رنّ صوت معدني خافت في شوارع قرية تيهيرن.
رنّ، رنّ.
تراقصت العملات الفضية داخل الكيس الجلدي متناغمة مع خطواتي، فخرجت مني همهمة تلقائية. شعرت بشيء من البهجة، فقذفت بالكيس في الهواء، لكن استيبان تدخّل بهدوء ليوقفني.
"توقف عن ذلك."
"عن ماذا، أيها البطل؟"
"هذا."
"هم؟ بطل؟؟"
"بطــــل؟"
ألقى استيبان نظرات حذرة حوله، محاولًا تجنّب أنظار المارة، لكن الأوان كان قد فات—فقد تعلّقت بنا أعين الحشد الفضولي.
"لقد فات الأوان بالفعل، أيها البطل."
منذ أن وطأت أقدامنا قرية تيهيرن، ونحن في بؤرة الاهتمام. لم يكن ذلك يُزعجني—بل كان لفت الأنظار جزءًا من خطتي—لكن استيبان بدا أكثر انزعاجًا مع مرور الوقت.
"بطل."
"…نعم؟"
"أنت حتى لم تحاول إنكار الأمر بعد الآن."
"…"
رأيت استيبان مُطأطئ الرأس، وكأنه متهم بجريمة، فذكّرته بأول أمر أصدرته له.
"سرْ مرفوع الرأس."
أول قاعدة: مهما حدث، لا تتخاذل—حتى لو كنت المخطئ.
ثانيًا: أبلغ عن موقعك دائمًا. حتى لو كنت ذاهبًا إلى الحمام.
ثالثًا: لا تستسلم أبدًا، مهما حدث.
كانت هذه هي الأوامر الثلاثة التي أعطيتها لاستيبان. ومع ذلك، ها هو الآن ينتهك أولها، مصرًّا على إبقاء رأسه منخفضًا.
هل سيتحوّل الأمر إلى معركة صمود الآن؟ حسنًا، لنرَ من سيفوز.
تنحنحت بصوت عالٍ، ثم تحدثت.
"كُهم! أحم!"
"انتظر…!"
بمجرد أن أدرك استيبان الكارثة الوشيكة، رفع رأسه بسرعة، لكن الأوان كان قد فات—فقد وصلت كلماتي بالفعل إلى مسامع الحشد.
"أيها البطل! من الذي أزعجك؟ هل كان ذلك الشخص هناك؟!"
"كيييياااه!"
تعالت صرخات الذعر من الحاضرين. أولئك الذين كانوا يحدّقون في استيبان تظاهروا بعدم رؤيته، ثم بدأوا بالتفرق سريعًا.
"أوه، هل رمى بائع التفاح عليك تفاحة فاسدة؟"
"هيييك…!"
بائع التفاح، الذي كانت عربته ممتلئة بفاكهة طازجة، تركها خلفه وفرّ هاربًا في هلع. استيبان عضّ شفتيه بإحباط.
"…دون."
مبتسمًا، التقطت تفاحتين ناضجتين. دفعت إحداهما إلى يد استيبان وأخذت قضمة من الأخرى.
"قرمشة."
"قضم، قضم. ومن أيضًا؟ قضم، قضم. أوه، ذلك التاجر هناك خدعك، أليس كذلك؟"
"لا-لا! ليس أنا!"
رغم إنكاره، بدأ التاجر بجمع بضاعته على عجل، وملامحه تفضحه تمامًا. بهدوء، اقتربت وسحبت زجاجتين من جرعات الشفاء المعروضه .
لم يستطع استيبان تحمل الأمر أكثر، فأمسك بذراعي.
"توقف."
"هل أفعل؟"
وافقت بسهولة، مما زاد من ارتباك استيبان. نظر إليّ وكأنه يحاول توقع خطوتي التالية. ورغم أنني شعرت ببعض الشفقة عليه، إلا أنني سرعان ما تجاهلت ذلك وغيّرت الموضوع.
"لنذهب ونتناول الغداء في مكان أعرفه."
"…نعم. هذا يبدو أفضل."
"تعال، لقد وجدت مخبزًا رائعًا في نهاية الزقاق."
ارتعش استيبان قليلاً، وتباطأت خطواته للحظة. لاحظت تردده، فواصلت الضغط.
"ما رأيك ببعض الخبز مع الحليب؟ من الصعب الحصول على الخبز عندما تعيش في الغابة، أليس كذلك؟"
"الخبز… لا يروق لي كثيرًا."
كان قلقه واضحًا، لكنه كان شيئًا لن يلاحظه إلا شخص راقبه عن كثب مثلي. استشعرت تردده، فلوّحت بكيس العملات الفضية أمامه.
رنّ.
"لا تقلق. لدينا ما يكفي وأكثر لنشبع تمامًا."
لكنني كنت أعلم أن المال ليس ما يشغل باله. لا، ما كان يقلقه حقًا هو الشخص الذي ينتظرنا في المخبز.
"إن لم تأتِ، سأذهب وحدي."
"انتظر!"
بمجرد أن استدرت، سارع استيبان للحاق بي، وسار بجانبي. وسرعان ما تلاشت نظرات القرويين المليئة بالشك والخوف من ذهنه، وكأنني أصبحت مركز انتباهه الوحيد.
ربما لم يكن ينظر إلي بمودة، لكن على الأقل لم يعد رأسه منخفضًا بعد الآن.
ورغم أن خطواته كانت تتردد بين الحين والآخر، إلا أنني كنت مستعدًا لإجبار الحشد على تحمل صوتي العالي مجددًا كلما حدث ذلك.
"ماذا قلتِ؟! السيدة في الطابق الثاني نادت البطل باليتيم؟!"
"كيييياااه!"
اختبأت المرأة بسرعة خلف الجدار، ولم يعد استيبان قادرًا على التحمل أكثر، فسارع في خطواته حتى أصبح يسير أمامي الآن.
"أرأيت؟ أنت تمشي بشكل جيد الآن."
بفضل تسارع خطوات استيبان، وصلنا إلى وجهتنا في وقت قياسي—مخبز جاين.
في نهاية الزقاق، وقف مخبز متواضع ذو مظهر متهالك، تفوح منه رائحة الخميرة الحامضة ممزوجة بالعبق الدافئ للخبز الطازج.
"رنّ، رنّ."
"أهلًا وسهلًا!"
رحّبت بنا صاحبة المخبز بصوت دافئ، رغم أنها لم تظهر بنفسها—ربما كانت مشغولة بالخبز.
"هل يمكننا الجلوس بجانب النافذة؟" ناديتُ عليها.
"بالطبع!"
"فقط احضري أي شيء خرج للتو من الفرن."
"حالًا! انتظروا قليلًا!"
تجاهلتُ استيبان، الذي ظل واقفًا بتوتر، واخترتُ عمدًا مقعدًا بجانب النافذة، حيث يمكن أن نكون في مرأى الجميع.
لأضمن أن الطُعم سيكون سهل الرؤية.
"هل تحب تناول الطعام وأنت واقف؟"
"…"
بعد تردد، جلس استيبان أخيرًا أمامي وكسر صمته.
"المرأة في الطابق الثاني لم تنادِني باليتيم أبدًا."
أوه؟ هذا كل ما لديك؟
"بل فعلت. لكن من وراء ظهرك."
قطّب استيبان حاجبيه، غير راضٍ عن إجابتي، لذا أضفتُ:
"أنا باحث، تذكر؟ أعرف كل شيء… باستثناء أسماء الحشرات."
رغم بقاء ملامحه متوترة، إلا أن ما قلته كان صحيحًا. في الواقع، سبق أن سمعتُ تلك المرأة تصفه باليتيم خلال لقاءاتي السابقة معها. حتى لو لم تفعل اليوم، فحتماً كانت ستفعل في النهاية.
"على أي حال، ألا تعتقد أن رائحة الخبز مذهلة؟"
"…ماذا؟"
لم يكن هذا العالم مليئًا بالشخصيات العدائية فقط، بل كان هناك أيضًا من يتعامل مع استيبان بلطف—ومن بينهم جاين، صاحبة المخبز.
وكأنها كانت بانتظار اللحظة المناسبة، خرجت جاين من المطبخ تحمل صينية مليئة بالخبز الدافئ والطازج. وعندما وقعت عيناها عليّ، ارتفع حاجباها بدهشة، وكأنها تعرفت عليّ على الفور.
"كنت أظن أن هذا الصوت مألوف… آه، إنه أنت، زبوننا الجديد الدائم! عادةً ما تأتي في الصباح الباكر—ما الذي جاء بك الآن؟"
"من الجيد رؤيتكِ مجددًا، جاين."
رفعتُ يدي بإشارة تحية، فقابلتني جاين بابتسامة مرحة وهي تضع سلة الخبز على الطاولة. ثم التفتت إلى استيبان وسألتني بمكر:
"هل التقطتَ قطًّا ضالًّا؟ أظن أنني رأيت هذا من قبل."
"شيء من هذا القبيل."
"جيد! على الأقل لن يضطر الآن للبحث في القمامة عن فتات الخبز."
احمرّ وجه استيبان خجلًا، محدقًا في الطاولة بصمت. ضحكت جاين بمكر عند رؤية رد فعله.
"أنا أمزح فقط! العمل كان بطيئًا مؤخرًا، لذا لدينا دائمًا خبز زائد. إذا شعرت بالجوع، تعال واطلب مباشرة—لكن إن بحثت في القمامة، سأجعلك تدفع الثمن."
"…نعم."
مشاهدة تفاعلهما المرح جعلني أشعر بالحنين—تمامًا كما في اللعبة. لكن على عكس الماضي، لم يعودوا مجرد شخصيات افتراضية على شاشة، بل أشخاص حقيقيون بمشاعر نابضة بالحياة. والآن، أصبحت جزءًا من عالمهم أيضًا.
"هل تريد بعض الحليب؟" سألت جاين.
"نعم، وسأدفع الآن."
رنّ.
قدّمتُ لها كيس النقود، عازمًا على دفع الحساب كاملًا. لكن جاين أدخلت يدها، التقطت عملة فضية واحدة فقط، ثم ابتسمت بمكر قائلة:
"يمكنك أخذ الباقي عند المغادرة—وإلا سأحتفظ به."
كان من المريح رؤية جاين تحتفظ بطبيعتها المرحة والمشاكسة. خِفّتها المعهودة كانت ترفع معنويات الجميع… بمن فيهم أنا.
ربما لم يكن استيبان وحده من افتقد التواصل البشري. ربما كنت أنا أيضًا. لهذا تمسكت بهذه اللعبة، باحثًا عن أثرٍ لأخي.
"جاين!"
ناديتُها وأنا أرمي كيس النقود نحوها. التقطته بمهارة، كأنها كانت تتوقعه.
"التقطته! أعتقد أنني اصطدتُ صيدًا ثمينًا اليوم."
"ماذا؟"
اتجهت عينا جاين نحو النافذة الواسعة خلفي، واتسعت حدقتاها في ذعر.
"انبطحوا!"
جاء تحذيرها في اللحظة التي تحطمت فيها النافذة بفعل ،اندفع رمح حاد نحونا مباشرة.
تحطّم!
لحسن الحظ، لم يُصب أحد، لكن رمح كان موجهه نحو هدف واحد—أنا.
تحدث الجندي الذي كان يمسك بالرمح ببرود:
"لا تتحرك. أنت رهن الاعتقال بتهمة ارتكاب تسع جرائم قتل متسلسلة."
"هِييك!"
شهقت جاين بفزع من التطور المفاجئ، وحدّقت بي بعينين متسعتين.
لكن أطراف الرمح لم تكن موجهة نحو استيبان… بل إلى عنقي.
ابتسمت.
هذا بالضبط ما كنت أريده.
المصير مشترك.
أولئك الذين يعانون وينجون معًا داخل القدر نفسه.
************
في اللحظة التي علم فيها اللورد بايرون من تيهيرن بوجود أخته غير الشقيقة مي، فكّر في نفسه:
"أنتِ تعانين من نفس القدر الذي أعانيه."
أم توفيت عندما كان صغيرًا. وأب لم يرَه أبدًا. لكن أكثر من أي شيء، كان نسبه هو ما عذب بيرون.
وُلد كطفل من نبلاء. وعلى الرغم من أن والدته جاءت من أصل متواضع، إلا أن والده كان نبيلاً بلا شك. من أجل مستقبل طفلها ورفاهيتها الخاصة، لم تبذل والدته أي جهد لإخفاء الحقيقة، مما خلق جدارًا غير مرئي من المكانة بينهما وبين من حولهما.
إلا أن والده لم يسعَ أبدًا وراءه.
بالنسبة لشخص يمكنه امتلاك كل شيء دون جهد، بمجرد كونه من سلالة نبيلة، لم يكن لمفهوم المسؤولية أي وجود.
انتظرت والدة بايرون عبثًا أبًا لم يأتِ أبدًا، وذبلت ببطء تحت وطأة ازدراء الآخرين وسخريتهم. وعانى بايرون معها.
بعد وفاتها، أدرك بايرون أنه لا ينتمي إلى أي مكان. لم يكن من عامة الشعب، ولم يكن من النبلاء. منبوذًا في كل مكان، أصبح شخصًا لا وجود له فعليًا.
كل هذا حدث دون أن يكون لبايرون الصغير أي رأي فيه.
في أحد الأيام، عندما كان ملقى على الطرقات، يحتضر من الجوع، ظهر والده أخيرًا—بوجه لا يبدو أفضل حالًا من وجهه. كان مُصابًا بمرض خطير وعلى شفا الموت، ولم يتذكر وجود ابنه إلا في لحظاته الأخيرة. وبفضل تلك النزوة العابرة، نجا بايرون واستعاد مكانته.
نزوة عابرة.
بتلك النزوة التافهة، اشتعلت حياة كانت على وشك الانطفاء أكثر إشراقًا من أي وقت مضى.
حينها، أدرك بايرون الثقل الذي تحمله نزوات النبلاء. كانت قوة متأصلة في المكانة التي امتلكها لكنه لم يتمكن يومًا من استخدامها.
لكن الآن، والده قد رحل. حتى لو كان لا يزال على قيد الحياة، لكان من السذاجة أن يتوقع نزوة أخرى من رجل طائش وعديم المسؤولية مثله.
الأمر بات الآن بين يدي بايرون.
في الخامسة والثلاثين، أصبح لورد طهران. في السادسة والثلاثين، اكتشف وجود مي.
في اللحظة التي وقعت فيها عيناه على مي ذات التسعة عشر عامًا، تجلّى مستقبلها أمامه بوضوح—مستقبل يطابق ماضيه الأليم تمامًا.
للمرة الأولى، استخدم بايرون سلطته النبيلة لاستدعاء مي إلى القلعة. وهي بدورها، ما إن وصلت، أدركت أن هذا كان المكان الذي تنتمي إليه منذ البداية.
لم يتبقَّ لهما في هذا العالم سوى بعضهما البعض.
أصبحت أيام مي الهادئة مصدر راحة لبايرون، كما كانت تعاطفه عزاءً لها. كان كل منهما ملاذًا للآخر، الملجأ الوحيد في عالم قاسٍ.
لكن حينها—
طقطقة.
انفتحت الجرح غير الملتئم في كف بايرون مجددًا، وبدأت قطرات الدم تتساقط.
قطرة. قطرة.
في اليوم الذي قالت فيه إنها ستذهب لقطف الأزهار من الغابة، عادت مي… محمولة على ظهر شخص آخر، جسدها هامد بلا حياة.
وكان ذلك الشخص… استيبان.
لم يكن هناك سبيل لتحميل استيبان المسؤولية. لم يكن مجرمًا، بل كان شخصًا صالحًا استعاد جسدها.
ومع ذلك، بدأت الشكوك تتغلغل في ذهن بايرون وتتمسك به.
"لماذا أصرت مي على الذهاب إلى الغابة في ذلك اليوم؟ من يسكن في تلك الغابة؟ كيف عثر استيبان على جسدها؟ أين اختفى العقد الذي أهديتها لها؟"
طقطقة.
"لماذا كان لا يزال هناك دفء في جسد مي عندما حملها استيبان؟"
بينما كان بايرون يشعر بأن أنفاسه تصبح أكثر تسارعًا، لم يتمكن من إيقاف الأسئلة التي كانت تتكاثر في ذهنه.
لم تكن هناك أدلة ملموسة، لكن كل دليل ظرفي كان يشير إلى استيبان.
رغم أن بايرون كان يعلم تمامًا قوة النزوات التي يحملها النبلاء، وقد حاول أن يظل حذرًا حتى النهاية، إلا أن الشكوك في النهاية ابتلعته.
كان متأكدًا: استيبان هو الجاني.
سوف يجعله يختبر نفس العذاب. سوف يكشف الجريمة أمام الجميع ويراه يُنفذ فيه الحكم بالإعدام.
لكن أولاً، كان يجب منع استيبان من مغادرة تيهيرن.
رغم أن مجرد فكرة استضافته كانت تجعله يشعر بالغثيان، إلا أن بايرون منح استيبان إذنًا بالبقاء.
لكن حينها بدأت الشائعات تنتشر—شائعات تقول إن استيبان هو البطل. سواء كانت صحيحة أم لا، كان من الواضح أنه بمجرد أن تتجذر هذه الشائعات، فإن استيبان سيغادر تيهيرن.
الخطة التي كان بايرون قد أجل تنفيذها لتكون مثالية كان عليه تنفيذها بسرعة الآن.
ثم ظهر.
رجل ذو شعر ذهبي كالشعر الذي كانت تحمله مي، لم يفارق استيبان أبدًا.
جاءت فرصة نادرة—فرصة لجعل استيبان، الذي ظن أنه وحيد، يختبر نفس الوحدة التي عاناها.
لم يكن لدى بيرون نية في ترك خطته المثالية الآن تُفسد. ولكن بالطبع، لم يكن الأمر سينتهي عند هذا الحد.
كانت النهاية الكبرى ستزينها وفاة استيبان.