفي كل مرّة ترسمه، كانت تشعر بشيء لا تعرفه — مزيجًا بين الحنين والخوف، بين الرجاء والصمت، بين أن تكون مرئية، ولو في السر.

كانت ترسمه حين تخاف، حين تحنّ، حين تشعر بالوحدة. وكل مرة، كان حضوره في الورق يمنحها شيئًا لم تعرف اسمه… لكنه يشبه السلام.

فكرّت فجأة: هل هذا ما يعنيه أن تحب؟ أن تريد حضور شخص… حتى دون أن يتكلم؟ أن تعتاد على صورته كما يعتاد القلب على خفقة؟ أن ترسمه، لا لأنك تراه، بل لأنك لا تريد أن يختفي؟

ربما. وربما أكثر.

لكنها لم تقل شيئًا. فقط أبقت الرسومات مدفونة في دفترها، تحت الوسادة، قريبة من حلمها، وبعيدة عن العالم.

حتى هذه اللحظة.

"هوشي…" مرّ اسمه في قلبها مثل همسة خفية، لا يُقال، لكنه يُشعر.

وفي غمرة تلك الذكريات المختلطة، وسط الغصّة التي علقت في حنجرتها، وخجل الاعتراف الذي ما زال دافئًا على أطراف لسانها، جاء صوت ناتسومي… ناعمًا كنسمة، حنونًا كضحكة أمّ غابت مبكرًا، بلطافة لا تُخيف:

"هل يمكنني… أن أرى رسوماتك؟ فنّكِ؟"

لم يكن في السؤال أي ضغط. فقط فضول خفيف، نقيّ، يشبه لمسة أصبع على صفحة قديمة تخشى أن تتمزق.

لكن بالنسبة ليوي، كان وقع السؤال كالرجفة.

كأن أحدهم لمس شيئًا لمسه أحد من قبل — شيء عميق، مخبّأ في قاعها، نسيانه أسهل من مواجهته.

شهقت أنفاسها بخفّة، دون صوت، كأن الهواء نفسه صار أثقل. اتّسعت عيناها، وارتبكت، ارتبك جسدها كله — سحبت يدها من على الطاولة فجأة، كما لو كانت على وشك لمس نار، ثم انكفأت قليلًا، تُقارب بين كتفيها بحركة دفاعية لا إرادية، تحتمي بها من احتمال الانكشاف.

تردّدت الكلمات على لسانها، كأنها لم تُدرّب نفسها يومًا على قولها:

"أ… ت-ترغبين في… رؤيتها؟"

قالتها بصوت خافت، خجول، بالكاد خرج. كأنها تسأل سؤالًا لم يُطرح عليها من قبل. كأن الأمر كله فكرة غريبة، غير واقعية، مستحيلة.

ناتسومي لم تُسرع في الجواب. لم تقترب كثيرًا، ولم تبتعد. فقط هزّت رأسها بابتسامة… تلك الابتسامة الهادئة التي تعني: "أنا هنا، لكنني لن أدخل إلا إذا دعوتِني." ابتسامة لا تتطفّل، بل تطمئن.

قالت، بصوت يشبه دفء الصباح في مدينة هادئة:

"إن لم يكن يزعجك… أعتقد أنه سيكون شرفًا لي."

كلمات بسيطة، لكن شيئًا في نبرتها جعل قلب يوي يخفق بطريقتين: خجلًا… وارتياحًا.

نظرت يوي إلى الأسفل، إلى يديها المتشابكتين في حجرها، كما لو كانت تبحث عن إجابة بين أصابعها. كانت ترتجف قليلاً. ليس خوفًا من ناتسومي، بل من الشعور ذاته: أن يكون قلبك مكشوفًا، دون ستار. أن يرى أحدهم الأشياء التي لم تقلها، لكنها نزفت من بين أناملك على هيئة خطوط.

نظرت إلى فنجانها، إلى البخار المتصاعد كحلم يهرب ببطء. بلعت ريقها بصعوبة، كأن شيئًا عالقًا في الحلق، لا هو بكاء ولا هو كلمة.

فكّرت في دفترها، ذاك الكنز الوحيد، الدفتر الذي ينام معها تحت الوسادة، كما لو كان صديقًا، أمًا، وطنًا لا يغادرها. لم يلمسه أحد قط. لم ترِه لأحد. لم تتحدّث عنه حتى.

كل رسمة فيه كانت صفحة من قلبها. كل وجه، كل ظل، كل ابتسامة، كانت لحظة من طفولتها، من خوفها، من فقدها. أن يراه أحد، حتى ناتسومي… كان كأن تفتح جرحًا صغيرًا، شفافًا، ناعمًا — لكنّه ما زال يؤلم حين يُلمس.

لكنّها، ولسبب لا يمكنها تفسيره، شعرت في عيني ناتسومي بشيء… ليس فضولًا، بل احتواء. ليس رغبة في الاطلاع، بل رغبة في الفهم. شعرت، للحظة، أن هذه السيدة لا تريد أن تأخذ شيئًا منها، بل فقط أن تشاركها الحمل. أن ترى من هي دون أن تحكم.

وشيء في ذلك… ذكّرها بما شعرت به حين رسمت هوشي — شعور غريب، نادر، أن هناك من يراك… ولا يطلب أن تكون شيئًا آخر. أن يقول لك، دون كلام: "أنا لا أراك عبئًا."

لذلك، في لحظة صامتة، صغيرة، فكّرت يوي…

ربما، فقط ربما…

لا بأس أن تُفتح الصفحة.

واحدة فقط.

ترددت يوي كثيرًا قبل أن تتحرك. نظرت إلى حقيبتها الصغيره المركونة بجانبها، كأنها تتأكد من وجود ذلك الكنز السري بداخلها، ثم أعادت النظر إلى ناتسومي — تلك السيدة ذات الابتسامة التي لا تُخيف. ابتلعت ريقها، ثم انحنت ببطء، بحذر يشبه خطوات قطة تمشي فوق زجاج، وسحبت دفترًا قديمًا، غلافه مهترئ قليلاً، لكنه كان نظيفًا، محافظًا عليه بعناية تشبه طريقة صون الأحلام الهشة.

أمسكته بيديها كما لو كانت تمسك قلبها حرفيًّا، وفتحته على مهل. بدا كأن الهواء نفسه حبس أنفاسه. أصابعها تقلب الصفحات برفق، وكل صفحة كانت تحمل فيها أثراً من العالم الداخلي ليوي: ظلال، وابتسامات، وذكريات، وبعضها لم يكتمل… كأنها تراجعت في اللحظة الأخيرة.

ثم توقفت عند صفحة معيّنة.

ترددت… ثم دارت الدفتر ببطء نحو ناتسومي، دون أن تنظر مباشرة في عينيها، وكأنها لا تزال تحتمي خلف شيء من الخجل، أو الارتباك. وما إن نظرت ناتسومي إلى الصفحة، حتى اتسعت عيناها قليلاً، وبقيت صامتة لثوانٍ.

في منتصف الصفحة، كان هوشي — لكن ليس كما تعرفه.

لم تكن الرسمة دقيقة فقط، بل حيّة. مفعمة بشيء لم يره أحد من قبل. ملامحه القمحية الدافئة مرسومة بعناية تُظهر من رسمه وهو في لحظة غفلة… ربما واقفًا بجانب الشجرة خارج الملجأ، أو ناظرًا إلى شيء بعيد — عينيه نصف مغمضتين، فمه مرتاح، وكتفاه منسدلان… كأن قلبه آمن.

كان جميلًا. بشكل لم تتخيله ناتسومي من قبل. ليس لأنه لم يكن جميلًا في الحقيقة — بل لأن الرسمة أظهرت فيه شيئًا لا يظهر في الواقع. شيئًا من الطمأنينة، من الرقة، من اللطف النقي الذي لا يُعرض عادةً على الآخرين.

لم يكن ينظر إلى الرسّامة… لم يكن يعرف أنه يُرسم.

ومع ذلك، من بين خطوط الفحم الخفيفة، والتفاصيل الدقيقة، كان هناك شعور واضح: من رسم هذا الشخص… يرى فيه أكثر مما يقوله.

وضعت ناتسومي يدها على فمها للحظة، لا لتُخفي صدمة، بل لتكتم سعادة عميقة باغتتها دون استئذان. عيناها ضحكتا قبل أن تفعل شفتيها، ثم نظرت إلى يوي، وقالت بصوت خافت يشبه البهجة المفاجئة:

"يا إلهي… هذه الرسمة… مذهلة. موهبتك رائعة، يوي."

احمرّ وجه يوي بسرعة، وكأن أحدهم فتح نافذة فجأة على عالمها الداخلي. هزّت رأسها بخجل، وتمتمت، "أ-أنا فقط… أرسم أحيانًا… عندما أشعر…"

قاطعتها ناتسومي بلطف، وبابتسامة ماكرة قليلاً:

"ومَن هذا؟" أشارت إلى الرسمة، ثم أضافت بنبرة مرحة فيها شيء من الدفء العائلي: "هل هو شخص مميز؟ صديق؟… أم أنه أكثر من ذلك؟"

يوي فتحت فمها لتجيب، لكنها لم تجد كلمات. ارتبكت، وأمسكت حافة الدفتر بقوة، كأنها تبحث فيه عن مخرج. نظرت إلى الأرض، ثم إلى فنجانها، ثم إلى الرسمة مجددًا… وأخيرًا همست، بصوت يكاد لا يُسمع، وقد ارتجف طرف ابتسامتها:

وقفت يوي للحظة طويلة، وكأنها تواجه شيئًا لم تعرف كيف تواجهه من قبل — مرآة تكشف أعماقها المظلمة، وتفرض عليها أن ترى نفسها بلا أقنعة. وجهها احمرّ خجلاً، وشفتيها ارتجفتا برقة، لكنها لم تجرؤ على رفع الصوت. حاولت أن تقول شيئًا، لكن الكلمات علقت في حلقها، تلاشت كأنها ندى يتبخر قبل أن يلمسه أحد. أغمضت عينيها للحظة، تحاول أن تردم الفجوة الكبيرة التي تشقها مشاعرها المضطربة، محاطة بأسئلة لا تهدأ.

كانت تفكر، في صمتها العميق، هل يحق لها أن تناديه "صديقًا"؟ هل تستحق أن ترتبط بهذا الشعور؟ أم أن الوحدة التي عاشت فيها لسنوات ستظل تكسر كل أمل؟

أفكار متشابكة تنساب ببطء لكن بثقل لا يطاق: هل يحق لي أن يكون لي صديق؟ أنا، التي لم تعرف الدفء الحقيقي، التي تربّت في ظل غياب الحنان، هل يمكن أن أطلب من شخص أن يكون لي أكثر من مجرد وجه عابر؟ هل لي أن أكون قريبة من أحد؟ هل أستحق هذا الشعور

كانت تفكر، في صمتها العميق، هل يحق لها أن تناديه "صديقًا"؟ هل تستحق أن ترتبط بهذا الشعور؟

كانت هذه الأسئلة تغلق عليها كجدار صلد، تجعل قلبها ينقبض كأنه يبحث عن نفس يهرب به من الوحدة التي كبرت فيه. لم تعرف كيف تتعامل مع ذلك الشعور الجديد الغريب — شعور الأمان الذي وجدته فب هوشي في عينيه وفي وجوده قبل أن ترسمه بأصابعها على الورق.

كان صوت يوي، عندما خرج أخيراً، ضعيفاً وممزقاً بين خجلٍ عميق وخوفٍ دفين، كأنها تهمس بسرٍّ لا تجرؤ على نطقه بصوتٍ عالٍ: "هو... شخص يجعلني أشعر بالأمان."

لم تكن مجرد كلمات، بل اعترافًا هزيلاً، لؤلؤةً صغيرة من ألم وحسرة دفينة في القلب طالما عاشت بين الظلال. الكلمات تعثرت في حلقها، كما لو كانت تخشى أن تتلاشى أو يُسمعها أحد لا يفهم، رفعت عينيها نحو ناتسومي بخجل مملوء بالارتباك والرهبة، وكأنها تستجدي من تلك النظرة أن تبقى بلا حكم، بلا تنديد.

شعرت ناتسومي بنبض خفي في صدرها، حرارة رقيقة امتزجت بالحزن. كان هناك في صوت يوي شيء يلمس قلبها، كأنه بقايا أمل يتسرب من جدار من الألم. ترددت تهمس، ترددها كأنه يحاول أن يجعل ذاك الأمان أقرب وأقوى: "شخص يشعرك بالأمان؟"

نظرت يوي للأسفل، ويدها تسرع لتغطي وجهها، تحاول إخفاء احمرار خجلها الذي تمدد حتى أذنيها، تغطيها بأطراف أصابعها المرتجفة، وكأنها تخفي سرّها من العالم بأسره. أحست بثقل كل كلمة نطقت بها، وكأنها زادت حملًا على كتفيها التي طالما تكئ على الوحدة.

وبالرغم من خجلها، حاولت أن تبعد نفسها عن ذلك الشعور، تخاف أن تفصح أكثر مما تسمح له نفسها، فتغيرت نبرتها إلى سؤال صغير، خائف، وكأنه محاولة للهرب دون أن تفقد تلك الألفة التي بدأت تشعر بها مع ناتسومي، كأنها تشبه شيئًا من الحنان الذي لم تعرفه أبداً، لم تعرف طعم الأم أو الأخت الكبرى: "ماذا... ماذا تفعلين؟"

كان السؤال مغطىً بغطاء الخوف من الرفض، لكنه كان أيضاً تعبيرًا عن قرب بسيط، عن رغبة خفية في معرفة هذه المرأة التي تملك هذه النظرة الصافية، وتستطيع أن تكون ملاذًا دون أن تطلب شيئًا.

نظرت ناتسومي إليها بدهشة محببة، وابتسامة دافئة تشقّ قلب الحزن وتنسج خيطًا من الأمان. ضحكت بخفة، ضحكة تملأ الجو بلطف أمّ يحضن صغيره،

كان سؤالها هشًّا كأنفاسٍ على زجاجٍ بارد، لكنّه حمل خلفه رغبة خفية في القرب، في فهم هذا الحضور الدافئ الذي بدأ يتسلل إلى قلبها دون استئذان. لم يكن سؤالًا فضوليًا، بل أشبه بيد صغيرة ممدودة نحو ضوء، تخشى أن تُرفض لكنها لا تقوى على التراجع.

تجمّدت ناتسومي للحظة قصيرة، كأن الزمن تريّث قليلاً ليراقب ما ستقول. عيناها ظلّتا معلقتين بيوي، تتأملان ذاك الوجه المرهف الذي تفتّح أمامها كزهرة نادرة، لا تحتمل قسوة الريح.

لم تكن ناتسومي تريد الكذب… لكنها أيضًا لم تكن تستطيع أن تقول الحقيقة كلّها. كيف لها أن تخبر تلك الفتاة التي تبحث عن الأمان، أنها تنتمي لعالمٍ يعجّ بالخطر؟ أن يداها، اللتين أمسكتا فنجان القهوة بلطف، قد حملتا سلاحًا؟ أن تلك السكينة في صوتها ليست إلا ثمار سنوات من العنف الصامت؟

أخفضت ناتسومي نظرتها للحظة، كأنها ترتّب أفكارها بعناية، ثم قالت، بنبرة دافئة محايدة: "أعمل في... أعمال العائلة. شيء يشبه الإدارة، أو... التنظيم."

ضحكت بخفة خافتة، ضحكة تحمل في عمقها شيئًا من الأسى، ورفعت حاجبًا وكأنها تقول: "أعرف كم يبدو هذا غامضًا.

سكنت لحظة قصيرة بينهما، كأن الهواء ذاته توقف ليصغي.

يوي، التي كانت تحدّق في فنجانها، رفعت عينيها ببطء وقالت بصوتٍ خفيض يكاد لا يُسمع، كما لو أنها تسير على أطراف أصابعها فوق أرضٍ هشّة: "ماهي… عائلتك؟"

كان السؤال صغيرًا، لكنه ضرب في عمق ناتسومي كحجر يُلقى في ماء راكد. شهقت داخليًا، ابتلعت أنفاسها في صمت، ومرّت ثانية طويلة قبل أن تجيب.

هل تعرف يوي؟ هل سمعت باسم "يامازاكي" من قبل؟ هل أخبرها هوشي؟ أم أنها تسأل فقط ببراءتها المعتادة؟

نظرت ناتسومي إليها طويلًا، تقرأ في عينيها، تبحث عن أثر حكم أو خوف، لكنها لم تجد سوى فضول نقي، هش، أقرب إلى يد طفلٍ تلامس شيئًا لا تعرف ما هو، لكنها تشعر أنه مهم.

أخفضت ناتسومي نظرتها للحظة، ثم قالت ببطء، كما لو كانت تذوق الكلمة قبل أن تطلقها، تخاف منها أكثر مما تخاف من رد الفعل: "عائلتي… تدعى يامازاكي."

توقفت. جاءت بقية الكلمات وهي تتنفسها بحذر، تراقب كل ظلٍ يمر على وجه يوي، كأنها تخاف من انهيار لم يقع بعد: "هي… عائلة كبيرة. لديها اسم. سمعة. يقولون…ياكوزا."

قالتها، أخيرًا. ليس باعتراف كامل، بل كمن يضع الحقيقة في يدي طفل، وهو يخشى أن تكون حارّة جدًا عليه.

نظرت ناتسومي إلى يوي — لا تبتسم، لا تتنفس — تنتظر.

كانت تخشى من شيء واحد فقط: أن ترى في عيني يوي ذاك الارتجاف… تلك الخطوة التي يأخذها البشر للخلف عندما يشعرون بالخوف. ذلك الانكماش. ذلك الانكماش الذي تعرفه جيدًا.

لأنها رأت العشرات يبتعدون هكذا من قبل. لكنها لم تكن مستعدة لرؤيته من هذه الفتاة… من يوي.

وهي تنظر، شعرت فجأة بشيء لم تعرفه منذ وقت طويل: رجاء.

رجاء بسيط. أن تبقى يوي. فقط… أن تبقى

بقيت ناتسومي تحدّق في وجه يوي، أنفاسها محبوسة، كأنها تخشى أن تفسد شيئًا لم يتكوّن بعد. كان وجه الفتاة أمامها ساكنًا… لكنه لم يكن خاليًا. عيناها، رغم اتساعهما المفاجئ، لم تحمل الذعر الذي كانت تخشاه.

بل… كان فيهما شيء آخر. صمتٌ غريب، ودهشة لا تُشبه الخوف.

أمالت ناتسومي رأسها قليلًا، حاجباها انعقدا بقلق، بينما كانت تراقب يوي بصبر يشوبه الحذر. هل فهمت؟ هل صُدمت؟ لكن لماذا لا تنكمش؟ لماذا لا تبتعد؟

لم تدرك ناتسومي أن يوي لم تكن في الغرفة أصلًا، بل كانت غارقة في دوامة من الأسئلة المرتبكة.

في داخلها، تدافعت الكلمات كأمواج صغيرة:

يامازاكي؟ قالت اسم العائلة وكأنّه أمر عادي… هل يُعقل؟ يامازاكي هو… هوشي؟ هوشي أيضًا… من هذه العائلة؟ هل تكون… قريبته؟ هل يعرفها؟ هل يعيش معها؟

أحست يوي بدفء غريب في أذنيها، كأن الدم صعد فجأة لوجهها، وبسرعة لم تنتبه لها — غطّت خدّيها بكفّيها الصغيرة، لا تعرف ما إذا كانت تحاول إخفاء احمرارها أم أفكارها.

بين خجلٍ بدأ يخنق صوتها، وترددٍ كاد يمنع السؤال من الخروج، همست أخيرًا، بنبرة لامست حواف الهوى والخوف: "هُو… هوشي… هل تعرفينه؟"

رفعت عينيها نحو ناتسومي، ببطء، بتوتر، بجرأة صغيرة لم تكن تملكها قبل دقائق.

كانت ناتسومي لا تزال تراقبها، لكن عند سماع الاسم، تغيرت ملامحها بلطف. دهشة ناعمة ارتسمت على وجهها، ثم ابتسامة صغيرة، لم تكن من النوع الذي يضحك، بل من النوع الذي يدفئ.

في داخلها، هبط شيء يشبه الطمأنينة: إذًا… هوشي هو الرابط؟ يا له من اسم قادر على ربط عالَمين — عالم هذه الفتاة البريئة، وعالمها هي، المعتم، المليء بالتعقيد.

أجابت ناتسومي، ببطء، وكأنها تحاول أن لا تربك شيئًا جميلًا بدأ يتشكل: "أعرفه… جيدًا. هو ابن أخي."

قالتها برقة، لكنها كانت تراقب عيني يوي كما لو أنها تراقب زهرة تُفتّح للمرة الأولى. وأدركت حينها، من النظرة المرتبكة، من لمعةٍ خفية في عينيها، من اللهفة التي حاولت إخفاءها، أن هذا الاسم… يعني أكثر بكثير من مجرد شخص عرفته صدفة.

وفي تلك اللحظة، أدركت ناتسومي — بابتسامة داخلية، عميقة، حزينة وجميلة في آن — أن الحب ربما لم يكن بعيدًا كما ظنّت.

وأن قلب هذه الفتاة الخجول… قد وجد من يضيئه.

احمرّ وجه يوي حتى بدا كحبّة كرز صغيرة، وبدت كما لو أنها ندمت على السؤال فور أن خرج من فمها. عضّت شفتها السفلى، ونظرت إلى ناتسومي بخجل متردد، قبل أن تهمس بصوت رقيق، متردّد، مرتبك، كمن لا يعرف ما إذا كان يتجاوز حدود اللباقة:

"هل… أنتِ عمّته؟"

رفعت ناتسومي حاجبها بخفّة، ثم ابتسمت بلين وهزّت رأسها إيجابًا، لم تضف شيئًا، لكنّ تلك الإيماءة وحدها كانت كافية لتجعل عيني يوي تتسعان قليلاً… ويدها تنكمش على نفسها فوق حجرها.

بقيت تحدّق في فنجانها، مترددة، قبل أن تنظر مجددًا، بعينين تتأرجحان بين الرجاء والقلق، وقالت بصوت خافت، كأنها خافت أن يكون الجواب مؤلمًا:

"هوشي… هل هو بخير؟ لم أره منذ أسبوع… كامل."

"هل هوشي بخير؟" خرج صوت يوي منخفضًا، تردد بين الشفاه كأنها بالكاد استطاعت أن تسأله. نظرت إلى ناتسومي بعينين فيهما رجفة خفية، لم تكن خوفًا، بل قلقًا... قلقًا صغيرًا عاش في صدرها منذ آخر مرة رأته فيها.

في اللحظة التي سمعت فيها اسم "يامازاكي"، كان قلبها قد تعرّج. تساءلت، دون أن تنبس بحرف: يامازاكي... مثل هوشي؟ هل يمكن أن تكون قريبة منه؟ ثم، خجلاً وخوفًا من أن تكون تتجاوز، سألت بهمسٍ مشوب بالتردد: "هل... هل تعرفين هوشي؟"

توسعت عينا ناتسومي، ليس دهشةً من السؤال، بل من طريقة نطقه — كيف خرج خفيفًا كدعاء، ومرتجفًا كأنفاس طفلة تخشى أن تُقال لها الحقيقة كاملة. وفي داخلها، شعرت ناتسومي بوخزة عاطفية: هذه الفتاة... تحبّه. ربما لا تدري، لكن كل شيء فيها — خجلها، قلقها، عينيها حين ذكرت اسمه — كان يصرخ بذلك بصوت لا يُسمع.

أجابت ناتسومي بهدوء، تنظر في وجهها: "نعم… أنا عمته."

اتسعت عينا يوي، وارتجف طرف كتفها، ثم همست، وكأنها تطلب تأكيدًا: "هل… هو بخير؟ لم أره منذ أسبوع… منذ... منذ ذلك اليوم..."

وتسللت الذكرى ببطء إلى رأسها. ذلك المساء — الهادئ من الخارج، والمضطرب في داخلها — حين زارها في شقتها. جلسا معًا، شربا الشاي، وتحدثا بصوت منخفض عن لا شيء وكل شيء. ثم جاءت مكالمة. هاتفه ارتجف، وجهه تغيّر. رحل فجأة، رغم أنها كانت على وشك أن تطلب منه أن يبقى قليلًا. منذ ذلك الوقت، لم تلمحه. لم تلمس ظلّه. حتى معطفه — الذي تركه على كتفيها — ظلّ معلّقًا في غرفتها، كأنه بقاياه الوحيدة.

لم تكن تعلم أنه في ذلك المساء… أصيب.

لم تكن تعرف أن الدم نزف من كتفه بغزارة، وأنه واجه رجلًا كاد يلتهمه بجنون. لم تعرف عن "النار الزرقاء" التي التهمت كل شيء في الزقاق، ولا عن الألم الذي جعله يصرّ على أن يستمر، فقط ليحميها.

ناتسومي، وهي تتذكر ما رأت — جسده المصاب، الدماء على الأرض، الطبيب العجوز المنحني فوقه، رجاله في حالة ذهول، صراخه الرافض للانسحاب، كلماته لوالده "لن أتراجع… سأقاتل، حتى آخر نفس، من أجل من أحب…" — شعرت بأن حلقها جف.

فكرت للحظة: هل تقول الحقيقة؟ هل تخبرها كم كان قريبًا من الموت؟ أم تكذب كذبة بيضاء؟ لا، ليست كذبة… بل محاولة للحفاظ على براءتها.

ابتسمت ناتسومي بخفة، لكنها لم تستطع أن تمنع الحزن من التسلل إلى عينيها. وضعت يدها برفق على يد يوي، وقالت: "هوشي... بخير. فقط أخذ قسطًا من الراحة بعد مهمة صعبة. أحيانًا يحتاج للهدوء… لكنه بخير، أعدكِ."

لم يكن كذبًا تمامًا. لكنه لم يكن الحقيقة أيضًا.

نظرت إليها يوي، بعينين حمراوين قليلًا من الحيرة، والقلق، وشيء آخر يشبه الامتنان. ثم أومأت ببطء، دون أن تقول شيئًا. فقط احتضنت تلك الكلمات كما يحتضن أحدهم وشاحًا دافئًا في ليل بارد.

سكتت اللحظة بينهما كأن الزمن استراح قليلًا، واكتفى بالتأمل. ظلّتا هناك، في المقهى الذي تغلّفه رائحة البنّ والمطر والدفء المؤقت، تتشاركان في صمتٍ أكثر صدقًا من كثير من الكلام. كانت فنجاناهما قد بردا، لكن الأثر الذي تركته تلك الرشفة الأولى من القهوة، والاعترافات الصغيرة التي انسكبت بينهما، لا يزال حيًّا.

يوي، بخجلها المعتاد، نظرت إلى يد ناتسومي التي لا تزال فوق يدها. ارتبكت، لكنها لم تسحبها. لم تكن معتادة على هذا النوع من الحنان، لكنه لم يخيفها — ليس منها.

همست بصوت خافت، وهي تطرق بعينيها نحو الأرضية الخشبية: "جرحكِ… هل ما زال يؤلمك؟"

نظرت ناتسومي إلى ركبتها المغطاة بضمادة خفيفة، ثم ابتسمت: "ليس كما كان… يبدو أنه تعافى بفضل ممرضة لطيفة."

احمرّ وجه يوي بلون خفيف، ثم نظرت بعيدًا لتخفي تلك الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها دون أن تقصد.

وبينما كانت ناتسومي ترفع الكوب لتأخذ آخر رشفة، تسلّلت نظرة سريعة نحو ساعة الحائط خلف يوي… الثواني تدقّ، والعقارب تتحرك بثقلٍ هادئ. ثم وجدت نفسها تتكئ إلى الخلف قليلًا، وعينيها تتسعان.

"الساعة الثامنة والنصف؟!" تمتمت، وهي تضع الفنجان على الطاولة.

رفعت يوي رأسها بدهشة، ثم استوعبت ما قيل، فتسارعت خفقات قلبها قليلاً.

"مدرستكِ… ألن تتأخري؟" سألتها ناتسومي، وهي تنهض وتدفع الكرسي للخلف، على وجهها تعبير من خفة المشاغبة وقلق المسؤول.

يوي رفعت يدها لتتأكد بنفسها من الساعة، ثم هزّت رأسها بهدوء: "لا بأس… الدوام يبدأ في التاسعة. ما زال أمامي بعض الوقت."

ابتسمت ناتسومي ووقفت، تلمّست سترتها الجلدية، وأعادت ترتيب طيّاتها بخفة، ثم التفتت نحو يوي ومدّت يدها إليها: "في هذه الحالة… لنمشِ. سأوصلكِ بنفسي. لن نسمح ليومٍ جميل أن يبدأ بركضٍ متأخر."

نهضت يوي بدورها، شعرت بذلك التردد الخفيف الذي يسبق الرحيل من مكانٍ ترك في القلب دفئًا، لكنها أمسكت بيد ناتسومي بلطف.

وحين خرجتا من المقهى، كان المطر قد توقف، وترك خلفه هواءً نقيًا، وأرصفة تلمع بصفاء، كأن المدينة اغتسلت من كل همومها.

وعلى جانب الرصيف، وقفت الدراجة النارية تنتظرهما، صامتة، لامعة، تشبه الوعد المغلّف بالحرية.

نظرت ناتسومي إلى يوي وقالت، بنبرة ناعمة: "جاهزة؟"

أومأت يوي، بشيء من الخجل… وبشيء من الحماسة الخفية.

ثم ارتدت الخوذة التي أعطتها لها ناتسومي في الصباح، وصعدت خلفها، وأمسكت بها، ليس بخوف… بل بثقة.

انطلقت الدراجة بين الشوارع، والرياح تداعب أطراف سترتيهما، والمدينة تتسع أمامهما كصفحة بيضاء، كأن كل شيء فيها يمكن أن يبدأ من جديد

وكانت ناتسومي، وسط ضجيج المدينة الخافت الذي بدأ يتصاعد مع اقتراب موعد الدوام، تشعر بشيء غريب يتشكل في صدرها. لم يكن مجرد إحساس بالمسؤولية، بل شيء أعمق… شعور بأنها تريد حمايتها، هذه الفتاة الصغيرة التي كانت تظنها ضعيفة، فإذا بها تمتلك من اللطف ما يُذيب أكثر القلوب تحصينًا.

كانت الدراجة تنساب بسلاسة وسط شوارع طوكيو المتلألئة ببقايا مطر الصباح، وناتسومي تقود بإيقاع معتدل، غير مستعجل. كانت تشعر بأن هذه الدقائق القليلة، بين المقاهي المبتلة وإشارات المرور المتثائبة، ثمينة أكثر مما تبدو. خلفها، كانت يوي تمسكها بخفة… لا بتشبث خائف، بل كأنها وجدت مكانًا ينتمي لها — ولو للحظة.

وحين اقتربتا من الحي الذي توجد فيه المدرسة، تباطأت ناتسومي قليلًا، نظرت إلى مرآة الدراجة الجانبية، فرأت عيني يوي من خلف الخوذة، تراقب المدينة بهدوء لا يخلو من دهشة. خيوط الشمس تسللت بين الأشجار على جانبي الطريق، تنعكس على نوافذ الحافلات والدكاكين الصغيرة، فترسم على وجنتيها ضوءًا ناعمًا يشبه ابتسامة خفية.

توقفت الدراجة قرب بوابة المدرسة، وكانت الساحة قد بدأت تكتظ بالطلاب. فتحت يوي الخوذة بتردد، ثم نزلت بخطوات بطيئة. وقفت أمام ناتسومي، تحاول أن تجد الكلمات المناسبة.

"شكرًا…" همست بصوت لا يكاد يُسمع، لكنها نظرت في عينيها بثبات، كأنها تقول أكثر بكثير مما تسمح به الكلمات.

ابتسمت ناتسومي، وردّت بلهجة هادئة: "في أي وقت."

ترددت يوي لوهلة، ثم التفتت نحو البوابة. خطواتها كانت خفيفة، لكن ناتسومي لاحظت أن شيئًا في كتفيها أصبح أكثر استقامة، كأنها تجرأت أن تواجه هذا اليوم بطريقة جديدة.

وقبل أن تختفي تمامًا بين زملائها، التفتت يوي مرة أخرى، وابتسمت — تلك الابتسامة الهادئة، الخجولة، التي تحمل ألف معنى بلا حاجة إلى أي تفسير.

راقبتها ناتسومي حتى ابتلعها الزحام، ثم وضعت الخوذة مجددًا على رأسها، وأشعلت محرك الدراجة.

لكن قلبها… لم يغادر البوابة.

وركبت ناتسومي دراجتها من جديد، لكن هذه المرة لم يكن الطريق كما كان، ولا الريح كما اعتادته. شيء ما تغيّر.

بين زحام الطلاب وهمسات الشوارع ووقع عجلاتها فوق الإسفلت المبتل، شعرت بشيء دافئ، هادئ، غريب في صدورها — كأنها تذكّرت فجأة كيف يبدو الشعور بأن يهتم بك أحد، أو أن تهتم أنت… بصدق، دون شروط.

يوي لم تكن مجرد فتاة ضائعة بين زوايا مدينة قاسية، بل كانت، دون أن تدري، مرآة لجزء في ناتسومي كانت تظنه ميتًا. والآن، بعد كوب قهوةٍ بسيط، وبضع كلمات خجولة، باتت تلك المرآة تعكس أملًا لم تجرؤ على تصوره.

ومع صوت هدير الدراجة يعود، اختلطت أنفاس المدينة بأنفاسها، وكأنها تهمس لها: هذه ليست نهاية الطريق… بل بدايته. بداية شيء جديد. صغير… لكنه حقيقي.

فصول من لهيبٍ غامض

الجزء الاول :ملفّ مفتوح

كان الضوء الخافت في قاعة الأرشيف السفليّ يتلوّن بلون الغبار، وكأن الزمن نفسه توقف داخله منذ عقود. جهاز المسح الإلكتروني القديم أطلق صفيرًا خافتًا، تبعه صوتٌ ميكانيكي منخفض مع فتح الخزنة المعدنية الثقيلة. رجلان يرتديان معاطف داكنة دخلا المكان، أحدهما كان دوني، المساعد الأكثر وفاءً للسيد كينتا، والآخر شابٌ خبير بالتحليل الجنائي تابع لفريق الاستخبارات الخاص بعائلة يامازاكي.

قال دوني بصوت خافت: "ملف 07X… تمت الموافقة على فتحه، بتوقيع مباشر من السيد كينتا. لا أحد غيرنا يعرف بهذا بعد."

فتح الغلاف المعدني بحذر، وكأن داخل الملف نارًا لا تزال حيّة. أوراق قديمة، تقارير حرارية، لقطات حرارية ضبابية، ومذكرة كُتبت بخطّ يد رجل مات منذ أكثر من عشرين عامًا — كلها تتحدث عن ظاهرة غير مفسَّرة… لهب أزرق، لا يلتهم المادة فقط، بل يختفي من بعدها أي أثر للإنسان.

قال المحلل، وهو يقلب واحدة من الصور: "الموقع… مقبرة قديمة، غرب طوكيو. عمر التربة يشير إلى اضطراب حراري غير طبيعي، و"بصمة طيفية" لا تتطابق مع أي مصدر معروف."

ردّ دوني بنبرة مشحونة: "تمت مراقبة هذه الظاهرة سابقًا في أربع مواقع، جميعها ارتبط باختفاء أشخاص، وفي واحدة منها... اندلعت نيران التهمت جسدًا بالكامل، دون أن تحرق القماش المحيط به."

قال المحلل، وهو يضع صورةً حرارية على الطاولة: "هذه الصورة… جديدة. وصلت من هوشي قبل أسبوعين. كانت ضمن التحقيقات التي أخفاها عن والده."

توقف دوني لثانية، ثم تمتم: "هوشي أخفى التفاصيل لأنه أراد حمايتها… الفتاة. يوي."

لحظة صمت تملّكت المكان. لوهلة، بدا كأن الهواء في الأرشيف صار أثقل.

ثم قال دوني، وهو يفتح صفحة من المذكرة القديمة: "الملف يذكر اسمًا… مطموسًا. رجل يُعتقد أنه أول من واجه الظاهرة، قبل ثلاثين عامًا. وصف النار بأنها ليست لهبًا بل كيان. شيء يتغذى على الخوف والغضب. وهذا… يتكرر."

أخرج المحلل ورقة أخرى: "في جميع الحالات، كان هناك "شاهد" نجى… لكنهم جميعًا فقدوا شيئًا داخلهم بعدها. واحد منهم انتحر. آخر دخل مصحًا عقليًا. فقط واحدة اختفت."

قال دوني، وهو يشير إلى تقاطع في المعلومات: "لكن الآن… لدينا أول رابط حيّ. هوشي… نجا من النار. ولم يُجن. ولم يختف. وهذا يعني شيئًا."

حدّق المحلل فيه، ثم سأل: "لكن… لماذا نجا؟"

أجاب دوني، وعيناه تتقاطعان مع ظل الوميض الأزرق على الورق: "ربما… لأنه لم يكن خائفًا. أو لأنه كان يحمي أحدًا أغلى من نفسه."

صمت آخر. هذه المرة لم يكن فارغًا، بل كان مثل اختناق… لحظة ما قبل الحقيقة.

ثم قال دوني بصوت منخفض: "التحقيق بدأ… والسيد كينتا أمر ألا يوقفه شيء. حتى الحقيقة… مهما كانت بشعة."

ثم أدار عينيه نحو الملف، وقال بصوت أشبه بالصلاة: "النار الزرقاء… لن تبقى بلا اسم. ولا بلا نهاية."

في الصفحة الأخيرة من التقرير، قبل أن تُغلق شاشة العرض، ظهرت ملاحظة قديمة، محفوظة من ملفٍ تم أرشفته قبل عقدٍ كامل. لا تحمل اسمًا، ولا توقيعًا، فقط التاريخ… وتفاصيل مجتزأة، كأنها كُتبت على عَجل، تحت وطأة كارثة وشيكة:

«الحريق امتدّ بسرعة... لم نتمكن من سحب الجميع. وُجدت ناجية واحدة، بحالة حرجة. نسبة الحروق تجاوزت 60%. حالة الصدمة… دائمة. والخطيب… لم ينجُ. الملف أُغلق بأمرٍ مباشر.»

تلا ذلك سطرٌ وحيد، كُتب بخطّ يد مهتز:

«الحالة الأخرى نُقلت لروسيا، تحت حماية خاصة. الخطر لا يزال قائماً… وإن صمت.»

ظلّ دوني واقفًا أمام الشاشة، عينيه ساكنتين، بينما يده تشدّ على طرف المقعد. كان يعرف هذه الوثائق. يتذكّر صرخات الليل الذي لم تُسجّل في أي تقرير. يتذكّر نظرة رجل فقد كل شيء، لكنه وقف، من بين الرماد… لأن هناك من يجب أن يبقى حيًا.

وأغلق الملف.

لكن صدى النيران… لم يختفِ من ذاكرته.

الساعة تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، والمدينة تنام. لكن في قلب الظلال، في تلك الغرفة التي لا يدخلها الضوء، نبضت الحقيقة القديمة… من جديد.

يتبع…..

2025/06/20 · 2 مشاهدة · 17184 كلمة
FE TEC
نادي الروايات - 2025