الفصل الثامن - النار الزرقاء

انكسارات الضوء

تسللت نسماتُ المساء عبر أروقة المدينة، تحمل معها رائحة الأسفلت الرطب وهمسات الشوارع القديمة. كانت طوكيو تتهيأ لوداع النهار، لكن قلبَي هوشي ويوي لم يعرفا معنى الراحة تلك الساعة. خطاهما كانت تتناغم فوق الأرصفة المبللة، تمضي في صمتٍ ثقيل، يحمل في طياته الكثير مما لم يُقال.

لم يكن صوت السيارات البعيد ولا ضوء الإعلانات الراقصة قادرًا على كسر الصمت بينهما. كانت يوي تسير إلى جوار هوشي، ترتدي معطفه الطويل الذي أصرّ على أن يعيرها إياه حين لمح الارتجافة الطفيفة التي سرت في كتفيها عندما تسللت نسمةٌ باردة. بدأ المعطف واسعًا عليها لدرجة أن أطرافه لامست الأرض، لكن في اتساعه ذاك، احتواها كما لو كان درعًا خفيًا، ومنحها دفئًا لم تعرفه منذ زمن بعيد.

قال هوشي أخيرًا، بصوتٍ ناعم كأنه لا يريد أن يوقظ المدينة: — هل تشعرين بالبرد؟

هزّت رأسها نافية، ثم تمتمت: — لا... ليس بعد الآن.

صمت مرة أخرى، لكن جوابه كان في نظراته التي خطفتها عينه إليها. لم يكن يريد أن يراها خائفةً بعد الآن.

مرّا بجانب حديقة صغيرة مهجورة، الأشجار فيها بلا أوراق، والمقاعد مبللة بندى المساء. توقفت يوي فجأة.

نظر إليها هوشي باستغراب: — هل كل شيء على ما يرام؟

أشارت إلى إحدى الأرجوحات المهجورة، وقالت بصوت خافت: — كنت أحب التأرجح وأنا صغيرة..."

لكنها توقفت فجأة، ابتلعت كلماتها، وشرد بصرها بعيدًا. كأن الذكرى اختنقت في حلقها، وكأن القلب تردد في السماح لها بالعبور إلى الخارج.

لم يعرف هوشي ماذا يقول. لكن دون أن يتحدث، توجه إلى الأرجوحة الأخرى، جلس عليها، وبدأ بالتأرجح ببطء. ضحكت يوي، ضحكة خفيفة لكنها حقيقية، ثم جلست على الأرجوحة المقابلة. بدأت تتأرجح هي الأخرى، ببطء، كأنها تحاول إحياء طفلةٍ دفنتها الأيام.

استمرّ الصمت بينهما لثوانٍ، فقط صوت الحديد الذي يئن تحت الوزن وصرير السلاسل القديمة هو ما كسر السكون. الشمس كانت تقترب من المغيب، ترسم خطوطًا برتقالية على الرصيف المبتل.

وقفت يوي أولًا، نفضت ثيابها بلطف، وقالت وهي تحدّق في السماء: — يجب أن نعود قبل أن يزداد الظلام.

أومأ هوشي بصمت، ونهض بدوره، ثم سار بجانبها دون أن يتقدمها أو يتأخر عنها، كأن خطواتهما خُلقت لتتواكب.

عندما وصلا إلى مبنى شقتها، توقفت يوي عند المدخل، نظرت إلى المعطف الذي لا يزال يغمر جسدها، ثم رفعت عينيها إليه: — شكرًا... على كل شيء.

رد بهدوء: — لا داعي للشكر. ارتديه الليلة أيضًا، الجو سيكون أبرد.

فتحت الباب، ثم التفتت إليه فجأة: — هل... ستبقى هنا؟

نظر هوشي إليها مطولًا قبل أن يجيب، وكأن الكلمات تتردد داخل صدره دون أن تجد مخرجًا. ثم قال بتردد: — سأبقى في الجوار لبعض الوقت.

أومأت برأسها، واستدارت لتصعد الدرج، لكن في منتصف الخطوة الأولى، توقفت.

كانت أصابعها ترتجف، وصوتها حين خرج بدأ خافتًا، متلعثمًا، يكاد يذوب بين همسات المساء: — أ..أهوشي... إن أردت... يمكنك الصعود... أعني... فقط إن أردت... لا شيء مهم... فقط فنجان شاي...

تجمّد الزمن لحظة. لم يكن هوشي يتوقع منها هذه الدعوة. أول مرة تفتح له باب عالمها الصغير.

ابتسم ابتسامة خفيفة، لم ترها، لكنه قال بهدوء: — بالطبع.

فتحت الباب أكثر، ودعته للدخول بخجل ظاهر على وجنتيها، بينما قلبها يخفق كطبولٍ في معبدٍ قديم.

دخل هوشي الشقة للمرة الأولى، خطواته كانت حذرة كمن يطأ أرضًا مقدسة، وعيناه تتفحصان التفاصيل بصمت. كانت الشقة صغيرة، بالكاد تتسع لسرير ضيق وطاولة مستديرة متهالكة تقف قرب النافذة، وخزانة ملابس نصفها فارغ. المطبخ المكشوف يحتوي على موقد غاز قديم وعدد محدود من الأواني، بعضها مكسور الحواف، موضوعة بعناية وكأن يوي تخشى أن تفقد المزيد.

على الرف الخشبي المائل، تنتظم ثلاثة فناجين مختلفة لا تنتمي إلى طقمٍ واحد، وتحتها رف صغير يحتوي على صندوق كرتوني قديم، كتبت عليه بخط يد باهت

يوي التفتت نحوه بخجل، نظرت إلى الطاولة التي لا تصلح إلا لحمل الأشياء، ثم إلى السرير الضيق الذي يشغل زاوية الغرفة، وتمتمت: — أ.. أعتذر... لا يوجد مككان آخر للجلوس، هل... هل تمانع أن تجلس على السسرير؟

رفع هوشي حاجبيه للحظة، لكنه سرعان ما هزّ رأسه مبتسمًا بلطف، ثم جلس بحذر على طرف السرير.

وفور أن لامس الفوتن، اجتاحته مشاعر متداخلة لم يتوقعها. هذا هو المكان الذي تنام فيه، المكان الذي تبكي فيه بصمت، وتحتضن نفسها فيه كل مساء. شعر كأنه اقترب من لبّ عالمها الخاص، لامس شيئًا نادرًا وخاصًا. مجرد الجلوس هناك، حيث تنام من أحب، كان كأنه يلامس الحلم بيديه.

لحظة رومانسية خاطفة عبرت ذهنه، تخيّلها تستقبله في كل مساء بكوب شاي، تخيّل الضحك الهادئ، الحديث المكسور بينهما، وربما — فقط ربما — أن يشعر بأنه ينتمي هنا، إلى جانبها.

كانت يوي تحرّك العلب المعدنية بتوتر، تفتح واحدة تلو الأخرى، تبحث بعينيها بين بقايا المعلبات وكأنها تخوض معركة مصغرة. تمتمت بصوت بالكاد يُسمع: — أعلم أنني كنت أحتفظ بكيسين أخيرين... فقط كيسين...

أخيرًا، ابتسمت براحة خفيفة عندما وجدت كيسًا صغيرًا من الشاي الأخضر، موضوع داخل مظروف ورقي ملفوف بعناية.

في تلك اللحظة، رفع هوشي هاتفه، ضغط على زر صغير في جانبه، وقال بصوت منخفض: — لقد دخل المبنى. نفّذوا المرحلة التالية بهدوء تام.

لكنه لم يتحرك بعدها، بل بقي واقفًا في صمتٍ مشحون، عيناه تتابعان يوي بانبهارٍ خافت. كانت تحرّك العلب المعدنية الصغيرة بين يديها الدقيقتين بتوترٍ واضح، وبدا له أن كل حركة منها، مهما كانت بسيطة، تنبض بصدق وحياء مؤلم.

رؤية يديها الصغيرة وهي تتحرك بتلك الرقة البريئة أيقظت شيئًا في داخله لم يعرف له اسمًا. لم تكن مجرد يدين تبحثان عن كيس شاي، بل كانت أشبه بزهرتين ترتجفان وسط عاصفة حياة قاسية. شيء ما فيها لامس قلبه، شيء يشبه الحنين لمنزل لم يسكنه قط، ويشبه الحزن على عمر لم يعشه.

رغم أن مارك وهاتوري وجين سبق أن أخبروه بتفاصيل دقيقة عن شقتها — عن ضيق المساحة، وتهالك الأثاث، وانعدام الكماليات — إلا أن ما رآه بعينه كان مختلفًا. كان الأمر أشد وقعًا من الكلمات. أن يرى السرير الضيق بعينيه، والطاولة المائلة التي بالكاد تتسع لطبق، والأواني التي تشي بالفقر أكثر مما توحي بالبساطة... كل ذلك آلمه، اخترق قلبه كإبرة صامتة. شعر بالخجل لأنه يمتلك أكثر مما يحتاج، وبالأسى لأن ملاكه الصغير يملك أقل مما يستحق.

شعر بوخزة ألم حين أدرك أن هذا هو المكان الذي عاشت فيه وحدها. حيث أكلت وحدها، وبكت وحدها، ونامت وسط هذا الصمت.

ثم رأى ما لم يكن مستعدًا له...

يوي — هذه الفتاة التي لم تسمح لأحد بالدخول حقًا — تعد له فنجانًا من الشاي. تسكب الماء بعناية، تضع الكيس الوحيد المتبقي دون تردد، وتدفع بالفنجان تجاه الطاولة.

قلبه خفق بقوة. لم يكن الأمر مجرد شاي، بل كان دعوة صامتة إلى عالمها. السماح له بعبور تلك العتبة الخفية التي لم يسبق لأحد أن دخلها.

وفي تلك اللحظة العابرة، خطرت له فكرة حمقاء — لكنها دافئة. تخيّل لو أن هذا المكان كان لهما معًا. أن يعود في كل مساء إلى هذا الضيق المليء بالحياة، أن ترافقه هذه الأيدي الصغيرة في كل تفصيلة، أن يكون هذا الطقس الصامت بينهما عادة. كأس شاي... وكفى.

تنهّد، وأخفض بصره للحظة، يخفي ارتباكه خلف ملامح جامدة. لكنه في داخله كان يعرف: قلبه لم يعد له وحده بعد الآن.

سحب أنفاسه ببطء، وأدار نظره إلى الفنجان الصغير أمامه، ثم إليها — إلى تلك التي جلست مقابله بهدوء خجول، تكتم ارتباكها بابتسامة مرتجفة.

مدّ يده، رفع الفنجان بين أصابعه، لمجرد أن يُخفي بها رعشة قلبه التي لم يفلح في كتمانها. ارتشف رشفة صغيرة، ثم قال بصوت منخفض، ناعم كخطو المطر: — شايكِ... دافئ.

ردّت بهمس خجول: — ليس جيدًا كفاية... لكنه كل ما أملك.

ابتسم، وأجاب: — بل هو أكثر مما كنت أستحق.

في عينيه، كانت تلك اللحظة كأنها مشهد من حلم لم يجرؤ يومًا على تخيله؛ أن يجلس في مكانها، يشرب من يدها، ويشعر للحظة أنه ليس رئيس عصابة، ولا وريث دماء، بل مجرد رجل... وجد سلامة في كوب شاي وفي نظرة من عينين خجولتين.

كأن لحظةً غير مرئية كانت تنسج بينهما خيطًا رفيعًا من الطمأنينة، شيءٌ بسيط لكن متين، لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يُشعر في نبض القلب.

في تلك اللحظة، رفع نظره إليها. لم يكن ينظر إلى فتاة تجلس أمامه، بل إلى لوحة مكتملة التفاصيل: شعرها الأسود المنسدل انساب بهدوء فوق كتفيها، وقد التفّ برقة حول عنقها النحيل، كأنه يحرسها. كانت خصلاته لا تزال تحمل أثرًا خفيفًا من رطوبة المساء، . بشرتها البيضاء، تشبه القمر حين ينعكس على مياه هادئة. كانت وجنتاها تومضان بحمرة خفيفة لا يعلم إن كانت خجلًا... أم صدى دفء قلبها.

ملامحها الناعسة، المرتبكة، ويديها التي تمسك الفنجان بخجل طفولي، كانت كلها تفجّر في قلبه رغبة لم يعهدها. اشتياق لا يعرف كيف وُلد، وحاجة لا يمكنه أن يسمّيها. أراد أن يقترب، أن يلمس وجنتها، أن يضمها إليه فقط ليقول: "أنت لست وحدك بعد الآن."

لكنه كبح نفسه، كما اعتاد أن يفعل. كتم كل تلك الرغبات خلف صمته الثقيل، خوفًا من أن يربكها، أو — ما هو أسوأ — أن يؤذيها.

أدار وجهه نحو الفنجان مرة أخرى، محاولًا أن يُخمد تلك النار التي اشتعلت بداخله، بينما قلبه يهمس: — كم أنا مغرم بكِ... وأخشى أن أُفزعكِ بهذا الحب.

في الخارج، كانت المدينة تزداد صمتًا، أما داخله... فكان يغرق في صخب لا يسمعه سواه. .

في لحظة صمت خفيفة، حرّكت يوي الفنجان بين يديها الصغيرتين، ثم همست بصوت متردد: — أتعرف... عندما كنت صغيرة، كنت أعتقد أن الشاي الساخن قادر على إصلاح كل شيء... حتى القلوب المكسورة.

قالت عبارتها وهي تضحك بخجل، ثم أسندت ظهرها إلى الحائط، ورفعت ركبتيها إلى صدرها، وكأنها تعود إلى وضعية كانت تألفها في ليالٍ طويلة من الوحدة. أخذت تتحدث بعشوائية مرتبكة عن المدرسة، عن إحدى المعلمات التي تخطئ في نطق اسمها، عن جارٍ يربّي قطة مزعجة، وعن حلمٍ غريب رأته الليلة الماضية لم تتذكر منه سوى الألوان.

كلماتها لم تكن مترابطة، لكنها كانت صادقة... بريئة، تخرج منها كأنها تحاول ملء الصمت لا بالكلام، بل بالوجود.

أما هوشي، فكان ينظر إليها بصمتٍ متقد، عيناه تتابعان حركة شفتيها، انحناءة عنقها، ارتجافة جفنيها حين تضحك، واهتزاز كتفيها حين تتوتر.

شعر برغبة حارقة، لم يعرفها من قبل. ليست فقط رغبة في الاقتراب، بل حاجة جامحة لاحتضانها، لإخفائها بين ذراعيه من كل ألم في هذا العالم. شيء في جلستها، في عشوائية حديثها، في خجلها الصادق، جعله يشعر كأنه يراها للمرة الأولى... وفي الوقت نفسه، كأنه يعرفها منذ الأزل.

أغمض عينيه لثانية، وكبح أنفاسه بصعوبة، حتى عضّ شفته السفلى بقوة كي لا يقول شيئًا أحمق، أو يتحرك دون وعي. قلبه يضرب بقوة، وحرارته تصعد إلى صدغه، بينما هو يتمسك بخيط رفيع من السيطرة.

كان يعلم... أن هذه الليلة لن تُنسى.

لكن الألم الخفيف الذي تسلل إلى شفته السفلى من أثر العضة أعاده إلى الواقع بسرعة. تذوّق طعم الدم، وحاول أن يخفي الأمر بتلقائية، لكن لم يغب عن عيني يوي.

فجأة، تغير تعبيرها، وزحف القلق إلى ملامحها. اقتربت منه دون تفكير، وهي تهمس بخوف وارتباك: — أ-أنت... أنت تنزف!

توقف الزمن مجددًا. لم يعرف كيف يتصرف، لكن قبل أن ينبس بكلمة، كانت أصابعها الصغيرة تمتد نحوه.

لم تفكر. فقط مدت يدها، ولمست شفته السفلى بإصبعين مرتجفين، تمسح الدم بخفة، كأنها تخشى أن تؤلمه. لمسُها كان ناعمًا، حذرًا، دافئًا على نحو أربكه.

هوشي تجمّد تمامًا. قلبه قفز في صدره، وحرارته اشتعلت دفعة واحدة. لم يتوقع منها هذه المبادرة، هذا القرب، هذه الجرأة الهادئة التي نسفت كل الحواجز بينهما.

وجنتاه احمرّتا بشكل واضح، وحرارته ارتفعت كأن الدم اشتعل تحت جلده. وبينما كانت أصابعها الصغيرة تمسح الدم عن شفتيه برقة، ضمت شفتيها الصغيرتين وبدأت تنفخ بلطف على الجرح، كأنها تحاول تهدئته كما تفعل أمٌ مع طفلٍ جُرح في لحظة لعب.

هوشي نظر إليها بدهشة لا تُوصف. كانت شفتيها ترتعشان برقة وهي تنفخ بخجل وصدق، وعيناها متعلقتان بشفتيه في قلقٍ طفولي. اقتربت منه إلى حد أن أنفاسها لامست بشرته، أنفاسها دافئة، عذبة، تحمل شيئًا لم يعرفه من قبل.

كان المشهد أشبه بتجلي... وكأن الزمن توقف ليمنحه هذه اللحظة النادرة. هذه الفتاة — التي لا تملك سوى قلبها وعفويتها — تحاول تهدئة جرح بسيط وكأنها تعالج قلبه كله.

شعر بالرغبة تتفجر بداخله، رغبة لم يعهدها، لم يستعد لها، لم يعرف كيف يواجهها. أراد أن يضمها، أن يدفن وجهه في شعرها، أن يبكي أو يضحك أو يقول لها شيئًا لا لغة له.

لكنه لم يفعل. فقط أغمض عينيه، وعضّ على شفته الأخرى، ليقابل الألم بالرغبة، ويقمع الصخب الذي كاد أن يفضح كل شيء.

كانت هذه اللحظة — القصيرة، الرقيقة، البريئة — أصدق من كل اعتراف. وجعلته يدرك شيئًا واحدًا...

أنه لن ينجو منها.

لكن كما لو أن عقله أمسك بزمام قلبه فجأة، ارتد إلى وعيه كمن يخرج من حلمٍ غامر. شعر بحرارة وجنتيه تشتدّ، وجسده يستجيب بحرارة لا تُحتمل.

تراجع خطوة خفيفة إلى الخلف وهو على السرير، كأن القرب منها صار خطرًا، كأن لمسة واحدة إضافية قد تحطم كل جدار صموده. أدار وجهه جانبًا، تنفّس ببطء، ثم أشاح بعينيه عن عينيها حتى لا تنكشف عاصفته.

تمتم داخله: "إن اقتربت أكثر... سأؤذيها، لا بنيةٍ، بل بثقل ما أحمله."

كان عليه أن يتراجع، أن يتمالك نفسه، لا لأجله، بل لأجلها. كان يعلم أنه لا يريد شيئًا منها... سوى ألا تبتعد.

أحنى رأسه قليلًا وقال بصوت خافت لكنه حازم: — سأجلب بعض الماء... فقط لأهدأ.

قالت يوي بخجل مرتبك وهي تسحب يدها بسرعة: — أعتذر... فقط... بدأ الأمر مؤلمًا.

توقف هوشي لحظة، ما زال صدى أنفاسها على بشرته، وصوتها الخائف يرن في أذنه. نظر إليها، عيناه أكثر ليونة من المعتاد، ثم ابتسم، ابتسامة صغيرة لكنها دافئة، وقال بصوتٍ عميق متردد، يخفي خلفه بحرًا من المشاعر: — مؤلم؟

هزّ رأسه نافيًا ببطء، ثم تمتم وهو يثبت نظره في عينيها: — لا... لم يكن مؤلمًا أبدًا.

لكن بعد لحظة، تنبه إلى نفسه، كأن الشعور الذي غمره بدأ يفيض عن حدوده. تنفّس بعمق، وشعر بحرارة وجهه تتصاعد أكثر، حتى كاد يسمع خفقان قلبه يتردد في أذنيه.

أشاح ببصره بسرعة، وكأن نظراتها كانت أقوى من أن يتحملها في تلك اللحظة. تحرّك قليلًا مبتعدًا عنها، محاولةً يائسة لتخفيف وطأة اقترابه، وهو يتمتم: — أحتاج أن أتنفس قليلاً...

لم يكن يهرب منها، بل من نفسه، من تلك الرغبة المتصاعدة التي خشي أن تؤذيها لو أطلق لها العنان. كان يعلم أن عليه أن يسيطر على اندفاعه، أن يظل ثابتًا، لأنها تستحق الصبر... والرفق.

يوي ظلت تنظر إليه لحظة، وقد بدا عليها الارتباك حين ابتعد عنها فجأة. لم تفهم تمامًا ما الذي حدث، لكنها شعرت بوخز قلق في صدرها، كأنها أخطأت دون أن تدري. قلبها خفق بقوة، ليس خوفًا من هوشي، بل من غموض ما جرى، من الصمت الذي تسرّب بينهما فجأة.

عيناها دارتا بحثًا عن تفسير، عن ملامح وجهه، عن أي إشارة تُطمئنها. لكنها لم تجد سوى كتفين مشدودين ونظرة مصروفة بحذر، كأنها لم تعد تعرفه.

لم تدرك أن لمستها كانت قادرة على زرع كل ذلك الارتباك في كيانه، ولم تتخيل يومًا أن تصرفًا صغيرًا — قرأته ذات مرة في رواية قديمة، عن فتاة تنفخ على جرح فارسها — قد يُربك رجلًا مثل هوشي.

في عقلها، كانت فقط تحاول أن تخفف عنه، أن تكون طيبة... كما في الكتب. لم تفهم لماذا شدّ على أنفاسه، ولماذا توردت أذناه فجأة، أو ارتبكت يداه.

نظرت إليه بحيرة طفولية، ثم انكمشت على نفسها قليلًا، وضمّت ركبتيها إلى صدرها. شعرت بشيء يشبه التقصير، لكنها لم تجرؤ على السؤال. لم تتراجع أيضًا، فقط جلست بهدوء، تنتظر أن يعود، أن يتنفس، أن يشعر بالأمان مجددًا... لتستعيد هي أيضًا دفء لحظة لم تفهمها، لكنها لم تكرهها.

أما هوشي، فقد نهض من مكانه بخطوات متوترة، وتوجه نحو الحوض الصغير القريب من الباب — ذاك الحوض الضيق الذي بالكاد يتسع لراحتَي يد، يتدلى فوقه صنبور معدني مصفرّ من كثرة الاستخدام.

فتح الماء البارد، ومدّ يديه تحته، كأن البرودة وحدها قادرة على تهدئة اشتعاله الداخلي. مسح وجهه بسرعة، ثم وضع يديه المرتجفتين على جانبي الحوض، منحنياً قليلًا، يحاول استجماع أنفاسه المشتتة.

لكن عبثًا... لأن كل ما رآه في مخيلته كان لا يزال يتوهّج أمام عينيه، كأن المشهد لم يغادره بل ازداد توهجًا: شفتيها الصغيرتين، المرتجفتين كزهرتين تحت نسمة خفيفة، وهما تنفخان على جرحه ببراءة موجعة. كانت تلك الشفتان قادرتين على إسكات ضجيج داخله لم يهدأ منذ سنوات.

أنفاسها — دافئة، متقطعة، قريبة إلى حدٍ مؤلم — لا تزال تسكن جلده، تعيد رسم أثرها فوقه وكأنها قبلة غير مقصودة. وعيناها، المتسعتان بقلق، كانتا تحملان شيئًا لا يُحتمل من النقاء، مما جعله يشعر أن كل رغبة فيه تصبح محرمة.

أما أصابعها الصغيرة، التي امتدت دون وعي، فكانت أكثر ما أشعل كيانه؛ لمستُها كانت ناعمة كالوعد، خاطفة كالحلم، وفيها صدقٌ ساذج جعل كل شيء فيه ينهار ويشتعل.

ارتجف من الداخل، وكأن النار التي تشب في صدره تريد أن تنفجر في صدرها، في عنقها، في كل موضع من جسدها النحيل. ولأول مرة في حياته، عرف ما تعنيه الشهوة المقرونة بالحب... لا رغبة جسد فقط، بل حاجة غامرة لأن يُمتلك بها ويحتويها بالكامل، ويُدفن في تفاصيلها، أن يصير لها، تمامًا.

لكنه كان يعرف أيضًا... أن هذه النار، إن انفلتت، ستحرق شيئًا مقدسًا بينهما.

حتى صوتها — المتلعثم، المذعور، الصادق — كان لا يزال يتردد في أذنه كدعوة للانهيار. كان يشعر بجنون ناعم يزحف في أعماقه، يجرده من كل ما عرفه عن الصبر. ارتجفت يداه، واحمرت أذناه، وداخله تمزّق بين شوقٍ لا يُحتمل، وخوفٍ عميق من أن يخدش هذه البراءة ولو بنظرة.

همس لنفسه، وهو يغلق الماء ويحدق في انعكاسه المبلل: "تماسك... لا يمكنك أن تنكسر الآن... لا هنا، ولا أمامها.

اشتعلت مشاعره كعاصفة لا ترحم، لكنه وسط هذا اللهيب الداخلي، جاء الواقع فجأة كصفعة باردة على خده. كأن صوته الداخلي صرخ فيه: "استيقظ!"

تذكّر ما ينتظرهم هذه الليلة — الكمين الليلي، الورقة التي عثروا عليها في الدرج، التهديد المجهول الذي لا يزال يحيط بها كخنجر مغمور في الظلال.

تذكّر أنه قائد قبل أن يكون عاشقًا. أنه درع، لا قلبًا هشًا يرتجف تحت لمسة. أنه ليس هنا ليذوب في عينيها، بل ليحميها من عدو لا يرى.

شعر بوخز في صدره — تذكير مؤلم أن رغبته فيها، مهما كانت صادقة، يجب أن تنتظر. أن أي انكسار في هذه الليلة، قد يكلفها أكثر مما يتخيل.

تمتم في داخله بصرامة: "تماسك... من أجلها، لا لنفسك."

"هذه الليلة... قد تكون أخطر ليلة في حياتها. إن فقدتُ نفسي الآن، لن أستحق أن أكون سندًا لها."

أغلق الصنبور بإحكام، مسح الماء البارد عن وجهه، واستقام واقفًا، محاولًا تثبيت أنفاسه.

ثم عاد بخطوات هادئة إلى السرير، جلس في نفس المكان السابق، وكأن شيئًا لم يحدث. لكن نظراته كانت أكثر هدوءًا، وصوته حين قال:

— آسف إن أقلقتكِ... أنا فقط أحتاج بعض الهواء أحيانًا.

كانت يوي لا تزال تحتضن نفسها، تنظر إليه بخجل متردد. ابتسم لها برفق، ثم أضاف: — كل شيء بخير. لا تقلقي. وجودكِ... مريح.

تناول فنجانه مرة أخرى، و ارتشف رشفة بطيئة، كأنه يطلب من الشاي أن يُعيد إليه شيئًا من توازنه. كانت يوي تراقبه بصمت، تحاول أن تفسر حالته، لكنه لم يمنحها وقتًا للقلق.

رفع عينيه إليها، ابتسم بلطف وبدأ يتحدث، لا ليقول شيئًا مهمًا، بل فقط ليملأ الصمت. قال بنبرة دافئة: — ذلك الحلم الذي تحدثتِ عنه... الحلم بالألوان، أعتقد أنني رأيت مثله مرة.

رفعت حاجبيها بدهشة صامتة، فتابع، وكأنه يدفع نفسه للحديث حتى لا يفكر: — كنت صغيرًا، رأيت حديقة لم أرها من قبل، لا أعلم إن كانت حقيقية أم من صنع الخيال... لكنها ما زالت تلوح في رأسي أحيانًا. كانت مليئة بزهرات زرقاء، ووسطها ظهرت فتاة... أو ربما ملاك... أو جنية. لا أتذكر ملامحها جيدًا، فقط عينيها، كانتا بلون البحر في يوم صافٍ.

كانت تبحث عن جرو أسود صغير، ضائع. لا أعرف كيف، لكني ساعدتها، أو هكذا أظن... وفي النهاية، جمعت لي حفنة من الورد الأبيض وقدّمتها لي، بتلك اليدين الصغيرتين.

كان قلبي وقتها صغيرًا، لا يفهم... ولست متأكدًا إن كانت تلك الذكرى حقيقية أم حلمًا فقط. كل شيء فيها يبدو ضبابيًا، مشوشًا، كأنه صفحة من كتابٍ قديم تلاشت حروفه.

أذكر فقط أنني شعرت بشيء غريب، دافئ... كأنني التقيت بكائن لا يشبه البشر. أردت أن أراها مجددًا بأي ثمن، لكنني لا أتذكر حتى كيف وصلت إلى تلك الحديقة... ولا كيف خرجت منها.

بحثت عنها بعدها طويلًا، في كل مكان اعتقد... واني لم أجدها مهما بحث عنها.

ضحك بمرارة ناعمة، وقال وهو ينظر إلى الفنجان: — غريب، أليس كذلك؟ أتذكّره كحلم، لكنه دائمًا ما يعود إليّ... كأنه يريد أن يخبرني بشيء لم أفهمه بعد.

يوي، التي كانت تستمع بصمت، شعرت بقشعريرة خفيفة تسري في أطرافها. لم تفهم السبب، لكنها أحسّت أن الكلمات لامست شيئًا قديمًا بداخلها. ... لا تستطيع الإمساك به، لكنه موجود هناك، في مكان ما من القلب. رفّت رموشها، وابتسمت بخفوت، لكن حزنًا غامضًا انعكس في عينيها دون أن تدري.

لكنها لم تقل شيئًا، فقط نظرت إلى هوشي نظرة طويلة، متأملة، ثم أسندت ذقنها إلى ركبتها وكأنها تحاول الإمساك بذلك الشعور الغريب الذي راودها. كان هناك شيء... شيء خافت ومألوف في كلماته، لم تستطع أن تسميه، ولم تفهم من أين أتى، لكنها شعرت به يلامس قلبها كنسمةٍ مرت من زمنٍ بعيد.

أما هوشي، فظل يحدّق في فنجانه للحظة، ثم رفع عينيه إليها مجددًا، وابتسم ابتسامة خافتة وهو يتمتم: — مجرد حلم غريب... لكن لا أعلم لماذا لا أستطيع نسيانه.

صمتهما تلك اللحظة لم يكن صمتًا عاديًا. بل كان خيطًا جديدًا يُنسج بينهما، من دون وعي، ومن دون حاجة إلى تفسير. وربما... كان ذلك أكثر ما احتاجاه.

لكن رنينًا خافتًا من هاتف هوشي قطع تلك اللحظة، كأن العالم استعجل خروجه من هذا الدفء.

أخرج الهاتف ببطء، نظر إلى الشاشة، ورمشت عيناه قليلاً كأن اسماً أو رسالة ما أعادته إلى موقعه الحقيقي.

تنهد، ثم ابتسم بأسف وقال بلطف: — عليّ المغادرة... يبدو أنني تأخرت.

لم تكن يوي تتوقع أن تنتهي اللحظة بهذه السرعة. اتسعت عيناها قليلاً، وكأنها تحاول استيعاب كلماته، ثم ارتبك وجهها، وتسللت خيبة هادئة إلى ملامحها. عضّت شفتها السفلى برفق، وخفضت عينيها نحو الفنجان الذي لم تنتهِ منه.

حاولت أن تخفي ارتباكها بابتسامة خفيفة، لكنها لم تصل إلى عينيها. أومأت بصوتٍ لا يُكاد يُسمع: — أ... حسنًا.

وقف هوشي، ليغادر ببطء، ثم توقف عند الباب، ونظر إليها طويلًا، كما لو كان يحاول أن يحفر ملامحها في ذاكرته.

قال بصوته الهادئ: — الشاي كان رائعًا... شكراً لكِ.

همست يوي، دون أن ترفع رأسها: — أعدكِ بأن أُحضّر نوعًا أفضل في المرة القادمة.

ظهرت على شفتيه ابتسامة ناعمة، لكنها لم تكن ابتسامة وداع عادية، بل كانت ابتسامة رجلٍ يحاول أن يودّع شيئًا لا يريد التخلي عنه. نظر إليها مطولًا، إلى عينيها المنخفضتين، إلى وجنتيها المتوردتين بخجلٍ صامت، إلى شفتيها التي عضّت إحداهما بارتباك.

في تلك اللحظة، تمنّى أن يقول لها أكثر، أن يبقى أكثر، لكنه اكتفى بصوته الخافت، المكسو بالحنين، كأنه يحمل وعدًا لا يزال قيد الهمس: — سأنتظر تلك المرة...

ثم استدار، وفتح الباب ببطء، وخرج بهدوء، كمن يخلع قلبه خلف عتبةٍ دافئة لا يريد مغادرتها.

لحظة إغلاق الباب خلفه، خيّم صمت ثقيل على الغرفة. كانت يوي لا تزال جالسة في مكانها، تحدّق في الفراغ، كأن شيئًا منها خرج معه للتو. شعرت بوخز خفيف في صدرها، لا يشبه الحزن تمامًا، بل يشبه الفراغ المفاجئ حين ينطفئ دفء كان يملأ المكان.

نظرت إلى فنجان الشاي الذي تركه هوشي على الطاولة، فارغًا، لكنه لا يزال دافئًا، كما لو أن وجوده لم يغب تمامًا. مدت يدها إليه، لامست الحافة بأطراف أصابعها، ثم رفعت نظرها إلى المعطف الطويل الذي علّقته بجانب الباب — معطفه، الذي ارتدته قبل ساعة، ولا يزال يحمل دفء جسده.

اقتربت منه ببطء، سحبت المعطف بأنامل خفيفة، ثم ضمّته إلى صدرها، تقبض عليه كأنه غطاء نجاة من برد داخلي لا اسم له. أغمضت عينيها، وسكتت لحظة.

لم تكن تعرف ما تشعر به تمامًا، لكنها عرفت فقط... أن شيئًا ما تغيّر منذ دخوله، وأن هذا الهدوء الآن، ليس كالذي سبق مجيئه.

.

فتحت عينيها ببطء، ثم مشت باتجاه الطاولة، جلست على الأرض، وأسندت ظهرها إلى السرير، تحتضن المعطف كأنه يحمل قلبًا ينبض بين طيّاته. شعرت بدفء لم يكن من القماش، بل من ذكرى طازجة، حيّة، من وجود شخصٍ اخترق يومها ومضى، لكنه لم يغادرها أبدًا.

في الخارج، كانت المدينة تُطفئ أنوارها، وتتهيأ لليل آخر.

وفي الداخل، كانت يوي تشعر أن ليلها بدأ للتو، لكنّه ليس وحيدًا كما كان.

رفعت رأسها إلى السقف، همست بصوت خافت، لا تدري إن كانت تقصد به أحدًا: — سأنتظر أيضًا.

ثم أغلقت عينيها مجددًا... بينما بدأ المطر يهطل بهدوء، كأن السماء ذاتها كانت تختتم الفصل الأول من هذه الحكاية.

بداية العاصفة

في الجانب الآخر من المدينة، وتحت أضواء نيون متقطعة تنعكس على الأسطح الزلقة، كان هوشي يقف وسط زقاق ضيق. يرتدي سترة سوداء خفيفة، لا تليق ببرودة الليل القارس، بعد أن منح معطفه ليوي قبل ساعات، كأنه ترك جزءًا من دفئه معها طوعًا... واكتفى بما تبقّى.

رذاذ المطر بدأ يتكثف، يبلل أطراف شعره وأكمامه، لكن وجهه ظل جامدًا، ملامحه عادت إلى ذلك القناع الحديدي الذي يعرفه رجاله — جامد، صارم، خالٍ من كل أثر للضعف الذي لامس عينيه سابقًا.

رفع هاتفه إلى أذنه مجددًا.

— هنا هوشي. أنا في الموقع.

جاءه صوت مارك من الجهة الأخرى، واضحًا وسريعًا: — الكاميرات رصدت الهدف قرب نقطة الالتقاء. يبدو أنه لم يغير خطته.

أومأ هوشي، رغم أن مارك لا يراه: — جيد. أبقِ الجميع على استعداد. لا نطلق النار إلا إذا اضطررنا.

أغلق الخط، وأخذ نفسًا عميقًا. المطر ازداد غزارة، لكن هوشي لم يتحرك. عينا هوشي تابعتا حركات الظلال في نهاية الزقاق، وقلبه ينبض بقوة. هذه الليلة لم تعد مجرد مهمة... بل اختبار.

حياة يوي، ثقته في رجاله، تاريخه كله... كل شيء على المحك.

وقف في منتصف العاصفة، بلا غطاء، كأنما يتحدى القدر بملامح رجل قرر ألّا يُنتزع منه شيء آخر دون قتال.

كان الكمين الذي رتّبه دوني واضحًا في ذهنه: تقسيم الموقع إلى ثلاث نقاط تحكم أساسية، توزيع القناصين في الطابقين المقابلين للمستودع، وتجهيز سيارة تمويه قرب الزاوية الغربية لتكون وسيلة انسحاب طارئة في حال تدهورت الأمور.

مارك وهاتوري في نقطة الرصد، جين يتولى التواصل الآمن مع شبكة الكاميرات المخفية، ودوني نفسه يشرف من الخلف على وحدة الدعم التي لا تظهر في الخريطة.

هوشي كان نقطة الجذب — الطُعم، كما أصر دوني أن يطلق عليه.

الخطة بنيت على توقع واحد: أن العدو يراقب تحركاتهم، وأن ظهور هوشي بمفرده سيُغريه بالتحرك المباشر. حينها، يُطبَق عليه من ثلاث جهات دون إراقة دماء إن أمكن.

لكن هوشي لم يكن واثقًا أن الأمور ستسير بسلاسة. شيء في صدره كان يُنذر بليلة أطول مما توقّع.

اهتز جهاز الإرسال في أذنه بإشارة سريعة، وجاءه صوت جين منخفضًا لكنه حادًّا: — الهدف تحرّك. وُجِد خارج البوابة الجنوبية. يبدو وحيدًا... لكنه ليس كذلك.

رد هوشي بسرعة، وهو يرفع بصره نحو الجهة التي أشارت إليها الكاميرات: — أبقوا أعينكم على السقف. توقعوا وجود تغطية قنص من الأعلى.

جاء صوت دوني بعدها، ثابتًا كالصخر: — لا تطلق النار إلا بأمر مباشر. إن اقترب، اجذبه أكثر إلى نقطة الالتقاء. نريد أن نرى إن كان هناك شركاء آخرون.

هوشي أومأ، ثم تحرّك ببطء في الزقاق، متقدمًا خطوات إلى الأمام، بينما كانت عيونه تمشط الجدران، الأسطح، والانعكاسات في برك المطر.

كان الصمت سميكًا، والمطر يقرع الأرض بنبض متسارع، وكأن المدينة بأكملها تحبس أنفاسها. كل ثانية تمرّ كانت تثقل على صدره، ومع ذلك، لم يتزحزح إيمانه

لكن شيئًا غريبًا جذب انتباهه فجأة — خطوات بطيئة تقترب من نهاية الزقاق.

رفع عينيه بحدة، واستقرت نظراته على رجلٍ يبدو مسنًّا، يرتدي قبعة سوداء واسعة، ومعطفًا رماديًا طويلاً مبللًا من المطر. الرجل كان يمشي بثبات عجيب، وكأن المطر لا يلمسه.

اقترب أكثر، حتى صارت ملامحه أكثر وضوحًا... وجهٌ شاحب تغطية التجاعيد، و عينان باردتان تلمعان ببريق مخيف تحت ظل القبعة. في يده اليمنى، كان يرتدي خاتمًا نحاسيًا داكنًا، محفورًا عليه رمزٌ دائري معقّد — الخاتم نفسه الذي ظهر في ظلّ الرجل الغامض الذي التُقط في تسجيلات المراقبة، والذي حيّر الجميع بهويته.

توقف الرجل على بعد خطوات من هوشي، ثم رفع رأسه ببطء، وقال بصوت خفيض، عميق كأنه يخرج من أعماق الأرض: — لقد حذّرتك... لا تقترب منها.

شعر هوشي بشيء يتجمد في صدره، لكنه ثبت مكانه، وعيناه تراقبان كل حركة.

تابع الرجل، نبرة صوته تتكثف كالرعد البعيد: — بعض القبور يا فتى... لا يجب نبشها. وإن فعلتم... فأنتم ستندمون. كلّكم.

أراد هوشي أن يتقدم، أن يجرّه إلى وضوح المواجهة، لكنه بدلاً من ذلك قال ببرودٍ حاد: — إذا كنت تحب التخفي خلف الظلال، فدعني أخمّن... أنت أحد الأشباح القديمة التي تخاف الضوء؟

ابتسم الرجل ابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيه، وقال: — ليس أنا من يجب أن يخاف، بل أنت... لأنها لن تنجو إن لم تتوقف.

تقدّم هوشي خطوة، ملامحه لم تتزحزح: — جرّبني... لكن تذكّر، إذا لمست شعرة منها، سأجعلك تتمنى لو كنت مجرد ظل.

ضحك الرجل ضحكة خافتة، مزيج من السخرية واللامبالاة، ثم قال بصوت متعجرف، ممتلئ بالثقة: — أنت لا تعلم مع من تتعامل، يا ابن عائلة يامازاكي. الشاب

رفع نظره نحوه بتحدٍّ فاضح، وأضاف بنبرة متكبرة: — لا يمكنك فعل شيء... تلك الدمية ليست لك . إنها ملك له.

الكلمات اخترقت هوشي كطعنة بطيئة. لم تكن مجرد تهديد، بل إهانة... وجرحٌ ليوي قبل أن يكون له. عينا هوشي اشتعلتا بغضبٍ كاد يتفجر، وانشدّت ملامحه كما لم يحدث منذ سنوات.

تقدم خطوة، صوته خرج منخفضًا لكنه مرعبًا: — لا تجرؤ على تسميتها دمية. تلك "الدمية"، كما تسميها، أقوى وأطهر من أن تُفهم من أمثالك.

ثم تابع، والغضب يغلي تحت جلده: — وإن كنت تظن أنني سأقف مكتوف اليدين، فأنت لا تعرفني بعد... لكنك ستتعلم.

انفجر الرجل العجوز ضاحكًا، ضحكة هستيرية صاخبة ارتدت في أرجاء الزقاق كصدىٍ قادم من عالمٍ مريض.

— هاهاهاهاها... هاهاهاهاها!

كانت ضحكته مرعبة، حادة، كأنها تنهش جدران الليل. حتى رجال هوشي عبر أجهزة الاتصال صمتوا، بعضهم همس باستغراب: "هل تسمعون هذا؟"

ثم توقف العجوز فجأة، وصوته يخرج أكثر رعبًا من الضحك ذاته: — أنت لا تعرف شيئًا... لا تفهم شيئًا! تلك الفتاة... ليست طاهرة كما تظن، ولا قوية. إنها مجرد دمية محطّمة. لم تصنع لتُفهم أو تُحب... بل لتُمتلك. وهي بالفعل... مِلكٌ له.

هوشي شعر بشيء ينفجر داخله، كأن الدم تحول إلى نيران. قبضتاه اشتدتا، وعيناه ضاقتا بغضبٍ لم يعرف مثله منذ زمن. كان كل حرف في كلمات الرجل كسمّ يُسكب على كرامتها، على وجودها.

صاح بصوت متهدج من الغضب: — اخرس!

ثم تقدم هوشي خطوة، بعينين متسعتين من الغضب، لا كمن يحكم، بل كمن ينفجر. لم يكن الغضب هادئًا فيه هذه المرة، بل عارمًا، متفجّرًا، كأن شيئًا ما فيه انكسر. قبضتاه ارتجفتا، وصدره ارتفع وانخفض بسرعة، وكأن الهواء صار حادًا.

صرخ بصوت لم يعهده من نفسه: — اخرس!

ثم اندفع خطوة أخرى، حتى صار وجهه على مقربة من وجه الرجل العجوز، وصوته غلّفه صدى مرعب: — كيف تجرؤ... كيف تجرؤ على قول هذا عنها؟ إنها ليست شيئًا! ليست دمية! ليست مِلكًا لأحد!

توقفت كل أجهزة التحكم بداخله عن العمل، وكأن اسمه، تدريبه، وتاريخه، انسلخوا عنه دفعة واحدة. هو الآن رجلٌ واحدٌ، يقف أمام من أهان من يحب.

تابع بصوت هادر: — قل لمن أرسلك... أنني لن أسمح لأحد بأن يلمسها. ولو كانت يده من نار، سأحرقه بها. وإن اقترب أحد منها... أقسم أنني سأمزّقه بيديّ.

ثم ضرب الحائط بقبضته فجأة، انفجر صوت الحجر وهو يتشقق، وارتد الصدى في الزقاق الضيق. عينا هوشي اشتعلتا بلون لا يعرفه سوى من رأى الغضب الصافي. كان في تلك اللحظة لا يشبه نفسه، ولا يشبه أي شيء سوى وحشٍ خرج من كبتٍ طويل، وقرر أن يحرق من يهدد عالمه.

لكن الرجل لم يتراجع. بل أخرج من تحت معطفه شيئًا مفاجئًا — سكينًا طويلة ذات مقبض أسود معقوف، انعكس ضوء النيون الباهت على نصلها اللامع. لوّح بها بخفة، كمن يتلاعب بأداة يعرفها جيدًا، وقال بصوت كمن فقد صوابه:

— تظن أنك قوي؟ تظن أنك تستطيع حمايتها؟ أنت مجرد طفل... تحاول أن تصدّ العاصفة بجسدك الهش.

ثم هجم فجأة على هوشي، اندفع كذئب مسعور، والسكين تتلألأ في يده، يقفز كظلٍّ يشقّ عتمة المطر.

لكن هوشي، رغم فقدانه السيطرة لحظاتٍ قبلها، استجاب كجندي ميداني تدرّب على الفوضى. انزلق بخفة نحو اليسار، قبض على معصم الرجل، ودار خلفه محاولاً تثبيته.

غير أن جسد العجوز — رغم عرجه الظاهر — كان أقوى بكثير مما توقعه. التوى المعصم بمرونة غير متوقعة، ودار العجوز بدوره، غارسًا السكين في كتف هوشي من الخلف دفعة واحدة.

شهق هوشي، تراجع خطوة والدم يتفجّر من موضع الطعنة، لكنه لم يسقط. قبضته أمسكت بذراع العجوز مرة أخرى، دفعه نحو الجدار بعنف، لكن الأخير امتص الضربة كأن جسده من حجر.

ضحك العجوز، أنفاسه كريهة، وصوته يخرج كأنه نُفخ من قبر:

— حتى جسدك لا يكفي لحمايتها. هذا الجرح؟ البداية فقط...

اهتزت أذن هوشي بصوت دوني، صارمًا في أذنه: — انسحب الآن! إصابة في الكتف؟ لا وقت للغطرسة يا هوشي! الفريق جاهز للتغطية، انسحب فورًا!

لكن هوشي لم يستجب فورًا. كان يقاتل لا خصمًا، بل نفسه. الألم في كتفه اشتد، لكن الغضب فيه اشتد أكثر. عيناه اشتعلتا من خلف خصلات البلل، وقلبه يصرخ: "لن أتركه يفلت... ليس بعد ما قاله عن يوي..."

لكن الألم في كتفه بدأ يتكلم بلغته الخاصة، يطرق أعصابه بشراسة. كان الدم ينزف بغزارة، ساخنًا، لزجًا، يختلط مع المطر البارد الذي يغمره. خط الدم انساب على ذراعه، بلون قاتم غطّى طرف سترته، ومنه بدأ يتقطر على الأرض، نقطةً بعد نقطة، كأن كل قطرة تحمل وعدًا بالثأر.

شهق من الألم، لكنه لم يتراجع. قبض على خاصرته، أنفاسه تلاحقت، والمطر زاد من اختناق الجرح. الألم أعمى عينيه للحظة، لكنه لم يُسقطه.

حاول أن يركز، أن يعيد توازنه، لكن الدم الساخن المنساب من كتفه كان يشق طريقه ببطء تحت سترته، يغمر قميصه ويثقل حركته. كانت قطراته تتناثر على الأرض في شكل غير منتظم، ترسم دائرة دامية من حوله، تختلط بالماء المتساقط وتصبغ الزقاق بلون الحياة المسفوكة.

صوت اصطكاك أسنانه لم يكن واضحًا في البداية، لكنه سرعان ما تردّد في أذنه، تذكيرًا بأن الألم حقيقي، وأن الوقت يمر.

رفع رأسه مجددًا، رغم الخدر في عضده، وثبّت عينيه على الرجل الذي ما زال واقفًا، يتنفس ببطء، كأنما يستمتع برؤيته ينزف.

لكن فجأة، ظهر مارك من خلف الزاوية كظلٍ منقض. كان طويل القامة، ضخم البنية، وكتفاه العريضتان تعكسان قوته العسكرية. بلمحة أمرٍ من دوني، اندفع إلى الأمام دون تردد، قبض على هوشي من تحت ذراعه المصابة، وجرّه إلى الخلف بقوة لم يستطع هوشي مقاومتها.

— هذا يكفي! — قالها مارك بصوتٍ جهوري، وصدره يعلو ويهبط، وهو يضغط بيده الحرة على سلاحه استعدادًا لأي حركة من العجوز.

هوشي تمسّك بالأرض بعينيه لا بقدميه، لا يريد الانسحاب، لكن النزف كان يقول غير ذلك.

— دعني... مارك، دعني فقط أُنهيه...

— ليس الآن، — قال مارك بصرامة، — ليس وأنت تنزف بهذا الشكل، ووجهك شاحب كأن الحياة تتسلل منك قطرة قطرة. دوني أمر بالانسحاب الفوري، ونحن لا نضيّع رجلاً مثلك من أجل لحظة غضب... حتى لو كانت مبرّرة.

في تلك الأثناء، كان الرجل العجوز لا يزال واقفًا، مائل الجسد، يتنفس بثقل، لكن ابتسامته المتعجرفة لم تختفِ. عندما لاحظ تقدم مارك، وظهور حركات على الأسطح، ارتفعت يد دوني من خلف الشاشة، وصوته الجاد شقّ أذان الفريق:

— الآن! إما القبض عليه... أو إسقاطه. الأولوية للاستجواب، نريد أي معلومة تقربنا من الحقيقة.

وفي لحظة خاطفة، دوّى صوت إطلاق نار — طلقة واحدة من القناص الأول اخترقت الهواء نحو الرجل العجوز.

لكنه، وكأن جسده لا يتبع قوانين البشر، مال جانبًا بسرعة خيالية، متفاديًا الرصاصة بفارق ضئيل. تبعتها رصاصتان، واحدة من السطح الجنوبي، والأخرى من الواجهة الشرقية، لكن الرجل انطلق إلى الخلف كظلٍ يلتفّ بين الضباب والمطر.

صرخ دوني: — لا تدعوه يهرب! حاصروه!

لكن العجوز، وسط فوضى الطلقات، رفع رأسه ببطء، وضحك مجددًا، ضحكة مجنونة جعلت حتى القناصين يبطئون للحظة.

قال بصوتٍ هادر، يتردد صداه بين الجدران: — لا تعتقدوا أن هذه النهاية... لقد بدأ كل شيء للتو!

وفي لحظة صادمة، أخرج من معطفه قارورة صغيرة، حطمها على الأرض، وخرج منها دخان ولكن لم يكن دخانًا فحسب... بل اشتعلت ألسنة نار بلون أزرق شاحب حول جسده فجأة، نار لا يبدو أنها تأثرت بالمطر المتساقط، بل بدت كأنها تتغذى عليه.

صرخ أحد القناصين عبر الجهاز: — نار؟! من أين جاءت تلك النيران؟!

النيران التصقت بجسده بسرعة مرعبة، كأنها تعرف طريقها إليه. لم يصدر عنه أي صوت ألم، بل رفع رأسه إلى السماء وضحك بصوتٍ مهووس: — لن تأخذوا شيئًا... لن تعرفوا شيئًا... الموت لأهون من الخيانة!

كان جسده يتلوى في مكانه، والنار تزداد اشتعالًا، تُصدر صفيرًا غريبًا، كأنها نار ليست من هذا العالم. حتى المطر، رغم غزارته، لم ينجح في إخمادها، بل زادها اشتعالًا غريبًا.

تراجع الفريق تلقائيًا، عيونهم لا تصدق ما يرونه.

مارك همس: — ما هذا الجحيم؟ هل يحرق... نفسه؟

أما هوشي، فوقف مذهولًا، الدم ينزف من كتفه، ووجهه يزداد شحوبًا، لكنه لم يستطع أن يحوّل نظره. كان يحدّق في النيران المتراقصة، في الكيان الذي يذوب أمامه ولا يصرخ.

وبعد ثوانٍ بدا أن كل شيء انتهى.

اختفت النيران تدريجيًا، لكن ما تبقّى لم يكن جثة. فقط كومة رماد رمادية، بلا ملامح، بلا شكل، بلا هوية. لا عظام، لا جلد، لا أثر يدل على من كان قبل لحظات رجلًا يتحدث ويتنفس.

حتى الخاتم النحاسي ... ذاب واختفى مع الجسد.

سادت لحظة صمت رهيبة.

دوني قال بصوت أقرب للهمس: — لقد... أباد نفسه بالكامل.

هوشي همس لنفسه، ووجهه مبلل بالدم والمطر: — لقد كان مستعدًا للموت فقط كي لا يقول شيئًا... من الذي نخوض ضده هذا الصراع؟

وفي تلك اللحظة، أدرك الجميع أن الخطر ليس مجرد رجل يحمل سكينًا أو خاتمًا منحوتًا، بل هو شيء أكبر، أعقد، شيء يتغلغل في أعماق العالم الذي يعرفونه، ويحكمه من خلف الظلال.

كان ما رأوه ليس إلا البداية... أو ربما، مجرد تذكير قاسٍ بأن الحقيقة التي يبحثون عنها... لا تريد أن تُكتشف.

رماد الليل

عادوا من موقع الحادثة بسيارة مصفحة انطلقت بهم كطلقة مذعورة من زقاق مغمور برائحة الدم والرماد، تحمل داخلها صمتًا أثقل من صوت الرصاص، صمتًا يشبه الحداد. كان هوشي شبه مستند إلى النافذة، وجهه شاحب، وشفته السفلى متشققة من شدة الضغط. قطرات المطر ترتطم بزجاج السيارة، تختلط بأنفاسه الساخنة المتقطعة.

مارك جلس إلى جواره، كتفه العريض يشكل دعمًا صلبًا لجسد هوشي الذي بدأ يفقد توازنه بفعل النزيف. بيد واحدة، ضغط على كتف هوشي المصاب بمنشفة غارقة بالدماء، اللون الأحمر قد صبغها بالكامل، يتسرب من بين خيوطها ويتقطر على أرضية السيارة مثل نذر مأساة آتية.

رائحة الحديد الصدئ والدم الطازج كانت تملأ المقصورة، ممزوجة برائحة العرق والجلد المبلل. نظرات مارك كانت ثابتة على الجرح، لكن عقله يدور حول رجلٍ أحرق نفسه ليحمي سرًا. حول نار لم تنطفئ، وحول هوشي الذي، رغم الألم، لم ينطق بكلمة واحدة.

كانت المنشفة ترتجف في يده بفعل نبض الدم المتدفق، وكل مرة كانت تُرفع لتُفحص الطعنة، كانت تكشف عن شقٍ غائرٍ كالصدع، مفتوح، يئن تحت ضغط العضل والنزيف.

الدم لم يكن مجرد سائل في تلك اللحظة، بل كان سردية مكتوبة بالأحمر... تحكي فصولًا من ليلةٍ سوداء، لم تنتهِ بعد.

حين دخلوا أراضي قصر عائلة يامازاكي، كان الليل قد التهم ملامح المدينة، والسماء تقطر مطرًا باردًا كالرصاص. السيارة المصفحة توقفت للحظة أمام البوابة الحديدية العملاقة ذات النقوش الذهبية التي تحمل شعار العائلة، قبل أن تُفتح ببطء على صوت طقطقة معدنية، كأنها تئن من ثقل الأسرار التي تحرسها.

فور عبورها، بدأت السيارة تتقدم ببطء داخل الحديقة الأمامية الشاسعة، أشبه ما تكون بغابة خاصة، تحرسها مصابيح حجرية يابانية مضاءة بخفوت، وتتوزع فيها الأشجار الممشطة بعناية والممرات الحجرية التي تنعكس عليها أضواء النيون المتسربة من الداخل. كانت أوراق الكرز تتمايل برفق، تحمل فوقها قطرات المطر التي تلتمع تحت الضوء كحبيبات زجاج.

الرائحة كانت مزيجًا من التراب الرطب وعطر الصنوبر، تخترق أنف الزائر وتعلّق في ذاكرته. أصوات عجلات السيارة فوق الممر الحجري أحدثت صدى خافتًا كأنها تطرق أبواب الذاكرة في كل متر من الطريق. وخلف الزجاج، بدت النوافذ الكبيرة للقصر كعيون تراقب العائدين... تعرف من في الداخل، وتُرهِب من في الخارج.

في صمتٍ ثقيل، تقدمت السيارة وسط العشب النظيف، تمر فوق طريق حجري عريض معدّ خصيصًا للمركبات، حتى وصلت إلى عتبة السلالم الأولى للمبنى الرئيسي.

وانفتحت أبوابها ببطءٍ ثقيل. ترجل مارك أولاً، يفتح الطريق بسرعة، ثم تبعه هوشي، جسده متكئًا على كتف رفيقه، وملامحه مشدودة بين الألم والغضب.

رجال الأمن أسرعوا لفتح الأبواب، خطواتهم متوترة، ووجوههم اتشحت بالذهول حين رأوا الدماء التي غمرت جانب معطف هوشي، تقطر من يده وتخلف خطًا رقيقًا على الأرض الخشبية.

في الممر الطويل المؤدي إلى الداخل، ارتفع صرير الأرضية تحت أقدامهم، وكل من رأى المشهد تجمد مكانه. الممرضون الذين جاؤوا للمساعدة لم يتحركوا إلا بأمر مباشر، وطاقم الخدمة انحنى دون أن ينبس أحد بكلمة.

الصمت كان مشحونًا، لا من الاحترام فقط، بل من القلق... من الرعب، كأن الدماء تحمل رسالة لم يفهمها أحد بعد.

هوشي كان يتنفس بصعوبة، ويده تضغط على موضع الجرح، فيما قطرات الدم تتساقط بثبات، ترسم خريطة خفية للمأساة التي تركها خلفه. أما مارك، فقد كان كالصخرة، يحمل صديقه كدرع، ولا يسمح له بالانهيار.

كل من شاهدهم يمرّ شعر أن شيئًا فظيعًا قد حدث... وأن العاصفة التي بدأت، لن تهدأ قريبًا.

استُدعي الطبيب العجوز بسرعة، ذاك الذي عالج يوي قبل شهور. رجل نحيل لكنه مستقيم الظهر، تجاوز السبعين بعينيه الثاقبتين، التي خلف زجاج نظارته السميكة تخفي صرامة وهدوء جراح ميداني سابق. بشرته شاحبة، وملامحه مشدودة كما لو أنها صُنعت من الحجر، وصوته دائمًا منخفض لكنه حازم، يفرض صمتًا تلقائيًا في أي غرفة يدخلها.

كان يرتدي معطفًا رماديًا طويلًا، محافظًا على أناقته القديمة التي تشي بانضباط عسكري عتيق، رغم أن نسيجه بات متآكلاً عند الحواف من فرط الاستخدام. تفوح منه رائحة مطهرات طبية ممزوجة بعبق التبغ المعتق، كأن الزمن نفسه التصق به. في جيبه الداخلي، يحتفظ دائمًا بساعة جيب عتيقة وسكين تشريح صغير كتميمة قديمة.

فتح حقيبته الجلدية التي بدت وكأنها خرجت من زمن الحرب، أدواتها مرتبة بدقة أشبه بتشكيلة سلاح، وكل واحدة منها تحمل أثر المعارك التي خاضها في صمت فوق أجساد مجروحة. كانت يداه، رغم ارتجافتهما الخفيفة، تتحركان بثقة لا تخطئ، وكأنهما لا تزالان تتذكران كل جرح عالجه وكل حياة أعاد إليها نبضها.

حين رأى الجرح، لم يرفع حاجبيه، لم يلعن المهاجم، فقط تنفس ببطء وقال كعادته بصوت خافت مليء بالثقة: "اصبر... لن يكون أسوأ مما عالجناه سابقًا، أليس كذلك؟"

جلس هوشي على الأريكة الجلدية السوداء، جسده منحني قليلاً، وجهه شاحب، والدم لا يزال يتسرب من بين أصابع مارك التي ضغطت على الجرح بقطعة قماش بيضاء تحولت في دقائق إلى قرمزية قاتمة. حين مزق الطبيب الكم المبلل بالدم، انكشف الجرح واضحًا — طعنة مائلة اخترقت الكتف بعمق، حوافها ممزقة، والدماء تغمر الجلد وتمتزج بالمطر القديم. نظر الطبيب إليه للحظة، ثم قال بصوت منخفض وحازم:

— الجرح عميق... لكنه لم يصب شريانًا رئيسيًا، ولا العصب المركزي. إنها معجزة وسط هذا الجنون، وقد حالفك الحظ هذه المرة، يا بني.

نظر حوله سريعًا إلى الوجوه المشدودة — مارك، جين، وحتى الخدم المتجمدين في أماكنهم — ثم أكمل بصوت أكثر صرامة، لكنه مطمئن:

— لن يفقد وعيه، ولن يفقد ذراعه. فقط بعض الألم، وبعض الخيوط... وسيعود كما كان.

ثم التفت إلى هوشي مباشرة، حدّق في عينيه بثبات وقال: — لكنك ستشعر بكل غرزة. الألم ضروري الآن لتتذكر أنك ما زلت على قيد الحياة... وأنك ما زلت مسؤولًا.

أخرج أدواته، عقّم الإبرة، وبدأ عمله بتركيز خبير. لم يستخدم مخدّرًا كاملاً، فقط مسكنًا موضعيًا بالكاد خفف من الألم. هوشي لم يصدر أي صوت، لكن كل عضلة في وجهه كانت تصرخ. قبض على طرف الأريكة بقوة، وارتعشت رموشه قليلاً مع أول غرزة.

ومع كل غرزة، كان يستعيد صورة النيران الزرقاء... والضحكة الأخيرة لذاك الرجل الذي أحرق نفسه كأنه ورقة لا تستحق الحفظ. يده اليسرى تمسّكت بطرف المقعد كأنها تثبّت كيانه من الانهيار.

كل عضلة في وجهه كانت تتأرجح بين الألم والغضب، وكل غرزة من يد الطبيب بدت كأنها تكتب بالدم قصة ليلة لن تُنسى. أنفاسه الثقيلة تصاعدت على وتيرة الألم، و يداه تحاولان الثبات على المقعد، بينما جسده يرتجف كلما اخترقت الإبرة جلده.

الطبيب، بثباته المعتاد، لم يرفع عينيه عن الجرح، لكن ملامحه كانت مشدودة، كأنه هو الآخر يشعر بثقل ما حدث، ليس فقط كطبيب يعالج إصابة، بل كشاهد على مأساة بدأت لتوها تفتح بابها الأول.

أما مارك، فظل واقفًا خلف الطبيب، يراقب وجه هوشي في صمتٍ مشوب بالقلق، وعيناه تتنقلان بين الدماء المتخثرة على الأرض، وبين تقاسيم وجه صديقه الذي بدا أقرب إلى شبح حيٍّ منه إلى قائدٍ عاد من معركة.

كان الجميع يعرف أن ما حدث في الزقاق... لم يكن سوى إعلان لبداية حربٍ أطول مما توقّعوا.

وما زاد من فداحة الموقف وغموضه هو تلك النار الزرقاء الغريبة التي لم يسبق لأحد أن رآها من قبل. لم تكن لهبًا عاديًّا، بل شيئًا خرق قوانين الطبيعة، اشتعل حول جسد الرجل العجوز دون وقود، دون شرارة، وبقي مشتعلاً رغم المطر الذي انهمر فوقه كالسيل.

الكل وقف مشدوهًا، مذهولًا، عاجزًا عن الاقتراب، وكأن شيئًا خفيًا كان يمنعهم من التدخل. كانوا يشاهدون الرجل يحترق وهو يبتسم، يذوب جسده ببطء بينما تنفث النيران صريرًا حادًا غير مألوف. لم يصرخ، لم يتلوّ، فقط احترق... بصمتٍ مروع.

وحين انطفأت النار، لم يتبقَ شيء. لا عظام، لا بقايا، فقط رماد ناعم تذروه الريح، حتى الخاتم الذي في يده... اختفى.

نظرات الفريق اتسعت بالصمت، ذلك النوع من الصمت الذي لا يُولَد من العجز فقط، بل من الخوف. لأن ما شاهدوه لم يكن قابلًا للفهم، ولا للتحليل، ولا للمقارنة.

منذ تلك اللحظة، باتوا يعرفون أن ما يواجهونه... ليس بشرًا فقط.

كانوا أمام شيء آخر تمامًا.

لم تمضِ سوى دقائق على هذا الإدراك القاسي، حتى فُتح باب الغرفة بثقلٍ محترم، ودخل والد هوشي — رئيس عائلة يامازاكي — بخطى بطيئة متزنة، لكنها لا تخفي القلق الجارف الذي يحمله في قلبه.

كان رجلًا ستينيًّا، فارع الطول، كتفاه عريضتان، ووقفته صارمة كصخرٍ صقله الزمن، يرتدي كيمونو أسود داكن مُطرّز بخيوط ذهبية تُمثل شعار العائلة — التنين المحاط باللوتس. بشرته سمراء تميل إلى النحاس، وشعره الرمادي المُسرّح بعناية يعطيه مظهرًا مهيبًا يتجاوز عمره.

ملامحه المرسومة بدقة تُشبه تماثيل المحاربين القدامى، وجبينه المشدود يكشف عن حياة قضيت في اتخاذ القرارات الصعبة. عينيه الداكنتان، العميقتان كسواد الليل، لم تكن مجرد أعين قائد، بل أعين أبٍ يرى ولده جريحًا. كانت فيهما قسوة التجربة، وحنان نادر لا يظهر إلا عندما يُصاب القلب ذاته.

رغم سطوته، ورغم اللقب الذي يحمله، فإن تلك اللحظة جرّدته من كل شيء... إلا كونه أبًا. من الرعب المكبوت.

وقف أمام ابنه لثوانٍ طويلة، كأن الزمن توقف بين نظراتهما. عيناه الغارقتان في السكون كانت تتفحص وجه هوشي دون أن ترف، كما لو أنه يُعيد تشكيل صورته في داخله. لم ينطق، لم يسأل، ولم يُظهر أي انفعال، فقط تقدم خطوة بثبات رجل يعرف أن المشاعر ليست شيئًا يُقال، بل تفهم.

مدّ يده ببطء، ووضعها بثقل محسوب على كتف هوشي الآخر — لم تكن لمسة مواساة بقدر ما كانت إعلانًا صامتًا للوجود. لا ضمة، لا همسة، لا حتى اسمه يُنطق، فقط حضور يملأ المكان كثقل جبل، وكأنها طريقة الأب الصامت ليقول: "أنا هنا... وأنت لست وحدك."

في تلك اللمسة الصامتة، قرأ هوشي كل شيء: القلق، الألم، وحتى الفخر الذي لم يُعبّر عنه يومًا. ولم يكن بحاجة لسماع أي كلمة... لأن والده لم يكن رجل كلمات، بل رجل مواقف تُقال بالصمت.

قبل أن تخرج منه كلماته، انفتح الباب الآخر بسرعة، ودخلت ناتسومي بخطى واثقة رغم القلق الذي يرسم الظلال تحت عينيها.

طلتها كانت مزيجًا من الجمال المؤلم والقوة الصامتة: طولها الذي يقارب مترًا وسبعين، وقوامها الرشيق المنحوت، يخطف الأنفاس، يفيض أنوثة وقوة في آنٍ واحد. ارتدت معطفًا أسودَ خفيفًا، التصق بجلدها المبلل، وانسدل فوق ملابسها الداخلية التي كشفت عن ندوب حروقٍ مروّعة امتدت من عنقها إلى بطنها، ندوبٌ متعرجة حمراء قاتمة، بدت كأنها شقوق صمتٍ مزمن على جسدٍ ما زال ينبض بالحياة.

وجهها، المزيج الغريب بين الجمال الوحشي والجرح المفتوح، بدت فيه الحروق تلتف على جانبها الأيسر، لكن تلك التشوهات لم تُضعف من تأثير جمالها، بل زادته مأساوية وجاذبية فريدة. بشرتها الفاتحة كانت مشدودة، شفاهها الوردية الممتلئة ترتجف دون أن تفقد اتزانها.

أما شعرها، فكان أسودَ يميل للزرقة، مبتلًا ينسدل بخصلات ملتوية فوق وجهها، تتقاطع مع أثر الحروق كأنها تحرسها. وعيناها — الأولى حمراء نارية تتوهج بحدة متألمة، والثانية معتمة مطفأة فقدت الرؤية منذ زمن — كانتا تلمعان من فرط المشاعر، تحملان ما لا يستطيع صوتها النطق به.

حين انحنت بجسدها النحيل لتقترب من هوشي، كانت تلك العيون وحدها كافية لتختصر كل المسافات، وتكسر كل الجدران بين الألم والحب والصمت.

همست بتلك النبرة الرقيقة الممزوجة بثبات: — هوشي،. هل أنت بخير؟ .

ثم ركضت نحوه دون أن تنتبه لكل العيون، ثم ركعت بجانبه وأمسكت يده المضمّدة: — هوشي! هل... هل تؤلمك؟ هل أنت بخير؟! لماذا لم يخبرني أحد؟!

لم يجبها فورًا، فقط نظر في عينيها بنظرة هادئة، ثم أدار رأسه قليلًا نحو والده، ثم قال بصوت مبحوح ممزوج بابتسامة خفيفة:

— لا تقلقي، سأتعافى بسرعة. هذه ليست أول مرة أُصاب فيها. ثم... أنا ياكوزا، أليس كذلك؟ الجراح... أوسمة شرف.

لكنه لم يتوقع الرد.

ناتسومي شهقت بصوتٍ منخفض، ثم شهرت يدها فجأة تضغط على صدرها، والغضب يشتعل في عينيها الحمراوين:

— وهل تظن أن كونك ياكوزا يُعطيك الحق أن تُؤذي نفسك بهذه الطريقة؟ أتعتقد أن الجراح وسام؟ نحن لسنا في ساحة شرف ميتة!

ثم نظرت نحو كينتا، والد هوشي، بنظرة حادة ممزوجة بالمرارة:

— اعتقدتُ أنك أصبحت أكثر هدوءًا خلال السنتين الماضيتين... لأنك لم تدخل قتال حياة أو موت منذ فترة طويلة.

ثم بصوت منكسر ومذعور:

— فلماذا... لماذا أنت الجريح الوحيد؟

ثم التفتت فجأة، عيناها الحمراوان تتوهجان بالغضب، تتنقل بنظراتها من مارك إلى دوني، ثم إلى هاتوري وجين، وأخيرًا إلى الحراس الذين انكمشوا في الخلف بصمت ثقيل. قالت بنبرة منخفضة، لكنها تقطع الهواء كحد السكين: — أنتم... أنتم الأربعة كنتم معه! في قلب المهمة! فكيف يكون هو المصاب الوحيد؟! ثم نظرت إلى مارك: — كنت الأقرب إليه، مارك. ألم تُقسم أن تكون درعه؟ أين كنت؟ ثم إلى دوني: — قائد المهمة... أين كانت حساباتك؟ كل شيء كان محسوبًا، أليس كذلك؟ إلا الطعنة التي كادت تقتله. ثم إلى جين وهاتوري: — أنتما عينه وظهره. فكيف فاتكما ذلك؟ صمتت لحظة، ثم همست بانكسار: — لقد خذلتموه... كلكم....

توقّفت خطوات الجميع لوهلة، وكأنَّ الهواء في الغرفة جُمدَ تحت وطأة كلمات ناتسومي: «لقد خذلتموه... كلكم... ماذا لو خسرته هو أيضًا؟»

تقدّم هوشي ببطء، رغم الجرح الذي لم يندمل بعد، ورفع يده ليوقف سيل اللوم. كان صوته خافتًا في البداية، لكنه يحمل نبرة لا يمكن تجاهلها:

— ناتسومي... كفى. هذا ليس وقت الاتهامات.

توقفت هي، والكلّ تبعها بالصمت، فتابع هوشي بصوتٍ أعمق:

— أنا رجل... ورجال هذه العائلة لا يختبئون خلف حماياتهم. الجرح خطأي، والقتال كان قراري. إن كنت سأرتجف وأنتظر أن تحميني أكتاف الآخرين... فكيف أسمي نفسي الزعيم القادم لعائلة يامازاكي؟

ثم نظر إلى والده، ثم إلى الجميع:

— كيف سأحمل اسم العائلة إن كنت سأترك من أحمل مسؤوليتهم يدافعون عني؟ لا، هذه المعركة كانت واجبي... وسأخوضها مرة أخرى، حتى لو دفعت الثمن وحدي.

ارتجفت جدران غرفة نوم هوشي بصدى كلماته، ثم أردف وهو يضغط على الجرح بيده:

— ولن أترك الأمر عند هذا الحد. سأفعل أي شيء... أي شيء من أجل من أحب، من أجل من يستحق أن يُحمى.

صوتُه في تلك اللحظة لم يكن صراخًا، بل وعدًا. وعدٌ يُقال من القلب، لا للناس، بل للقدر نفسه.

سكن المكان لثوانٍ طويلة، قبل أن يتحرّك ظلٌّ ثقيل من ركن الغرفة.

تقدّم السيّد كينتا، والد هوشي، بخطى بطيئة وصوته كالصخر: — ما قاله هوشي... هو عين الصواب.

ثم وجّه نظراته إلى ناتسومي: — نحن لا نصنع الزعماء بإخفائهم عن السكاكين... بل بتعليمهم كيف يتلقون الطعنات ويواصلون السير. لقد اختار هذا الطريق، ويجب علينا أن نثق أنه يعرف ما يفعل.

تراجعت ناتسومي خطوة للوراء، وعيناها ما تزالان تبرقان بالغضب، لكنها عضّت على شفتها السفلى، ثم قالت بصوت خافت: — أفهم... لكنني فقط... لم أرد أن أراه يتألم مجددًا.

هوشي اقترب منها رغم ألمه، وضع يده على كتفها، وقال بلطف غير معتاد، لكن بنبرةٍ حادة تحمل كبرياءً دفينًا: — وأنا لا أريد رؤيتك خائفة عليّ... لكنني اخترت هذا الطريق، ولن أتهرب من تبعاته كما فعلتم جميعًا. الألم جزء من الرحلة، والقتال حقي، لا عارٌ أحاول الهروب منه.

ثم نظر إليها بعينين دامعتين رغم التجلّد: — لا أحتاج لمن يحميني، بل لمن يصدق أنني قادر على الحماية. لأن من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لا يملك الحق أن يدافع عن من يحب.

سكت للحظة، ثم تابع بنبرة أكثر حزمًا: — وسأفعل... سأفعل أي شيء لحماية من أحب. حتى لو احترق جسدي ألف مرة.

توقفت أنفاس ناتسومي، تراجع الغضب في ملامحها شيئًا فشيئًا، وعيناها صارتا أكثر ليونة، قبل أن تهمس: — ربما كنتُ مخطئة... لكنني فقط خفت أن أفقدك كما فقدنا غيرك.

وفي تلك اللحظة، دوّى صوت الهاتف في جيب سترته الملطخة بالدم، اهتز مرتين ثم استقر.

أخرجه بيده المرتجفة، ونظر إلى الشاشة: "يوجي ".

رد فورًا، قال بصوت منهك: — هوشي يتحدث.

جاءه صوت يوجي حادًا، مرتبكًا: — سيدي، لقد اختفت... كل البيانات، الصور، الإشارات التي عثرنا عليها بشق الأنفس، كلها... مُسحت.

صوت هوشي أصبح أكثر حدة رغم الإنهاك: — ماذا تعني اختفت؟!

— أعني أن أحدهم... دخل النظام، ومسح كل شيء. حتى النسخ الاحتياطية! وكأن شيئًا لم يكن موجودًا من الأصل.

كان هوشي مصدومًا للغاية، كأن الكلمات سُحبت من حنجرته. لم يعرف كيف يتحدث، لم يعرف حتى كيف يتنفس. عجزت عيناه عن الرمش، وظلت تحدقان في الفراغ، بينما الهاتف لا يزال على أذنه، لكن روحه كانت في مكان آخر، في تلك الملفات التي فُنيت، في تلك الليالي التي سُرقت جهودها.

رآه دوني، أدرك على الفور أن شيئًا ما أكبر من مجرد خبر تقني قد هزَّه من الداخل. اقترب منه بهدوء، ثم همس بجانبه دون أن يسمعه الآخرون: — ماذا حدث؟ هل يتعلق الأمر بالمقر؟

هوشي لم يجب على الفور، فقط أغلق الهاتف ببطء، ثم ضغط على صدغه بيده، ونظر إلى عيني دوني بنظرة تحمل ثقل العالم، ثم تمتم بنبرة خافتة لا تكاد تُسمع: — لقد مسحوا كل شيء يا دوني... كل شيء.

ثم أدار ظهره للحاضرين للحظة، لا لأنه أراد إخفاء انفعاله... بل لأنه لم يكن يريد لهم أن يروا حربه الخاصة تُسرق أمام عينيه.

أغمض عينيه للحظة، ثم تنفس ببطء وكأنه يحاول ابتلاع صدمة لم تهضمها روحه بعد. مرّ شريط طويل من الصور في ذهنه: يوي، الشقة، الرسائل، فريقه، النار الزرقاء... ووجه الرجل الذي احترق وهو يبتسم.

قال دوني بصوت أخفض هذه المرة، أقرب إلى الهمس: — هل تريدني أن أطلع والدك؟

أجاب هوشي دون أن ينظر إليه: — لا... لا أحد يجب أن يعرف. هذه المعركة لي وحدي.

ثم استدار، وقد بدا في عينيه شيء لم يكن موجودًا قبل دقائق — شيء أشبه بالهزيمة، لكنه لا ينتمي لها.

— إذا كان من مسح كل شيء يعرفنا إلى هذا الحد... فهو أقرب مما نظن يا دوني. أقرب مما نجرؤ أن نعترف به.

قالها هامسًا، لكن همسه الذي امتزج بالحذر والقلق لم يخفَ عن أذنٍ واحدة. كانت الغرفة صامتة، وكل من فيها كان يراقب من بعيد، لكن نبرة هوشي ولغة جسده كانت كافية.

كان ذلك كافيًا ليجذب انتباه الحاضرين.

ناتسومي التفتت بسرعة، حدقت فيه، ووجهها قد شحب، وعيناها ضاقتا بشك. في حين أدار السيد كينتا رأسه نحوهما ببطء، كمن لاحظ أن ابنه يخفي أمرًا خطيرًا.

تقدّمت ناتسومي بخطوة، لكن لم تنطق، وكأنها تحاول أن تسمع ما لم يُقل، تقرأ ما كُتب على وجهه من بين تفاصيل الألم والصمت. كانت عيناها تبحثان في تعبيراته عن خيط الحقيقة، ترقبان ارتجافة حاجبه، توتر فكه، تلك النظرة الزائغة التي لا تصدر عن هوشي إلا في لحظات الخطر الحقيقي.

في تلك اللحظة، بدت ناتسومي كمن تتنفس الشك بدل الهواء، ووجهها الشاحب تلوّن بلون الحذر.

أما السيد كينتا، فظل واقفًا في الخلف، لم ينبس بكلمة، لكنه أمال رأسه قليلًا، وراح يراقب ابنه كما يراقب القادة جنودهم العائدين من ساحة حرب: نظرة خبير يزن المواقف لا بالكلمات، بل بالنبضات الخفية خلف أعينهم.

كان جسده مشدودًا، ذراعاه خلف ظهره، لكنه لم يتحرك، لأن كل ذرة فيه كانت تصرخ: "ابني يخفي شيئًا... والسر في صوته قبل أن يكون في عينيه."

في تلك اللحظة، انبثق من الصمت شيء يشبه النبوءة. لم يعد الليل مجرّد غلافٍ للقلق، بل بات فصلاً جديدًا على وشك الانفجار.

هوشي، الذي وقف هناك بنظرات دامعة وكتفين مثقلتين بما لا يُقال، لم يعد مجرد وريث لعائلة يامازاكي. لقد تحوّل إلى نصلٍ مشحوذٍ بحكمة الألم، وقلبٍ يحمل إرث العائلة لا كامتياز، بل كمسؤولية ثقيلة.

وفي الخارج، كانت الريح تعصف بين أغصان الكرز، تحمل معها رائحة المطر الممزوجة بالرماد، كأن المدينة نفسها تنذر بعاصفة قادمة.

لم يكن أحد في القصر يدرك أن ما فُقد تلك الليلة لم يكن مجرد بيانات أو ملفات... بل توازن خفيّ كان يحفظ النظام الهش بين العالم المألوف... وعالم الظلال.

لقد تم كسر الصمت.

وما سيأتي بعده... لن يشبه أي شيء عرفوه من قبل.

الفصل القادم، لن يُفتتح بالكلمات... بل بالدم.

حيث تنهار القواعد، وتُولد الأساطير.

يتبع

2025/06/17 · 6 مشاهدة · 8772 كلمة
FE TEC
نادي الروايات - 2025