11 - الفصل العاشر الجزء الأول — خيوط في الرماد

الفصل العاشر الجزء الأول — خيوط في الرماد

مجلس الظلال

في الطابق العلوي من فندق "هوتارو بلازا" — ذاك المبنى الفولاذي الذي يُشرف على قلب ناغويا كمعبدٍ محصن من عصور ما بعد الحرب — انعقد الاجتماع الذي لم يُدوَّن في أي سجل، ولم يُدرج في أي جدولٍ رسمي، رغم أن نتائجه ستهزّ أركان خريطة الجريمة في اليابان لسنوات مقبلة.

كان هذا الاجتماع امتدادًا حاسمًا للّقاء الصباحي المغلق، الذي تقرر فيه — بشكل مبدئي وحذر — توسيع التحالف تحت جناح عائلة يامازاكي. لكن اللقاء المسائي الآن مختلف في روحه وجمره: فهو لا يضم فقط الموالين، بل جميع الأطراف — الحلفاء، الخصوم، المتردّدين، وأشباه الظلال الذين يبدّلون وجوههم حسب الريح. اجتماعٌ غير مسبوق جمع القادة الكبار من كل أطياف الياكوزا: من شيكوكو إلى طوكيو، من فروع أوساكا القديمة إلى خلايا كيوتو النائمة.

القاعة نفسها، التي جُهّزت قبل أيام بسرّية مطلقة، كانت مصممة لتكون أكثر من مجرد مكان اجتماع: كانت ساحة صراعٍ من نوع خاص، حرب أعينٍ و أصابع على الأزرار .

فسيحة... لكنها تضيق بكل نظرة متبادلة. جدرانها مكسوّة بخشب الأرز الداكن المصقول، تغلفها نقوش يابانية دقيقة لكائنات خرافية وتنانين ملتفة حول أجسادها كأنها تحاصرها، بينما يطغى على السقف طلاءٌ أسود غير لامع كأنه يمتص الصوت واليقين معًا.

في المنتصف، وُضعت طاولة دائرية ضخمة من خشب الأبنوس المظلم، تحاصرها مقاعد عميقة من الجلد الأسود، كأن من يجلس فيها يُبتلع إلى قلب المجلس. أمام كل مقعد، لوحة إلكترونية مضاءة بهدوء، تعرض خرائط رقمية، ملفات سرّية، وتسجيلات محمية بكلمات مرور لا يملكها إلا قادة النخبة.

الإضاءة خافتة إلى حد الخداع — مصابيح زجاجية طويلة تتدلّى من السقف في تناظرٍ مهيب، يغمر الغرفة بوهجٍ ذهبي خفيف، لا يكشف الكثير، بل يُلمّح فقط. الضوء لا يريح العين، بل يُربكها، ويجعل من قراءة وجوه الحضور فنًّا بحد ذاته.

الهواء كان مشبعًا برائحة الخشب المعتّق والعطر الرجاليّ الفاخر الممزوج بطبقة دخانٍ قديم، وكأن الغرفة نفسها تتنفس من رئات رجال ماتوا وهم يفاوضون على دم.

في هذا الفضاء المشحون، لم تكن الكلمات سيدة الموقف، بل الصمت. صمتٌ ناطقٌ مثل السيوف المجرّدة فوق الطاولة.

هنا... كان يُصنع المستقبل، لكن لا أحد يعلم إن كان سيُصنع بالحبر... أم بالدم.

وعلى رأس الطاولة المستديرة، جلس السيد كينتا يامازاكي وحده، كما لو كان مركز الجاذبية الذي يلتف حوله الصمت ذاته. ملامحه المنحوتة كمنحوتة من رمادٍ بارد لا تسمح للغضب ولا للشفقة أن يتسللا إليه، وعيناه الصامتتان تشعّان بهيبةٍ غامضة، أشبه بجدار حجري في معبد مهجور… جدارٌ لا يُخترق، لكنه يسمع كل شيء.

لم يكن بحاجة إلى حرسٍ أو كلمات تمهيدية. جلسته وحدها كانت إعلانًا ضمنيًا بأن من حضر قبله متسرع، ومن حضر بعده متأخر، أما هو… فهو النقطة صفر .

كانت مقاعد القادة ما تزال فارغة عند وصوله، لكن القاعة بدت ممتلئة رغم ذلك. كل ظلّ، كل تنفّسٍ خافت في الهواء، بدا وكأنه يراقبه، يخشاه، أو ينتظر أن يأذن له بالوجود.

جلس بثبات لا يشبه التسلّط، بل أشبه بسكون صخرةٍ تغفو تحت شجرة عمرها قرون. لا حركة زائدة، لا نظرة ضائعة، لا تململ في اليدين أو القدمين — فقط جسدٌ مستقر كأنما اتفق مع الأرض على ألا يهتزّ حتى تُقرع طبول القرار.

عندما سكنت أنفاسه، بدا أن الزمن نفسه تباطأ داخل القاعة. الهواء ثقل، كما لو أنّه يتحسّس هيبته. حتى الإضاءة الخافتة، المنسكبة من المصابيح المعتمة، مالت بانكسار خفيف نحوه… وكأن الضوء ذاته خضع لمقامه.

في تلك اللحظة، بدا كينتا وكأنه لا يجلس على مقعدٍ مصنوع من الجلد والخشب، بل على عرش غير مرئيٍّ صُنع من التحكّم والغياب، من الأسرار التي لم تُقال، ومن دماء لم تُنسَ .

لم يكن ملكًا. لكنه كان الرجل الذي يصمت في حضرته الملوك.

فُتح الباب أخيرًا، لا على عجلٍ ولا بتأخرٍ مصطنع، بل بهدوءٍ محسوبٍ كأنّه توقيتٌ يُضبط على نغمة قلب القاعة. ودخل "دوني" ، الذراع اليمنى القديمة للسيد كينتا، وخلفه هالة من الصمت المشبع بالحذر.

كان يحمل ملفّات رقيقة بين يديه المغطّات بقفازٍ جلدي داكن، ووجهه الحادّ لا يظهر منه الكثير خلف نظارة مستطيلة رفيعة الإطار، عدساتها الداكنة لا تعكس الضوء بل تمتصّه، فتمنح ملامحه مزيدًا من الغموض، وتجعل من عينيه لغزًا غير قابل للقراءة . لم يكن أحد يعرف تمامًا إن كان ينظر إليك… أم إليك وإلى ما خلفك في آنٍ واحد.

تلك النظارة — التي لم يُرَ بدونها منذ أكثر من عشرين عامًا — لم تكن أداة رؤية فقط، بل قناعًا إضافيًا يحجب النوايا، ويكتم ردة الفعل . حتى تعابيره القليلة كانت تنعكس على شفتيه فقط، تاركة الجزء العلوي من وجهه غارقًا في صمت زجاجي، لا يُقرأ.

عينا دوني، خلف عدستي النظارة الداكنتين، مسحتا القاعة بسرعة هادئة… لا بحثًا عن تهديد، بل كمن يعيد تأكيد معرفته القديمة بالمكان، وبالوجوه التي كانت تختبئ خلف الأقنعة ذاتها قبل سنوات.

انحنى دوني انحناءة خفيفة لسيده، لا تُشبه الخضوع، بل أقرب إلى ختمٍ ملكيّ يُثبت الوثيقة بصمت. ثم استدار ووقف خلف مقعد كينتا، كظلّه اليقظ، لا كحارسه ، يراقب بجمودٍ مدروس، ويداه مقفلتان على ظهره، كمن يمنع نفسه عمدًا من التدخل… إلا إذا فُتح باب الجحيم.

ومع استقراره في مكانه، بدأ المشهد يتحوّل من انتظارٍ صامت إلى لوحة سياسية مكتملة .

بدأ القادة البارزون بالتوافد واحدًا تلو الآخر، رجال يتشابهون في المظهر ويختلفون في النوايا. وجوه مشدودة، أعين تُفلت النظرات وتستعيدها، بذلات داكنة تفوح منها رائحة الترف الممزوج بالخوف… ورائحة المال الذي لم يُكسب بعرق الجبين، بل بدماء الآخرين.

بعضهم دخل في صمتٍ تام، يراقب من خلف عينين نصف مغمضتين كأنهما تقيسان حرارة المجلس. آخرون تبادلوا إيماءات باردة لا دفء فيها، ونظرات خاطفة لم تكن تحية… بل تحذيرًا مغلفًا بالأدب . كأن كل واحد منهم يتذكّر، دون أن يُقال، كم مرة حاول الآخر اغتياله، أو كم مرة نجا من فخٍّ نصبه بنفسه.

جلس كلٌّ منهم في مقعده بصمتٍ مشوب بالتوتر، يمارس طقوس الترقب كما يفعل الجنود قبل لحظة الانقضاض. بدت الطاولة المستديرة وكأنها حلبة غير مرئية ، كلّ طرف فيها يمثل إقليمًا من الخوف والطموح، وكلّ وجهٍ يُخفي ألف خنجر.

وبين تلك الوجوه، برز تاكامي هانزو .

رجل أشيب، لكن الشيب لم يسرق منه حدّة عينيه ولا قسوة روحه. عيناه نافذتان كأنّهما تقرآن ما بين الكلمات قبل أن تُقال، وأنفه المعقوف يزيد وجهه صلابةً تشبه منقار صقرٍ نائم فوق جثة. جلس في مكانه بهدوء، لكنه لم يخفِ انزعاجه العميق، ذلك الانزعاج الذي لم يكن يحتاج إلى تفسير: تزايد نفوذ آل يامازاكي لم يعُد احتمالًا، بل واقعًا يخنق مثل الكفن .

كانت ابتسامته نصف مشقوقة، كأنها ندبة قديمة تحاول أن تتقمص وجهًا وديًّا. لكنها لم تنجح. كلما ذُكر اسم كينتا في الملفات الظاهرة أمامهم، أو حين انحنى دوني ليهمس في أذن سيده، ارتجف حاجباه قليلًا، وشدّ على قبضته المستقرة فوق الطاولة، كأنما يمنع نفسه من تحطيم الكأس الزجاجي الذي أمامه.

كأن وجوده هناك لم يكن قبولًا، بل استدعاءً اضطراريًا . رجلٌ كان يملك نفوذه منذ عقود، لكن الريح تغيّرت. والآن عليه أن يختار: إما أن يركب العاصفة… أو يُجرف معها.

في الزاوية المقابلة، لاحظ دوني كل شيء. لم يُحرّك ساكنًا، لكنه ثبّت عينيه على هانزو للحظةٍ واحدة فقط. كانت كافية لتجعل الأخير يعيد ترتيب جلسته، كمن شعر بأن أحدًا ما يضع على عنقه خيطًا لا يُرى.

وهكذا، وفي أقل من عشر دقائق، اكتمل المجلس.

جلس الجميع… لكن لا أحد استراح. والهواء، المشبع بالرطوبة والشك، بدأ يثقل. الاجتماع بدأ، لكن الحرب الحقيقية… لم تُعلن بعد.

رغم الأجواء المشحونة، نجح كينتا يامازاكي في فرض صمتٍ خانق، ليس بالتهديد ولا بالصراخ، بل بمجرد حضوره — حضور كأنّه الجاذبية الأخيرة التي تسقط عندها الكلمات . لم ينبس أحدٌ بشيء، فكل نفسٍ في القاعة أصبح جزءًا من إيقاعٍ غير معلن، تُديره عيناه لا صوته.

بثبات رجلٍ لا يُراهن، لمس أطراف اللوحة الإلكترونية أمامه، فانطلقت من سطح الطاولة خريطة تفاعلية ثلاثية الأبعاد لشرق اليابان، تتشابك فيها الخطوط والألوان كأوعية دموية مكشوفة. اللون الأحمر ينبض في بعض المناطق، ممثلًا نفوذًا مشتّتًا، متآكلًا، بينما الأزرق القاتم — رمز عائلة يامازاكي — يتسلل شيئًا فشيئًا عبر مفاصل الخريطة، كما لو أنه مدّ ظلاله قبل أن يمدّ سلطته .

ثم انساب صوته، بهدوء قاتل لا يستدعي الانفعال، بل يُملي الاتجاه :

— "الصراع الأخير بين فرعي ناغامورا ودانتي لم يكن خلافًا على أرض... بل اعترافًا غير مباشر بانتهاء صلاحية التوازن القديم. نحن لا نُدير إمبراطورية مزدهرة… بل نُطارد أشباح نظامٍ يحتضر."

مرر إصبعه على خطّ حدوديّ رفيع، فتلاشت منطقة بأكملها من الأحمر، وتحولت إلى الأزرق القاتم. وكأن لمسة واحدة كانت كافية لإعادة ترسيم خريطة الولاء.

— "اقتراحي بسيط، لكنه مصيري: دمج الفروع الصغيرة المترددة، التي تميل مع الريح ولا تعرف مركز ثقلها، تحت مظلتنا… مؤقتًا. على أن يتم ذلك بوساطة فرعي شيكوكو وأوساكا — الجناحين الأكثر استقرارًا، والأقل اندفاعًا."

عند تلك الجملة، ارتفعت موجة من الهمسات المكبوتة، مثل نملٍ استُفزّ في عشه. بعض الوجوه تلوّت دون أن تتكلم، وبعض الأيدي قبضت على مساند المقاعد وكأنها تمسك سلاحًا غير مرئي.

لكنه لم يُمهلهم.

— "الإشراف سيكون مني مباشرةً، لا من أي فرع تابع. لا نعيد رسم الحدود لأجل السيطرة، بل لأجل البقاء. لأن أي شقوق تُترك في جدارنا… سيدخل منها الهواء الفاسد — الشرطة، المخابرات، الغرباء الذين يحسبون صمتنا ضعفًا."

توقّف لبرهة، وكأن الصمت أصبح حليفًا له، ثم أطلق الجملة التي كانت كالقنبلة المغلّفة بالمخمل:

— "ولتفادي أن يصبح كل نزاع شرارةً لحرب، أطرح — رسميًا — تشكيل مجلس ظل دائم. ينعقد كل ستة أشهر، يضم كبار الممثلين، ويملك صلاحية البتّ في النزاعات والدمج والطوارئ، بالتصويت لا بالدم. "

هنا، لم تعد الهمهمات مخفية. برزت النظرات المتصلبة. وتحركت عضلات الفكّ لدى بعضهم بوضوح. كان ما يقوله بمثابة قلب رقعة الشطرنج، ووضع الملك في منتصف اللوح.

تاكامي هانزو ، صاحب النفوذ القديم والعداوات الأعمق، أمسك بكأس الماء ببطء، ورفعها إلى شفتيه، لا ليشرب… بل ليخفي الانفعال الصاعد في عينيه. تلك العيون التي رفّت بحدة عند ذكر "الدمج" و"الصلاحية".

أدرك الجميع — دون أن يُقال — أن الاقتراح، رغم أناقته السياسية، يعني شيئًا واحدًا: سحب البساط من تحت أقدام الفروع المتمردة، وتكريس كينتا كالقلب الجديد للمنظومة القديمة.

ثم ختم كينتا كلمته بنبرة خافتة، لكنها مشبعة بما يشبه الطقس المقدّس:

— "لسنا بحاجة إلى ثورة… بل إلى ذاكرة. يجب أن يكون ظلّنا أطول من ماضينا… لا العكس. "

سادت القاعة لحظة صمت كانت أقرب إلى السكون الذي يسبق سقوط المطر... أو السيف.

ثم، دون أي تكلّف، انحنى دوني قليلًا خلف سيده، ورفع جهازًا صغيرًا يشبه قلبًا إلكترونيًا نابضًا، أرسل به تعديلًا مباشرًا على خرائط النفوذ إلى كل لوحات الحاضرين.

لم ينتظر تصويتًا، لأن التصويت... كان قد تم منذ اللحظة التي جلس فيها كينتا.

وهكذا، لم يُعلن القرار، بل تم تنفيذه.

بهدوء... ككل شيءٍ في عالم الظلال

ساد الصمت مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن صمت رضا… بل صمتًا كثيفًا، خانقًا، كأن كل واحد منهم يعيد حساباته أمام خريطةٍ لا تعترف بما اعتقد أنه ملكه .

وفي تلك اللحظة، كُسر الصمت بصوت خافت، ناعم، لكنه يحمل بين طبقاته حدة الزجاج المشروخ :

— "اقتراح جريء... كالمعتاد من السيد كينتا."

كان الصوت لصاحب الشَعر الأشيب والأنف المعقوف… تاكامي هانزو .

رفع بصره ببطء، وابتسامة صغيرة تتلوى على شفتيه كأنها ندبة قديمة تذكّر بأنها لم تُشفَ بعد . وضع الكأس جانبًا، ثم شبك أصابعه فوق الطاولة.

— "لكنّي أتساءل... حين نمنح صلاحية الدمج والتصويت لهذا المجلس الجديد، ألن يكون من المنطقي أن يُنتخب أعضاؤه لا أن يُعيّنوا؟ حتى لا نظن أن الظل الجديد… مجرد ظلٍ آخر لاسمٍ واحد."

بدا صوته في غاية التهذيب، لكن أنيابه كانت واضحة.

تحرّك بعض الحاضرين في مقاعدهم، وألقى أحدهم نظرة جانبية على كينتا، كأنهم ينتظرون ردًا قد يُشعل ما كُتم.

لكن كينتا لم يبتسم، ولم يغضب. فقط نظر إليه بثباتٍ بارد كالماء على سطح نصل.

قال بهدوء، كأنه يرد على درس في التاريخ، لا على طعن سياسي:

— "بل سيكون المجلس موزعًا حسب الثقل الحقيقي، لا حسب الأسماء. من يملك الأرض والناس والعقول… يجلس. لا انتخابات في عالم تُفرز فيه الصناديق برائحة البارود، لا بالحبر."

توقف لحظة، ثم أضاف بنبرة أكثر هدوءًا، لكنها أشد وقعًا:

— "أما الظلال، يا هانزو، فلا تنتمي لأحد… لكنها تعرف من يُشعل الضوء... ومن يختبئ منه."

رفّ الجفن تحت عين هانزو في ارتعاشة خفيفة، كأنها رد فعل لجملة أصابت أكثر مما أظهرت . ومع ذلك، أبقى ابتسامته الصغيرة، ورفع كتفيه بافتعال برود:

— "سأراقب. من الظل… كما يليق بي."

ضحك أحد الحضور في الزاوية — ضحكة قصيرة محايدة، لكنها كانت كافية لكسر التوتر. تبعتها همسات متفرقة، وبعض الأنفاس المنفلتة وكأن الجميع بدأوا يتصالحون مع حقيقة أن خريطة الغد قد رُسمت الليلة.

وبينما واصل الحاضرون مراجعة بياناتهم، وأضاءت شاشاتهم بألوانٍ جديدة، ظل دوني واقفًا خلف كينتا، لا يتحرك. عينيه خلف النظارات الداكنة لم تغادرا وجه هانزو للحظة.

كان يعلم، كما يعلم سيده، أن الاعتراض لم يُغلق… بل أُجّل. وأن هذه الليلة، وإن انتهت بلا دم… فقد بدأت عصرًا جديدًا من التحالفات... والخيانة.

بعد نهاية الاجتماع، حين بدأت أضواء ناغويا تخفت على استحياء خلف نوافذ السيارات المسرعة، عاد السيد كينتا إلى مقر عائلته، ذلك القصر العريق الراسخ في أعماق الغابات الشمالية لمدينة ناغويا . كان القصر ينتصب وسط أشجار القيقب والساكورا المتشابكة ، لا كمنزل فحسب، بل كـ ضريحٍ حيّ للسلطة والولاء ، مُشيّد على أرضٍ لا تسمح بالاقتراب إلا لمن وُلدوا في كنفها.

لا يمكن تمييز القصر من الجو بسهولة، فـ سقفه الخشبي الداكن يختفي بين ظلال الشجر، وجدرانه المنقوشة يدوياً تحتفظ بأسرار أجيالٍ من الدم والحكمة . تحيط به حدائق مصممة بدقة الزِنّ الياباني ، يتوسّطها ممر حجري طويل تصطف على جانبيه مصابيح حجرية تقليدية تنبعث منها أضواء خافتة، توجّه الزائر كما لو أنه يسير في طقس ديني نحو قلب معبد.

البوابة الرئيسية، المصنوعة من الفولاذ والخشب الأحمر الغامق، تفتح بثقلٍ لا يصدر منه صوت، وكأنها تخشى إزعاج الأرواح القديمة التي تسكن أرجاء المكان. شعار العائلة — تنينٌ يلتفّ حول ازهار اللوتس يمسك بكرة نارية — منقوش بإتقان على اللوح المركزي، يلمع فقط حين يُسلَّط عليه ضوء القمر.

في الداخل، الأرضية مغطاة بحصائر التاتامي المصممة هندسيًا بألوان دافئة من البيج والبني، تتناغم مع فوانيس الأندون الورقية المعلقة، وأعمدة خشب الساكورا المزخرفة يدويًا بقصص الأجداد . روائح البخور، والعطور اليابانية القديمة، والخشب المعتّق، تتداخل مع أصوات الحشرات الليلية الآتية من الحديقة، لتمنح الزائر شعورًا بأنه دخل مكانًا خارج الزمن.

كان القصر ساكنًا، لكن ليس خاملاً. ساكنٌ كجبلٍ نائم، يخفي تحت هدوئه قلب عائلةٍ لا تموت .

الريح كانت باردة، والسماء ملبدة بالغيوم، كأن الليل ذاته يتردّد في منحه الظلام إذنًا بالهبوط.

على بوابة قصر يامازاكي، وقف رجل لا يشبه الغرباء، بل كأنه بُعث من صقيع الذكريات. جسده العريض التفّ بمعطف رمادي ثقيل أشبه بدرعٍ شتويّ صُمم ليقاوم العالم، لا ليحتويه. كتفاه المرتفعتان يُشبهان جدارًا ثلجيًا نُحتت عليه معارك العمر، وشعره الأشقر المائل إلى البياض انسكب كرماد ذهبي فوق رأسٍ لم تنحنِ له ريح. وجهه العريض بدا وكأنه منحوت من الجليد — محفور بندوبٍ صامتة، كل ندبة منها حكاية نجاة، وذقنه الحاد يلمع تحت الضوء كحد سيفٍ طُلي بالفولاذ المعتّق.

لكن ما أسَرّ النظر، وأربك الهواء، كانت عيناه: زرقاوان صافيتان، ليس فيهما دفء، ولا عداء… بل تجسيد باردٌ لإرثٍ لا يُقال — عينان تحفظان أسرار الجليد والدم، وتقرأ الولاء كما تُقرأ الخريطة القديمة.

ألكساندر فول زيليوني.

الزعيم الحديدي لعائلة المافيا الروسية الأقوى شرق القارة، ورجل لم يكن غريبًا على هذا القصر — بل جزءًا من جدرانه. صديق كينتا منذ الطفولة، ووالد مارك، الذي أودعته عائلته قبل عقود في كنف آل يامازاكي، كما فعل عمه من قبله، وكما سيفعل من سيُولد من دمه لاحقًا. هكذا تنشأ التحالفات في الظل: لا باتفاقيات سياسية، بل بأبناءٍ يكبرون معًا… ويتعلمون كيف يصيرون سيوفًا.

حين التقت عيناه بعيني كينتا على العتبة، لم ينبس أيٌّ منهما بكلمة. نظرة واحدة كانت كافية — نداء قديم من قلب الطفولة، وهدير رمادي من زمن الصفقات التي كُتبت بالبارود.

لكن وعلى غير عادته، كان ألكساندر أول من كسر الصمت، بصوته العميق المحمّل بالزمن:

— "اعتقدت أنني سأُفاجئ مارك… لكن يبدو أن ابنك هو من سرق منّا الدهشة، وعلّمها أن تنام في قلبه."

ثم أضاف بابتسامةٍ باهتة، فيها ظل سخرية لا يعرف وجهته:

— "ومجلسك... كما توقعت… لا يعرف النوم. يبدو أن نَفَس الشمال ما زال عالقًا بك، حتى بعد عودتك الأخيرة."

أومأ كينتا دون كلمة، وأشار له بالدخول بإيماءة خفيفة، لا تحمل ترحيبًا ولا رفضًا، بل عرفانًا غير منطوق: «أنت هنا، إذًا أنت تنتمي.»

دخل ألكساندر القصر كما لو أنه يعود إلى ممرّ عرفه في حياته السابقة. خطواته الثقيلة فوق الأرضية الخشبية العتيقة كانت تحمل صدى أرواح قديمة، لا تبكي ولا تغني، بل تراقب. لم يكن يمشي كضيف… بل كرجل عاد إلى جذوره. إلى مكانٍ نحت فيه طفولته وأسلحته، وخسر فيه أشياء لم يُفصح عنها يومًا.

جلس في صالة الأبنوس، حيث السكون يُحاكي العبادة، واستقر على الوسادة الأرضية المُعدّة له مسبقًا، وكأن المكان تنفّس لحظة دخوله. رفع كوب الشاي الياباني بين أصابعه الطويلة، وتأمله كمن يُمسك بندقية قديمة لم يعد يعرف إن كانت ستُطلق الرصاص… أم الندم.

قال بصوت خافت، لكنه مُحمّل بشيءٍ أكثر من الكلمات:

— "جئت لرؤية مارك… نعم. لكنه ليس السبب الوحيد."

ثم مال بجذعه إلى الأمام، نظراته تلتقط تفاصيل المكان كما يلتقط القناص ظلّ خصمه:

— "تذكّرت… حين كنا في عمرهما — أنا وأنت — نقاتل وهمًا اسمه الشرف، ونحلم بمدنٍ لا تفتح أبوابها لمن يطلبها بأدب. كنّا نُدفع إلى المعركة كأننا نحمل العالم فوق أكتافنا. والآن… نُرسل أبناءنا إلى ما هو أدهى."

رفع بصره، وقال بصوتٍ أعمق:

— "السوق تغيّر يا كينتا. ليس فقط الخريطة… بل القاع ذاته. شمال الصين تُعيد تدوير أمرائها كما يُعاد تدوير الفحم، وطوكيو تمسح رموزها القديمة كأنها صفحة على وشك الاحتراق."

ثم خفّض صوته، وتكاد نبرته تهمس في الجدران:

— "المنطقة الآن تُدار من تحت الأرض… حرفيًا. أجهزة التلاعب العصبي، المخدرات، الاسلحة ، وشبكات لا وجوه لها. ومن حينٍ لآخر… تظهر نارٌ لا لون لها، ولا ماضٍ، لكنها تترك خلفها رمادًا لا يُمحى."

لمعت عينا كينتا لحظة خاطفة. لكن وجهه لم يتغير. فقط قال بنبرة ثابتة، حازمة كالسيف:

— "هل جئت تطلب شراكة… أم مظلة؟"

ضحك ألكساندر، ضحكة قصيرة، كالخدش على الجليد:

— "وهل هناك فرقٌ حقيقيّ بين الاثنين؟ في هذا العصر… من لا يجد من يُظلّه، يُحرَق."

ثم صمت ألكساندر، ليس كمن انتهى من الحديث، بل كمن دخل منطقة لا تصلها الكلمات. صمتُ رجلٍ اختبر الحقيقة أكثر مما ينبغي، حتى باتت اللغة لا تكفيه. الهواء بينه وبين كينتا ازداد كثافة، كما لو أن شيئًا ثالثًا يجلس معهما — شيء بلا جسد… لكنه حاضر، يُراقب.

ثم قال، بصوتٍ خافت، كأنّه خرج من عمق جليدٍ لم يذُب منذ عقود:

— "هناك شيء يتحرك في الظلال. لا شرطة… لا استخبارات… لا خلايا نائمة حتى. شيء بلا وجه… بلا راية… بلا لغة… لكنه يعرف كيف يتكلم. لا يترك أثرًا يُطارد… فقط رمادًا، لا يبرد… بل ينتظر."

توقّف لثانية، ثم أمال رأسه قليلًا، ونبرته التالية بدت كأنها لا تريد الخروج، لكنها خرجت:

— "أعتقد… أنه عاد."

في تلك اللحظة، لم يلمع في وجه كينتا أي تغيير. لم يرتجف حاجب، ولا انفلت نفس. لكنه ظل صامتًا لثانيةٍ أطول من المعتاد، وكأن الزمن نفسه تردد قبل أن يمضي.

عينيه خفت لمعتهما قليلًا — لا من ضعف، بل من عبور ظلٍ قديم عبر أعماق لم تُغلق أبدًا.

ببطءٍ ثقيل، وكأن كل حركة تزن بحجم جبل من الذكريات، دفع كينتا كوب الشاي جانبًا، مبتعدًا به كما يزيح خنجرًا موضوعًا بلا نية قتل، لكنه يظل سلاحًا ثقيلاً يهدد هدوء اللحظة برعبه الصامت. لم تكن تلك الحركة مجرد فعلٍ عابر، بل كانت طقسًا كئيبًا، استدعاءً لإحساس قديم يعتصر جسده، نداء نارٍ لم تخمد منذ زمن بعيد، وصدى صرخةٍ ما زالت تُمسك بأوتار روحه، معلقةً في حلق الزمان بلا هوادة، ووجهٍ غائب وراء طبقة كثيفة من الضباب، محجوب خلف زجاجٍ مشوش، كأنه حلم يتلاشى عند بزوغ الفجر.

مرّت لحظة صمت، لكنها كانت مثقلة بكل شيء؛ صمتٌ يثقل الصدر، ملأه عبق الاحتراق الذي لا يمحى من الذاكرة، ورائحة دخانٍ خفي تُخترق الهواء، تذكير دائم بأن تلك اللحظة ليست مجرد فترة انتظار بل حرب داخلية مستعرة. أمام عينيه، تتجسد صورة ذلك الوجه المغمض العينين، محاطًا بأجهزة التنفس التي تهمس ببطء حياةً تكاد تختنق، أنفاسه تتلاشى بين أنين الألم وهمس الآمال الضائعة، تتسرب دموع صامتة تسبق الانهيار.

لم ينطق أحد بكلمة، لكن في عمق كينتا، كان شيءٌ يتحطم ببطء، كأعمدة مبنى تنهار داخليًا، دون أن تُحدث صوتًا، كما لو أن روحًا تُمزق دون أن يُسمع لها صدى. جسده مغمور بثقل الحزن والخوف المختلطين، كأن الزمن توقف ليستمع لذلك الانهيار الداخلي، وفجأة، خرج صوته، واهنًا لكن محملاً بثقل الثبات والقسوة:

بصوتٍ مثقلٍ بالذاكرة، ومُحاطٍ بهدوءٍ أشد ضجيجًا من كل الكلمات، قال كينتا:

— "نعم... لقد عاد. ظلُّ ما لم نكن نرغب في رؤيته يعود، لكنه لم يرحل قطّ."

تردد صدى كلماته في الغرفة كما لو كان يبعث نبضًا قاتمًا في عروق الجميع، وألكساندر، بعينيه الزرقاوين الثاقبتين، ابتسم ابتسامة خافتة، تحمل الكثير من التاريخ والرهبة في آن.

— "الرماد لا يغطي النار، بل يختبئ خلفه... ونحن لسنا سوى فحم ينتظر الشرارة."

تقدم ألكساندر قليلاً، وحرك كوب الشاي أمامه ببطء، كأنه يزن أوزان كلمات كينتا، قبل أن يضيف:

— "التحالفات القديمة، وأوراق اللعب التي ظنناها ثابتة، لم تعد ذات معنى. الأعداء يتبدلون، والوجوه تتغير، لكن الرماد يبقى... شاهدًا على كل شيء."

وقف كينتا، فجأة، وكأن الجلوس صار قيدًا على روحه، وأشار إلى النافذة التي على حديقة القصر الغربي، وقال بنبرة تحذير:

— "في هذا العالم، الذي لا يرحم إلا القوي، لا يمكننا الاعتماد على الولاءات القديمة. يجب أن نصنع مصيرنا بيدٍ حديدية... وأن نُعيد تعريف معنى الولاء والسلطة."

التفت نحو ألكساندر، ونظر في عينيه بحدة:

— "مارك، ابني، ليس فقط وريثًا. هو جسر بين عالمينا. لكن لا شيء مضمون. إذا كانت النيران تحترق في الظلام، فسنكون نحن الحراس الذين لا ينامون."

ابتسم ألكساندر، لكنه لم يُخفِ القلق الذي بدأ يتسلل إلى كلماته:

— "وما نحتاجه الآن، يا كينتا، هو أن نعرف من هو العدو الحقيقي. الرماد لا يكذب، لكنه يخفي الكثير. وهناك قوى تتحرك، لا نراها... لكننا نشعر بها."

صمت الاثنان للحظة، وكأنهما يشتركان في هذا العبء الثقيل، قبل أن يقول كينتا، بنبرة أكثر حسمًا:

— "سنواجه ما يأتي. بالدم... أو بالظل."

ثم عاد السكون ليغمر الغرفة، ينساب كبحر مظلم يعكس سماء بلا نجوم، لكن الكلمات التي طُرحت ما زالت تتراءى في الأجواء، تتردد كصدى نذير لا يُمكن تجاهله، كأنه وقع أقدام قادمٍ محتوم، مظلمٌ لا مهرب منه، يُخيم على كل زاوية، يختنق بين أنفاس الحاضرين، ويبقى يرصدهم في صمت قاتل.

تدريجيًا، خفت ضوء المصابيح في القصر، حتى بدا كأنه يُلفظ أنفاسه الأخيرة، تاركًا خلفه ظلالًا طويلة وسوداء تمتدّ بخفة كالأشباح التي تزحف عبر زوايا الغرف العتيقة المهيبة. تلك الظلال التي تبدو كأنها حراس سرمديون لأسرار دفينة، أسرارٌ لا يمكن أن تُفصح عنها الليلة، لا في هذا المكان ولا في هذا الزمن.

الصمت استقرّ في أرجاء القصر، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا، بل صمتًا ثقيلاً يحوي في جوفه نبضات إنذار، وموسيقى تحذيرية تعلن عن عاصفة تلوح في الأفق. خيطٌ رفيع من الرماد، يتأرجح بين ضوء ووهج خافت، يربط ما بين أزمنةٍ متشابكة: ماضي من ولاءات متصدعة، وحاضر يتأرجح بين الخيانة والدم، ومستقبل يُنسج من خيوط الظل، حيث الحقيقة تتحوّل إلى لغزٍ يختبئ خلف أقنعة الوجوه.

في تلك اللحظة، استدار كينتا وألكساندر ببطء، خطواتهما الثقيلة تحمل في طيّاتها عبء عهد جديد، عهد لا يرحم إلا من يحمل في قلبه صلابة الحديد وحكمة الزمن. كل حركة محسوبة، وكل قرار ينبثق من دهاليز استراتيجية محفوفة بالمخاطر، حيث لا مجال للخطأ ولا للسقوط.

وتحت ضوء القمر الخافت الذي يتسلل عبر النوافذ الضخمة، كأن السماء نفسها تشهد على بداية فصل جديد من الحكاية، فصل تُحكمه قوانين الخفاء والغياب، حيث تُكتب السيوف بصمتٍ قاتل، وتُنسج الخيانات من خيوط الرماد المتطايرة في الهواء، تاركة وراءها أثرًا لا يُمحى، وحكاية لا تنتهي... بل تتجدّد مع كل نفس يمر في عالم الظلال.

فصول من لهيبٍ غامض : الجزء الثاني :ذكريات الماضي

وكان الصباح يتسلّل بخجلٍ بين شقوق شينجوكو، لا كضوءٍ جديد، بل كأنفاسٍ مرتجفة في ممرٍّ منسي، تتلمّس طريقها عبر طبقات من الغبار والذكريات. أشعة الشمس الأولى بدت مترددة، كأنها تخشى أن تكشف ما يجب أن يبقى مغمورًا، تتلوّى فوق الأرصفة التي امتصّت دماءً قديمة وهمسات نجاة، وتترك للظلال أن تُنهي ليلتها الأخيرة كما تشاء.

في أحد الأزقة الخلفية، حيث تتكاثف الظلال كأنها أطياف الماضي، وحيث تتنفس الجدران المتهالكة صمتًا ثقيلاً، توقّفت سيارة سوداء بزجاجٍ معتم أمام مبنى رمادي فقد ملامحه بفعل الزمن. زواياه متآكلة، طلاء جدرانه مشقّق كجلدٍ نسي النور، ونوافذه المطفأة تُشبه أعينًا مغلقة على أسرار لا يرغب أحد في تذكّرها. لا يحمل لافتة، ولا يملك عنوانًا… لكنه معروف. لا يُذكر اسمه في أي تقرير، لكنه محفور في ذاكرة كل من عبر بابه ولم يخرج كما دخل. مبنى لا يسكنه إلا أولئك الذين عرفوا أن بعض الأماكن لا تُشيّد لتُرى… بل لتُنسى.

ترجّل هوشي من السيارة ببطء، كأن الأرض تحت قدميه لا تزال تختبر صدقه في العودة. لم يلتفت، لم يتفقد المكان من حوله، وكأن عينيه حفظتا تفاصيل هذا الركن الرمادي من المدينة أكثر مما يجب. كانت خطواته متقنة، ثقيلة بما يكفي لأن تُسمع، لكن صامتة بما يكفي لأن تُحترم — كخطى شخص لا يحمل في قلبه سوى الصدى، وذكريات لا تموت.

ذراعه اليسرى ما تزال مضمّدة بعناية فائقة، لكن الألم لم يكن هناك فقط. كانت اللفافة أشبه بقيدٍ مخملي، لا تُخفي الإصابة فحسب، بل تُحاصر تحتها ندبة ضاربة الجذور، متوغّلة في ذاكرة لا تنام. لم تكن جرحًا عاديًا، بل أثرًا خفيًا من ليلة احترق فيها الزمن، وانقلبت الطفولة إلى رماد. ندبة لا تسكن الجلد، بل تُقيم في عصب الذكرى الأول، في تلك الزاوية المظلمة من الروح التي لا تزورها الكلمات. هو ذلك النوع من الألم الذي لا يظهر في صور الأشعة، بل في لحظة التقاء العيون عندما يتسلل طيف ماضٍ لم يغادر قط. في كل خفقة، كانت الندبة تهمس له باسمٍ لا يُقال، وصورة لا تُمحى، ونارٍ لم تخمد.

كان هوشي يمشي كأن كل حجرٍ تحت قدميه يحمل وزن ذكرى لم تُدفن، وكل نسمةٍ تمرّ تنفث في صدره رمادًا من مشهدٍ لم يُغلق. لم تكن خطواته انتقالًا في المكان، بل نزولًا متكررًا إلى قبوٍ منسيّ داخل الروح، حيث تتشابك اللحظة باللهب، ويتداخل الزمن مع صوتٍ يصرخ من مكانٍ لا اسم له.

كل خطوة كانت ارتجاجًا في داخله، رجفةً لا تُرى، لكنها تهزّ جدرانًا قديمة بُنيت من الخوف والبقاء. كأن الأرض نفسها لم تكن ترحّب به، بل تختبره — تسأله في صمت:

"هل عدت لأنك أقوى؟ أم لأنك لم تستطع البقاء بعيدًا؟"

في أذنيه، تعالت أصواتٌ مشوشة: صرخة، صفير إنذار، تنفسٌ متقطع، همسةٌ تُنادى باسمٍ لم يعُد يُقال. ولم يَعُد يَعرف، أهي تأتي من الخارج؟ أم تتسلل من شقوقٍ قديمة في قلبه لم يُغلقها أحد؟

لم يكن يمشي كجريحٍ يلتئم، بل كمن يحمل حريقًا في عظامه — حريقٌ بلا لهب، له رائحة الألم، وطعم العجز، وذاكرة يدٍ كانت ترتجف بين أصابعه الصغيرة ذات ليلٍ بعيد، قبل أن تختفي خلف ضوءٍ أزرق... لم ينطفئ بعد.

هو لم يعد من الجحيم… بل حمله معه، خطوةً بعد أخرى.

كانت ملامحه ساكنة، لا لأن السكون يليق به، بل لأنه الشيء الوحيد الذي لم يخذله. جامدة كصخرٍ نُحتت تضاريسه من صمت قرونٍ لم تعرف الرحمة، لم تتعلّم الندم، ولم تُمنح فرصة البكاء. لم يكن على وجهه هدوء المطمئن، بل ذلك الثبات المربك لعاصفةٍ تختبئ في قلب الغيم، تنتظر اللحظة التي تنفجر فيها بلا إنذار.

وجهه بدا كلوحٍ من الغرانيت… لا ينطق، لكنه يحمل في داخله ارتجاجًا لا يُسمع، ارتجافًا مزمنًا لأشياء لم تُقَل، وصرخات لم تجد فمًا تصدر منه. كل عضلة في ذلك الوجه تحمل توقيع ألمٍ قديم — لا ألم الجراح، بل ألم من شهد ما لا يجب أن يُشهد، وبقي.

أما عيناه… فشقّان ضيّقان في جدارٍ بارد، لا تُظهران الكثير، لكنها تُخفي ما لا يُحتمل. لم تكن فقط مرآةً للأسى، بل بوابتين على هاوية: تطل منهما رؤوس براكين خامدة، تُخفي تحت جليدها نارًا لم تمت… بل تنتظر إذنًا لتعود. كان فيهما رماد سؤالٍ لا إجابة له، ورعب لم يغادر ذاكرة النار.

لم تكن عينا رجلٍ يُراقب… بل عينا من تَذكَّر ما لا يجب أن يُتذكّر، وما زال حيًّا بما يكفي ليُحترق به كل يوم.

حتى الهواء من حوله بدا متراجعًا، كأنه امتلك وعيًا بدائيًا، واستشعر خطرًا لا تراه العيون. لم يكن مجرّد تيارٍ ينساب عبر الأزقة، بل كائنًا حيًا يخشى الاقتراب، يتجنّب جسده كما تتجنّب الأوراق اليابسة لهبًا يعرف طريقه جيدًا. لم يكن في خطوات هوشي ما يُفزع ظاهرًا، لكنها حملت في جوفها نبضًا قديمًا… كأن الأرض نفسها تعرف أن هذا الذي يعود، ليس هو ذاته الذي غادر.

كأن المدينة بكل طبقاتها — أبنيتها، أضوائها، أصواتها، وحتى رائحتها — شعرت بأن شيئًا غير مرئي قد اخترق توازنها؛ شيء لم يُسمّ، ولم يُعرف، لكنه يلوّح في الأفق مثل وميضٍ خافت يسبق البرق.

شينجوكو التي لا تنام، شوارعها التي اعتادت على مرور الغرباء والضباع والناجين، بدت للحظةٍ واحدة كأنها تنكمش بصمت، تراقب دون أن تجرؤ على الحكم. رجل خرج من الظل… وعاد ومعه قطعة من الظل ذاته. لا يُرى، لا يُفسَّر، لكنه يغيّر ملامح كل شيء يمرّ به.

ثم، فتح هوشي باب المبنى بصمتٍ ثقيل، كأن المفصلات ذاتها كانت تتردّد قبل أن تستسلم، تتحسّس وقع خطاه كما تتحسّس الأصابع شقًّا في كتابٍ لم يكتمل. لم يكن الولوج مجرد عبور فيزيائي إلى الداخل، بل عودة إلى نقطة كانت تنتظره… منذ غادرها أول مرة.

خطواته دخلت قبل جسده. أما صوته، فقد بقي غائبًا — لأن الحضور وحده كان كافيًا ليعلن عودته.

الحُرّاس المنتصبون على جانبي المدخل لم يتحركوا، ولم ينبسوا بحرف. لم تكن انحناءتهم تلك مجرد احترامٍ لبروتوكول صارم، ولا اعترافًا برتبة. كانت استجابة غريزية لحقيقة لا تُقال: أن الرجل الذي أمامهم لم يعد فقط هوشي، رجل المهمات الذكي، أو الرجل الهادئ... بل صار شيئًا آخر.

شيئًا عاد وفي عينيه انعكاس نارٍ قديمة، وفي جسده صمتٌ كثيف، وفي خطاه أثرُ رمادٍ لم يُمحَ.

شيئًا لا اسم له… لكن حضوره يُفرض كما يُفرض الغياب، بثقلٍ لا يُقاس بالكلمات، بل يُقاس بالصدى الذي يتركه خلفه.

عودته لم تكن حركة في جدولٍ يوميّ، ولا لحظة في مهمة روتينية. بل كانت رجوعًا لظلٍّ أُخرج من داخله، ولم يُغلق بابه قط.

كانت عودة من دخل النار… وخرج منها، حاملاً لهبها في عينيه، ورمادها في قلبه، وندبتها في طريقة مشيته التي لا تُشبه أحدًا.

لم يكن هوشي يعود إلى التحقيق. لم يكن يعود لملفّ، ولا لغرفةٍ يعرف تضاريسها جيدًا. كان يعود إلى نقطة على خريطة الزمن لم تُمحَ قط — إلى مكانٍ ظلّ مطبوعًا فيه جزءٌ من روحه، كأن جدرانه قد تنفّست من أنفاسه ذات وجع، وكأن الأرض التي يمشي عليها ما تزال تحتفظ ببصمة خطواته القديمة… تلك التي ركض بها مرعوبًا ذات ليلة لم تنتهِ بعد.

في هذا المكان، لا تُقرأ الأوراق، بل تُستدعى الأرواح. وفي هذا الممرّ السفلي الضيق، حيث يُحجب الضوء عمدًا، لا يُبحث عن الحقيقة… بل تُنقّب العظام عن سرّها في الظلّ.

هوشي لم يشعر أن قدميه تقودانه. بل كأن شيئًا أعمق — غريزة أو جرح قديم — يسحبه إلى الداخل، خطوةً بعد أخرى، نحو بابٍ يعرفه أكثر مما يعرف وجهه في المرآة. باب معدني ثقيل، بلا لافتة، بلا رقم، بلا وعدٍ بالخلاص. فقط قفل صامت، وانتظارٌ دام سنوات.

وفجأة… تحرك الباب دون صوت طرقٍ أو إذن. فتح دوني الباب بنفسه، كعادته، واقفًا كظلٍّ لا يتغيّر، كصدى لا يُغادر الجدار. نظارته الداكنة لا تعكس الضوء، بل تمتصّه. وملامحه، المحفوظة في تعبيرٍ واحد منذ سنوات، بدت في تلك اللحظة كأنها تبتسم — لا فرحًا، بل اعترافًا ضمنيًا بعودةٍ كانت متوقعة.

قال دوني بصوته الرتيب، وكأنه يقرأ سطرًا من كتاب مكتوب بالحبر السريّ:

— "كنت أعلم أنك ستعود باكرًا… حتى دون أن نطلبك."

لم يرد هوشي بشفتيه. فقط أومأ، تلك الإيماءة الصغيرة التي لا تُترجم بكلمات، بل تُفهم بين رجالٍ يجمعهم تاريخ لا يحتاج إلى صوت.

تابع السير خلف دوني إلى غرفة العمليات.

المكان كما هو. لم يتغير موضع الأجهزة، ولا لون الجدران، ولا الخريطة الرقمية المعلّقة بجانب الشاشة. لكن شيئًا ما في الإحساس تغيّر.

كان كمن يدخل مسرح جريمةٍ يعرف كل تفاصيلها، لكنه هذه المرة… هو الجريمة.

على الطاولة، وُضع ملف رقمي يحمل الشيفرة: 07X . لكن هوشي لم يفتحه. لم يحدّق فيه كما يفعل المحققون الجدد. لأنه يعرفه.

لقد قرأه. مرّة، اثنتين، عشرة… لا يذكر.

لكن الأهم: أنه كان يحمله في داخله منذ سنين — دون أن يعرف، دون أن يسمح لنفسه أن يعرف.

كانت التفاصيل تطفو الآن، ليس من الملف، بل من تحت جلده. اسمٌ لم يُكتَب، صورةٌ بلا ملامح، لهبٌ لا لون له… ونبضٌ يعود كلّما أراد له أن يموت.

الآن فقط، بعد أن شاهد النار الزرقاء، فهم. الآن فقط، عادت القطع لتلتصق في مكانها، كأنها كانت تنتظره ليعود… ويجرؤ على النظر دون أن يشيح ببصره.

جلس هوشي على الكرسي الجلدي ببطءٍ مدروس، لا كمن يستعد لعمل، بل كمن يضع نفسه في قلب مرآة قديمة. كانت يده ترتكز على المسند كما لو أنها تمسك شيئًا غير مرئي، شيئًا يُخفي ارتجافة في العصب، أو نداءً داخليًا يُصرّ على الصمت. نظر إلى الفراغ أمامه، ثم قال بصوتٍ منخفض، كأنّه لا يخاطب دوني وحده، بل أيضًا شيئًا آخر جالسًا على طاولة الذاكرة:

— "أحيانًا… يُولد اللهب قبل أن نُدرك وجوده."

لم يلتفت، ولم يُغيّر نبرته، لكن الجملة كانت كأنها طعنة في جدارٍ قديم داخل الغرفة.

دوني، الواقف كعادته خلف الشاشة، أومأ مرة واحدة فقط. إيماءة لا تشبه الموافقة ولا التعاطف… بل تلك الإيماءة التي تصدر عن رجلٍ يعرف جيدًا أن اللهب الذي يتحدث عنه لم يُولد اليوم، بل كان يحترق — منذ سنوات — تحت جلودهم.

قال بهدوء، وعيناه خلف النظارة لا تُظهران إن كان ينظر إلى الشاشة أم إلى هوشي نفسه:

— "ما كان مدفونًا… بدأ يظهر من جديد. لكن هذه المرة، ليس في أوراق، ولا في تسجيلات… بل في رمادٍ حي. في نبضٍ لا يزال ساخنًا."

اقترب دوني قليلًا، وضغط بإصبعه على الشاشة الرقمية أمامه، فانبثقت صورة مؤرشفة في الزاوية اليمنى: لقطة قديمة، باهتة الألوان، لواجهة مشفى محترق… وداخلها — إن دققت بما يكفي — نصف وجه بشريّ، مشوّه، كأنه نُحت من الألم.

هوشي لم يعلّق.

كانت نظرته مسمّرة في تلك الزاوية، كأن عينيه لم تريا صورة، بل لحظةً تسللت من الماضي عبر الزمن لتنتظر لقاءها به هنا… في هذه الغرفة.

دوني لم يقل شيئًا آخر، لكنه راقب بدقة كيف تراجع صدر هوشي قليلاً، وكيف لمعت عينه اليمنى لحظةً واحدة فقط — تلك اللمعة التي لا تصدر عن الدهشة، بل عن اعتراف صامت:

"أعرف."

عرف أن ما يراه الآن ليس غريبًا عنه. عرف أن الحريق، والاسم المطموس، والصورة المشوشة… لم تكن مجرد حادثة.

بل شيءٌ عاش معه… دون أن يجرؤ على تسميته.

قال دوني، بنبرة أكثر حذرًا، لا تُشبه طبيعته المحايدة:

— "الملف أُغلق رسميًا منذ خمس أو ست سنوات فقط. ليس لأنه انتهى… بل لأن أحدًا قرر أن يُنهيه. لم يُعلن السبب، لم تُذكر الأسماء، فقط الرماد… والصمت. حتى نحن، لم نُعطَ كل الخيوط."

هوشي لم يُحرّك رأسه، لكنه تمتم بنبرة بالكاد تُسمع:

— "كنتم تعرفون… أن الحريق لم يكن مجرد حادث."

ردّ دوني، بصوت خافت يشبه اعترافًا متأخرًا:

— "نعم… لكن لم يكن مسموحًا لنا أن نعرف

لمن

اشتعل، أو

لماذا

. وما بقي… دُفن بين الرماد والمجاملات السياسية."

لم يكن بحاجة لقراءة التقرير. كان يعرف كل شيء عن الحادث… لأنه عاش تبعاته.

طفلٌ في الرابعة عشرة، يركض وسط الصراخ. الدخان يملأ رئتيه، واللهب يطارد أطراف ردائه. عمته ناتسومي تُسحب من بين الحطام، جلدها يحترق وهي ما تزال تحاول النطق باسمه. رجل يُدعى فوكوشيما لم يخرج من ذلك الجناح حيًا… بقيت بقاياه تحت الركام.

وأمه…

آخر ما رآه منها كان ظلّها يُنقل إلى سيارة طبية مجهولة، أنابيب تنزلق من جسدها، وعيناها مغمضتان، لا تعي… ولا تودّع.

لم يعرف يومها أن تلك النيران لم تكن نهاية، بل بداية.

بداية لشيء أكبر… شيء بلا اسم.

لكن ما رآه مؤخرًا — حين اشتعل اللهب الأزرق في وجه المعتدي الغامض، حين تفحّم الهواء ذاته، وحين تكرّر الصدى ذاته في عينه اليسرى — جعل القطع تتقاطع.

الصوت، الرائحة، الشعور نفسه بالاختناق.

الألم القديم... يعود بلونٍ جديد.

الآن فقط، فهم.سكت هوشي قليلًا، ثم حرّك إصبعه على الشاشة، يُقلّب بين صفحات الملف الرقمي كما لو أنه يحفر في تربةٍ رطبة، وكل طبقة تُخرج رائحة أكثر قدمًا من التي سبقتها. الصور، التقارير، أسماء الشهود… كلها بدت مألوفة بشكلٍ مريب، كما لو أن ذهنه كان يعرفها قبل أن يراها، فقط لأنه عاشها — لا مرة، بل في كل كابوسٍ لم يستطع الهرب منه.

توقّف عند صورة طبية باهتة، مشوشة الهوية، وموسومة برمز داخلي: "غير قابلة للنشر – أمر عائلي". لم يكن بحاجة إلى أن يرى أكثر. ملامح الوجه لم تكن واضحة، لكن الروح فيها لم تخطئه.

همس كمن يتحدث إلى نفسه، بصوت أجشّ كأنه خرج من رئة محترقة:

— "ظلّت حية… لكنهم أخفوا نبضها."

ردّ دوني، ببطء محسوب:

— "بأمر من أعلى مستوى. تقارير الطوارئ حُجبت. حتى الطاقم الطبي تم نقله بعد أيام. المشفى أُغلق بعدها بأشهر… وتحولت الأرض إلى مشروع تجاري."

— "والجناح الغربي؟" سأل هوشي، وعيناه كأنهما تنبشان الرماد.

أجابه دوني دون تردد، لكن نبرته هذه المرة كانت محمّلة بثقلٍ نادر:

— "لم يُرمَّم. لم يُمسّ. بقي على حاله حتى اللحظة التي أُغلق فيها الملف. كأنهم… أرادوا أن يُبقي عليه شاهدًا صامتًا."

هوشي ابتسم بخفة، لا سخرية فيها، ولا راحة. فقط ذلك النوع من الابتسامات التي تحدث حين ترى جزءًا من الجحيم وتكتشف أن أحدهم رسم لك مخرجًا… لكنه أغلقه بعد أن دَخلت.

— "كنت أظن أني نسيت. أو أقنعت نفسي أن الذاكرة… مجرد بقايا ضوء."

ثم نظر إلى دوني نظرة ثابتة، فيها شيءٌ من العتب القديم، وشيءٌ من الاعتراف المُر:

— "لكن الضوء… لا يُخفي الحريق. فقط يجعله أوضح."

أومأ هوشي ببطء، دون أن يشيح بنظره عن الشاشة: — "أعرف. بدأ كل شيء يختفي تلك الليلة… في نهاية يوم الحادث. كنت أعلم أن هناك من يراقب، وأن الاختفاء لم يكن صدفة. رأيت الأنظمة تُغلق واحدة تلو الأخرى، رسائل الإنذار تُلغى، ملفات تُمحى قبل أن ألمسها. لم يكن خللًا… بل عملية محكمة، كأن شخصًا ما انتظرنا نصل للحقيقة… ثم سحبها من تحت أقدامنا."

أجابه دوني بنبرة أثقل مما اعتادها: — "ولم يكن مجرد اختفاء. البيانات التي جمعناها عن المهاجم، والرسائل المرسلة ليوي، وسجلات ماضيها المطموس… كلها تم تشفيرها بخوارزميات غير معروفة. ليست تجارية ولا متاحة في السوق السوداء حتى. نحن نتحدث عن تقنية عسكرية داخلية أو شيء أعمق. أدق، وأخطر."

ضغط على الشاشة، فظهرت واجهة رقمية تُظهر خريطة بيانات مشوّهة: ملفات مقطوعة، شيفرات تالفة، وروابط مغلقة عمدًا.

تابع: — "يوجي عمل لأسبوعين متواصلين، حاول إعادة بناء المفقود من الطبقات الخلفية للذاكرة الإلكترونية. معظم البيانات كانت تالفة عن عمد، لكن بعد تعديل أدواته الخاصة… استعاد أجزاء متناثرة. لا تكفي لبناء قضية، لكنها ترسم لنا ظلًّا… امتد لسنوات. نفس النمط. نفس اليد."

قال هوشي بصوت خافت، أقرب للتفكير منه للحديث: — "النار الزرقاء… ليست حادثًا منفصلًا. إنها توقيع."

ردّ دوني، وعيناه تتابعان نبض الشاشة: — "نعم. تحليل المركّب الذي خلّفته النار في موقع الهجوم الأخير كشف وجود عنصر يُعرف بـ Blue Etherium… مادة نادرة للغاية. لم تظهر سوى مرة واحدة — في تحليل داخلي قُدّم بعد حريق مشفى هيموراي… قبل خمس سنوات."

ساد صمتٌ كثيف، كأن الهواء نفسه تثقّل فجأة.

ثم قال دوني: — "أما يوي… فإن ماضيها لا يقل غموضًا. سجلاتها بين العاشرة والسادسة عشرة ممسوحة تمامًا. لا مدارس، لا تأمينات، لا تقارير طبية، لا شيء. شخصٌ بهذا الغياب لا يمكن أن يكون صدفة. لكن بعد حادثة الأسبوع الماضي… يوجي ويوريكو توصلا إلى شيء. ليس كبيرًا… لكنه مفتاح."

هوشي عقد حاجبيه: — "ما نوع المعلومات؟"

— "رفضوا قولها عبر الرسائل. قالا إن الأمر لا يُشرح إلا وجهًا لوجه. إنهما في وحدة التحليل الخلفية، الطابق السادس. أرسلا لي تحديثًا منذ ساعة."

وقف هوشي دون أن ينبس بكلمة. التقط معطفه، وخرج من الغرفة بخطى محسوبة. خطوات لا تسرع، لكنها تمضي كما لو أن الأرض تعرفها.

بقي دوني وحده.

الضوء المنبعث من الشاشة ينعكس على عدستي نظارته. خريطة البيانات المشوهة لا تزال أمامه، والاسم الوحيد الذي يظهر ويختفي وسط الضجيج… "يوي".

همس، كمن يخاطب كائنًا خلف الزجاج: — "بعض القصص لا تُغلق… بل تحترق بهدوء، وتعود من جديد على هيئة لهب."

بعد أن غادر هوشي الغرفة، ظلّ دوني واقفًا مكانه، لكن الزمن داخله لم يعد يتحرك إلى الأمام. شيء ما في نبرة ذلك الشاب، في ظلّه المتكسر على الأرض، في العينين اللتين تلمعان بما يشبه النبوءة… حرّك طبقةً نائمة من الرماد — رماد لم يبرد قط، بل كان ينتظر فقط نسمةً خاطئة ليشتعل من جديد.

كان دوني وحده في الغرفة. لكن وحدته لم تكن كما تبدو لمن يمرّ بها عابرًا — لم تكن عزلةً تأملية، ولا فراغًا معتادًا بين المهمات. بل كانت هاوية سحيقة من الصمت، أشبه بحفرة في الذاكرة انفتحت فجأة لتبتلع كل ما ظنه نائمًا. كانت روحه تنزف في صمت، دون دماء… فقط دخان. دخان الذكرى.

في تلك الغرفة المعزولة بالصمت الاصطناعي، حيث لا يُسمع سوى أزيز الكهرباء وخفوت أجهزة التنفس القديمة خلف الجدار، وقف دوني كأنّه حجرٌ نُحت من صقيع الخسارة. الضوء الأبيض الباهت تساقط عليه كجلدٍ باردٍ من السماء، وارتد على عدستي نظارته الداكنتين ليحجب كل شيء… عدا الذكرى.

لكن دوني لم يكن وحده… ليس تمامًا. الأشباح كانت هناك. لا تُرى، لكن أنفاسها تتردد في أركان الغرفة. أصوات اللهب، صرخات الاختناق، اللهاث المتقطع في أروقة المستشفى القديمة، كانت تنبعث من قلبه مباشرةً. وسمعها.

صوت ناتسومي. مبحوحًا، محروقًا، يتسلل عبر الدخان: — "فوكوشيما!! أرجوك!! لا تتركنا…!!"

وصوت الطفل… هوشي. ركضه المرتبك، بكاؤه الذي لا يسمعه أحد، يده الصغيرة التي امتدت في الهواء كأنها تطلب رحمة من نارٍ لا تعرف الرحمة.

كانت الوحدة، في تلك اللحظة، وجهًا آخر للذنب. لا ذنب الفعل… بل ذنب البقاء. أن تظل حيًا، بينما الآخرون يُمحَون. أن تصبح شاهدًا على لحظةٍ كان يجب أن تُنسى، لكنها لم تغادرك قط.

دوني لم يتحرّك. لكنه كان يسقط من الداخل، كل ثانية كانت تهوي به أعمق، كأن جلده يتشقق تحت وطأة الحقيقة. سقطت عيناه على شاشة العرض، لكنها لم ترَ تقارير ولا أرقام، بل الجناح الغربي يحترق. رأى فوكوشيما يسقط، لا كضحية، بل كدرع. رأى ناتسومي تزحف، يديها تسيل منهما الحياة، وهي تحاول أن تمسك برجلٍ ترفض أن تدعه يحترق وحده.

ثم… رأى كينتا.

نعم، السيد كينتا، ذلك الجدار الذي لا يهتز. رآه هناك، وسط الصراخ. لا خلف الزجاج، بل وسط الدخان، يصيح على الأطباء الذين كانوا ينقلون جسد المرأة — جسد نصف ميت، نصف حي. لم يكن ذلك الرجل الهادئ كما عرفه . كان يصرخ. — "لا تلمسوها بهذه الطريقة! حاذروا رأسها! أين الطبيب المسؤول؟! أوقفوا النزيف أولًا، أرجوكم!!"

لكن أصواته اختلطت بالفوضى، وغرقت في العويل.

لم يبدُ عليه الخوف… بل الرعب. رعب الرجل الذي يرى قلبه يُسحب من بين يديه. رعب الأب… أو ربما شيء أكثر تعقيدًا.

نظر إليه دوني في تلك اللحظة — في الذكرى — كأنه يراه لأول مرة. وتجمّد. كل شيء فيها كان خاطئًا: توقيت الحريق، الأوامر المبهمة، سرعة التعتيم… ونظرة كينتا تلك، التي لم تتكرّر بعدها أبدًا.

أغمض دوني عينيه، فرأى كل شيء.

رأى الباب الأسود، المنصهر من الحواف. رأى ظلّ فوكوشيما واقفًا أمام الجناح المشتعل، وكأن النار تخاف أن تلتهمه. رأى هوشي الصغير يركض، يصرخ، يختنق. ورأى كينتا، صامتًا، مكسورًا، يحاول أن يثبّت يدًا على ناتسومي، ويدًا على الضمادات، ووجهه كله سؤالٌ واحد لا يُقال: "هل تأخرت؟"

ثم أُغلق الباب. وصمت كل شيء.

الصوت الذي تلاه لم يكن انفجارًا. كان نزع ذاكرة من أعماق قلوبهم، اقتلاع روح من لحم النار.

عاد دوني للحاضر، لكن الهواء كان قد تغيّر. رائحة الرماد القديمة تسربت إلى الغرفة، كأنها تذكير من العالم السفلي. نظر إلى الطاولة، إلى الملف، إلى ظلّ هوشي الذي تبخر منذ لحظات، وقال… بصوتٍ لا يسمعه أحد:

— "بعض الأبطال لا تُكتب أسماؤهم… بل تُحترق."

ثم جلس، لأول مرة منذ سنوات، دون أن يصدر أمرًا. جلس، لأنه شعر أنه لا يستطيع الوقوف. ولأن النار التي حملوها من الماضي… اشتعلت من جديد.

لقاء مع الصقيع : صورة في عيون الغائبين

كان هوشي قد خرج لتوّه من غرفة التحقيق، حيث ترك دوني خلفه غارقًا في صمته الرمادي، والملف القديم لا يزال ينبض على الشاشة كجرحٍ مفتوح. لكنه لم يتوجّه فورًا إلى وحدة التحليل في الطابق السادس، حيث ينتظره يوجي ويوريكو. كان يتجه نحو جناح الضيوف، حيث علم أن مارك أقام الليلة الماضية، هناك شيء داخله أراد أن يُنجزه أولًا… أن يمرّ على مارك، ويطلب منه — ربما دون أن يبوح بذلك صراحة — أن يطمئن على يوي.

لكن خطواته لم تصل إلى حيث أراد.

عند مفترقٍ ضيقٍ بين الممر الزجاجي وجناح الإقامة الجانبي، رأى ظلًّا يتحرّك ببطء — ثقيلاً، منتصبًا، كأنه يرفض أن ينتمي إلى الصباح. لم يكن أيٌّ من الموظفين المعتادين… بل رجل لا يشي بالزمن، بل يُعيد تشكيله.

معطف رمادي داكن، يشبه درعًا من الصوف الثقيل، يتدلّى على كتفين عريضين كأنهما صُقلا من صقيع سيبيريا. شعرٌ أشقر شائب يلمع كرمادٍ فضّي، ووجه محفور كما لو أنّ الجليد نحت خطوطه بنفسه. وقفت ملامحه كما تُقام الأنصاب — لا تُعطي، ولا تطلب، بل تُذكّر.

كان هوشي يعرفه. لم يره كثيرًا، لكنه لم ينسَ العينين الزرقاوين الصافيتين، اللتين لا تحملان دفئًا ولا عداء، فقط قراءة باردة للعالم كأنّه رقعة شطرنج لا مكان فيها للمصادفة.

ألكساندر فول زيليوني.

توقّف الروسي بدوره حين وقعت عيناه على هوشي. لم يكن في نظرته استغراب، بل دهشة هادئة، كمن رأى طيفًا كان يحضر في الأحلام أكثر مما يجب.

ظلّ صامتًا لثوانٍ، ثم تنفّس ببطء، وحدّق في وجه هوشي كأنّه يعيد ترتيب ملامحه في ذاكرته.

ثم قال، بنبرة دافئة رغم صلابتها: — "أتعرف كم كبرتَ؟"

لم ينتظر إجابة. اقترب خطوتين، ونظر إلى وجه الشاب كما ينظر أب إلى ابنه الذي لم يره منذ زمن. ، ومدّ يده إلى رأس هوشي، وربت عليه بخفة كما كان يفعل حين كان صغيرًا:

— "لكني لا زلت أرى ذلك الصبي الذي كان يختبئ في أروقة القصر، ويراقب العالم من خلف الظل. كنت ترفض أن تتكلم كثيرًا… لكنك كنت تسمع كل شيء."

ضحك ضحكة خفيفة، ثم أضاف بنبرة تمزج بين الوقار والدعابة:

— "قل لي… هل هناك من يسمعك الآن؟ فتاة، ربما؟ أم أنك لا تزال تختبئ خلف معطفك؟"

كادت أنفاس هوشي تتباطأ للحظة.

فجأة، كأن سؤاله حرّك صورة نائمة في أعماقه — وجهٌ ناعم الملامح، عينان بلون البحر في شتاءٍ هادئ، ابتسامة بريئة ترتجف أحيانًا من الخجل، وأخرى تجرؤ على مواجهته دون أن تخاف. يوي…

تذكّرها حين ارتجفت ذات مساء، وناولها معطفه دون أن يقول شيئًا. كانت تمسكه بين يديها كأنّه أمان في عالم يتداعى. لم تقل له شكرًا… لكنه سمعها في طريقة ضمّها للمعطف إلى صدرها.

اد إلى اللحظة، وعيناه أظلمتا قليلاً — لا من الحزن، بل من ثقل الاعتراف الذي لم يُقال:

ولم يدرِ لمَ، لكن الهواء تغيّر من حوله للحظة، كأن اسمها قد نُطق دون صوت، وكأن حرارة أنفاسها لا تزال عالقة في طيّات القماش الذي فُصّل على مقاس وحدته. عندها، أظلمت عيناه قليلاً — لا من الحزن، بل من ثقل الاعتراف الذي لا يُقال إلا حين تضيق المسافة بين الحقيقة والخيال.

تمتم، بنبرة بالكاد خرجت من صدره:

— "ربما… هناك من تُشبه الصمت الذي أعيشه… لا تسأل، ولا تبتعد… لكنها هناك."

ثم سكت، لا لأنه أنهى الجملة، بل لأنه غرق في ملامحها — في نظراتها حين كانت تُخفي الارتباك خلف ابتسامة صغيرة، وفي الطريقة التي كانت تنظر بها إلى قلبه دون أن تعرف أنها تقترب من بابه الأخير.

أما ألكساندر، فظلّ يراقب بصمتٍ مديد، كما يراقب القائد حركة نهرٍ يتجلّد على مهل. لم يبتسم كمن يسخر أو يحنّ، بل ارتسمت على وجهه تلك النظرة التي لا تُشبه إلا من رأى عمرًا بأكمله يمرّ في عيون شاب.

ابتسامة بلا دفء… لكنها مليئة بالحياة التي تمشي على حافة الجليد. نظرةُ رجلٍ خبرَ النار والثلج، وعرف أن بعض العواطف لا تُقال لأنها تحترق إن خرجت.

قال بصوتٍ أخف، لكنه لا يزال يقطع الهواء كحدّ سكين معتّق:

— "أحيانًا، الصمت لا يعني الجُبن… بل حماية ما نخاف أن نفقده إن نطقنا باسمه."

ثم نظر إلى الأفق الرمادي عبر الممر الزجاجي، وأردف:

— "عيونك لم تتغير، يا هوشي. ما زالت تحاول أن تقول… دون أن تُفصح. وذلك وحده يكفي لمن يعرف كيف يقرأ النار قبل أن تشتعل."

أطرق هوشي رأسه قليلًا، لا حياءً، بل كمن يزن وقع الكلمات في صدره.

ثم قال أخيرًا، بنبرة هادئة تخلو من الادّعاء:

— "كنت في طريقي لرؤية مارك. ظننت أنه ما زال في جناح الضيوف… في هذا الطابق."

رفع ألكساندر حاجبه قليلًا، ثم أومأ ببطء، وكأنّه استلم الإشارة التي لم تُقال.

— "جيّد… كنت أنوي المرور به قبل أن أغادر، لكنني لم أكن أعلم مكانه بالتحديد. يبدو أنك سبقتني، كما كان يفعل والدك معي."

ساد لحظة صمت أخرى، ثم ربت ألكساندر برفق على كتف هوشي:

"هيا، فلنذهب معًا. ربما آن الأوان أن نتحدث كرجال، لا كأشباح الماضي."

قالها ألكساندر بنبرة تحمل مزيجًا من الحسم والحنين، كأنّه يفتح بذلك بابًا لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه منذ سنوات.

تحرّك الاثنان جنبًا إلى جنب، خطواتهما تتردد بثقلٍ موزون على أرضية الرواق المصقول كأنها طبول صامتة لطقسٍ قديم. الجدران الزجاجية على جانبي الممر كشفت عن حديقة داخلية غارقة في ضباب الفجر، تتلوى فيها أغصان الساكورا العارية تحت نسيم بارد، كأنّها أشباح مواسم مضت. قطرات الندى كانت تلمع فوق الزجاج كالدموع المجمدة، والنور الرمادي الذي انسدل من السماء الغائمة بدا هشًا، خافتًا، كأنه لا يملك الشجاعة الكافية ليوقظ النهار تمامًا.

المكان نفسه بدا وكأنه يتنفس معهم — ببطء، بثقل، كأنه يستعيد معهم ما ضاع من ذاكرة الجدران، وما لم يُقَل بعد.

صمت ألكساندر وهوشي كان أكثر كثافة من أي حديث. كانا كمن يعرف أن كل كلمة تُقال الآن ستخرج من جذور زمنٍ مُحرّض على النسيان، لا التذكّر. رجلان، أحدهما صاغ طريقه من الجليد، والآخر احترق في صمته كجذوة تحت الرماد. لم يكن الحديث بينهما قد بدأ بعد… لكنه كان قد بدأ بالفعل، في أعماق الخطى، في إيقاع التنفس، في الظلال الممددة بينهما.

عند نهاية الممر، وقف ألكساندر أمام باب جناح الضيوف — باب خشبي مصقول بلون رماد الليل، يعلوه شعار يامازاكي المنحوت على صفيحة نحاسية خافتة اللمعان. رفع يده بثبات، ودفع الباب بهدوء محسوب… كمن يفتح ضريحًا لا غرفة.

تأوّه المفصلان العتيقان كما لو أنهما شهدا على لحظة مماثلة من قبل، وانفرج الباب على مهل، كأنّه يحبس خلفه سرًا لا يريد أن يُكشف.

وانكشف الجناح…

الضوء الرمادي تسلّل من النوافذ العريضة، وغمر الأثاث الكلاسيكي بطبقةٍ شاحبة، تجعل من كل شيء يبدو كذكرى أكثر منه واقعًا. ستائر الحرير الأبيض كانت ساكنة، لا تتحرّك إلا بخجل، بينما رائحة القهوة الباردة انبعثت من فنجان زجاجي نُسي فوق الطاولة، تحته كتاب مفتوح، ومنديل مطوي بعناية.

الهدوء في المكان لم يكن طبيعيًا… بل مشبعًا بشيءٍ عالق، كأن الهواء نفسه احتفظ بصدى حديثٍ لم يُستكمل، أو حزنٍ لم يجد طريقه إلى الصوت بعد.

نظرا إلى الداخل، وكانت هناك، على الأريكة الرمادية، هيئة شاب يجلس في وضع نصف استرخاء، كتفاه مائلتان إلى الأمام، وذقنه مسندة إلى راحتيه المتشابكتين.

مارك.

من زاويته، بدا كأنه شبح من زمن آخر. شَعره الفوضوي، وقميصه المفتوح عند العنق، والنظرة الشاردة في عينيه الزرقاوين — كلّها قالت شيئًا لا يُقال. بين يديه، كانت هناك صورة صغيرة… يحملها كما يحمل أحدهم جمرة قديمة، لا يعرف إن كانت تُدفئ أم تُحرق.

حين سمع وقع الخطوات، رفع رأسه فجأة — وبدا للحظة أن شيئًا ما انكسر في نظرته، شيء هشٌّ ومقموعٌ، لم يُرِد أن يُفضح بهذه السهولة.

ثم، كمن أفاق من حلمٍ ثقيل، دسّ الصورة بسرعة في جيب سترته، ونهض واقفًا.

عيناه اتّسعتا بدهشة حقيقية حين رأى من في الباب.

— "أبي…؟"

كانت الكلمة أشبه بنداءٍ قديم، لم يُنطق منذ زمن… ولهذا بدا صداها أطول، وأعمق، وأقسى.

لم يكن السؤال عن الهوية، بل عن التوقيت. كأنه يسأل: "الآن؟ هنا؟ لماذا؟"

وقف مارك على الفور، بين الدهشة والانفعال، وعيناه تتفحصان وجه ألكساندر كما لو أنه تأكد أنه لا يرى شبحًا.

تقدّم ألكساندر بخطوتين، نظر إلى ابنه بنظرة غريبة — ليست قاسية، ولا حنونة، بل شيء بينهما يشبه الاعتراف. عيناه لم تكن تشكّ، بل تتذكّر.

— "لم أكن أنوي أن أُربك صباحك، يا بني…"

ثم نظر إلى السترة التي خُبئت فيها الصورة، وقال دون أن يسأل بصراحة:

— "لكن يبدو أنني لم أكن الوحيد الذي يستعيد الماضي هذا الصباح."

لم يجب مارك، فقط شدّ على قبضة يده قليلاً، ونظر إلى هوشي للحظة، كأن يبحث عن تفسير لما يحدث.

تقدّم هوشي خطوة، وقال بهدوء:

— "كنت في طريقي إليك. أردت أن أطلب منك… أن تطمئن عليها حين تستطيع."

لم يعلّق مارك فورًا. فقط أومأ بصمت، ثم تنفّس بعمق كما لو أنه يعود من مكانٍ بعيد جدًا في ذهنه. أعاد التوازن إلى وقفته، ثم نظر إلى والده بنظرة حملت ما لا يُقال: عتبًا قديمًا، واشتياقًا صلبًا… وألف سؤالٍ لم يُطرح بعد.

لكن ألكساندر — الذي اعتاد على الحروب الطويلة والصمت الأثقل من البارود — اكتفى بأن يفتح ذراعيه دون كلمة. فتحهما كمن يقدّم مأوى، لا شرحًا، وكأنّ ما فُقد لا يمكن استعادته بالكلمات، بل بالوجود.

وبعد لحظة، اقترب مارك ببطء… ثم احتضنه.

صمت عميق لفّ الغرفة، لكنه لم يكن صمتًا ثقيلًا. بل كأن الزمن نفسه توقف ليمنحهما فرصة… أن يتذكرا من هما، وما لا يجب أن يضيع بين الظلال.

ثم قال ألكساندر، بصوتٍ خافت لا يشبه نبرته المعتادة:

— "لقد كبرتَ أكثر مما ظننت يا مارك. لكنك ما زلت ذلك الطفل… الذي تركتُه ذات يوم في كنف التنين."

ثم نظر إلى هوشي، وأضاف بابتسامة شبه باهتة:

— "والتنين… علّمكما كيف تُخفيان الجمر تحت الرماد."

بعد لحظة العناق التي انطوت على ما لا يُقال، تراجع هوشي خطوة إلى الوراء. لم يكن في وجهه تردّد، ولا في عينيه مرآة لما جرى أمامه — فقط ذلك الهدوء المتقشّف، النابع من رجل يعرف أن بعض اللحظات ليست له، وأن بعض المشاعر يجب أن تمرّ... دون أن تمسّه.

وقف كما يقف الظلّ عند عتبة الضوء، لا يتقدّم، ولا ينسحب. راقب اللقاء بين الأب والابن كما يُراقب الغريب حفرةً انفتحت فجأة في الذاكرة. لم يكن حسدًا، ولم يكن حنينًا. بل كان شيئًا أعمق… أشبه باعترافٍ صامت من رجلٍ يعرف طعم الغياب، ويُجيد الصمت حين لا يكون الحضور له.

وحين ابتعد ألكساندر قليلًا عن ابنه، تنحنح هوشي بخفوت، وقال بصوتٍ منخفض، مستقرّ في نبرته شيء من العزم:

— "قلت ما أردت."

لم يُفسّر، ولم يُطِل. جملته كانت كالحافة — حاسمة، واضحة، ولا مجال للعودة بعدها.

ثم أدار وجهه نحو ألكساندر، وأومأ له بانحناءة قصيرة، رزينة. لم تكن مجاملة، بل إيماءة اعترافٍ خفيّ بين رجالٍ تربطهم خيوط أقدم من الكلمات.

وأضاف، بصوت أكثر حيادية، لكنه يحمل إيقاع المسؤولية:

— "ثمة من ينتظرني."

لم يُحدّد من، ولم يكن بحاجة لذلك. لكن وقع كلماته بدا كأنه يضع فاصلاً بين اللحظة التي مضت، وتلك التي تبدأ الآن.

وقبل أن يلتفت، توقّف للحظة، وحدّق في مارك. عينيه كانتا هادئتين، لكن تحتهما اشتعل معنى ثقيل — معنى لا يُصرّح به، لكنه يُحسّ.

ثم قال:

— "لا تدعها وحدها."

لم تكن جملة. كانت وصية.

ثم استدار. مشى كما يمشي من تعوّد ألا يترك خلفه سوى ظلٍ خفيف… وظلالًا أثقل.

خطواته في الممر بدت خافتة، لكنها كانت تضرب الأرض بثقة رجل يعرف أن كل ثانية تضيع… تسحب من قلب الحقيقة خيطًا. لم ينظر خلفه، ولم يُبطئ سيره. كان قد انقطع عن هذه اللحظة منذ نطق كلمته، وانغمس في اللحظة التالية — حيث ينتظره ممرٌ آخر، وملفٌ لم يُفتح بعد، وأجوبةٌ يقترب منها كما يقترب أحدهم من حافة نار.

أما في الداخل، فقد بقي مارك واقفًا في مكانه. نظراته لم تلحق بخطى هوشي، لكنها علقت في الأثر الذي تركه خلفه. كان ما بين الحضور والغياب فيه… شيء لا يزول بسهولة.

حين انغلق الباب خلف هوشي بصوتٍ خافت، بقي صدى وجوده معلّقًا للحظة، مثل بقايا عطر خافت في غرفةٍ مسكونة بالأسرار. لكن سرعان ما بدأ المكان يستعيد صمته… لا صمت الخواء، بل ذلك الصمت الذي يُشبه سطح بحيرةٍ جليدية تتوقف على سطحها الرياح.

وقف ألكساندر ومارك وحدهما في الغرفة، والضوء الرمادي المسكوب من النوافذ الواسعة ينساب على ملامحهما كأنّه يتأمل وجوهًا خُلقت لتُرسم، لا لتُرى فقط.

مشهدهما، في تلك اللحظة، بدا كأنّه مقتطع من أسطورةٍ أوروبية نُسيت بين سطور كتابٍ عتيق — رجلان يقفان على أطراف ماضٍ مشتعل، وجمالهما لا يخفف من قسوتهما، بل يعمّقها.

كان ألكساندر واقفًا بثبات، كتمثالٍ أُقيم لتخليد فكرة "السيادة". الرداء الرمادي من الفرو السميك يحتضن كتفيه العريضتين كأنه تاجٌ شتوي، مُطرّز بالسكوت والحرب. تحته، بدلة رسمية سوداء بخياطة دقيقة تبرز قوامه العسكري: صدره الممتد، وخصره المستقيم، وعُنقه الثابت الذي يحمل رأسًا كأنما نُحت من الجليد.

حداؤه المصنوع يدويًا من جلدٍ داكن، يلمع بخفة تحت الضوء، يخبر عن رجل لا يتهاون مع التفاصيل — حتى في صمته، يرتدي السيطرة.

وجهه… ذلك الوجه الأشقر الشاحب، محفور بجمالٍ صارم، يحمل آثاره كما تحمل الأعلام شرف المعارك. ندبة صغيرة تلوح أعلى وجنته اليسرى، وأخرى أفقية بالكاد تُرى تحت الذقن — لا تشوهه، بل تزيد ملامحه بُعدًا، كأنها توقيع الزمن على رجلٍ لم يُهزم.

أما عينيه… فكانتا أجمل ما فيه، وأقساها. زرقاوين صافيتين كأنّهما بحيرتان نائمتان في صقيع سيبيري، لا دفء فيهما، لكنك ترى فيهما صدقًا عارمًا… صدقًا لا يرحم. عينان تُحدّقان فيك كأنّهما تقرأانك قبل أن تتكلم، وتغفران أو تحكمان بلا كلمة.

إلى جواره، وقف مارك. شاب في أوج الرجولة، لكن مظهره يحمل تناقضات الجمال والحيرة، النار والثلج، النعومة والعنف.

كان قميصه مفتوحًا من الأعلى، يكشف عن جزء من صدرٍ متماسك، نقشته وشومٌ سوداء كالرمز القديم — دوائر، خطوط حادة، وأشكال غير مكتملة، كأنها أسرار لا يريد لأحد أن يقرأها بالكامل. بشرته بيضاء كأنها خزفٌ مصقول، لكنها مشوبة بلونٍ دافئ يسرق القلب خلسة، وشَعره الأشقر الغامق مبعثر فوق جبينه بعفوية خادعة، تُخفي خلفها فوضى قلبٍ لا يهدأ.

عينيه — زرقاوان كوالده، لكن فيهما ارتجاف الغيم قبل العاصفة. أكثر ليونة، أقل حكمًا… لكن لا تخلو من البرود.

كان يقف مائل الكتفين قليلًا، كمن لم يعتد بعد على حمل ذاكرته، بينما أصابعه ما تزال مشدودة فوق جيب سترته — حيث أخفى الصورة. لم يكن وجهه خاليًا من التعب، لكن تعبه كان وسيمًا، كأنما الجمال في هذا البيت لا يبهت حتى حين ينكسر.

ورغم الفرق في العمر والخبرة والندوب، بدت وقفتهما معًا مشهدًا واحدًا لا ينقسم. كأن كل منهما امتداد للآخر — نسخة قديمة وحديثة من دمٍ واحد، ومرايا مختلفة لنفس النار المتوارثة.

بينهما، كان الهواء ثقيلًا. لا لأنهما لا يعرفان كيف يتكلمان… بل لأن بينهما ما لا يحتاج إلى كلام.

ألكساندر ظلّ يحدّق في ابنه. لم يكن ينظر إليه كقائد، ولا كقاضٍ، بل كأبٍ لم يعرف كيف يشرح كل ما فاته، لكن عينيه تقولان: "أنا هنا الآن، وإن تأخرت… جئت لأراك، لا لأحكم عليك."

أما مارك، فكان يبادل النظرة بلا هروب. لم يتهرّب، لم يتراجع، فقط وقف — بكل أسئلته، بكل صمته، وبكل ما أراد أن يُقال ولم يُقال منذ أعوام.

وبينهما، في تلك اللحظة العابرة، تجسّد جمال لا يشبه صور المجلات ولا مشاهد السينما… بل ذاك الجمال الذي لا يُرسم إلا في قلب النسيان، حيث تقف الحقيقة عاريةً تمامًا.

رجلان، يشبهان البحر حين يجمد، والثلج حين يشتعل.

رجلان، من سلالة الضوء الذي لم يعد دافئًا… لكنه لا يزال نقيًا.

تسلل السكون إلى الغرفة بعد مغادرة هوشي، كأن وجوده كان يحجب شيئًا من الضوء والهواء، وما إن غاب، حتى استعاد المكان توازنه المعلّق. بقي مارك واقفًا لثوانٍ، وعيناه تتبعان نقطة وهمية في المكان الذي كان يقف فيه هوشي، قبل أن يقطع ألكساندر هذا الصمت بإيماءة صغيرة، ثم تحرك ببطء نحو الأريكة الطويلة.

جلس على حافتها أولًا، كأن جسده الضخم يختبر مرونتها، ثم استقر بكامل ثقله الملكي على الوسائد، وفتح معطفه الرمادي الفاخر قليلاً، لتظهر تفاصيل بدلته الإيطالية الأنيقة: قماشٌ رمادي داكن بخطوط رفيعة، مفصّلة بدقة تُحتَرم لا تُزاح، وياقة مشدودة حول عنقه وكأنها تفرض عليه نظامًا ذاتيًا بالصرامة. رداء الفرو الرمادي يتدلى من كتفيه كسِربِ دخان فاخر، وحذاؤه الأسود اللامع يشبه مرآةً صغيرة تعكس ظلال السجادة الحريرية تحت قدميه.

الضوء الرمادي الناعم الذي يتسلل من خلف الستائر يجعل من ملامحه منحوتة بدقة — عظام وجنتيه البارزة، الشق الخفيف قرب زاوية فمه من جرح قديم، وعيناه الزرقاوان اللتان بدتا في تلك اللحظة كمرآتين مطفأتين لبحرٍ متجمّد. حتى الندوب الصغيرة المنتشرة على خديه وفوق الحاجب لم تنقص من وسامته الطاغية، بل أضافت عليها هالة من الأسطورة: كأن وجهه لوحة نهضت من غبار الحرب — خشنة، لكن لا تقاوَم.

جلس مارك أمامه، على الكنبة المقابلة، بجسدٍ طويلٍ لا يقل صلابة. حركته كانت أبطأ، فيها شيء من الانكسار الذي يحاول أن يبدو مستترًا. ارتدى قميصًا أسود مفتوح الأزرار من الأعلى، كشف عن صدره الموشوم بخطوطٍ رمزية تشبه الخريطة القديمة — تعاويذٌ وآثار، وحروف نصف مطموسة من لغاتٍ لم يُرد لها أن تُفهم. شعره الأشقر المبعثر سقط على جبينه كخصلاتٍ تمرّدت على النظام، فيما عينيه الزرقاوين، الأكثر نعومة من عيني أبيه، بدتا وكأنهما تتأرجحان بين الرجولة المتعجلة والطفولة التي لم تُغلق بابها بعد.

جلس مارك متكئًا ببطء، وأسند مرفقه إلى حافة الأريكة، لكنه لم يستطع أن يزيل ذلك التوتر الخفيف الذي استقر في عضلات كتفه. لم يكن يعلم ما إذا كان لقاءه بأبيه قد بدأ لتوّه، أم أن هذا اللقاء ما هو إلا استكمال لحوار لم يُنه منذ سنوات.

قال ألكساندر، بعد لحظة من التأمل:

— "اشتقنا إليك في المنزل."

نظرة عابرة مرّت في عينيه، ثم أردف بصوتٍ منخفض:

— "أمك… تسأل عنك كل صباح. وشقيقاك، كعادتهم، يتشاجران بشأن ما إذا كنت ستعود على متن الطائرة الخاصة… أم ستعود ماشياً عبر سيبيريا فقط لتُفاجئنا. أما أختك… فتقول إنك نسيت كيف يبدو وجهها."

لم يتكلم مارك، لكن عيناه هربتا للحظة إلى الزاوية اليمنى من الغرفة، كأنه يُخفي شيئًا في صدغيه.

وفي داخله، تموجت الصور دفعة واحدة.

وجوهٌ صغيرة تضحك تحت ضوء شمسٍ شتوية، صوت أمه وهي تغني لهم بلغتها القديمة، شقيقه الأكبر وهو يدفعه نحو الثلج، والأصغر وهو يبكي لأن مارك لم ينتظره. صورة أخته حين كانت تُصر على الجلوس إلى جواره وهو يرسم، بملابسها الملطخة بألوان لا تجف.

لكن كل ذلك تكسّر في ذاكرته عند حاجز واحد: باب الخروج من روسيا بعد الحريق… اللحظة التي أدار فيها ظهره ولم يلتفت.

قال ألكساندر، بنظرة فيها شيء من الفهم العميق:

— "هل هو بسبب ناتسومي؟"

رفّ جفن مارك، ونظر إليه دون أن يتكلم.

تابع الروسي، بصوتٍ أكثر هدوءًا، لكن فيه صلابة نصح لا يقبل التزييف:

— "مارك… الحب وحده لا يكفي. حبك لها… لن ينجح."

لم يرد مارك. فقط ضغط على كفه فوق ركبته، ثم تمتم، بالكاد سُمعت كلماته:

— "مستحيل."

عدّل ألكساندر جلسته قليلًا، ومال إلى الأمام. عيناه انكمشتا قليلاً، وفي صوته امتزجت الحكمة مع القسوة:

— "رجال عائلة فول زيليوني لا يدخلون حروبًا خاسرة… ولا يحبّون حبًا لا أمل فيه. من نُريد… نأخذه. من نُحب… نقاتل لأجله."

ثم صمت لثوانٍ، قبل أن يُضيف بنبرة أشد وضوحًا، حادّة كالثلج:

— "لكنك… لن تستطيع أن تُنافس فوكوشيما. لا في حياته، ولا بعد موته. ليس لأنها تحبه فقط… بل لأنه مات لأجلها. وهذا النوع من الحب… لا يُمحى."

تجمّدت عضلات مارك للحظة. لم يتغير وجهه كثيرًا، لكنه بدا وكأنه تلقّى لكمة في الصدر — ليس من الألم، بل من الإدراك.

في عينيه… لمعة مقاومة، ونقطة شك.

لكنه لم يقل شيئًا.

لأن بعض الأجوبة… لا تُقال. بل تعاش.

سكن مارك في مكانه، ثم حنى رأسه قليلاً كمن يسلّم لاعتراف لم يعد قابلاً للتأجيل. لم يكن هناك تردد في عينيه، بل صدق خافت ينهض من تحت رماد الخيبة. تمتم بصوتٍ خافت، كأنّه لا يريد للكلمات أن تنكسر حين تُقال:

— "أعلم يا أبي… أنني لن أفوز بهذا الحب."

رفع بصره نحو والده، عينيه الزرقاوين تعكسان شيئًا نادرًا: لا حزن، بل قَبول. لا ضعف، بل إدراك:

— "لن تُحبني كما أحبته. ولن أكون مثله… حتى لو ارتديت مثله، وقلت كلماته، وسرت في ظلاله. لن أكونه."

تنهد ببطء، ثم أكمل بصوتٍ متزن، كأنّه يُفرغ صدره لا ليُقنع، بل ليُفهم:

— "لكنّي لا أريد منها أن تردّ لي الحب… فقط أريد أن أكون هناك. حين تحتاج إلى من يكون بقربها… أريد أن أكون ذلك الوجود."

صمت لحظة، ثم أكمل بنبرة أخف:

— "أن أراها تبتسم… يكفي. أن أحميها، مثلما فعلت هي ذات مرة. أن أقف بينها وبين الألم… حتى إن لم تراني."

نظر بعيدًا، إلى الزجاج الذي يعكس خيط الضوء الرمادي في الصباح الياباني، ثم قال:

— "وقد وعدت هوشي… أن أبقى. أن أكون معه، حتى يصبح ما وُلد ليكونه. القائد القادم…"

ثم التفت إلى والده، بنظرة لا رجاء فيها ولا تحدٍّ، بل قرار:

— "كما قلت له ذات مرة… لقد تخليت عن أن أكون وريث العائلة. أنا لن أعود إلى روسيا. اليابان… هي مكاني الآن."

ساد الصمت في الغرفة للحظة طويلة. لم يتكلم ألكساندر فورًا.

ظلّ يحدق في ابنه، كأنّه يراه للمرة الأولى — لا الشاب الموشوم الذي كبر في ظلال قصر يامازاكي، بل الرجل الذي اختار أن يسلك طريقًا لا يشبه طرق العائلة.

ارتجف شيء خفيف في عينيه، ثم تنفس ببطء، وقال بصوتٍ منخفض، متوتر النبرة على غير عادته:

— "لماذا؟"

لكن السؤال لم يكن سطحيًا. لم يكن عن ناتسومي، ولا عن هوشي، بل أعمق… سؤال أب يسأل ابنه: لماذا تُشبهه في أكثر ما حاول نسيانه؟

عينا ألكساندر انطفأتا للحظة، وأخفض رأسه قليلاً، كأن ذكرى قديمة هبطت عليه دون إذن.

تمتم بأسى، بنبرة حُبست بين الذكرى والحسرة:

— "لا تُصبح مثله… أرجوك، لا تكن ديتداريان آخر."

ثم عاد ينظر إلى الأرض، كأنّه يرى شيئًا لا يظهر في الغرفة.

بل استسلم لذكرى كانت تنتظره خلف جدار من الإنكار.

أغمض عينيه للحظة، فتسلّلت إلى رأسه صورة رجل أصغر سنًا، يبتسم بعينين تلمعان بالعناد والحنان معًا. شعره الذهبي المصبوغ بلون بني ينسدل بحرية فوق جبهته، وعلى ذراعه وشم غير مكتمل. كان يضحك وهو يدور حول طاولة صغيرة، وإلى جانبه امرأةٌ جميلة ذات شعرٍ داكنٍ منسدل، تمسك بيده وتهمس له بشيء لا يُسمع.

استعاد الكسندر تلك الليلة البعيدة — حين وقف أخوه الأصغر، ديتداريان، أمامه، بثيابه البسيطة، ووجهه الذي اختلط فيه الشغف بالخوف، وقال:

— "هذه المرأة... هي حياتي، يا ألكساندر. لن أعيش في الظلّ، ولا أريد سيوف العائلة. أريد بيتًا… وأطفالًا يركضون بين الأشجار. أنا… سأغادر هذا العالم، قبل أن يبتلعني تمامًا."

صمت طويل تلاها. ظلّ الصوت معلقًا في الهواء، كأن الشرفة تلك قد انبثقت من الظلال.

عاد الكسندر إلى الحاضر، تمتم بصوتٍ مشبعٍ بالأسى، كأنما يخاطب شبحًا

— "وهرب… وتركني وحدي أواجه العبء. لم نره منذ ذلك اليوم. لم يودع أمي، لم ينظر خلفه."

كان عمر مارك وقتها لا يتجاوز الثلاث سنوات. ولم يفهم ما حدث. فقط عرف أن عمه الذي كان يحمله بين ذراعيه ككنز، اختفى… ولم يعد.

أومأ مارك ببطء، صامتًا، كأنّه يُخزّن كلام والده في عمق ذاكرة لا يُفتح إلا نادرًا. كانت ابتسامته الخفيفة لا تُشبه سخرية، ولا تسامح، بل شيء أهدأ… مزيج من القبول والإرث — كأنّ هناك جزءًا في داخله فهم، فجأة، لماذا اختفى ديتداريان… ولماذا خاف ألكساندر من رؤيته يتبعه.

سكن الجو قليلًا. الضوء الرمادي تسرّب من زجاج النوافذ، وتكسّر على أرضية الغرفة مثل حبرٍ بارد على صفحة قديمة. صوت حفيف الشجر في الحديقة الخارجية تداخل مع أنفاس الصمت في الداخل… وكأن الطبيعة تشهد على لحظة لم تُكتب بعد في أي كتاب.

ثم، بهدوء العائد من تأملٍ ثقيل، مدّ ألكساندر يده إلى فنجان القهوة الباردة، تذوّقه دون أن يتأفف، وقال:

— "أمك… تشتاق إليك."

كان صوته ناعمًا، لكنه حمل تحته ألف طبقة من الحنين والكتمان.

مارك لم يجب، لكن نظراته ارتخَت، وشردت للحظة في زاوية ما من الغرفة… كأنّه يرى من خلالها شيئًا لم يعد يستطيع لمسه.

ثم همس:

— "لا أزال أراها كما تركتها… بفستانها الأزرق، وشعرها مربوط كجناحي بجعة. كانت تبكي حين غادرتُ، لكنّها لم تمنعني. لم تضمني، لكنها... تركت الباب مفتوحًا."

ابتسم ألكساندر بخفة، عينيه تلمعان بشيء لا يُقال:

— "لأنها كانت تعرف… أن ناتسومي لن تحتمل وحدها."

استدار ببطء، وحدّق في ابنه طويلًا. ثم سأل بنبرة لا تجبر، لكنها تمتحن:

— "هل كانت تستحق كل هذه السنوات، يا مارك؟"

مارك لم يتردد. فقط أجاب بهدوء، بنبرة لا تحتاج للشرح:

— "كانت الوحيدة التي لم تتركني أذوب في الظل."

كلمات بسيطة… لكنها كانت كافية لتجعل ألكساندر يصمت.

كأنّ تلك العبارة أعادت إليه شبح أخيه، وشبح نفسه. كأنّه سمع صدى قلبٍ قرّر أن لا ينسى.

ثم، وبعد لحظة صمت طويلة، رفع نظره إلى ابنه، وتنهّد ببطء، وكأن شيئًا ثقيلاً قد نُزع من صدره:

— "عدني فقط… أن لا تنسى من أنت، وألا تذوب من أجل أحد. أحبب… احمِ… لكن لا تمحُ نفسك في سبيل أحد."

مارك أومأ، لكن دون كلام. ثم وقف، وسار نحو النافذة. نظر إلى الحديقة، حيث كانت أشجار الساكورا تتمايل تحت نسيم باهت، فوضويّ، يشبه ذاكرته.

قال دون أن يلتفت:

— "لا تقلق. أنا ابنك، يا أبي… ولستُ ظلّ أحد."

فابتسم ألكساندر هذه المرة بصدق. لم تكن ابتسامة رجلٍ حصل على ما يريد، بل رجلٍ أدرك أن ابنه… صار أكثر من مجرد اسمٍ من سلالة فول زيليوني.

مدّ ألكساندر يده إلى جيب معطفه الداخلي، وأخرج محفظة جلدية قديمة، فتحها بإيقاعٍ بطيء كمن يفتح بابًا على زمنٍ هش. من داخلها، سحب صورة قديمة، باهتة الأطراف. أربعة أطفال تحت شجرة الكرز في حديقة القصر الروسي، ملامحهم محاطة بهالة من الضوء الأبيض، كأن الزمن لم يقدر على طمس البراءة التي جمعتهم.

الأول كان روديون، طويل القامة، شعره أسود كالليل، عينيه صارمتان كأنهما تنظران إلى قدرٍ مبكر. الثاني، بافل، أشقر كأشعة الظهر، عينيه تلمعان بفضولٍ متقد وضحكة ماكرة، لا تستقر في مكان. الثالثة، ميرا — الفتاة الصغرى، بفستانها الأبيض، وعيناها الواسعتان تحتضنان دمية من قماشٍ محشو.

أما الأخير، فكان مارك. طفل في الثالثة أو الرابعة، لم يتجاوز طوله خصر روديون، يقف بينهم بوقارٍ غريب على عمره، كأنه يشعر بأنه لا يجب أن ينسى هذه اللحظة أبدًا.

مدّ الكسندر الصورة بهدوء وقال:

— "ما زالوا يذكرونك، مارك… كل مساء. أمك تترك مقعدك خاليًا على الطاولة. تقول: مارك سيعود، حين يكتمل قلبه."

لم يمدّ مارك يده نحو الصورة، فقط نظر إليها طويلاً، كأنها شرفة تطلّ على بيتٍ حُرم منه بإرادته.

تابع الكسندر، وصوته هذه المرة أقرب إلى النبض:

— "روديون تزوج… وبافل في عامه الأخير في الأكاديمية. وميرا… ما زالت ترسمك في دفترها، بنفس الملامح… نفس العيون."

لم يعلّق مارك. فقط غامت نظراته، وبقي واقفًا. كأن تلك الرسومات الطفولية نبتت فجأة في صدره، تتفتّح وجعًا.

ثم، وكأن شيئًا قد تشقّق داخل الكسندر، قال بنبرةٍ شاردة:

— "كنت تتبع ديتداريان في كل مكان… حتى عندما كنت بالكاد تفهم كلماته. تلبس مثله. تمشي خلفه. حتى طريقة سحب الكرسي… كنت تقلّدها."

ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه مارك، لا سخرية فيها، بل شيء يشبه الدفء الحذر.

أردف الكسندر بصوتٍ أخف، أقرب إلى همسِ اعتراف:

— "كان شعره أشقرًا مثل الثلج… لكنّه صبغه بالبني حين قرّر أن يهرب. لم يُرِد أن يتعرف عليه أحد. قال لي في ذلك اليوم…"

توقف، ثم أغمض عينيه للحظة، واستعاد الذكرى كأنها لم تغادره:

— "قال:

هذه المرأة… اخترتها. سأبني معها بيتًا لا مكان فيه لأسرارنا. أريد حياة من نور، لا ظل.

"

ثم فتح عينيه، وقال بنبرة خافتة لا تخلو من التوسّل:

— "إياك أن تكون مثله يا مارك… لا تفعل ذلك بي."

صمت طويل تبعه. ثم تمتم، كما لو أن الكلمة خرجت من مكان أعمق من الحنجرة:

— "ليته يعود فقط… ليراه والدي قبل أن يموت."

خيّل له للحظة أنه يراه — ديتداريان، كما كان يوم رحيله. معطفه الداكن، ذراعه حول امرأة جميلة لا نعرف عنها شيئًا، يبتسم بثقة رجل قرّر ألا يعود. صورة مبهمة، بلا سياق ولا نهاية، لكنها بقيت عالقة في ذهن الكسندر كأمنية غير مكتملة.

رفع مارك عينيه نحو أبيه، وسأله بهدوء:

— "هل تعتقد حقًا… أنه لا يزال على قيد الحياة؟"

نظر إليه الكسندر مطولًا، ثم أومأ، بنبرة واثقة لا تحتاج إلى دليل:

— "هو يعرف كيف يختفي، مارك. أفضل من أي أحد. لن تجده الشرطة… ولا رجالنا. لكنه حي. لا شك في ذلك."

ثم ابتسم، نصف ابتسامة فقط، وأضاف:

— "وأراهن أنه حين يعود، سيأتي بخمسة أطفال على الأقل. ضاحكين، بعيون تشبهه… وبصوت يخلط الروسية باليابانية وربما الفرنسية. سيقف أمام باب القصر، وينظر إليّ، ويقول:

أخي… هذه العائلة التي اخترتها.

"

ضحك مارك بهدوء، كما لو أنه رأى المشهد، كأن الحياة تمنحه شظية أمل.

— "سيكون أجمل مشهد على الإطلاق…" تمتم.

نهض ألكساندر بهدوء، ورتب ياقة معطفه الثقيلة، ثم اقترب، ووضع يده على كتف مارك، وقال بصرامة أبوية لكنها لا تخلو من الحنان:

— "ابقَ هنا إن شئت… واحبب من شئت. لكن تذكّر… عائلة فول زيليوني لا تترك أحدًا خلفها. نحن… نحمل من نحبّ معنا، حتى لو حملناهم بين الجمر والثلج."

ثم غادر الغرفة، خطواته تمضي بثقل قرارات قديمة… لا ندم فيها، لكن فيها ما يشبه الحنين المؤجل.

أما مارك، فبقي عند النافذة. لم يتحرّك.

في عينيه، كان ضوء جديد لا يشبه الأمل ولا القرار. بل يشبه العزلة التي يولد منها القلب الحقيقي… حين يُختار الحب، لا كغنيمة، بل كقدر.

فصول من لهيبٍ غامض: الجزء الثالث

محاولات لاستعادة ما احترق : الرمادٌ الرقمي

كان الطابق السادس من مقر العمليات المركزي يشبه رئةً إلكترونية تتنفس بصمتٍ مضطرب — ضوءٌ مكسور يتلوّى بين الانعكاسات، وصوتٌ خافت ينبعث من أعماق الأجهزة، كأنها تحاول أن تهمس بسرٍّ عجز عنه البشر. أصوات مراوح التبريد الدقيقة كانت لا تُسمع إلا لمن تعوّد الإنصات للفوضى المختبئة خلف النظام، فيما نبضات كهربائية تتردد عبر أسلاك مغطاة بزجاج نانويّ، يعكس الضوء بأطياف شبحية تميل إلى الأزرق الداكن، كأن المكان كله يتنفس لون الحرق دون لهب.

في ذلك الهزيع الذي يتداخل فيه نبض الليل مع رجفة الفجر — زمنٌ لا ينتمي إلى أي ساعة — تلوّنت الجدران بوميضٍ يشبه إشارات الموت في مخططٍ عصبيّ ميت. شاشات التحليل بدت كنُجوم خامدة، تُرسل طيفًا أخيرًا قبل الانطفاء، وحرارة ضوءها المتلاشية تُشعر الداخل إليها أنه لم يدخل مختبرًا… بل مقبرة ذاكرة أُعيد بعثها بالكهرباء والذنب.

كان الهواء مشبّعًا برائحة المعدن المُحمّى والبلاستيك المُتفحّم — رائحة لا تخطئها ذاكرة رجلٍ عرف النار ذات يوم، وبقي يحمل دخانها تحت جلده. والسكينة التي تُخيّم على المكان لم تكن سكينة العلم… بل صمت الخوف الذي ينتظر أن يُنطق باسمه.

وقف هوشي عند العتبة، وقد التصق معطفه الداكن بالأرض من أثر ندى الصباح المتجمّع، كأن الغبار والرطوبة اتفقتا على تذكيره بأن هذا المكان لا يغفر. البلل امتدّ إلى أطراف ردائه، ليترك آثارًا ثقيلة تُشبه تلك التي يخلّفها الجرح حين يُفتح من جديد. الجرح ذاته… الذي يسكن كتفه الأيسر، والذي خُيّل له أنه شُفي منذ أن غطّته الضمادات وطمأنته المورفينات. الجرح الذي خلفته الطعنة، قبل أسبوعين فقط، من ذلك الكائن الذي لم يُفهم — رجل عجوز يضحك وهو يُحترق بنار لا اسم لها. الجرح الذي بدا أنه التأم، عاد الآن ينبض كندبة لا تنسى. مع كل قطرة ندى في هذا الصباح، مع كل ذرة برد تتسلل عبر القماش، كان الألم يتصاعد ببطء، ليس كألم عضليّ أو تلف عصبيّ، بل كصرخة بطيئة تسري من العظم نحو الجلد. شعورٌ أشبه بوخز جليديّ مغروز في نار خفيّة، كأن شيئًا استيقظ فيه — لا الجرح، بل الرسالة التي طُعنت به: أنك لن تنسى، مهما ظننت أنك تجاوزت. كان كتفه يرتجف، لا من البرد… بل من الحقيقة التي توجع أكثر من السكين ذاتها.

لم يكن دخوله دخولَ قائدٍ يفرض هيبته، بل كمن يعود محمولًا على صدى جرحٍ لم يُشفَ قط. خطوة بعد خطوة، بدا هوشي كظلّ قديم نُحت في ذواكر الجدران حين احترقت الحقيقة ولم يُكتب لها صوت. لكن ما حرّك هذا الظل لم يكن الماضي وحده، بل الألم النابض في كتفه — ذاك الذي غرسه المهاجم الغامض قبل أسبوعين. لم يكن ألمًا عابرًا، بل نداءً من العظم نفسه، صاعدًا كخدرٍ سُميّ يحرق على مهل. ارتعش كتفه الأيسر لحظة وطأت قدمه أرض الطابق، كأن النار التي اخترقته قد عادت تُشعل نفسها، لا بالحرارة، بل بالمعنى. وكل نبضة كانت تهمس: "لم ينتهِ بعد… لم تنسَ… ولا أنت بخير."

كان حضوره أشبه بعاصفة خامدة، لا تُعلن قدومها، لكنها تغيّر الهواء. لم يكن رجلًا فحسب… بل أثر حريقٍ لا يزال حيًّا، يزحف على جلده كما يزحف الدخان في الرئة، متخفيًا، خانقًا، صامتًا. عاد، وهذه المرة، لم يكن الرماد حوله فقط… بل يتنفس من داخله، ويُعيد تشكيله، خليةً بعد خلية.

جلس يوجي في قلب الغرفة كراهبٍ تكنولوجي، تغلّف جسده هالة خفيفة من وهج الشاشات، كأن الزمان يُعاد ترميمه من حوله على هيئة بيانات. كان شعره البني مربوطًا بخيطٍ أسود رقيق، يتدلّى جزء منه خلف أذنه كأنه جرحٌ قديم نسي أن يلتئم. نظارته الكبيرة ذات الإطار المعدني الرقيق كانت تعكس سطورًا متقطعة من الشيفرات، لا كمجرد معلومات… بل كصرخات إلكترونية من زمنٍ يُعاد تنقيبه.

الهواء حوله كان مشبعًا بطقطقة المفاتيح الافتراضية، وكأنّ ضوءًا خفيًا يُولد من كل لمسة. الشاشات المنحنية أحاطت به كخلايا عصبونية عملاقة، تنبض بالحياة، تتغيّر ألوانها ما بين الأخضر الكهربائي والأزرق القاتم، كأنها تقيس نبض ذاكرة مشوّهة تبحث عن نبضٍ مفقود. أصابعه تحركت بسرعة شبه طقسية فوق لوحة المفاتيح الهولوجرافية، كل حركة فيها تهمس بمحاولة لإعادة تركيب الماضي، لا كأحداثٍ فقط، بل كمعنى، كندبة في الذاكرة تحتاج إلى من يقرأها بلغة الخوارزميات.

# جزء من خوارزمية تتبع نقطة الحذف باستخدام توقيت التلاشي وتضخيم التحولات الطيفية

import numpy as np

from scipy.ndimage import gaussian_filter

from skimage.restoration import denoise_wavelet

def recover

frame

diff(data_frames):

# أولًا: ترشيح التموجات الضوضائية باستخدام Gaussian

noise

filtered = gaussian

filter(data_frames, sigma=1.5)

# ثانيًا: إزالة المزيد من التشويش بتقنية تحويل المويجات (Wavelet Denoising)

wavelet

denoised = np.array([denoise

wavelet(frame, channel

axis=None, convert2ycbcr=False, rescale

sigma=True)

for frame in noise_filtered])

# ثالثًا: حساب الفروقات بين الإطارات المتتالية

diff = np.abs(wavelet

denoised[1:] - wavelet

denoised[:-1])

anomaly_score = np.sum(diff, axis=(1, 2))

# رابعًا: تحديد الإطار الذي يحمل أعلى تباين، وهو على الأرجح نقطة التلاشي

return np.argmax(anomaly_score)

خلفه، وقف جين كتمثال سايبورغي صامت، لكن عينيه المخفيتين خلف شعره الفضي اللامع كانتا تخترقان الحاضر كوميض حلم مشوّه. شعره — الذي صبغه هذه المرة باللون الفضي — كان امتدادًا لعادةٍ باتت جزءًا من هويته: صبغات متغيرة كل فترة، كأنما يبحث عن لونٍ يخفي به طبيعته الحقيقية. ينسدل الشعر كسكينٍ ناعمٍ على جبينه وعينيه، فيغطي عينيه الكبيرتين — تلك العينان الواسعتان، البريئتان على نحوٍ مستفز، التي تبدوان كنافذتين على جمالٍ غير مقصود، لا يعرف كيف يُغلق.

جسده كان مغلفًا بطبقة من الوشوم: رموز هندسية، كلمات محطمة بلغة ميتة، تعاويذ ضد الزمن، ورسومات تمزج بين ميكانيكا الموت وتوقيعات الفن الباروكي. تتوزع الوشوم على رقبته، وذراعيه، وأصابعه النحيلة، حيث كُتبت عليها جملة سوداء بخط رفيع: "death only the way — no voice, just fire"، كما لو كانت صرخةً مكتومة محفورة بالنيتروجين السائل.

ملابسه كانت قاتمة بظلال معدنية، تزيّنها سلاسل فولاذية ومشابك دقيقة ترتجف كلما تنفّس، تتدلى منها أقراط فضية ثقيلة، وقلادة بأسنان حيوانية مصقولة تُلامس عظمة الترقوة. حتى شفتيه — المثقوبتين بإبرة معدنية صغيرة تتأرجح عند الحديث — بدا كأنهما محاولة فاشلة لإخفاء نعومة وجهه الطفولي. ملامحه تلك، بذلك الجمال الأخّاذ والمزعج في آنٍ واحد، لم تنجح في التخفي مهما حاول: فكل تلك الأوشام، والثقوب، والصبغات… بدت كدرعٍ خادع لا يُخفي شيئًا، بل يفضحه أكثر.

كان جين يقف هناك لا كفنيٍّ في مركز أبحاث… بل ككائنٍ خرج من قصيدة سايبربانك، نصفه بشريّ، ونصفه إعلانٌ ميتافيزيقي عن جيلٍ يحاول أن يصنع جسده كأنّه سلاح — لا ليحارب، بل ليختبئ.

أما يوريكو، فكانت تقف إلى جوار خريطة حرارية ثلاثية الأبعاد، ترتجف فيها النقاط المشعة كبقع احتراق على جسد الزمن. كانت ترتدي معطفًا طبّيًا أبيض مُقلَّم بشرائط زرقاء مضيئة، عيناها ضيقتان تحدقان في اللاشيء، كأنها تنتظر إشعارًا من عالمٍ آخر.

قال يوجي بصوتٍ متهدج، وهو يعيد بناء البيانات: — "ما حُذف لم يُحذف عبر أمر بسيط. إنه كأن أحدهم اخترق طبقات الزمن ذاته. استخدم تقنية لا تُشبه أي شيء نعرفه."

أردف جين، بنبرة باردة: — "الاختفاء تم من خلال ثغرة زمنية ذاتية التدمير. 1/128 من الثانية فقط. تخطّى الكاميرات، وتفاعل مع معالجنا لحظيًّا… دون أن نلحظ."

ظهرت على الشاشة صورة مهزوزة لرجلٍ مسن، بدون ملامح. الإطار نفسه كان يتشوه. الكاميرا الثالثة انفجرت لحظة ظهوره، تاركة وراءها دالة رياضية تالفة:

// مقتطف من الذاكرة التالفة

char *frame = malloc(1024);

if (frame && frame[512] == 0x00) {

trigger_wipe();

}

قالت يوريكو بهمس، وهي تُكمل تحليلاً طيفيًا: — "الحرارة حوله كانت… سلبية. لا حرارة، بل امتصاص للضوء نفسه. كأنه لا ينعكس، بل يبتلع العالم."

رد هوشي، بصوت أعمق من ذاكرته: — "هذا اللهب… لا يتغذى على الأوكسجين فقط. إنه يستهلك الوجود."

فتح يوجي نافذة جديدة على الشاشة: — "C-13VX. مركب عضوي طوّر خلال مشروع "الظلّ النانوي". يُشتعل تلقائيًا عند التعرض للرطوبة الجوية، ويبدأ بتفاعل بايروفوري داخلي يؤدي إلى تفكك الأنسجة البيولوجية والتخزين الرقمي في آن واحد."

— "هذا التفاعل يُولد حرارة تزيد على 2400°C. ويعتمد على نانو-قفل يحصر التفاعل داخل الهدف فقط."

تابعت يوريكو: "كل مادة في جسده كانت تحمل إشعاعًا مضادًا للتصوير الطيفي. حتى الكربون لم يُرصد."

جن قال، مغمضًا عينيه: — "إنها نار لا تُطفأ. لا تترك رمادًا. بل تمحو الذاكرة من أصلها."

في تلك اللحظة، نقر هوشي على نقطة في المقطع. قال: — "استرجعوا نقطة التلاشي. هناك اختفى."

بدأ جين في تدوين سلسلة من الأوامر التجميعية:

MOV AX, [point_frame]

CMP AX, 0x0000

JE disappear_sequence

CALL isolate

image

layer

فُتحت نافذة جديدة. صورة. عين واحدة، زرقاء باهتة، تنظر من وسط الضباب. لم تكن صورة… بل شهادة موت بلغةٍ لا تُكتب.

اهتز وجه هوشي. لم يتحرك. لكن الألم ارتجف تحت جلده. الذكريات أشرقت من الداخل — ليلة ضبابية، الطعنة، الضحكة وسط نار لا تحترق، بل تمحو.

قال بصوتٍ مكسور: — "كان هو… لم يحاول الهرب. أراد أن يُمحى."

تابع جين، كأنه يقرأ سطرًا من كتابٍ محظور: — "تفاعل C-13VX يبدأ بمادة الإيثيريوم الأزرق — عنصر طيفي، يتحوّل إلى جسيمات نانوية عند التماس مع الهواء. يولّد حرارة داخليًا، لا لهب خارجي."

أضافت يوريكو: — "ونتيجة ذلك: انفجار داخلي، احتراق على المستوى الجزيئي، دون إشعاع مرئي. فقط شُعاع ضوء أزرق، لحظة محو."

هوشي لم يرد. لكنه أومأ، وصوته عاد ليقول: — "هذه النار… لا تحرق الجلد. تحرق الفهم."

وساد الصمت. ثم بدأت الأجهزة تصدر أصواتًا خافتة. كأن المكان كله استيقظ من سباته.

ولم يكن هناك طريق للعودة.

كان هوشي يعرف، بعمق ذلك الألم الذي يعتصر قلبه، أن الحقيقة لم تكن في ما ظهر أمامهم حتى الآن، بل في الظلال الخفية التي تكمن خلف الرماد الأزرق — أسرار يوي التي ما زالت مغطاة بستائر الغموض، خيوط رقيقة معلقة في فضاء من الغموض، تنتظر بشجاعة من يجرؤ على سحبها وكشف ما يختبئ خلفها.

وسط الصمت الثقيل، استشعر هوشي ثقل الرحلة القادمة؛ طريق محفوف بالوحدة والعزلة، محاط بشاشاتٍ تومض بصمت الذاكرة المفقودة، وأجهزة لا تتوقف عن الرصد، تتابع تلاشي الحقيقة لحظة بلحظة. في لحظة قرار حاسمة، أغلق هوشي الباب خلفه، يصطحب فريقه إلى عزلتهم التي قد تمتد لأيام، أسابيع، أو حتى فترة لا يعلم مداها، لكن لا مجال للخروج قبل أن يُلقى الضوء على أسرار هذه النار الزرقاء التي لا تنطفئ.

كان ذلك عزفهم الأخير، سيمفونية يائسة من محاولات استعادة ما تبقى قبل أن يغرق كل شيء في ظلمة نائمة، تحت سماء متوهجة بلون الحزن الأزرق. صرخ في صمت داخله، وكأنه يخاطب لهبًا لا يرحم: — "لن أترك أحدًا يتحطم… لن أسمح لهم أن يأخذوا الحقيقة منا. مهما طال الوقت، سأجدها."

تدريجيًا، انطفأت الأضواء المحيطة، لتبقى الشاشة تلمع بضوء أزرق خافت، كأنها تحذرهم من أن القادم لن يكون مجرد رمادٍ؛ بل لعنة أعمق، نارٌ تسكن بين الحروف والكلمات، تنتظر أن تُشعل قلوبهم وتكشف عن أسرارٍ أثقل من أي رماد.

وقف هوشي، عينه تحبس ارتعاشة لا يكاد يظهرها، يتأمل بعمق في تلك الشاشة الخافتة، حيث تتشابك ذكريات الماضي مع ألغاز الحاضر. كانت تهمس له بأسرار لم تُفصح بعد، وأسرار لا تهم فقط البيانات أو الصور، بل وجوه مختفية وأماكن تتنفس الألم بصمت، وأصوات تتردد بين همسات الزمن ونبضات القلب.

في كل زاوية من هذا اللغز، كانت هناك علامات لا يفهمها إلا من حملوا عبء المعرفة، ظلال تحاكي وجوهًا تنتظر أن تُكشف، وذكريات تهتز بين النسيان والاسترجاع، وكلمات معلقة على حافة الحقيقة، وكأنها على وشك الانفجار بأسرار دفينة.

لم يكن يعلم كم من الوقت سيتطلب الغوص في عمق هذه الظلال، لكن عزيمته كانت صلبة كالصخر، رغم تسلّل اليأس إلى أعماقه. هدفه كان واحدًا فقط: حماية من يحب، مهما كان الثمن.

وفي اللحظة التي غمرهم فيها الظلام الدامس، لم يكن الرماد فقط من الماضي، بل نار جديدة أشعلتها المعرفة، نار تنتظر أن تكشف عن أعمق الأسرار، عن قوة غامضة تنتظر خلف الحجاب الأزرق.

وهكذا، مع كل رمشة من الضوء الأزرق الباهت، بدأ فصل جديد… فصل لا يمكن التراجع عنه.

يتبــــــــع…..

نهاية الجزء الاول من الفصل العاشر

2025/06/22 · 6 مشاهدة · 13069 كلمة
FE TEC
نادي الروايات - 2025