لم تزل كلمات سيرا تتردد في ذهن كايلن بعد أن اختفت تلك الصورة الغامضة؛ كانت همسات الليل تهمس له بأن هناك ما يفوق فهمه. خرج من المبنى المهدم، مترددًا بين الخوف والفضول، وكل خطوة تخطوها كانت تُثقل قلبه بشعورٍ غير واضح، كأن القدر يُحدث صدىً داخل روحه.

عندما عاد إلى طرقات أطلنطا السديمية، التي بدت وكأنها لوحةً فسيفسائية من الحطام والظلال، شعر بأن الليل قد غطّى كل شيء في هالة من الغموض. كانت السماء ملأى بالنجوم الباهتة وخيوط الضوء القرمزية التي تشق طريقها عبر الظلام، وكأنها تنطق بأسرارٍ دفينة لا تُفصح عنها.

توقف كايلن عند مدخل مبنى آخر من بين أطلال المدينة، مبنى يبدو وكأنه شاهد على حكايات من زمن بعيد. دخل المكان، وفي داخله وجد قاعةً ضخمة تمتد جدرانها المتشققة إلى أعماق الظلام. هنا، بين تلك الجدران القديمة، بدأ يشعر بأن الماضي والحاضر يتداخلان بشكل لا يُصدَّق؛ كان كل حجر، كل نقش على الجدار، يحمل قصةً لم تُروَ بعد.

ببطء، سار في أرجاء القاعة، وكلما تقدّم، ازدادت الذكريات تتسرب إلى ذهنه. رأى صورًا غامضة لمشاهد من زمنٍ مضى؛ حكايات عن بطولات وانكسارات، وأسرار عن حضارات ضاعت في بحر النسيج الكوني. وفي زاوية مظلمة، لمح قطعة معدنية أخرى، مختلفة عن تلك التي وجدها سابقًا؛ كانت محفورة بنقوش دقيقة وألوانها تنبض كأنها تحمل نبض الزمن ذاته. التقطها بحذر، وشعر بدفء غريب ينبعث منها، وكأنها تنقل له رسالة من العصور القديمة.

لم يمض وقتٌ طويل حتى سمع صوت خطوات خلفه. استدار ببطء، ليرى سيرا تخرج من بين الظلال، نظراتها تخفي مزيجًا من الحذر والأمل. كانت تبدو أكثر هدوءًا من المعتاد، لكن كلماتها كانت تحمل وزن القدر:

"كايلن، كل قطعة نجمعها هي مفتاح لفك شيفرة ما وراء هذا الوجود. لقد مررنا اليوم بحدود لا يعرفها سوى من تجرأ على البحث عن الحقيقة."

تقدم الاثنان معًا نحو الجزء الخلفي من القاعة، حيث كان الضوء الخافت ينبعث من فجوة ضيقة في الجدار، تكاد تهمس بأسرارٍ لم تُكشف بعد. هناك، على سطح صغير مرصوف بأحجار قديمة، وجدوا نقشًا ضخمًا يُشبه خريطةً، تتداخل فيها رموز غير مفهومة مع خطوط تشبه خيوط القدر.

كايلن ألقى نظرة طويلة على النقش، وكلما دقّق في تفاصيله، زاد شعوره بأن هذه العلامات ترتبط بمصيره؛ كان يرى فيها انعكاسات من ذكرياتٍ لم يختبرها، وأحلامًا غامضةٍ لم تكتمل بعد.

بينما كان يفكر في هذه العلامات، بدأ صوتٌ خافت يتردد من أعماق القاعة، كأنه صدىٍ من زمنٍ بعيد، يعلن: "ليس كل شيء كما يبدو." لم يتمكن هو أو سيرا من معرفة مصدر الصوت، لكنهما شعروا بوجود قوة خفية تراقبهما. في تلك اللحظة، تمايلت الظلال على الجدران وكأنها ترقص مع أنفاس الزمن، وكل نبضة من النور القرمزي كانت تكشف عن ملامح جديدة للغموض.

"علينا أن نتابع هذا المسار،" همست سيرا، وعيناها الثاقبتان تتأملان النقوش كأنهما تقرآن لغز القدر.

"لكن إلى أين يقودنا هذا؟" سأل كايلن بصوتٍ متهدج، مختلطًا فيه خوفٌ ورغبةٌ ملحة في المعرفة.

"ربما إلى سر النسَّاجين،" أجابت سيرا بهدوء، "أولئك الذين ينسجون مصير الأكوان بخيوط لا تراها العيون، ويخيفون من حقيقة أن أحدًا قد يفك شفرتها."

في تلك اللحظة، ازداد الصمت كثافةً، وكأن الكون نفسه يمهلهم للحظة، قبل أن ينفجر بفيضٍ من الأسئلة دون إجابات. تمايلت قطعة المعدن في يد كايلن، وكأنها تردد صدى الصوت الذي سمعه في لحظاته الأولى. شعر بأن كل خطوة يخطوها تقربه من مواجهة حقيقة لم يكن مستعدًا لها، حقيقة قد تغيّر كل ما عرفه عن نفسه وعن العالم.

خرج الاثنان من القاعة نحو الخارج، حيث كان الليل يحتضن أطلنطا السديمية بكل ألوانه الخافتة وخيوطه الغامضة. كانت خطواتهما تخطو نحو المجهول، وفي كل خطوة، كانا يدركان أن المستقبل يحمل مفاتيح أخرى ستكشف لهما عن أسرار هذه الأكوان الملتفة، وأن رحلتهما لم تعد مجرد بحث عن الذكريات، بل مواجهة مع قوى تغير مجرى المصير.

بهذا النداء الصامت، استمروا في السير، متعهدين بأن يجمعوا كل القطع، ويفكوا شيفرة الخيوط التي نسجها القدر، حتى تُكشف أسرار "نسيج الأكوان" في مواجهة لا تعرف الرحمة، وتصبح النهاية بداية لحكاية جديدة في عالم لا ينتهي من الغموض والقدر.

2025/03/21 · 4 مشاهدة · 622 كلمة
نادي الروايات - 2025