المجلد الثاني ظل الياكوزا:
الفصل السابع: أسرار يوي المخفية
بداية تحقيقات الظلال
حين خيَّم سكونُ الليالي على جناح يامازاكي العتيق، بدا أن الزمن نفسه قد توقف عن التنفس. انبثق الضوء الخافت من بين الستائر الثقيلة التي تغطي النوافذ الخشبية العريضة، كأنه بصيص من ذاكرةٍ قديمة ترفض الزوال. كانت الغرفة تمتد على مساحة متوسطة، لا فسيحة إلى حد الترف، ولا ضيقة إلى حد الاختناق، لكنها تحمل في جدرانها صدى الماضي وهيبة الأجداد.
الأرائك الداكنة كانت موزعة بتماثلٍ صارم، كأن كل قطعة أثاث وُضعت وفق طقوسٍ سرية لا يعرفها سوى من عاش هنا لسنين. وعلى الجدران، عُلقت صورٌ بالأبيض والأسود لأسلاف العائلة، بعضهم يبتسم ابتسامةً بالكاد تُرى، وآخرون يحملون في وجوههم قسوة الحروب الماضية.
في الزاوية الشرقية، انتصب السرير الخشبي العتيق، مزخرفًا بنقوشٍ يابانية كلاسيكية شديدة الدقة، فوقه غطاءٌ كحليٌّ تتناثر عليه رسومات التنين والخيزران، وتخترقها خيوط خفية من الحرير الذهبي، تتلألأ كلما داعبها الضوء. على جانبي السرير، منخفضتان من خشب الأبنوس، تعلوهما مصابيح خافتة ينبض فيها لون العنبر كقلبٍ دافئ يرفض الانطفاء.
الرائحة الخفيفة للخشب المعتّق تنبعث من الأرضية المصقولة التي تئنُّ بلطف مع كل خطوة. نسيم الفجر يتسلل عبر فجوة صغيرة في أحد الألواح، يجلب معه برودة الليل ورائحة الساكورا الذابلة من الحديقة الشرقية. امتزج عبق الدخان الياباني التقليدي، العالق في ألياف الستائر، برائحة الورق القديم الذي ما زال يُغلف كتبًا فوق رفٍ عالٍ مغطى بطبقة رقيقة من الغبار، مما منح المكان إحساسًا بأنه ليس مجرد غرفة، بل ذاكرة متجسدة، تحتفظ بكل تنهيدة مرَّت عبرها.
كانت هناك طاولة منخفضة من خشب الأرز تحت النافذة، فوقها مجموعة من المراوح الورقية المرسومة يدويًا، واحدة منها مفتوحة على نصفها، وكأنها نسيت أن تُغلق. في الزاوية المقابلة، وقف درعُ ساموراي قديم خلف زجاجٍ معتم، تنعكس عليه صور المصابيح الخافتة، فيبدو كأنَّ عينيه تراقبان السكون.
في هذا المشهد الغارق في الهدوء، استيقظ هوشي في ساعةٍ متأخرة، بعد أن عجز عن النوم. كان جسده مرهقًا، لكنه لم يشعر بالرغبة في الراحة. ارتدى قميصًا قطنيًا رماديًا وبنطالًا خفيفًا داكن اللون، ثم جلس على حافة سريره الخشبي. انعكست ملامحه في مرآة الجدار الباهتة: شعره الأسود مبعثر، عيناه منهكتان متورمتان من قلة النوم، و جفناه مثقلان بتعب لا يزول.
إلى جانبه، كانت هناك ورقة مطوية بعناية، لكنها بدت كقطعة من الجحيم، تُلسعه كلما نظر إليها. لم تكن تلك الورقة مجرد رسالة تهديد، بل إعلان حربٍ مكتوب بحبر الحقد:
"أيتها الشقية اللعينة، عليكِ بالعودة... انتهى وقت اللعب... حذرتك المرات السابقة. هذا تحذيري الأخير!"
لم تكن الرسالة كلماتٍ على ورق فحسب، بل خنجرًا غُرس في صدره، ينهش روحه كلما تذكر أن أحدًا هناك يلاحق الطفلة التي وعد نفسه بحمايتها. لم يكن هو من عثر على الرسالة، بل مارك، حين دخل برفقة جين وهاتوري لتفقد شقة يوي بعد أن شعروا بخلل غريب في المكان. وجدوها على موقد الغاز القديم، وضعت بعنايةٍ مقصودة، وكأن من كتبها أراد إشعال النار في أعصابهم.
غاص هوشي أكثر في أفكاره، ويده تحكّ السطح الخشن لغطاء السرير دون وعي. بدا له أن الحروف السوداء المنقوشة على الغطاء — ذلك التنين الذي يقبض على خيزرانةٍ ملتوية — لم تعد مجرد زخرفة، بل انعكاس رمزيّ مخيف لما يجري في عالمهم الآن. التهديد لم يكن موجَّهًا ليوي فقط، بل له، لهم، لكل من حاول أن يقترب منها أو يحميها.
أصوات الليل كانت تملأ الغرفة بصدى غير مرئي: صرير خافت للأرضية، تنفس الخشب، خشخشة أوراق الشجرة القديمة بالخارج، ونباح كلب بعيد يتكرر كل بضع دقائق، كأنه يعلن أن هناك شيئًا خاطئًا يقترب. وبين تلك الأصوات، نبض صدره بثقل، كأنه طبل حربٍ يقرع في عمق روحه، يستعد لمعركةٍ لم تبدأ بعد.
رفع رأسه نحو النافذة، وبصره يتتبع الضوء البرتقالي للفجر الذي بدأ يتسلل ببطء من شقوق الخشب، كأنه يزحف من بين أسنان الغيوم الثقيلة. السماء ما تزال ملبدة، لكن خيط النور الرقيق أضاء له طريقًا داخليًا نحو القرار. تذكّر وعده القديم — وعدٌ لم يقطعه بصوت، بل بقلبه: أن يكون درعًا لها، حتى وإن لم تعرف أنها بحاجة له. أن يقف بينها وبين الظلال، حتى لو ابتلعته العتمة معها.
تمتم، وصوته بالكاد يُسمع، لكنه كان كافيًا ليرجَّ صدى الخشب حوله:
— لقد بدأنا. لن أسمح لهذا الظل أن يلمسها مجددًا.
في تلك اللحظة، لم تكن الغرفة مجرد ملاذ، بل أصبحت نقطة انطلاق. جناح هوشي — ذلك الجناح العتيق الذي احتضن أجيالًا من رجال العائلة — بات الآن مختنقًا بالأسرار. والأسرار، كما يعلم هوشي جيدًا، حين تُحبس طويلًا، تنفجر.
وقف بهدوء، التقط سترته السوداء الطويلة عن المشجب قرب الباب، ألقى نظرة أخيرة على الغرفة، ثم غادرها بخطى ثابتة. لم يأخذ الرسالة معه. تركها مطوية تحت غطاء السرير، لا لأنها انتهت، بل لأنها بدأت.
كانت وجهته واضحة تمامًا: مقر العمليات السرية لعائلة يامازاكي في شينجوكو. هناك، حيث ينتظره السيد دوني، والفريق بأكمله، حيث تبدأ أولى خطواتهم الحقيقية في كشف خيوط معركة الظلال. معركة، يعلم في داخله، أنها لن تنتهي دون دموع... أو دماء.
العيون الساهرة
في بهو القصر العتيق، حيث تتشابك أعمدة الخشب المصقول مع السقف المرتفع المزخرف بأشكال تنينٍ وسحبٍ متداخلة، كان الضوء الخافت للثريات المعلقة يُلقي ظلالاً راقصةً على الجدران المغطاة بورق الأرز القديم. عطر الصندل المحترق يتسلل من المباخر المنصوبة عند الزوايا، ممزوجًا برائحة العطور الذكورية الثقيلة التي استقرت في الجدران عبر السنين. السكون الذي يملأ المكان ليس هدوءًا مريحًا، بل صمتًا كثيفًا كأنه يُنذر بانفجارٍ قادم. وكان هوشي يقف هناك، في قلب هذا الفراغ المشبع بأسرار العائلة، بوجهٍ يحمل ظلال الأرق وكاهلٍ مثقلٍ بالحيرة.
خطواته لم تكن مسموعة، لكنها كانت واضحة في حركتها الدقيقة، المتوترة. تحرّك صوب الممر الحجري المؤدي إلى غرفة الاجتماعات، ويده اليمنى تمسك الورقة المطوية — الورقة التي قلبت كيانه منذ أن أُرسلت من جديدٍ إلى شقة يوي، مرّة أخرى، بإصرارٍ لا يختلف عن تهديدٍ مباشر.
في تلك الغرفة الواسعة، ذات الجدران السوداء المنقوشة بآياتٍ من فلسفة الزِنّ اليابانية، وقف رجلٌ يُشبه التمثال: السيد دوني. طوله الفارع وجسده النحيل الملفوف برداءٍ أسود رسمي، جعل من حضوره حضورًا سلطويًا لا يُقاوم. نظراته الحادة تخترقك قبل أن ينطق، كأنه يرى أعماقك لا سطحك. الشعر الرمادي المربوط عند مؤخرة رأسه كان يبدو وكأنه يوشك على التحول إلى فضة نقيّة، وذقنه المهذبة بدقة أضافت له وقارًا أشبه بالكهنة المحاربين في العصور القديمة.
رفع دوني بصره عندما شعر بوجود هوشي، وقال بصوته المنخفض العميق الذي كان دومًا أشبه بصفارة إنذار:
— لم أسمع منك أيّ جديدٍ بعد تلك الليلة، يا فتى. هل أخذت وقتك الكافي للتأمل فيما وصلنا إليه؟
تردد هوشي للحظة، ثم تقدم ببطء ووضع الورقة المطوية على الطاولة الخشبية المستديرة التي تفصل بينهما. كانت الورقة تبدو وكأنها مصنوعة من ورق ملوّث، رماديّ الحواف، وكأنها مرت بنارٍ ثم أنقذها الهواء الأخير.
— هذه الرسالة، قالها بصوت مبحوح، ينضح بالضيق والغضب:
— عُثِر عليها مرة أخرى في شقة يوي. كانت موضوعةً هذه المرة فوق الموقد الغازي مباشرة، كأن من وضعها أراد أن يشعل بها الشقة، أو ربما قلوبنا.
أخذ دوني الورقة ببطء، فتحها وكأنها قنبلة، وقرأ بصوت خافت:
"أيتها الشقية اللعينة، عليكِ بالعودة... انتهى وقت اللعب... حذرتك المرات السابقة. هذا تحذيري الأخير!"
مرّ إصبعه على الحبر الجاف، ثم قال:
— ليس هناك مروءة في هذا التهديد. كلماته لا تنبع من مجرد حقد شخصي، بل من خوف... أو أمر. هذه ليست الإشارة الأولى.
رفع عينيه، وأكمل ببطءٍ قاتل:
— فلتراجع ما سجّلناه عبر كاميرات الزقاق الخلفي في الحي القديم. عُثر على ظل شخص غريب خلف النافذة المكسورة قبل ثلاثة أيام، وهمس الجيران بأنهم سمعوا احدهم يتكلم معها وقال لها : "عليكِ بالعودة..."
شدّ هوشي قبضته، وملامحه توترت:
— لا يمكننا الاكتفاء بالمراقبة بعد الآن. أريد الذهاب الليلة، أريد رؤية المكان بعيني، أريد أن أواجه من يظن أنه يستطيع العبث بحياة يوي كما يشاء.
ابتسم دوني، لكن ابتسامته لم تكن دافئة، بل باردة، مشوبة بتلك الحدة التي تأتي من معرفةٍ قديمةٍ لا يبوح بها، ثم أشار إلى ساعته اللامعة ذات العقارب الفولاذية:
— اجمع فريقنا منتصف الليل. ثلاث نقاط أساسية: الشباك الخلفي من الزقاق، ممر الدرج المائل، والباب الصدئ. سنثبت أجهزة تسجيل، حساسات حركة، وسنستعد لتسجيل كل همسة. لا مجال للخطأ، هذه المرة.
سادت لحظة صمت ثقيلة. عيناهما تلاقتا. كانت تلك النظرات تحمل أكثر من حوار. كان فيها مزيجٌ من الثقة، الخوف، العزم، والدهشة — كأن كل منهما رأى في الآخر انعكاسًا لحرب لم تنتهِ.
وقبل أن ينسحب دوني ببطء، صوته يطفو في الهواء كأمر لا يُرفض:
— اجعل كل حركة محسوبة، يا هوشي. الليلة لن تكون مجرد اختبار... بل بداية مرحلة جديدة.
ردّ هوشي أخيرًا، بصوتٍ منخفضٍ لكن حازم:
— أعدكِ، يا يوي... لن أسمح لهذا الظل أن يلمسكِ مجددًا.
ثم دار على عقبيه، وقد بدت خطواته أعمق من مجرد انتقال جسد. كان يحمل في صدره نارًا، لم يكن يعرف إن كانت ستحرق أعداءه... أم قلبه أولًا.
غرفةُ العملياتِ السرّية
في عمق أزقة شينجوكو، حيث تتلاقى أنفاس المدينة مع همسات الليل، كان هناك مبنى شبه مهجور ذو لافتة خشبية باهتة بالكاد يمكن قراءتها. واجهته المتآكلة تخفي خلفها سرًا مظلمًا، لا يكتشفه إلا من يمتلك مفتاح الظلال. خلف بوابة حديدية صدئة، وتحت درجاتٍ حجرية تنحدر ببطء نحو عمق الأرض، يمتد المقر السريّ لفريق التحقيقات التابع لعائلة يامازاكي — قاعدة عملياتٍ لا يعرفها حتى أكثر أفراد العائلة ولاءً.
الهواء هناك كان ثقيلًا كأنه مُخضّبٌ بصمت المقابر، مشبعًا برائحة العفن العالق في زوايا الجدران الخرسانية، والمعدن المؤكسد الذي يبكي صدأه مع كل لمسة. كل شيء في هذا المكان يبعث على التوتر: الطنين المنخفض من الأجهزة المتصلة بشبكات لا تُعرف نهاياتها، ضوء الشاشات الزرقاء الذي لا يرحم تفاصيل الجدران، وأصوات نقرات المفاتيح التي تشبه عزفًا جنائزيًا مستمرًا.
في منتصف الحجرة الواسعة، بُنيت طاولة مستطيلة من الألمنيوم المضاد للرصاص، تحيط بها شاشات ضخمة تعرض خرائط حية للمدينة، إشارات تشفير، لقطات من كاميرات مراقبة، وأرقامًا تتغير بسرعة مذهلة. كانت الأرضية مغطاة ببلاط رمادي خشن لا يعكس الضوء، مما يزيد من طابع الغموض والكتمان.
في الزاوية الشمالية من الغرفة، كان يجلس يوجي — شاب في أوائل العشرينات، ذو شعرٍ بنيٍ غير مرتب ونظارات دائرية تنعكس عليها أضواء الشاشات. بدا كأنه اندمج تمامًا مع أجهزته، وكأن روحه أصبحت جزءًا من الأسلاك والدوائر. ست شاشات ضخمة أمامه تعرض سطورًا طويلة من الأكواد، خوارزميات تتبع، وواجهات اختراق.
همس يوجي، دون أن يرفع رأسه: — لا أثر... لا بصمة... لا شيء. لا شهادة ميلاد، لا سجل مدارس، لا ملف صحي. لا حتى إيصال كهرباء أو ماء باسمها. سيراتوبي يوي... كأنها طُبعت على ورقة ثم مُزّقت ببطء.
أخذ هوشي نفسًا عميقًا، وكأن هذه النتيجة تشعل في داخله تحديًا شخصيًا.
عند المدخل، استندت يوريكو إلى الجدار، تمسك بكوب قهوة ساخن بيدها اليمنى، وتتابع بشفاهٍ مطبقة كل ما يجري على الشاشات. امرأة في الثلاثين من عمرها، ذات ملامح هادئة ونظرةٍ مخترقة تُحلل وجوه الناس كما تُحلل بصمات الصوت. ردّت بصوتٍ منخفض لكنه حاد: — أو كأن أحدًا مسح وجودها عمدًا... او استأجر من يملك السلطة والقدرة على حذف كل أثر. هذا النوع من الإخفاء لا يستطيع تنفيذه إلا شخص يعمل في عمق الدولة أو على من داخل منظمات الجريمة.
تقدّم هوشي من طاولة العرض، يتأمل التقارير التي تتقاطع على الشاشة الرئيسية. ملفات باسم "يوي" تُعرض باللون الأحمر: محذوف، غير صالح، غير موجود، تم الإزالة.
من الزاوية المقابلة، كان كين ينقر على لوح رقمي، عيناه تتابعان إشاراتٍ مشفرة تُومض على خريطة طوكيو. رجل هادئ الطباع، لكن دقة ملاحظته مميتة.
— وجدت تشفيرًا يُستخدم عادة في شبكات الدعارة عالية التنظيم، قال كين وهو يشير إلى سطر رموز متداخل. — الشخص الذي أرسل الرسالة الأخيرة استعمل نمط تشفير معروف لدينا، مرتبط بشبكة تعمل في أوساكا وطوكيو منذ أكثر من عشر سنوات. لكن الفرق هنا أن الرسالة تحمل طبقة إضافية من الإخفاء.
هوشي نظر إليه بدهشة: — هل تعني أن المُهدِّد مرتبط بتلك الشبكة؟
أومأ كين: — أو أنه يريد أن يُوهمنا بذلك... لكن في كلتا الحالتين، نحن لا نتعامل مع مراهقٍ مهووس، بل مع كيان مظلم يعرف كيف يلعب.
انطلقت صفارة قصيرة من أحد الأجهزة. اقترب الجميع من الشاشة الرئيسية، حيث ظهرت إشارات جديدة مصدرها الحي القديم الذي تسكن فيه يوي.
— لقد تحرك شيءٌ في الزاوية الشرقية للبناية، قال يوجي وهو يُظهر لقطةً باهتة لرجلٍ يقف في العتمة.
اقترب دوني من الشاشة. رجل خمسيني بشعر رمادي منسدل على كتفيه، يرتدي بذلة سوداء وقميصًا بأزرارٍ ذهبية. وقف بصمت، وعيناه تحدقان في الصورة المتجمدة.
— هذا ليس الشخص ذاته، قال ببطء. الرجل الذي رأيناه قبل يومين كان أقصر قامة... هذا جديد.
في الخلف، ظهرت ورقة أخرى تُرمى على الأرض.
— لا يمكن أن يكونوا وحدهم، هم يعملون في مجموعة. نحن لا نواجه قاتلًا مأجورًا، بل فريقًا.
هز دوني رأسه وقال: — اجمعوا كل الصور. قارنوا بين مشيتهم، ظلّهم، توقيت ظهورهم. أريد تقريرًا تحليليًا قبل منتصف الليل.
ثم التفت إلى الجميع، وصوته الآن يحمل نبرة أشد من المعتاد: — أيُّ خطوةٍ خاطئةٍ سندفعُ بها ثمنًا بالغَ الخطر.
سكت لحظة، ثم أضاف: — نحن لا نبحثُ عن مجرمٍ هذه المرة، بل عن ضحية أُجبرت على التخفي خلف قناعٍ صنعه الجحيم. فتاة تم محو ماضيها ودفنه. الليلة لن نهاجم، بل سنستعدُّ للكمين. وكل من يخطو في الظل... سنجذبه للنور.
أحاط الصمت بالحجرة، لكنه لم يكن صمت تردد، بل صمت عاصفة تسبق الانقضاض.
انحنى هوشي قليلاً، نظر إلى الورقة التي أحضرها من شقة يوي، وتذكر الهمس البارد الذي كُتب بها: "انتهى وقت اللعب..."
همس بصوت خافت، بالكاد يُسمع وسط همسات الأجهزة: — بل اللعبة... بدأت للتو..
تجهيزُ الكمين الليليّ
في صبيحةٍ متأخرة بعض الشيء، حين بدأ ضوء الشمس يتسلل على استحياء عبر شقوق النوافذ العتيقة في جناح العائلة، وقف مارك وجين وهاتوري في بهو القصر الكبير، الثلاثة في صمتٍ تام، يحدقون في خريطة الحي المعلّقة أمامهم. كانت أقدامهم ترسو فوق الألواح الخشبية التي لم تزل تحتفظُ بوهن المساء البارد، تنقل الصرير الخافت عند كل حركة، كما لو أن الأرضية ذاتها تشارك في المؤامرة.
خريطة الحي القديمة، المرسومة يدويًا بالحبر الأسود، كانت محاطة بدبابيس صغيرة ملونة وملاحظات ورقية كتبت بخط يد جين الصارم، تتوزع في أماكن دقيقة حول المباني، الأزقة، وسلالم الطوارئ. كان الكمين الليلي الذي يستعدون له مختلفًا عن أي عملية مراقبة خاضوها من قبل. لم يكن الهدف هنا القبض على تاجر سلاح أو تصفية حساب دموي، بل تتبع ظلٍّ لا يرى... شخص يتسلل إلى شقة فتاة صغيرة، يهددها من الظل، ويترك رسائل أشبه بلعنات مكتوبة.
قال مارك بصوتٍ هادئ، وهو يمرر سبابته فوق المسار المؤدي من الزقاق الخلفي إلى نافذة المطبخ: — هذه النقطة هي الأضعف. شباك المطبخ الخلفي ضيق، لكن كسره لن يُحدث صوتًا إن كان يعرف ماذا يفعل. سنثبت الكاميرا المصغرة هنا، أسفل الإطار، بحيث تلتقط كل من يحاول التسلل.
كانت عينا مارك الزرقاوان تلمعان بتركيزٍ حاد، وخطوط التوتر حول فمه واضحة. منذ أن دخل عالم الياكوزا، لم يشعر بهذا القدر من القلق تجاه هدف مجهول. لم يكن يعرف الكثير عن يوي، لكنه رأى الرعب في عينيها حين تحدث هوشي عن التهديدات. ذلك الرعب لم يكن مصطنعًا.
أشار هاتوري إلى الممر الجانبي، وقال: — هذه الزاوية هنا... خلف أنبوب الصرف القديم، سأضع جهاز تسجيل الصوت. سنلتقط أي همسة، حتى إن كانت تنهيدة. كل صوت قد يكون دليلًا.
هاتوري كان أكثرهم هدوءًا، لكنه يعرف كيف يحول صمته إلى قوة. منذ أن دخل عائلة يامازاكي وهو يُكلف بالمهمات التي تتطلب دقة مفرطة. لم يكن مهووسًا بالتكنولوجيا مثل يوجي، لكنه كان يعرف كيف يجعل من جدار متشقق مركز مراقبة.
تقدّم جين، يرتدي معطفه الأسود الذي يلامس كاحليه، ومن خلف طوقه العالي تلمع الوشوم السوداء على رقبته، كأنها طلاسم سرية. قال: — سأراقب من فتحة التهوية هنا. إنها تطل مباشرة على ممر السلم الخلفي. آخر مرة ظهر فيها الظل كان في هذا الموضع. سنلتقطه، حتى لو لم يترك غير انعكاس.
كان جين شابا لا يثق بالاحتمالات. يؤمن فقط بالأدلة، بالصورة، بالصوت، بالبصمة. بالنسبة له، الظل ليس كائنًا ميتافيزيقيًا، بل رجل من لحم ودم، يرتكب خطأ واحدًا، ويُقبض عليه.
بعد الاتفاق على الخطة، توجه الثلاثة إلى القبو السفلي حيث تُخزن معدات المراقبة. المكان كان مظلمًا إلا من مصباح سقفي وحيد يتأرجح عند أقل نسمة هواء. تكدست الصناديق المعدنية فوق بعضها، كل منها موسوم برمز خاص: «كاميرا حرارية»، «جهاز استشعار حركة»، «جهاز كشف صوتي بمدى طويل».
فتح مارك أحد الصناديق وسحب منه كاميرا صغيرة، بالكاد أكبر من عقلة الإصبع، وقال: — هذه ستعمل بالأشعة تحت الحمراء. لن يرى ضوءها أحد، حتى من يقف أمامها مباشرة.
أخرج هاتوري جهازًا أشبه بعلبة كبريت فضية اللون، ونزع عنه الغلاف الواقي: — هذا حساس صوتي يمكنه التقاط ترددات منخفضة مثل التنفس السريع، أو خطوات حافية.
أما جين فكان قد اختار بالفعل مكانه في الحي. استعرضوا الخريطة الإلكترونية على اللوح الذكي المحمول، وتوزعت مواقع الفريق بدقة لا تقبل الخطأ. كل فرد فيهم لديه مجال رؤية، نقطة اختباء، وخطة انسحاب.
مع هبوط الظلال على الحي القديم قرب المغيب، تسلّل الفريق إلى المكان بهدوء. ارتدى كلٌّ منهم زيًا مختلفًا لتمويه وجودهم. مارك في زي عامل صيانة، جين كمندوب توصيل، وهاتوري بزي ميكانيكي دراجات.
كل شيء بدأ طبيعيًا من الخارج: الحي كما هو، الأطفال يلعبون في الزوايا، رائحة الشواء من محلٍ صغير تملأ الأزقة، وأصوات دراجات نارية تمرّ كأن لا شيء يحدث.
لكن تحت السطح، كان كل شيء تحت الرقابة.
وضع مارك الكاميرا في الإطار السفلي لنافذة المطبخ، كما خُطط. المكان كان ضيقًا، متصدعًا، والغبار يملأ حواف الزجاج. ثبت الجهاز بحذر، وتأكد من زاوية التصوير، ثم أرسل إشارة عبر جهازه إلى غرفة العمليات.
هاتوري، في المقابل، تسلل إلى الحافة الغربية من البناية. المكان هناك أكثر ظلمة، والأرض مبتلة. فتح اللوحة الخشبية القديمة التي تغطي الكابل، وركّب حساس الصوت، ثم ثبّته بشريطٍ خفيف بالكاد يُرى.
أما جين، فاستلقى داخل زاوية مهجورة من درج الطوارئ، وركّب عدسة الكاميرا الحرارية التي ستُظهر أي تحرك بشري حتى لو كان زحفًا صامتًا.
في تمام الساعة الحادية عشرة مساءً، كانت كل الأجهزة تعمل، ترسل إشارات صامتة إلى غرفة العمليات في شينجوكو. هناك، كان يوجي يتابع الشاشات، وعيناه تومضان بتوتر. كل نقطة ضوء تظهر على الشاشة تعني أن هناك من يتحرك، وكل تغيير في الموجات قد يكون الصوت الذي ينتظرونه.
وبينما استقر مارك في الزاوية الشرقية للمبنى، وبقي جين راصدًا للفتحة الخلفية، جلس هاتوري أعلى سطحٍ منخفض يطل على الزقاق، يراقب بعينين ثابتتين كل نافذة، كل حركة ستارة، كل ضوء يُشعل أو يُطفأ.
مرت الدقائق ببطء. الهواء ازداد برودة، والرطوبة تسللت إلى عظامهم، لكن لم يكن هناك مجال للتراجع. فهذه الليلة، لن تمر كغيرها.
ثم، عند الساعة 12:03، صدر صوت خافت.
كان طقطقة صغيرة، صوت ورقة تُسقط.
التقط الحساس الصوتي الإشارة، ونقلت إلى يوجي، الذي نقر على الشاشة فورًا. أضاءت الشاشة الحمراء، وتحوّل وجهه إلى ظلٍّ مرتجف:
— لدينا تحرك. النقطة 2. الممر الخلفي.
في نفس اللحظة، كانت عدسة جين تلتقط صورة غير واضحة ليد تضع شيئًا على الأرض، ثم تختفي بسرعة. الحركة كانت دقيقة، لم تُظهر ملامح، لكن كافية لتأكيد أن شخصًا ما لا يزال يراهم… ويهددهم.
وصل مارك إلى المكان بعد ثوانٍ، التقط الورقة بحذر، وأرسل صورة فورية عبر الجهاز:
"ابتعدوا عنها. أنتم لا تعرفون من تعبثون معه. هذه آخر مرة أحذركم فيها."
الخط غريب. الحبر فيه اختلاف طفيف. هل هناك أكثر من كاتب؟ أم أن الرسالة نُسخت بطريقة غير مألوفة؟ والسؤال المحير أكثر من غيره كيف عرفوا بأمرهم ؟ كيف استطاعوا أن يعرفوا انهم هنا و يتحرون عن أمرهم؟.
عاد الثلاثة إلى مواقعهم، لم يتحركوا أكثر، لم يركضوا خلف الظل. كما قال دوني: «في الليلة الأولى نرصد، لا نطارد.»
وحين وصلت الرسالة إلى غرفة العمليات، جلس دوني صامتًا يقرأها، ثم قال:
— هذه ليست لعبة تهديدات عشوائية. هذا شخص يعرف ماذا يفعل، ويريد أن يجرّنا إلى خطوة خاطئة.
قال كين، وهو يربط بين الرموز: — توقيع الخط نفسه يحمل رموز تشفير خفية. هناك رسالة مخفية بين الحروف.
أومأ دوني: — اجمعوا كل شيء. سنُحلّل الخط، ونقارن أسلوب الكتابة مع الملفات القديمة. غدًا… نبدأ المرحلة الثانية.
وهكذا، انتهت ليلة المراقبة الأولى… ليس بالقبض على المتسلل، بل بكشف جزء آخر من الغموض الذي يلفّ يوي. ليلتهم كانت مظلمًة، وثقيلًة، لكنها حملت أول خيطٍ حقيقيٍّ في طريقٍهم الطويل… نحو الحقيقة.
.
مطالبُ الجيرانِ وصداها
حلّ المساء كوشاحٍ رماديٍّ ثقيلٍ على أزقة حيّ يوي القديم، ينسدل من السماء كستارٍ مخمليٍّ يُخفي بين خيوطه أسرارًا لم تُقال. تسللت أنفاس البرد عبر الفتحات المتشققة في الأرصفة، وعانق الضباب أطرافَ المباني المتهالكة كما لو أنه يحتضنها للمرة الأخيرة. كان السماء مُلبداً بالغيومٍ الرمادية القاتمة يخفي أنفاس القمر، والأنوار الباهتة للمصابيح المعلقة بالكاد تنير الطريق الموحش، تومض كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.
قاد دوني المجموعة في صمتٍ مشحون، خطواتهم تتردد فوق الحصى والوحل كما لو كانت نداءً خافتًا للأشباح المختبئة في الجدران. وقفوا أمام مجموعة مبانٍ اقتصادية بُنيت منذ عقود لاحتضان الطلاب والعاملين ذوي الدخل المحدود. كانت النوافذ محاطة بالحديد الصدئ، وأبواب الشقق يغطيها الغبار والكتابات الباهتة، وكأنها بقايا زمنٍ حاول أن يُنسى، أو أراد أن يختفي من تلقاء نفسه.
في الزقاق، اشتد وقع الأحذية على البلاط المتشقق، وبدأ صدى الخطوات يتردد في الأرجاء كأن الجدران تُنذر بشيءٍ آت. لاحت لهم ظلالٌ بشرية خلف الستائر، تحدق فيهم بريبة وتنسحب بهدوء، كما لو أن الحيّ نفسه يستعدّ للانكماش على ذاته.
بادر هاتوري بالاقتراب من أحد الأبواب المتآكلة، طرق عليه بخفة، ثم عاد خطوتين إلى الوراء. بعد لحظات، انفتح الباب بصوت صريرٍ مرعب، وظهر رجلٌ مسنّ، منحني الظهر، يحمل سلة بها خضروات باهتة: بصلاتٌ متعفنة، وبعض رؤوس الملفوف المائل إلى الاصفرار. وجهه مجعد كأرضٍ شُقَّت من الجفاف، وعيناه زجاجيتان كأنهما عاصرتا أكثر مما يحق لإنسانٍ رؤيته.
قال بصوتٍ متشققٍ: — أتيتم بسبب الفتاة؟
رمق دوني الرجل بنظرةٍ عميقة، ثم اقترب منه خطوة: — سمعنا أنك رأيت شيئًا غير عادي مؤخرًا.
تنحنح العجوز، وكأن السؤال أيقظ ذكرى كانت تحاول الغرق: — في الليالي الماضية، هناك رجلٌ مسنٌّ... طويل بعض الشيء، أعرج قليلًا. يمرُّ من هنا. يقف أمام هذه النافذة.
وأشار بيده المرتجفة إلى نافذة خلفية مهشمة الزجاج، محاطة بإطار معدني مُثبّت بأسلاك ملتوية. النافذة تؤدي إلى درج داخلي قديم ومظلم، تنبعث منه رائحة رطوبةٍ تشبه قبورًا مغلقة.
— وماذا كان يفعل؟
هزَّ العجوز رأسه ببطء، وكأنه لا يريد تذكر المشهد: — لا شيء... فقط كان يقف، ينظر. لا يتحرك كثيرًا، وكأنه ينتظر شيئًا، أو شخصًا.
سأل جين بهدوء: — هل كان يقول شيئًا؟
أومأ العجوز بعد تردد: — مرةً... همس فقط: “عليكِ بالعودة...”
تجمّد الفريق لوهلة. لم تكن الكلمات جديدة، لكنها خرجت الآن من فم شاهدٍ آخر. الإيقاع نفسه، النغمة نفسها، وكأن الرسالة تأتي من مكانٍ غير مرئي، أو لسانٍ لا ينتمي لهذا العالم.
اقترب دوني من العجوز وقال بلطفٍ غير معتاد: — هل يمكننا أن نتفقد الساحة الخلفية؟
أشار الرجل خلفه، وقال: — الباب الخشبي الخلفي مفتوح. لكن احذروا من الأرضية... لم تعد كما كانت.
مضى الفريق نحو الخلف، عبر ممرٍ ضيقٍ رطب الجدران. أضواء الطابق الأرضي خافتة، وبعضها يومض بلا انتظام، كما لو أن المكان يحتضر. تقدموا بحذر، حتى وصلوا إلى الساحة الخلفية الصغيرة التي تنفتح على درجٍ قديمٍ يلتف حول الجدار ويقود إلى شقة يوي.
كان المكان موحشًا: أوراق شجرٍ متعفنة، كومة صناديق خشبية محطمة، وبقعٌ غامضة بلونٍ داكن على الأرض. ظلال الممرات ترتجف تحت ضوء المصباح الوحيد الذي يتدلّى من سلكٍ نحاسيٍّ متدلٍ. كل صوتٍ هنا يُسمع مضاعفًا، وكأن الهواء يُسجل أنفاسهم ليرويها لاحقًا للأشباح.
همس مارك: — هذا المكان... ليس طبيعيًا. الهواء هنا أثقل.
لم يجب أحد. كانت رائحة الخوف في الهواء، واضحة كالدخان. وقف هوشي أمام الدرج، وتذكر تلك الرسالة، وتخيل كيف دخل ذلك الرجل في الظلام، وكيف سار بخطواتٍ بطيئة، كيف وضع الورقة، وانسحب ككابوسٍ لا يترك أثرًا.
قال دوني: — دعونا نتحدث مع جيران آخرين.
توجهوا إلى بابٍ آخر، وفتحته امرأة في منتصف العمر، شعرها مجعد وكأنها لم تمشطه منذ أيام. كانت عيناها حمراوين، وذراعاها مملوءتين بالكدمات.
سألها دوني بأدب لو كانت رأت رجلا مسنا اعرج .
قالت بهمس: — إن كنتم تبحثون عن ذلك الرجل... فهو ليس أول مرة يظهر. قبل أشهر، كنت أسمعه يتحدث لنفسه تحت نافذتي. يهمس وكأنه يناجي أحدهم. ظننت أنه شبح. قسَمتُ أن لا أخبر أحدًا، لكن الآن... بدأت أرى ورقًا يُرمى تحت الأبواب.
سألها هاتوري: — أوراق؟ مثل ماذا؟
رفعت يدها المرتجفة وأحضرت ورقةً ملفوفة بعناية. فتحتها أمامهم، وإذا بها كلماتٌ مكتوبة بحبرٍ قاتم:
“هناك من يعرف. لا تفتحي الباب.”
تبادل الفريق النظرات. الآن، لم تكن يوي وحدها. هذا الرجل، أو من خلفه، كان يبذر الرعب في الحيّ كله.
همس كين وقد وصل إليهم للتو: — لقد وجدنا ورقةً أخرى قرب ساحة القمامة. مكتوب فيها: “الصمت يحفظ حياتك.”
فكرو حينها أن التهديد ربما ليس ليوي فقط، بل لأيّ شخصٍ يحاول الاقتراب من الحقيقة.
في تلك الليلة، انتشرت العيون في كل ركن، والأنفاس الخائفة تُخفي نفسها خلف الستائر، والحيّ بأكمله بات ككائنٍ خائف، يرتجف كلما هبّت الريح.
جلس هوشي قرب الباب المتهالك، يراقب النافذة المكسورة، وسأل نفسه: — من هو هذا الظل؟ وما الذي يربطه بيوي؟ ولماذا؟
لكن الجواب بقي معلقًا، كالعتمة، وكالريح التي تمرُّ، تحمل الهمس، وتترك الصمت.
.
مراقبةُ النافذةِ المتهالكة
اقترب مارك بخطى حذرة من المبنى الصغير الذي تنبعث منه رائحة رطوبةٍ ممزوجةٍ بالحديد القديم، كأن المكان ينهض من نومٍ طويل على كابوسٍ متكرر. كان الوقت يقترب من منتصف الليل، والحيُّ قد غرق في سكونٍ ثقيلٍ لا يكسره سوى نباحٍ باهتٍ لكلبٍ بعيد، أو طنين الأسلاك الكهربائية العارية. تشققاتٌ تغزو جدران البناية، والدهان المقشر يُكوِّن أشكالاً تشبه وجوهًا باكية، أما النافذة المتهالكة التي تطل من الطابق الثاني، فقد تهشّم زجاجها منذ زمن، وبقيت شظاياه عالقة في الإطار المعدني المهترئ كأنيابٍ مكسورة لوحشٍ نائم.
رفع مارك كاميرته الصغيرة، وشد الحزام الذي ربطه على كتفه، ثم قال بصوتٍ منخفضٍ وكأنه لا يريد أن يوقظ الأرواح المختبئة في المكان: — سأثبتُ هذه الكاميرا أسفل الحافة السفلى للنوافذ. يجب أن نرصد كل حركة، مهما كانت خفيفة. إن عاد، سنعرف.
فتح الحقيبة التي يحملها، وأخرج منها الكاميرا الليلية المتناهية الصغر، ومجموعة تثبيت لاصقة تمويهية. جلس على ركبته أمام الحائط المتهالك، وأخذ يثبت الجهاز بدقة متناهية، بينما كانت عيناه لا تتوقفان عن تفحص الزوايا، كأنها تبحث عن همسةٍ معلقة في الهواء أو ظلٍّ يتحرك بخفاء.
في تلك الأثناء، صعد هاتوري إلى الدرج المعدني الذي قاد للطابق الثاني، خطواته تحدث صريرًا معدنيًا مخنوقًا كلما ضغطت قدمه على إحدى الدرجات المهترئة، وملامحه ظلت جامدة كصخرةٍ في وجه العاصفة. همس وهو يتجاوز شقًا في الحائط: — سأثبتُ جهاز تسجيل الصوت خلف إحدى الطوبات التي تغطي النافذة الداخلية. إن همس هذا الرجل مرة أخرى... سنلتقطه.
فتح حقيبته بعناية، وأخرج منها قطعة نحاسية صغيرة متصلة بسلكٍ نحيفٍ وقرص ذاكرة. مرر أصابعه بخفة على الجدار حتى وجد تجويفًا مناسبًا، وأدخل الجهاز برفق ثم ثبّته بشريط لاصق شفاف. توقف للحظة، واستمع إلى الصمت، لكنه لم يكن صمتًا مطمئنًا، بل كصمت القبور، يعجّ بالأصوات غير المنطوقة.
— هذا المكان يحمل همساتٍ قديمة، همسات خائفه، قالها هامسًا لنفسه.
أما جين، فكان قد بقي في الأسفل، عيناه تتحركان خلف قناع الظل. كانت الأرضية الخشبية مغطاة ببقع داكنة من الرطوبة، ورائحة القِدم تكاد تُخدر الحواس، وكأن الجدران نفسها تحفظ أنفاس الذين مرّوا قبلهم.
نظر نحو زاوية الجدار ولاحظ غطاء التهوية مفتوحًا قليلاً، كما لو أن أحدًا مرَّ من هناك وتركه غير مكتمل. قال بهدوء وهو يقترب: — غطاء التهوية مفتوح. سأتسلل من هنا، وأراقب الداخل عبر الثقب. إن كانت هناك حركة خلف الجدران، سأراها.
فتح جين غطاء التهوية ببطئ، ودخل نصف جسده داخل الفتحة، تاركًا قدمه بالخارج للارتكاز. من الداخل، رأى خطًا ضيقًا من الضوء يتسلل من أسفل باب إحدى الغرف، والغبار يطفو في الهواء كالضباب. كان بإمكانه أن يسمع شيئًا، لا صوتًا محددًا، بل نبضًا باهتًا، كأن الحوائط تنبض بالحياة.
في تلك اللحظة، بدا له المكان كأنّه مصيدة زمن، مجمدة في لقطة لا تنتهي، مشحونة بالقلق والترقّب. تمتم: — هناك من يمر من هنا... مؤخرًا. هذا المكان لم يكن خاليًا الليلة الماضية.
بينما استقر الجميع في مواقعهم، عمّ الصمت من جديد. لكن هذا الصمت لم يكن هادئًا؛ كان محمّلًا بالترقّب، بالكهرباء الخفية التي تسبق العاصفة. الهواء حولهم كان كثيفًا، كأن الأكسجين ذاته تراجع إلى الظلال. كل شهيقٍ كان يبدو كتحدٍّ للمجهول، وكل ومضة ضوءٍ على الشاشات تحرّك قلبًا في صدورهم.
تبادلوا النظرات من مواقعهم؛ لا كلمات، فقط إيماءات وإشارات. ثم تنفّس مارك بعمق، وضغط زر التفعيل في جهازه.
همس: — الآن... ننتظر.
مرت دقائق، ثم ساعات. كانت الأنفاس تُدفن في صدورهم، وأعينهم تتناوب بين الشاشات و البقع المظلمة. ظلت أعين الليل مفتوحة، والحيُّ نفسه كأنّه يتنفس معهم، منتظرًا لحظة الانفجار، لحظة الحقيقة.
عند إحدى الزوايا، التقطت الكاميرا حركة سريعة—مجرد ظل عابر. تجمد الجميع أمام الشاشات، وجحظت عينا مارك: — لحظة، أعيدوا التسجيل. هذا لم يكن مجرد غصن.
أعاد يوجي تشغيل اللقطة. كانت الحركة ضبابية، لكنها لم تكن طبيعية؛ لم يكن طيف شجرة أو انعكاس ضوء، بل كتلة بشرية انحنت بخفة أسفل النافذة، ثم اختفت.
قال هاتوري: — هذا يعني أن أحدهم يعرف أننا نراقب.
رد جين، وهو لا يزال خلف غطاء التهوية: — أو أنه اعتاد التخفي. هذه ليست أول مرة له.
لكن بعد تلك اللحظة، لم يظهر شيء. فقط الريح... تعوي بلحنٍ مخيفٍ عند الزوايا، تصفع النوافذ المهترئة، وتذكّرهم أن لعبة الظلال لم تنتهِ بعد. بل بدأت للتو.
اقتربت ساعةُ منتصف الليلِ، والنجومُ تلثمُ السطوحَ بأشعةٍ باهتةٍ، لا تكاد تضيء إلا لتكشف ما لا يجب رؤيته. خيوطُ القمرِ انسابتْ مثل شفراتٍ من نورٍ فضي، تقطّع الغيوم وتنعكس على الأرصفةِ الصدئةِ المبتلّةِ بندى الليل. الهواءُ كان ساكنًا، يحملُ معه رائحةَ الطحالبِ الرطبةِ والتربةِ المشقوقة، وكأن الأرض نفسها تتنفّس ببطءٍ وتترقّب.
في صمتٍ مشوبٍ بالتوتر، كان مارك وجين وهاتوري يراقبون الشقة القديمة من مواقعهم المختلفة. الممرّ المؤدي إلى مدخل المبنى بدا مثل شريانٍ ميت، ينبض بالخوف الخفيّ. كلُّ شيءٍ كان ساكنًا أكثر من اللازم. حتى صرير اللوحات المعدنية المعلقة في الزاوية كان له صوت يقطع حجاب السكون، وكأن الصمت ذاته بات يخشى الإفصاح.
مرّت دقيقة، دقيقتان، والأنفاس تنحبس في الحناجر. ثم فجأةً، كأن الليل شهق، اخترق الصمت صوتٌ خفيف، أقرب إلى صفعةِ ورقةٍ على بلاطٍ بارد. اهتزّ قلبُ اللحظة، وتبادل الفريقُ النظرات.
— انظروا هناك، قال هاتوري، وهو يضغط بإصبعه نحو زاوية الدرج، صوته بالكاد يُسمع، لكنه يحمل رهبةً لم يعرفوها فيه من قبل.
ركض جين عبر الممرِّ مثل شبحٍ يطارد همسًا، وأخرج هاتفَه بسرعةٍ، أضاء المكان بهدوءٍ محسوبٍ، فبدت أمامه ورقةٌ بيضاء، طُبعت عليها كلماتٌ سوداء قاتمة، ذات نمطٍ صار مألوفًا لهم، لكنه لا يزال يثير الرعب:
"ابتعدوا عنها! ستندمون!"
كانت الورقةُ مطويةً بعنايةٍ، حوافّها مستقيمة كأنها خرجت تواً من آلةٍ منظمة، لكن الحبر بدا كأنه نُثر على السطور لا كُتب. كان كما لو أن الكلمات نفسها نُحتت من رماد الخوف. ذُهل مارك حين قرأ الكلمات، وشعر بأن الحروف نفسها تنبض بالغضب، كأن الورقة تهمس له تهديدًا شخصيًا.
— هل كُتبت مرتين حتى تصل إلينا؟ أم أن هناك نسخًا تنتظر فقط لحظة السقوط؟ تساءل جين وهو يتفحّص الزوايا بعين الصقر.
أعاد مارك الورقة إلى كيسٍ محكم الإغلاق، وقال بجمود: — لا آثار واضحة للقدمين. لا أحد دخل أو خرج. هذا يعني أنه ما زال هنا. يراقب. ربما كان خلف تلك النافذة...
رفعوا أعينهم نحو الطوابق العليا، نحو ظلالٍ تنكسر على الزجاج. لم يكن هناك أحد ظاهر، لكنهم شعروا بثقل النظرات عليهم، كأن المبنى نفسه ينظر إليهم. ظلال ستائر مائلة ونقاط ضوء خافتة بدت وكأنها عيون تترصّد من بعيد.
— هذا ليس شخصًا عاديًا، تمتم هاتوري، نظرته كانت لا تزال معلقة على الظلام.
وصل صوتٌ من سماعة الأذن الصغيرة التي يرتديها الفريق: — أحضِروا الورقة فورًا إلى غرفة التحليل. قالها دوني بصوتٍ منخفضٍ لكن حاسم.
دخل هوشي اللحظة، كان وجهه شاحبًا، وملامحه محاطة بهالة من الشرود والغضب. لم يكن بحاجة لقراءة الرسالة ليعرف معناها؛ لقد حفرت شبيهاتها أخاديد في قلبه بالفعل.
تمتم بصوتٍ بالكاد سمعه جين: — نبضي لم يعد طبيعيًا. وكأنها ليست مجرد كلمات، بل إنذارٌ لنهاية شيءٍ ما... بداية الجحيم، ربما.
أجاب مارك دون أن ينظر إليه: — لا توجد نهاية بعد. كل ما في الأمر أننا الآن رسمياً دخلنا أرض العدو. وعلينا أن نرد.
اقترب هاتوري من مارك وسحب الهاتف ليرى الوقت: — الثانية عشرة ودقيقتين. لقد وقّتها ليكون التهديد متزامنًا مع أعلى لحظات السكون.
قال جين: — أسلوب مسرحي، لكنه فعال. شخصٌ يعرف كيف يثير الخوف في قلوب الناس.
رد هوشي بنبرةٍ حادة: — هذا الشخص لن يخيفنا. بل كشف نفسه أكثر مما ظن.
أخرج دوني صوته من جديد عبر الاتصال: — اجمعوا الورقة. أريدها على طاولة كين خلال عشر دقائق. هناك رموز دقيقة في طريقة كتابة الحروف. نحتاج لتحليل مسارات الحبر.
أومأ مارك ثم وضع الورقة داخل حافظةٍ إلكترونيةٍ مضادةٍ للتزوير. قال: — لن ننتظر السقوط الثالث. الكمين يبدأ غدًا.
رفع هوشي عينيه إلى السماء، التي أصبحت أكثر قتامة، كما لو أن الليل نفسه رفض أن يمنحهم بصيصًا من الوضوح. ثم تمتم بكلماتٍ لم يسمعها أحد: — سأراكِ يا يوي. وسأبتر هذا الخيط الذي يلاحقك، حتى لو احترق قلبي بيده.
.
العودةُ إلى مقرِّ التحقيق
عندما عادت أقدامهم تستقرّ في بهوّ المبنى السرّيِّ، بدا المكان وكأنه ينبضُ بنبضات القلب الهادرة خلف الجدران الرطبة. كان الدرج الضيق يقودهم إلى طابقٍ سفليٍّ مُغطّى بطبقةٍ عميقةٍ من الصمت. عند فتح باب غرفة العرض التقنية، استقبلتهم عتمةٌ ثقيلةٌ مخلوطةٌ بحرارة آلاتٍ كُسرتْ همساتها منذ زمنٍ بعيد. أزرارٌ لامعةٌ على لوحاتٍ سوداءَ تحيطها شاشاتٌ عملاقةٌ تُضيءُ بلمحاتٍ خافتةٍ باللونين الأزرق والخَضر، وكأن تلك الأنوارَ تهمُسُ بأسرارٍ لا يجرؤ أحدٌ على سماعها إلا بقلوبٍ مفتوحةٍ على رعبِ الحقيقة.
كانت ريحُ الممرِّ العميق تدهمهم ببقايا النسيم الخارجيِّ، فتقتربُ رائحةُ الرطوبةِ والعفنِ من أنوفهم، ويختلطُ صدأُ المعدنِ برائحةِ أسلاكٍ كهربائيةٍ مشتعلةٍ بالتيار. انبثق سكونٌ أشبهُ بانتظارِ الفأس فوق الرقبة: ليس فقط لقرار شخصٍ ما في هذه اللحظة، بل لأنّ ما يُفتحُ من هذه الأوراقِ قد يمسحُ مسافةً سوداءَ لا يلوح من سطوعها إلا بريقٌ ضئيلٌ من الأمل.
ارتفع صوتُ خطواتِ دوني البطيئةِ وهو يدخلُ إلى قلبِ الغرفة، ككسوةٍ صامتةٍ لطامتِ البردِ في وريدِ الأدواتِ المحيطةِ به. كان ثوبُه الداكنُ يمثلُهُ وكأنه ظلٌّ شاحبٌ حازمٌ لا يكادُ يبرحُ المكان. تجمّع حوله أفرادُ الفريقِ الآخرون: كين، الجالس بإيماءةٍ غيرِ متّزنةٍ أمامَ شاشةٍ تعرضُ خرائطَ تشفيرٍ معقّدة؛ يوريكو، المقفلةُ عينيها لبعضِ الثواني، تلتقطُ أزيزَ البياناتِ بأذنيها الحادّتين؛ وأمامهم جميعًا وقف هوشي، صامتًا كصخرةٍ ترصّدَتْها أمواجُ الشك والقلق.
أشار دوني بيده إلى المائدة الطويلة، حيثُ رقدتا ورقتا التهديدِ— الأولى ممزقةُ الأركانِ، كقولبةٍ من رُكام اللعنات:
“أيتها الشقية اللعينة، عليكِ بالعودة… انتهى وقت اللعب… حذرتك المرات السابقة. هذا تحذيري الأخير!”
والثانيةُ بقوامٍ أكثرَ دقةٍ وثباتٍ، كطعنٍ حقيقيٍ في الحنايا:
“ابتعدوا عنها! ستندمون!”
وضع دوني الورقتين أمام الشاشة الكبيرة، وكأنه يقدّمهما إلى محكمةٍ صامتةٍ لأجل التحقيق في ذنبٍ غامض. رفَعَ حاجبَه ببطءٍ، ثم تمتمَ بواقعيةٍ مفخّخةٍ بالغموض: — هذه الوثائقُ الثلاثةُ، بعد قراءتهنّ بنظرةٍ سريعةٍ، تدلُّ بلا ريبٍ على يدٍ واحدةٍ تحيكُ خيوطها ليل نهار. هناك من يريدُ أن يجعل يوي أسيرةً لهذا الاسمِ المزيفِ إلى الأبد.
التفت الجميعُ تباعًا صوب دوني، ثم انتقلت النظراتُ ببطءٍ إلى الأوراقِ كما لو أنها سبعَ بحورٍ لا يُرادُ له أن يُغرقَهم فيها.
تنحنح كين وهو يقلبُ عينيه نحو الأوراقِ بشيءٍ من الاستغرابِ والألم: — حسبُ شيفراتنا الأوليَّةِ، هذا التهديدُ صادرٌ عن شبكةِ دعارةٍ معاديةٍ، لها جذورٌ ضاربةٌ في أحياءَ أخرى من طوكيو. لهم مصلحةٌ في محاربة البراءةِ، وكأنهم خائفونَ من أن تفضحَ نقيَّةٌ كهذهُ— نقيَّةٌ فُقدتْ في زوايا هذا العالم القذر. لكن كيفَ سيستطيعون حكمَ الظلالِ على يوي؟
ارتشف دوني همستهُ الباردة: — يبدو أنهم تسلّلوا عبر فتحاتِ خفيةٍ داخل النظامِ الإداريِّ للمدارسِ والمستشفياتِ، وأنشأوا لها اسمًا مزيفًا تمامًا. كلَّ سجلٍّ عنها قد حُذف، أو حُرّفَ، أو لم يُكتبْ أصلًا. من يراقبُ يوي يعتقدُ أنّه يُمسك بالحقيقة بين يديه، لكنه تائهاٌ في متاهةٍ لا قرار لها.
همست يوريكو بفضولٍ محمَّلٍ بوحشيَّةٍ لطيفةٍ: — أنا أبحثُ في العيونِ الصغيرةِ للناس في الحيِ القديمِ، ووجدتُ بعضَهُم قد غابتْ ملامحُ وجوههم عند ذكرِ اسم يوي. لم يكونوا يقولون الكثير، إن قالوا شيئًا؛ كأن القلقَ ألبسَهُم أقنعةَ صمتٍ أبديّ. لكن إحدىَ الممرضاتِ التي خدمت لسنواتٍ في المستشفى وراء الزاويةِ وُجدت شبيهةً بيُوي— فتاةٌ مضت إلى المستشفىِ مصابةً بجروحٍ عميقة، كانت قد شُفيتْ، لكن أوراقَ هويتها كانت مختلفةً كليًا.
دارتْ نظراتُ الجميع حول كين مجدَّدًا. التفتَ إليهم وقد بدا عليه الاضطرابُ، ثم تداركَ الأمرَ بكلمةٍ خشنةٍ: — كلُّ هذه الأدلةِ المتفرقةِ تصبُّ في جزئيةٍ واحدةٍ: حلقةٌ مفقودةٌ— ثقيلةٌ كأنّها صخرةٌ سقطت على صدرِ حفرةٍ بتروليةٍ— تُدعى «ماضي يوي». لقد تجلّتْ أمامنا ثغرةٌ في الحساباتِ لا يطاوعُنا تجاوزُها إلا بإحضارِ من يعرف الجواب.
التزمت يوريكو الصمتَ لبرهةٍ قبل أن تسألَ بنبرةٍ مرتعشةٍ: — إذاً نحن أمامَ احتمالينِ لا ثالث لهما: إمّا أُناسٌ اعتنوا بأن يُخفوا ماضيَ يوي كليًا، أو أنّ ماضيها كان قاتمًا لدرجةِ أنّ لا أحدَ يرغبُ في الانكشاف عنه.
تنفس دوني بعمقٍ، وأغمضَ عينيه مغمضةً طويلةً، ثم فتحها بحذرٍ شديدٍ كمن يحفرُ تحت الأرض بحثًا عن خريطةٍ ضائعة: — لا يمكننا أن نبدأَ تركيزَ جهودنا إلا على مساراتٍ محصورةٍ: المدرسةُ التي تلتحقت فيها يوي بعدَ افتقادِ استمراريتك لها، المستشفى الذي تمَّ فيه علاجُ الفتاةِ شبيهةِ يوي، وأيُّ وثيقةٍ قد تُلمِحُ حتى إلى اسمٍ مشوهٍ. غدًا سنبدأ المعاينةَ الميدانيةَ لكلّ هذه النقاط.
أنهى كلامه بعبارةٍ قاسيةٍ كأنه يحكمُ قضاءً على قَبيلةٍ بأكملها: — علينا أن نقيّدَ كلّ استغلالٍ قد يعبثُ بسمعتها أو يستغلّها كدرعٍ يعصمُ مافيا القذارة. وقد يشمل ذلك أشخاصًا لم يكنَ لنتوقعهم يومًا.
تبادلوا نظراتٍ لا يفهمونَ مداها، وتعلّقتْ عيونُهم بالفراغِ الذي صنعه الكواليسُ المحيطةُ بهم. ثم توقّفَ دوني عن الحركةِ، وكأنه شعر بأن الهواءَ انكسرَ إلى أشلاء. ابتعد قليلًا عنهم وراحَ يحدّق في شاشةٍ جانبيةٍ تظهرُ هيكلَ مجمعِ الشققِ القديمةِ بظلاله الكثيفة.
نظر إليه كين وسأله بصوتٍ أخفَّ: — ما قصّةُ هذه الخريطةِ الدقيقةِ؟
رفع دوني ذراعهِ الأيسرَ إلى لوحةٍ شفافةٍ معلقةٍ على الحائط، تُعرضُ مشاهدًا ضوئيةً لخرائطٍ محلّيةٍ للتضاريسِ الملتفةِ حول حيِّ يوي القديمِ. تبدّلتْ صورةُ الخريطة بلمحةِ واحدةٍ لتحلَّ مكانَها خطوطٌ حمراءَ رفيعةٌ تترنحُ عبر الطرقِ الضيقةِ والزقاقاتِ كما دماءُ عابرةٍ في جناحِ قصرٍ مهجورٍ.
همسَ دوني بلا اكتراثٍ: — هذه هي نقاطُ المراقبةِ التي عرفناها بعد تحليلِ بياناتِ مراقبةِ الأقمار الصناعيةِ فوق الحيِّ طيلةَ العقدِ الأخير. أما بقيةُ الطرقِ والأنفاقِ الزّاحفةُ تحت مباني الباطونِ، فقد رُسِمتْ هنا بدقةٍ مخيفةٍ. هذا الحيُّ أشبهُ بأفعىٍٍ تخبئُ أنيابَها في كلِّ رُكبٍةٍ من ركبِه.
اذكر في نبرةِ صوتهِ الخشنةِ، كما لو كان يعدُّ جيشًا من الأشباحِ المحاربةِ تحت الأرض: — أنتم يجب أن تعلموا أنّ من يصنعُ رسائلَ التهديدِ لا يكتفي بما رأيناه حتى الآن. ثمة أيدي أكثرُ سُحبًا في الظلالِ لم نعرّفها بعد؛ يدخلونَ عبر منافذَ عمّاليةٍ بلا أوراقٍ ولا إشاراتٍ، ويخرجونَ بضحاياهم عبر خطوطِ ماريونيتٍ حديديةٍ تحت بطونِ المباني.
تبدّلت ملامحُ يوريكو بين الخوفِ والانكماشِ، وكأنّ كلمةً واحدةً أو نظرةَ عينٍ بين يديها قد تطيحُ بها في بئرٍ لا قرارَ له: — لو كانَ الماضي يختبئُ كُلّ هذا الاختباء، فكيف نخرجُه إلى النورِ؟
دام صمتٌ ثانيتينِ قبل أن يضمّ دوني شفتيه، وكأنه يختارُ كلماتَه بحبسةِ دمٍ خفيّة: — سنبدأ غدًا بِطُرقٍ لم نستخدمها من قبل، سأجمعُ الأدلةَ الماديةَ الملموسةَ على الأقل. هناكَ مختبئونَ في طيّاتِ السجلاتِ القديمةِ، على صفحاتٍ صفراءَ وآثارِ حبرٍ ما زالت عالقةً في بعضِ دفاترِ المدرسةِ والمستشفياتِ. سنشدُّ على عظامِ الحقيقةِ الواهيةِ، ولن نتركَ فجوةً واحدةً إلا ونستعرضُها بالمراقبةِ الدقيقة.
اقتربَ هوشي من دوني، والتبسَّتْ ملامحهُ بينَ الظلالِ المتكاثفةِ في الغرفةِ التي تمتلئُ بصورةٍ أشبهُ بلغمٍ معدنيٍّ يمتلئُ بالقيودِ والتشابكات. حدَّقَ في وجهِ دوني الثابتِ، ثم همسَ بإمعانٍ مبطَّلٍ بخشيةٍ فاقتْ كلامهُ السريريَّ: — أنا مستعدٌّ، لكنّني أشعرُ أنّ اللجنةَ التي ستُستدعى لإسنادِ هذا العملِ ستكونُ أكبرَ بكثيرٍ منّا كلنا. إننا ننقبُ عن فتاةٍ، عن ماضٍ لا نعرفُهُ، عن ظلٍّ مكتومٍ يلفُّها.
أومأَ دوني للمرةِ الأخيرةِ بإشارةٍ مخيفةٍ، ثم تفرّسَ في الشاشةِ أمامه وكأنه يقرأُ أزمنةَ الهيستريا القادمةِ: — صحيحٌ. علينا أن نعي تمامًا أنّ ما بين أيدينا ليسَ مجردُ تحريّاتٍ ميدانيةٍ بسيطةٍ. هذا القصةُ تشتعلُ من آخرِ خيطٍ في سجلِّ الولادةِ المنسيِّ، وتمتدُّ إلى أحياءٍ لم يتخيّل أحدٌ وجودَها حتى الآن.
شعر الجميعُ بأنّ البابَ المؤدي إلى ماضي يوي يُفتحُ ببطءٍ داخل أعماقهم. اشتدَّ نبضُ صدرِ هوشي كطبلةِ حربٍ يعرف لا رجعةَ بعد اليوم.
وقبل أن يغادروا الغرفةَ ويتركوا الأوراقَ على الطاولةِ أمام كين، توقّفَ دوني فجأةً ورفعَ إبهامه أفقِيًّا: — احرصوا على المصادر. لا تكتفوا بالشهودِ السطحيين ولا بأقوالِ الممرّضةِ الواحدةِ. هناكَ تقاريرٌ أخرى تُخفيها الأرشيفاتُ العتيقةُ، وتتبادلُها الظلالُ تحت الطاولةِ قبل أن تصلَ إلى الشاشات.
ثمَّ تمتمَ بصوتٍ اقترب من الصدى، كما لو كان يتحدّثُ مع تماثيلٍ حجريةٍ في سردابٍ بعيدٍ: — كلّما اقتربنا من ضوءِ الحقيقةِ، ملأتنا رائحةُ الجحيمِ قليلًا… فاستعدوا أن تُوازِي رائحةُ الماضيِ رائحةَ الدماءِ.
خرجوا جميعًا بما فيهم دوني من حجرة العرض، تاركينها تئنُّ بأجهزةٍ حمراءَ ناتئةٍ كجروحٍ لم تلتئم بعد. وشعروا جميعهم بأنّهم نقلوا قُلعةَ الظلِّ من القلبِ إلى وقعِ أقدامِهم، حيثُ سيبدأ فرض الحراسةِ منذ تلك اللحظة المشؤومةِ.
عندما بدأت خيوطُ الفجرِ الأولى تتسللُ عبر نوافذِ غرفةِ العمليات، بدا كأنَّ الفضاء بأسره يتنفَّسُ ببطءٍ كأنه يستعدُّ ليومٍ تنكشفُ فيه أسرار جديدة. كانت الشاشاتُ الكبيرة لا تزالُ تُصدِر وهجًا باهتًا، ينوءُ بضوئه الأزرق جدران الغرفة الخرسانيَّة، كما لو أنَّ الليلَ لم يزلْ مصرًّا على البقاء قليلاً قبل أن ينسحبَ أمام ضوءٍ لا مفرَّ منه.
النور وسط الظلام
استند دوني إلى طاولةِ العرض، ويداه تلمسان ورقتي التهديد الممزَّقتين. ظلَّ واقفًا لوهلةٍ، كأنه يحاولُ استيعاب كلِّ ما انطوى عليه أمسِ الليلةِ الماضيةِ من رعبٍ وجُزءٍ جديدٍ من الخريطة الغامضة. حمّلت كلماتُ الرسالتين وزنًا بدا أثقلَ من أيِّ دليلٍ ملموسٍ، فقد كان في نبرةِ خطِّهما حنقٌ عميقٌ وتهديدٌ بلا رحمةٍ، لا يقفُ عند مجرَّد مبنىٍ مهجورٍ بل شَرَسٌ على من يتجرَّأُ على الاقتراب.
مرَّ دوني بنظرةٍ مُغلقَةٍ صوب الشاشات، فظهرت على إحداها خريطة الحيِّ القديم، أما الخريطة الأخرى فكانت مليئةً برموزِ التشفير التي تخطَّطُ شبكةٌ مظلمةٌ لا يزال فريقُهم يحاولُ فكَّ شيفراتِها. تأمَّل دوني الرموزَ لبرهةٍ ثم مرَّر إصبعَه سريعًا عبر الشاشة، فأخيرًا تحوَّل ضوءُها الأزرق إلى رغوةٍ من الشرر الصغير.
همسَ دوني بحذر: — بدأنا نقتربُ من القلبِ المظلم. هناك أكثرُ مما يتصوَّر الجميع.
تحرك كين من مكانه المقابل؛ كانت عينه لا تزال تلمعُ ببؤسٍ لا يُخفى. وضع يده على الذقن، وأدار شفته السفلى كما لو كان يتأمَّلُ وجدانَه: — الرموز التي وجدناها تُشير إلى مجموعةٍ لم نسمع عنها من قبل. ليسوا فقط شبكةَ دعارةٍ، بل أمر يتجاوزُ كلّ ما عرفناه. هم يزرعونُ الخوفَ في القلوب، لا يكتفون ببيعِ الجسد، بل يجعلون القُلوبَ رهائنَ.
عقدت يوريكو حاجبيها وتقدَّمت نحو شاشاتٍ صغيرةٍ عَرَضَت لقطاتٍ ضوئيةٍ التقطتها كاميراتهم المثبتة حول النافذة المتهالكة والألواح الخشنة. قالت بنبرةٍ يختلط فيها الإعجابُ بالرعب: — في الفيديو الأخير، يظهر ظلُّه يحمِلُ الورقةَ الثانية في اللحظة التي سقطتْ فيها. لكن لِلغرابةِ، واجههُ لم يظهرْ إطلاقًا. كأنَّ لهُ عيوَنَ في المكان ويرحلُ قبلَ أن تُسجَّل ملامحُه. لم نرَ سوى يده وخاتمُه الوحيد المميَّزُ — خاتمٌ من فضّةٍ مطليةٍ بسوادٍ عميقٍ، فيه نقشٌ ضبابيٌّ لا نعرف معناه بعد.
تأنَّت القاعة لوهلةٍ، ثم أمسك دوني ورقةً جديدةً، ووقفَ محتضنًا إياها كما لو كانت مفتاحًا لإقفالِ بابٍ قديمٍ: — هذا الخاتمُ، والنقشُ على الورقةِ الثالثة — كلُّ شيءٍ يوحي بأن صاحبَه يعرفُ يوي شخصيًا، أو على الأقل كان قريبًا من حياتها القديمة. علينا البحثَ في أقربِ ملفاتِ العائلة التي تلمَسُ أي علاقةٍ قد تضعُ خاتمَهُ وتلك الشيفراتِ في سياقٍ يمسُّ ماضيَها. إنها ليست قضيةً ليلٍ واحدٍ، بل معركةٌ تحت قممٍ مغطّاةٍ بأشباحٍ أُخرى.
كادت يوريكو تهمسُ باسمٍ في نفسها، لكنَّ الصوت لم يفصحْ: — علي أن أعودَ إلى هنا قبل أن يشتدَّ النهار. سأتحرَّى عن سجلاتِ المستشفى والشرطة التي قد تذكرُ اسمًا قريبًا من “سيراتوبي” أو رقما توقيته المصادف لمجيءَ الشبحِ الأول إلى تلك النافذة. قد نُفلح في كشفِ معلومةٍ واحدةٍ تُحدّدُ من يكون هذا الكيانُ الذي يريدُ للطفلةِ أن تعودَ إلى الظلام.
ومضت يوريكو تُعدُّ ما تحتاج إليه، فيما أمسَكَ كين قلمًا وجلسَ عند طاولةٍ جديدةٍ. رسم دائرةً في ورقةٍ وكتب فوقها:
“البياناتُ بين يديْنا لا تكشفُ الحقيقةَ كاملةً. إنها أشخاصٌ يُمكن أن يكونوا فوق الحقائق.”
خفَّ الهمسُ فجأةً على ألسنة الجميع حين دخلَ هوشي إلى الغرفة وهو يمسحُ جبينه المتصبِّبَ بالعرق. نظر إلى الورقةِ الثالثة أمسك الورقة بيدٍ مرتعشةٍ، ثم همسَ بخشوعٍ:
— سمعتُ صوتًا داخليًا قبل لحظاتٍ، ينبعثُ من زوايا ذهني: ماضي يوي يختزن رعبًا لا يُمكن تصوُّره. أخشى أن اكتشافنا للحقيقة سيكشف عمقًا لا نُطيقُ حملَ ثقلِه.
جلسَ دوني بهدوءٍ قلّما تركه يغادره؛ اتخذ موقفه أمام الطاولة الخشبية الواسعة التي يحيط بها فريق التحقيق، وأشار بنظره نحو كين، كأنما يرسم بخياله حدود معركةٍ لم تبدأ بعد. الهواء في الغرفة كان يثقل العظام، وثِقَلُهُ يوحي بأنَّ ما سيأتي لا يقتصر على مجرد تبادل معلوماتٍ عابرةٍ، بل محاولةٌ لاختراق جدارٍ من الأسرار.
رفع دوني يده الأخيرة نحو كين، ثم قال بصوتٍ قارعٍ مهيبٍ:
— إذا كان الأمرُ على هذا النحو، فلا بدَّ أن نقترب من الحقيقةِ بحذرٍ واعٍ. لا مكانَ للعواطف هنا؛ هذه الغرفةُ لا تلتفت إلا للحقائق الصارمة. فكروا بها كغرفةٍ مركزيةٍ داخل كهفٍ مظلمٍ، يكفي خَبْطٌ بسيطٌ ليسترد الضوءُ توهُّجه، ويكشف ما احتوته الصدوعُ لعقودٍ خفيَّة.
ارتفعت أنفاس الحاضرين وهم يستمعون إلى وصف دوني للحال: لا عواطفَ تُراهن على الخلاص، ولا وعودٌ زائفةٌ بإنقاذٍ سريعٍ. ثم أضاف، وكلماته تتردَّد بين ضوء الشاشة الباهت ولون الظلال القرمزية المنعكسة من الأضواء الجانبية:
— مهمَّتنا أن نحصرَ الأحداثَ في إطارٍ منهجيٍّ أوليٍّ. نرتبُّ الأدلة فوق أوراقِنا كما يُرتَّبُ الجنودُ في ميدانِ معركةٍ مقبلٍ. ذاتنا الشخصية هنا مشكلةٌ؛ إرادتنا الواحديةُ وحدها مَن عليه أن يحملَ قِيَمَ التحقيق النهائية. الظلامُ الذي يُحيط بنا لا ينتظرُ سوى لمسةٍ خفيفةٍ كي ينهارَ، مجلٍّ الأسرارِ العميقة الخطورة.
هنا تكلّم كين ببطءٍ، ملامحه غارقةٌ في توهج الشمعة الإلكترونية الصغيرة التي ألبست يده وهجًا أصفر وادًا، كما لو كان يصرخ بمختلف طرقٍ خفيةٍ ضدّ ظلالِ الحائط:
— دعونا نبدأ بتفريغِ الشيفرات، فالرسالةُ الأولى—تلك المنثورةُ عباراتها بين حروف– تبدو وكأنها حُفرت يدويًّا عبر مهارة أسطورية. خطوطُ الحبر تخترقُ الورقة كرموزٍ لا يفقهها إلا من وُلدوا بين ليالي القرون الغابرة؛ ليس بيدٍ بشريةٍ عادية فحسب، بل تراه تجلِّيًا لسلالةٍ من المحنّكين، غُرسَت فيهم أسرارُ وجوهٍ تجهلنيها العيون.
أومأ هاتوري رأسه بتأنٍ، وابتسمت ملامحُه على وقع توهجٍ خافتٍ يشبه برق تجتاحُ سماء ليلةٍ سهمية:
— صحيحُ القول، وأما الرسالةُ الثانيةُ فهي أعتى قساوةً: دعوةٌ صريحةٌ للخسارة، ندْبُ الموت الأسود. كلماتُها لا تخفي وراءها سوى ظلالُ الحياةِ تذبل، وكأنها تذبحُ المزيدَ بحرفٍ واحدٍ، كلمةٌ بسيطةٌ: “ستندمون”. يكفيني أن أشهد كيفَ تخرجُ تلك المخاوفُ من قلمٍ هادئ، كمن يدعو لنهايةٍ لا تترك أثرَ رحمةٍ.
خيمَ الصمتُ على الغرفةِ، وأحسَّ الجميع بكمٍّ عظيمٍ من الثقل يضغطُ على ضلوعِهم. أسندوا الشرائحَ المسجّلة على الطاولة زُرعت بها أضواءٌ حمراء، تنافسَ لونُها القانيُُّ ذاكرة الرعب الآتية. واحدًا واحدًا بدأوا بوضعِ تلك الشرائحِ في أجهزة التحليل الرقميِّ الصافية، فكانت الأضواء تخبو وتنبثق في تتابعٍ حادٍّ، كأنما يلتهم الليلُ بعضَ آخرٍ من انكشافِ الحقيقة.
ثم فجأةً راحَ دوني يتحرّكُ فجأةً؛ وقف وسط الطاولةِ وارتفع صوته كما يصحبه ارتعاشُ الخشبة تحت قدميه، فتجلَّى صداه في زوايا الغرفة، محركًا ظلالَ الحوائط المتصدِّعة التي بدا فيها أشباحٌ مُختبئة:
— غدٌ سوف يكشفُ لنا جانبًا جديدًا من اللغز. إذ يمكننا القولُ إننا نقف على أبوابِ مواجهةٍ مخيفة، لكن هل نعلمُ حقًّا حجمَ ما نواجهُه؟ لا نملكُ إجاباتٍ الآن، وحتى لو رفعتِ الظلالُ عن بعضها، يبقى هناك ما هو أعمق، وأقسى. ما علينا سوى أن نستعدَّ نفسيًّا وفنيًّا لتلك المواجهة؛ فاللحظاتُ القادمةُ قد تجرفنا جميعًا في دواماتٍ لا نملكُ درايةً بنهايتها. لن يكونَ هناك مجالٌ لليأس أو التخاذل.
ساد الصمتُ من جديد، لكن ثِقَالَته كان أكبرَ هذه المرة، كأنما الجدرانُ تتابعُ نبضَ الجميعِ، تترقبُ أيّ اهتزازٍ في الجوّ يؤدي إلى سقوطِ كاشفٍ من ستار الظلام. وهنا أومأ كين، وهو يلتفتُ بتأنٍ إلى الشرائحِ المصفوفة، ثم همسَ:
— نعم، نحنُ على مشارفِ هاوية لا يُرى المانعُ عنها. أُحذِّرُ الجميعَ أن يكفَّ عن توجيه التهويل إلى أنابيب العروق؛ لأن ما سيتجلّى ربما يعيدُ ترتيب المسافات بينَنا وبين عالمٍ لا نريدُ أن ندركه أصلاً.
وبدا أن جدار الصمتِ في غرفةِ العمليات قد هزَّ أديمه، فارتفع همسُ الأوراقِ وَقتما ضُمَّت حولها أيديهم جميعًا، وهم يتبادلون النظراتِ المحفوفةَ بالرهبة. ثم تقدم دوني ببطءٍ نحو الشاشةِ الضخمةِ التي تومضُ بأضواءٍ باردةٍ، ثم قال:
— سنبدأُ الليلةَ متابعةَ التفاصيلِ الدقيقةِ: حركةُ الظلال عند النافذة الخلفية، همساتُ الريحِ خلف الجدرانِ الترابيةِ، تدويرُ الكلامِ الخفيِّ بينَ الجيرانِ عند رواقِ المبنى القديم. كلُّ شيءٍ—حتى الصمتُ الرهيف—يُحتسبُ لدينا سير الصينِ، ولا نتركُ شيئًا للهَوى أو للصدفة. لكلِّ لقطةٍ تُسجَّل، هناك حقيقةٌ يختبئُ خلفها ضوءُ آخر.
في اللحظاتِ التالية، شرع كين في تفريغِ الشيفراتِ على الشاشة، وانزوت الأشعةُ المضيئةُ فوق وجوهِ فريقِ التحقيق. الأرقامُ بدت كالعناكبِ تنسج شباكًا متشابكةً، تفرّقُ بينَ ماضي يوي المجهولِ وحاضرِها المليءِ بالتهديداتِ. وفي كلِّ سطرٍ يُفكِّ شيفرُه، كانت الأضواءُ تكشفُ جروحًا قديمةً في جدارٍ من الأسرارِ.
راقبتْ يوريكو الشرائحِ وهي تمرُّ عبر الجهازِ بدقةٍ واستغرابٍ، ثم نطقتْ بهمسٍ كمن تمسحُ دمعةً من الزجاج:
— لستُ متأكدةً من مصدرِ هذه الرسائلِ، لكن هناك بقايا مشاعرَ دفنها الزمنُ عن عمدٍ. لا أعرفُ لماذا يختبئ الآخرون في الظلال، لكن ما أعلمه أن الطفلةَ الصغيرةَ—يوي—تكفّ عن الكلامِ، كما لو أنها تخافُ من كلِّ كلمةٍ قد تُطلَقُ خارج الفم. خافتُ أن أرى ما يوجد خلف ذلك الصمتِ، لكنه يدفعنا إلى الأمام بقوةٍ لا تقاوم.
هنا تدخل دوني مجددًا، وهو ينظر إلى يوريكو في استنكارٍ هاديءٍ:
— هذا الصمتُ ذاتهٌ هو ما يُرعبُنا. فحينما يخفي الأشخاصُ الكلامَ، فإنهم أحيانًا يختبئون خلف ذكرياتٍ أكثر قتامةً من كلماتٍ قد تُقال. مهمتنا أن نصلَ إلى جذورِ ذلك الصمتِ، حتى لو تطلَّبَ الأمرَ اقتلاعَ ظلالٍ ارتوتْ من دماءِ ماضٍ وُجد خلفَ الستائرِ.
ثم تلاها كلمة صامتةٍ من هوشي، وهو يتشبث بغطاءٍ خفيفٍ من القماش الكحلي الذي غطّى الرسالة الأولى على الطاولة. قال بحزمٍ، وتبدو عظامُ رقبته ناصعةً تحت ضوء المصابيح الخافتة:
— يُقال إنَّ من لا ذاكرة له مروضٌ للاحتيالِ. لا نريدُ أن نكون مخدوعينَ بأسرابِ الوعودِ الزائفةِ. أكثرُ ما أعلنته لنا الرسائلُ هو أن العدوّ لا يربطُ له صلةٌ حقيقيّةٌ بالوقتِ أو المكانِ. إنه جسدٌ حيٌّ يتنقّلُ وسط الصمتِ، يختفي خلفَ هوياتٍ مزيفةٍ، ويتركُ في الأثاثِ ملامحَ شبحه.
انبثق الإدراكُ في وجوهِ الجميعِ؛ كانوا على وشكِ اقتحامِ عالمٍ لا تهابُه الأجسادُ الضعيفةُ، عالمٍ يختبئُ في تفاصيلِ ثانيةٍ عابرةٍ، يتراقصُ في رمادِ ذاكرتِهم. لكن دوني صرخَ بحدةٍ:
— ليس لديناَ خيارٌ آخر! الاستعدادُ واجبٌ، والليلُ هو ملعبُنا. إذا أردنا إنقاذَها—يوي— فعلينا أن نكون أسرعَ من الصمتِ، وأشدَّ من الظلالِ.
تسلَّلَت ضحكةٌ هادئةٌ من كين، كأنما يشكُرُها قوى الظلامِ على الهبةِ التي منحته. قال بنبرةٍ حائرةٍ ومقتضبةٍ:
— قد يكونُ هذا الليلُ الذي يتغرَّسُ في أجسادِنا مخيفًا، لكنَّه أيضًا خاتمٌ يضعُنا على أعتابِ الحقيقة. فلننتظرِ الفجرَ، ولنضيءَ شموعَنا حتى لو حاولتِ الريحُ إطفاءَها.
أعادت يوريكو ترتيب أفكارها ووضعت يديها فوق لوحةِ المفاتيحِ، وهتفتْ بصوتٍ يملأ الغرفةَ رنينًا خافتًا:
— إن كنّا نعتقدُ بأننا نتحرَّك في فراغٍ، فهذا سوء تقديرٍ لن أسمحَه لنفسي. فنحن نسيرُ بخطى ثابتةٍ، ونسقطُ ضوءًا على نفقٍ مظلمٍ. كلُّ سرٍّ نكشفه، كلُّ كلمةٍ نقرأها، تقربنا من قلبِ الظلامِ. ومنه سنرفعُ الستارَ عن ماضي يوي كما لم يفعل أحدٌ قبلنا.
وفي اللحظةِ ذاتها، انعقدت أنفاسُ الجميع كأنغامِ صمتٍ موحشةٍ، وقد أدركوا أن الانتظارَ قد انتهى. ما تبقى لهم هو الاستعدادُ لعاصفةٍ قادمةٍ، تكشف أسرارَ ماضي الطفلةِ الذي باتَ مبهمًا ومحفوفًا بالموت. استمرت الشاشاتُ تومضُ بألوانٍ متباينةٍ، بينما انتقالهم إلى الغرفِ الخلفيةِ وملامحُهم تنبئُ بأنَّ ما سيجري لاحقًا لن يُنسى. كانت تلك اللحظاتُ الأولىُ من الفجر الجديدِ في مقرِّ التحقيق بمثابة العضةِ الأخيرةِ قبل اقتحامِ الظلامِ، حيثُ كلُّ شيءٍ—كلُّ سرٍ—يوشكُ أن يتحوَّلَ إلى ضوءٍ أو رماد.
خرج هوشي من الغرفةِ مقتربًا من النافذةِ الصغيرةِ، استند إلى الحائطِ الخرسانيِّ الباردِ، وشفاهُه ترتعشُ قليلًا: — أريدُ أن أرى وجوهَهم حين نكتشفُ الخيطَ الأخيرَ. أريدُ أن أتأكدَ أنّ يوي لن تبقى وحيدةً في هذه المعركة.
وقف كين إلى جواره، وتسلَّلت هالةُ نورٍ خافتٍ من خلفِ ستائر: — بغضِّ النظرِ عمَّا نفعلهُ، سيظلُّ الصمتُ أكبر شاهدٍ على مأساتهم. ليسَ هناكَ من بقعةٍ أسودَةٍ لم يتركوا فيها أثراً، لكنَّنا سنغيِّرُ مسار القصة. سنكسرُ هذا الصمتَ.
ومع تصاعدِ أولى أشعةِ الفجرِ عبر فتحةِ النافذة, بدت ظلالُ الفريقِ متناثرةً فوق الجدرانِ الخرسانيَّة وكأنها ضفائرُ مُتناثرةٍ من ضوءٍ وظلام. فوَقت لحظةُ الانتصارِ المرتقبِ كلَّ كلمةٍ نُطِقَت في تلك الغرفة: فقد وصلوا إلى نقطةِ اللاعودةِ، حيث كانت الحقيقةُ تتربصُ خلف كلِّ شيفرةٍ، وكلِّ حبرٍ مسكوبٍ، وكلِّ ورقةٍ سقطتْ في ليلٍ من السكون.
ومع احتفاءِ الفجرِ، أغمض هوشي عينيه لبرهةٍ، ثم فتحهما لينظرَ إلى وجوهِ زملائه: — دعونا اليوم نحتفلُ بالبقاء. لأنَّ لليلِ شقاءً لا يطاق، لكنَّنا سنراهُ يختفي أمام ضوءِ الحقيقةِ القادم.
بدأت يداه ترتعشانَ قليلًا حين عاد إلى طاولةِ الشاشاتِ؛ كانت تلك الحركةُ الوحيدةُ التي تُظهِرُ أنّ النارَ الحارقةَ لم تخبُ تحت الرماد. كينُ وحَدَّقَ في الكلماتِ على الشاشةِ الصغيرةِ:
“من يكتبُ هذه التهديداتِ يعلمُ أنَّنا لا نخشاهمْ. لكن هل نملك الجرأةَ لمعاقبتِهم حين نعرِفُهم؟”
أدار دوني وجهَهُ بحزمٍ: — الجرأةُ ليست كافيةً. يجب أن نكونْ مستعدين نفسيًّا، وجسديًّا، وتقنيًّا، ومعرفيًّا. لا مكانُ للصدفةِ في هذا الملفِّ.
صاح هاتوري من الزاويةِ: — إذن، نُعدُّ أجهزةَ المراقبةِ النهاريةِ أيضًا. لا أحدَ هنا يثقُ بأن المسألةَ تنتهي مع ضوءِ النهار. فقدِ تُدارُ الأحاجي في الظلالِ الأخرى، والليلُ نائمٌ بين شفاهِهم فقط.
ابتسم مارك بنبرةٍ هادئةٍ: — ثمَّةَ ما هو أجملُ من الصمتِ في الصباحِ الجديد. هواءٌ نظيفٌ يزيحُ رائحةَ الليلِ المختنقةِ. ينبغي أن نستشيرَ يوريكو في جمعِ ما سمعته في المستشفى، وحينَ نلبّسُ الحقائقِ رداءَ النهارِ، سندركُ الحقيقةَ بشدَّةِ السِلاح.
همهم الجميع بنعمٍ خفيفةٍ. رغم الإرهاقِ، بدا الفجرُ وكأنَّهُ يولدُ من رحمِ هذه الغرفةِ مشاعرَ الاستعدادِ والتحدي.
……………………
عندما اقتربت سيارة دوني من أحد الشوارع الجانبية في قلب شينجوكو، بدت المدينة وكأنها تحبس أنفاسها، تتنفس ببطء، مترقبة. لم يكن الشارع المؤدي إلى أملاك العائلة هذه المرة، بل شارعًا جانبيًا منسيًا، لا تلمسه أقدام الغرباء إلا نادرًا. كانت الأرصفة مبللةً بندى الفجر، والمباني المصطفّة على الجانبين تتلوّى كأنها تنحني لحدثٍ لا يُرى بعد.
أضواء المصابيح الكهربائية بدأت تفقد سيطرتها أمام الخيوط الشاحبة للنهار الصاعد، وبدأ الهواء خفيفًا رغم برده، وكأن عبق زهرةٍ لم تزهر بعد تهمس في الأجواء. في تلك اللحظة، لم يكن صوت المحرّك أو خطوات الأحذية هو ما لفت الأنظار، بل الصمت الغريب الذي سبقهم. صمتٌ فيه نوعٌ من الاحترام... أو الخوف.
توقفت السيارة أمام واجهة مطعم صغير في زقاقٍ معتم. واجهة خشبية تقليدية، يعلوها مصباحٌ وحيد يتأرجح مع نسيم الصباح، وعلى زجاج الباب، كُتبت عبارة بالكاد تُقرأ:
"نحن لا نغلق أبدًا… فقط ننتظر من يستحق الدخول."
دخل الجميع خلف دوني، وكأنهم يتّبعون ظلًا لا يُجادل. المطعم كان أضيق مما يبدو من الخارج، مكوَّنًا من طابق واحد وسقف منخفض، تفوح منه رائحة الشاي الأسود المحروق، والتوابل اليابانية القديمة. الحوائط مكسوة بألواح خشبية داكنة أكلها الزمن، تتدلى منها صورٌ باهتة لوجوهٍ قديمةٍ لم تعد تُذكر.
لم يكن المكان مجرد مطعم. هو واجهة... جزء من شبكةٍ لا تظهر في الضوء. اعتاد دوني الاجتماع هنا في ساعات الفجر الغامضة، حين يكون العالم نائمًا، وحين تُغزل الخيوط الأولى لقراراتٍ لا تُقال في العلن.
جلسوا جميعًا إلى الطاولة الخلفية، تلك المخبّأة خلف ستارة حريرية حمراء، تُغلق على الداخل كما يُغلق قبرٌ رمزيٌّ على سره. عاملٌ مسنٌّ لا يتحدث، يُدعى "هيرو"، جلب لهم الشاي دون أن يطلبوه، وضع الأكواب على الطاولة بعناية، وانسحب كما لو أنه لم يكن هناك.
كسر دوني الصمت أخيرًا، بعد أن لفّ أنامله حول كوبه الخزفي:
— في الغرفة الخلفية من هذا المكان... بدأتُ أول ملفٍّ سريٍّ عن قضية تهريبٍ قبل عشرين عامًا. ولم أظن أنني سأجلس في نفس الزاوية لمواجهة أمرٍ يتعلق بفتاةٍ تُدعى "يوي".
رفع نظره نحو الفريق، ثم قال ببطء:
— مَن يرسل هذه الرسائل يعرف متى نتنفس ومتى نغفل. الرسالة الثانية، تلك التي وُضعت عند منتصف الليل، كُتبت لتُصيبنا في هشاشتنا. وهذا الصباح... نحن أضعف من أن نكذب على أنفسنا. نحتاج أن نعيد النظر في كل خطوة.
لم يتكلم أحد. كانت أعينهم تراقب البخار المتصاعد من أكواب الشاي، كما لو أن كل دوامة بخار تحكي لهم عن الماضي، عن ماضٍ لا يخصهم... لكنه يبتلعهم أكثر مما يظنون.
همس كين، وهو ينظر إلى الجدار الخشبيّ أمامه:
— كل ما لدينا شظايا. تهديدات، رسائل بلا هوية، خيط ضعيف من شيفرات متشابكة، وفتاةٌ صامتة. ليس لدينا حتى اسمها الحقيقي.
أجابه دوني بنبرة كأنها تخرج من بين غبار السنين:
— وهذا ما يجعل الأمر أخطر. الاسم المجهول هو قفص، والرسائل المفتوحة بابٌ خلفيٌّ لجحيمٍ نجهله.
تسللت نسمةٌ باردة من تحت الباب الخشبي، ارتجفت معها شعيرات الضوء المنعكسة على سطح الطاولة. وفي الخارج، كانت شوارع طوكيو تستيقظ ببطء. أما داخل المطعم، فظل الفريق جالسًا في صمتٍ يشبه صمت المذنبين. لا أحد يعرف الخطوة القادمة... لكن الجميع بات يشعر أن الساعة التالية لن تكون مجرد استمرارٍ لليل، بل بدايةٌ لسقوط الأقنعة.
رسمت على حافة النافذةِ أشعةُ الشمسِ الأولى نمطًا من الخطوطِ الذهبيةِ، واستنتج الجميعُ في صمتٍ أنّه قد آنَ لهم الانطلاقُ. خرجوا ببطءٍ، لا صوتَ يعلو سوى رائحةِ القهوةِ التي ما برحت تفوحُ في الأجواءِ.
في رَصيفِ شينجوكو، بدا النهارُ كأنه يُغسِلُ عن المدينةِ تلوثَ الظلامِ، غيرَ أنّهم أخبروا أنفسهم بأن النور ليس إلا قناعًا لوجهٍ آخرَ ينتظرُ اكتمالَهُ في عمقِ الظلال.
……………………
على بُعد أمتارٍ قليلةٍ من القصرِ الخشبيِّ العريق، كانت شجرةُ الساكورا العتيقة تنثرُ بتلاتها كما لو أنها تبكي موسمًا رحل ولم يعد. الأوراقُ الزهرية تنسابُ بهدوءٍ ناعمٍ فوق الطريقِ الحجريّ، تتراقصُ بخفةٍ في مهبِّ الريح، لكنها لا تصلُ إلى الأرضِ كبهجةٍ... بل تسقط كرسائلٍ منسية، كلُّ واحدةٍ منها تحملُ حزنًا مكتومًا لا يُفصح عنه.
الغصنُ الأقدمُ في تلك الشجرة بدا مائلًا كما لو أنه ينحني احتراما لليلٍ لم ينتهِ بعد، رغم خيوط الفجر التي بدأت تداعب السماء. خشبُه المتشقق والمكسوّ بطبقات من الطحلب القديم لم يكن علامة حياة... بل كان شاهدًا على أعوامٍ من الأسرار المدفونة تحت ظلال هذا القصر. وكل ورقةٍ متساقطةٍ كانت أشبه بندبة منسية في دفتر مدينةٍ لا تعرف الراحة.
مرَّ هوشي بخطًى بطيئة، معطفه الطويل يتمايل مع حركته الخفيفة، وعيناه شاخصتان إلى الأعلى، حيث الغصن العتيق يهمس بلغة لا يسمعها أحد. ملامحه التي خطَّها الليلُ بقلقٍ وأرق، لم تتغيّر منذ أن غادر غرفة العمليات. كانت عيناه غائرتين، كأنهما حفرتان من صمتٍ لا قرار له، ووجهه لا يحمل النوم، بل يحمل آثار معركة فكرية خاضها مع شبح الماضي.
تنهد في سره، والتفت بعينٍ قلقة نحو السماء الرمادية:
— هل يا ترى... سيأتي يومٌ يُصبح فيه الفجرُ مأوىً... بدلًا من أن يكون لغمًا؟
صوته لم يخرج، لكنه سمعه داخله بوضوحٍ مخيف. لم يكن سؤالًا، بل كان اعترافًا: بأن كل فجرٍ يعيشه، ليس وعدًا بيومٍ جديد، بل احتمالًا لهجومٍ غير متوقع، لذكرى تُنفض فجأةً من أحد الزوايا.
كان قلبه متعبًا، لكن قدميه ظلّتا تمشيان. لم يكن يبحث عن أجوبة، بل عن لحظةِ هدوءٍ مؤقتٍ، أيَّ طمأنينةٍ تُقنع روحه أن هذا الليل، مهما طال، لا بد أن ينتهي.
حين مرّ بجانب المقهى الصغير الواقع تحت جدار مغطى بكتاباتٍ يابانية قديمة، فاحت من الباب الخشبيِّ رائحةُ القهوة السوداء الثقيلة، ممزوجةٌ ببخار الماء، وموسيقى خافتةٍ لا يُعرف إن كانت تبعث على الدفء أم على الحنين. وقف لحظةً أمام الباب دون أن يدفعه، فقط يتأمل الحياة الصغيرة التي تدور في الداخل: نادلٌ نائم على الكرسي، كوبٌ وحيدٌ ينتظر من يملأه، ومزهريةٌ مكسورة في الزاوية تحاول الاحتفاظ بزهرة صناعية.
رائحة القهوة كانت صادقة... أكثر من كل الرسائل، أكثر من كل الشكوك. لم يكن في تلك الرائحة تهديدٌ ولا فخ، فقط دعوةٌ صامتة للاستراحة.
دخل، وجلس في الزاوية البعيدة، قرب النافذة التي تُطل على شجرة الساكورا. أمسك كوب القهوة بين يديه المرتجفتين، وشعر أن حرارة الكوب تمتدُّ إلى عمق صدره، كأنها تبعث النبض في قلبٍ نامَ طويلًا.
في تلك اللحظة، قرر أن يحتفظ بشيء. لا خريطة، ولا رمز، ولا وثيقة... بل فقط بقطعة صغيرة من هذا الفجر. قطعة دافئة، مشبعةٌ بالبخار وبصوت الملعقة وهي تضرب جدار الكوب، كأنها توقظ الحواس النائمة.
رفع الكوب، وأغمض عينيه، ثم همس:
— لعلَّ يومًا... يتوقف فيه الصمت، ويُجيب عن كل سؤالٍ خبأه الظلامُ طويلًا.
استقبالُ الفجرِ الجديد ولقاءُ الكائنين الصامتين
حين انكفأ الليل تمامًا، وتعرّج الأول خيط ضوءٍ رماديّ من خلف الستائر اليابانية، استيقظ هوشي يامازاكي في جناحِه الهادئ. كانت السماء ما تزال مُلبدةً بالغيوم، لكن حسب ساعته المعلقة على الطاولة، فقد تجاوزت تمامًا الخامسة صباحًا. فتحت عيناه المنهكتان بتثاقل؛ لم يشعر بالرغبة في النوم، بل بالقلق الذي يملأ صدره منذ العثور على الرسالة المجهولة.
ثقلُ الرسالة الجديدة بدأ ينهش يقظته. لم يكن محتواها الغامض فقط ما أقلقه، بل توقيتها ومكانها: ظهرت في شقة يوي بعد ساعاتٍ قليلة من بدء التوتر المتصاعد في اليوم السابق، وكأنها محاولة تشتيت أو تحذير. لم تكن الإشارات الظاهرة مصادفة: تفاصيل الرسالة بدت مبهمة، ولم ترد فيها إشارات مباشرة إلى طريقة الدخول أو ترتيب الأشياء داخل الشقة، لكن هوشي لم يستبعد أن تكون هناك دلالات خفية تنتظر الفهم في توقيت الظهور، أو أسلوب الكتابة، أو حتى الأوراق المستخدمة.
راجع هوشي هذه الملاحظات في ذهنه بينما ارتدى قميصه الرمادي السادة فوق جسده المتعب، ثم اتجه إلى البهو السفلي حيث كان مارك يُراجع تقارير الليلة الماضية، وهاتوري يربط شريطًا إلكترونيًا حول معصمه. التقط معطفه الأسود من على منضدة الأبنوس، ألقى نظرة سريعة على لوحة المهام، ثم خرج من الباب الجانبي المؤدي إلى الممر الخلفي، حيث كانت البداية اليومية المعتادة تتقاطع اليوم مع شيء أثقل من المعتاد.
خرج هوشي من الباب الجانبي ببطءٍ، ثم انعطف ليسلك ممر الحديقة الطويل الذي يربط الجناح الرئيسي ببوابة القصر الشرقية. كانت أقدامه تلامس الحصى الناعم المبلل بندى الصباح، وصوت خفيف ينبعث من الريح بين أشجار السرو التي تصطف على جانبي الممر. منزل آل يامازاكي، العتيق والضخم، بدا في ضوء الفجر مثل لوحةٍ ثابتة، تتنفس ماضيًا لا يزال حيًّا.
مرّ إلى جانب البركة المستديرة التي تتوسط الحديقة، حيث انعكست صورته على سطح الماء المتماوج قليلاً، ثم أكمل طريقه إلى البوابة الكبيرة المصنوعة من الخشب الداكن والمعدن المطروق. فتح البوابة بهدوء، وتنفّس عميقًا أول نسمات الصباح في الخارج، قبل أن يتجه نحو ثانوية "كاتو".
—
بعد خروجه من القصر، سلك هوشي الطريق المختصر المؤدي إلى المدرسة، مارًا عبر الأزقة الخلفية التي اعتاد المرور بها في المهمات الليلية. اختار طريقًا بعيدًا عن الأنظار، لا يتقاطع مع الطلاب الآخرين، حتى وصل إلى السور الخلفي لثانوية "كاتو". هناك، انحرف إلى يمينه وسار بمحاذاة السياج الحديدي القصير حتى بلغ الزاوية التي تعوّد الوقوف عندها.
من تلك الزاوية، اعتاد مراقبة يوي من بعيد. لم يملك الشجاعة الكافية ليقترب، رغم أن المسافة بينهما لم تكن تتجاوز أمتارًا قليلة. تردده لم يكن خوفًا، بل احترامًا لصمتها، ولأنه لم يتعلم يومًا كيف يبدأ حديثًا بسيطًا مع فتاة خجولة و بريئة مثلها. كان يكتفي بمتابعة خطواتها البطيئة، حقيبتها المتأرجحة، وطريقتها الخجولة في تفادي النظرات. لم يكن يعرف كيف يُظهر اهتمامه دون أن يُربكها، ولا كيف يقول شيئًا لا يبدو ثقيلًا أو مزعجًا. لذا، اكتفى كما اعتاد، بالمراقبة من بعيد، محاولًا أن يكون موجودًا دون أن يكون مرئيًا.
.......
تراءت يوي فجأةً في نهاية الزقاق، تمشي بخطى صغيرة مترددة كعادتها، تمسك بحقيبتها المدرسية بكلتا يديها وتشدها إلى صدرها كلما اقتربت من زاوية الانعطاف نحو المدرسة. كانت تنظر إلى الأرض أكثر مما تنظر أمامها، تُجنّب نفسها الاصطدام بالعيون أو الكلمات. حين اقتربت من البوابة، توقفت قليلًا، ثم أسرعت الخطى متجاوزة إياها، واختفت داخل أسوار المدرسة.
كما في كل صباح، سارت يوي عبر الرواق الطويل المؤدي إلى الصف الأول الثانوي، متجنبة الممرات الرئيسية التي يعبرها أغلب الطلاب. توجهت إلى فصلها الواقع في الجناح الشرقي من الطابق الثاني، وجلست في مقعدها المعتاد قرب النافذة. وضعت حقيبتها على الطاولة وسحبت دفترها الصغير، بدأت تقلب صفحاته بعناية وكأنها تبحث عن شيء ما أو تهرب إلى مكانٍ هادئ بين السطور.
رغم أنها لم تره مباشرةً في ذلك الصباح، فإن شعورًا غريبًا انتابها وهي تمر من الزاوية القريبة من البوابة الخلفية—كأن أحدهم كان يراقبها بعينين لا تُريد شيئًا سوى الطمأنينة. لم تكن تملك دليلًا على ذلك، لكنها تعوّدت على وجوده الصامت، وكأن حضوره أصبح جزءًا من روتينها الصباحي. لم يكن يزعجها، بل يمنحها نوعًا من الأمان الهادئ، رغم أنها لا تعرف كيف تعبّر عنه، ولا تجرؤ على النظر مباشرةً نحو مصدره.
هناك كل يوم، ولو بصمت.
فتحت إحدى صفحات الدفتر، فأدركت أنها نسيت بين طيّاته إحدى الرسائل القديمة، لكنها لم تجرؤ على إخراجها. نظرت عبر النافذة حيث لا يمكن لأحد أن يراها، ومرّ شريط الخوف الصامت في عينيها. تنهدت، ثم همست لنفسها: "يوي، فقط يوم آخر... فقط يوم آخر..." جلست في مكانها مطأطئة الرأس، تقبض على دفترها بقوة، وجسدها النحيل يرتجف قليلاً تحت ثوبها المدرسي. مرّت لحظات قبل أن تلتقط أنفاسها وتلتفت نحو النافذة، متظاهرةً بأنها تراقب الخارج. لكنها كانت تستشعر شيئًا، إحساسًا غريبًا أن هناك من يراقبها بهدوء. شعورٌ لم يكن مخيفًا... بل مألوفًا. شعورٌ يشبه الأمان.
في الجهة الأخرى من الطابق، حيث يمر ممرٌ داخلي ضيق يفصل جناح الفصول عن المرافق الخلفية، كان هوشي قد صعد دون أن يلتقي بها. لم تكن الصدفة مقصودة، بل حذرًا منه ألا يتقاطع وجوده معها بشكل مباشر. وقف هناك للحظات، خلف أحد أعمدة الخشب السميكة، حيث يمكنه أن يلمح جزءًا من مقعدها دون أن يُرى. لم يتحرّك، فقط بقي واقفًا، يراقب.
لم تكن يوي تعلم بوجوده، لكنها أحست. خفق قلبها دون سبب واضح، وأغمضت عينيها كما لو أنها ترجوه ألا يبتعد كثيرًا. لم يحدث بينهما أي لقاء هذا الصباح، فقط صمتٌ يتكرر، يتوارى بين خطواتها الخفيفة ونبضاته الهادئة.
مع بداية الحصة، غابت يوي عن محيطها، بالكاد كانت تصغي إلى صوت المعلمة. عيناها بقيتا معلقتين على طرف السماء خلف النافذة، حيث الغيوم تتثاقل ببطء. عادت إلى دفترها، سطّرت كلمات مبعثرة لم تُكملها، ثم أعادت القلم إلى جانبه.
في المقعد الذي خلفها مباشرة، كان صوتٌ منخفض يهمس بضحكات مكتومة من طالبين يتبادلان الملاحظات، لكنها لم تلتفت. كان عقلها في مكان آخر، بين خيالٍ ينسج صورةً غامضةً لظلٍ يشبهه، وحقيقةٍ تخبرها أن لا أحد يراها كما يفعل.
مرت نصف الحصة دون أن تنبس بكلمة، حتى حين طُلب من كل طالب أن يقرأ سطرًا من النص، اعتذرت بتلعثم: "آ-آسفة... أ-أنا... لا أستطيع الآن...". المعلمة لم تُلحّ، لكنها نظرت إليها لثوانٍ، متأملة في شحوب وجهها وصوتها المرتجف.
وفي الجهة الأخرى من الممر، بقي هوشي واقفًا، حتى تأكد أن وقت المراقبة قد انتهى. لم يرغب بإزعاج سكونها، لكنه تأكد من شيءٍ واحد: أنها ما تزال تقاوم. وأنه سيظل هناك، طالما بقي في قلبه ما لا يستطيع قوله.
لكن يوي، التي لم تلمح وجهه منذ أيام، شعرت بشيء ناقص. اعتادت حضوره الصامت كل صباح، والآن وقد غاب عنها مراتٍ متتالية، بدأ الحنين إليه يتسلل إلى داخلها. لم تكن تفهم تمامًا لماذا تبحث عنه بعينيها عند كل زاوية، أو لماذا يعلَق صوتها في حلقها حين تفكر به، لكنها فقط... كانت تفتقده.
في نهاية اليوم الدراسي، تأخرت عن الخروج متظاهرة بترتيب أوراقها. وما إن خلت الرواقات، حتى خرجت بخطوات حذرة، تمشي في نفس الممر الجانبي الذي لطالما مرّ هوشي عبره.
في تلك اللحظة، لم يكن هوشي يتوقع شيئًا، كان يتفقد إحدى الكاميرات المخبأة خلف لوحة الكهرباء، مستغرقًا في تحليل زاوية رؤيتها للممر. وفجأة، سمع خطوات خفيفة تقترب.
التفت، وإذا بعينَيه تلتقيان بعينيها.
يوي وقفت على بُعد خطوات قليلة، متفاجئة، خجلة، لكنّها لم تهرب. رفعت رأسها ببطء وهمست بصوتٍ يكاد يُسمع:
— أنتا... كنتَ هنا؟
هوشي لم يعرف بمَ يجيب. بدا وكأن الزمن توقف بينهما. لكنها، ولأول مرة، تقدّمت نحوه خطوة واحدة.
تابعت بصوتٍ مرتجف:
— كُنتُ... أظن أنك غبت...
أراد أن يقول الكثير: أنه لم يغِب، أنه كان يحميها بصمت، أنه كان هناك دومًا. لكنه فقط أومأ بهدوء، ولمع شيء في عينيه يشبه الوعد.
نظرت إليه يوي طويلاً، ثم خفضت عينيها خجلًا، وقالت بصوت خافت متردد:
— آسفة... لم يكن عليّ أن أسأل ربما...
شعرت أن سؤالها السابق عن غيابه لم يكن في محله، خاصةً حين لم يجبها. لم تكن تقصد أن تضعه في موقف محرج، لكنها اشتاقت، ولم تجد طريقةً أخرى لتخبره بذلك. حين بقي صامتًا، ظنّت أنها تسرّعت. فانسحبت بخطواتٍ بطيئة، ورحلت بهدوء، تاركة خلفها أثر دفءٍ لم يكن يتوقعه.
في تلك اللحظة، عرف هوشي أن الكلمات لم تعد ضرورية دائمًا... أحيانًا، تكفي خطوة واحدة لتقول كل شيء.
لكنه، بخلاف عادته، شعر بحاجة مفاجئة لقول شيء، أي شيء. راقب خطواتها وهي تبتعد ببطء، ثم تنحنح خفيفًا دون أن يخطط لذلك:
— آ-آه... لحظة.
توقفت يوي، استدارت نحوه وقد ارتسم الخجل مجددًا في عينيها.
رفع يده إلى عنقه بحركة خرقاء، ثم قال بصوتٍ متردد لكنه صادق:
— أقصد... أقصد، إن... إن كان طريقكِ من هذا الاتجاه... هل... هل يمكنني أن أرافقكِ؟ يعني... فقط إن لم يكن الأمر مزعجًا لكِ.
حدقت فيه يوي لثوانٍ، بين الذهول والتردد. ثم، بخجلٍ واضح لكن بصوتٍ أنعم:
— أ-أ... نعم، لا بأس...
خفق قلبه كما لم يفعل منذ سنوات. تقدم بخطوة واحدة نحوها، فتبعته بصمت. لم يتكلما، لكن وقع خطواتهما كان كافيًا ليخبرهما أن شيئًا ما تغيّر.
كان هوشي يريد حمايتها، لكنّه الآن أراد فقط أن يكون بقربها... حتى لو لم يعرف بعد كيف.
خطوات خفيفة تمشي إلى جانب خطوات حذرة، وصمت مشترك يُولد لغة لا تُقال، لكنها تُفهم.
في طريق العودة، وبين انحناءات الأرصفة وصوت الريح الخفيف، مشى الاثنان ببطء. لم يكن أحدهما يعرف كيف ستكون الأيام القادمة، لكن كليهما أدرك بأن بينهما شيئًا صغيرًا بدأ ينمو. لا اسمه الحب، ولا عنوانه الوعد... بل هو فقط الحضور الصادق، الذي ينتظر أن ينضج.
ولأول مرة، شعر كل منهما أن الوحدة لم تعد موحشة كما كانت....
نهاية الفصل السابع