في أحد العصور القديمة، كانت هناك مملكتان متناحرتان، المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية، اشتعلت بينهما الحروب على مدى أجيال متعاقبة. كان الصراع بينهما كالنار التي لا تنطفئ، يحرق أرواح الجنود ويدمي قلوب العائلات، لكنه كان جزءًا من تاريخهم الطويل والمليء بالكراهية والدماء.
مع مرور الوقت، بدأت علامات الإنهاك تظهر على الطرفين، فالمدن المتاخمة للحدود بين المملكتين صارت مجرد أطلال، والمزارع جفت، وقلّت الموارد. في ظل هذا الدمار الذي أكل الأخضر واليابس، ظهر أمل جديد في الأفق، أمل السلام.
**إدريس**، سيد المملكة الشمالية، وهو فارس شجاع ومعروف بحكمته، قرر أنه قد حان الوقت لوقف هذه الحرب المدمرة. كان يعلم أن المزيد من الدماء لن يجلب سوى المزيد من الدمار. فأرسل إلى **لالوريس**، سيد المملكة الجنوبية، داعيًا إياه إلى مفاوضات سلام.
وافق **لالوريس** بعد تردد، فاجتمع الزعيمان أخيرًا بعد سنوات طويلة من العداء، في قلعة قديمة تقع على أطراف الغابة المظلمة التي تفصل بين المملكتين. كان اللقاء مشوبًا بالتوتر، إلا أن كلمات العقل والرغبة في إنهاء سفك الدماء طغت على أجواء الشك والخوف.
خلال أيام المفاوضات، ساد جو من التفاهم. كل شيء بدا مبشرًا بنهاية الصراع. الوعود بالسلام أضحت أقرب من أي وقت مضى، والناس في الشمال والجنوب بدؤوا يحلمون بعودة الحياة الطبيعية، بعيدًا عن الخوف والحروب. حتى الجنود، الذين اعتادوا على العيش وسط العنف، بدؤوا يشعرون ببصيص الأمل.
ولكن، كما هي الحال في كثير من الأحيان، كان للقدر خطط أخرى.
في إحدى الليالي، وبينما كان القمر المكتمل يضيء سماء الغابة القريبة من حدود المملكة الشمالية، عم الصمت فجأة. كان الصمت ثقيلًا وكأنه ينذر بشيء رهيب. بدا وكأن الغابة بأشجارها وحيواناتها توقفت عن التنفس. لم يكن هناك صوت سوى همسات الرياح بين الأغصان.
وفجأة، قطع هذا الهدوء سهم انطلق من أعماق الظلام، مستهدفًا حارس بوابة المملكة الشمالية. لم يكن الحارس قد رأى السهم قادمًا؛ فقد تسلل كالظل، ليخترق صدره قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ولكن السهم لم يكن مجرد رسالة موت، بل حمل معه شيئًا آخر. كانت ورقة معلقة على السهم، مغطاة بدماء طازجة، عليها كلمات محفورة بدقة رهيبة: **"ها نحن نعلن الحرب"**.
تلك الكلمات المكتوبة بالدم هزت الأرض تحت أقدام الممالك. المفاوضات التي بدت على وشك النجاح تهاوت في لحظة. عاد الشك والخوف ليخيما من جديد، وعادت الكراهية لتشتعل كالنار في قلوب الجميع.
إدريس وقف صامتًا أمام تلك الرسالة، وعيناه تشتعلان بالغضب والحيرة.
في ليل اليوم الثاني، كانت السماء ملبدة بالغيوم الداكنة، والقمر بالكاد يظهر خلفها وكأنه يرفض أن يشهد المجزرة القادمة. هدير أقدام الخيول بدأ يتصاعد، يُسمع من بعيد ولكنه كان يقترب بسرعة مخيفة. قلوب أهل الشمال بدأت تتسارع، وأصوات الخوف تتصاعد في أرجاء المملكة. كانت الرياح تحمل معها أصوات الطبول الحربية ونبضات الرعب.
فجأة، من بين الأشجار الكثيفة على أطراف المملكة الشمالية، ظهرت جحافل من الجنود، ألوف من المحاربين المدرعين يقتربون كأمواج لا تنكسر. في وسطهم، كان لالوريس، سيد الجنوب، يتقدم بثقة لا تهتز، عيناه متوهجتان بالكراهية والعزم. بصوته القوي الذي زلزل أركان المكان، صاح:
"قد وافقنا على السلام، ولكنكم خنتموه يا أهل الشمال! قُتل أخي عدنان على يدكم، والآن، تدعون السلام؟! إن لم يستسلم إدريس، ستسقط رايتكم وتهوى مملكتكم!"
فوق بوابة القلعة المدمرة، ظهر إدريس، سيد الشمال، كانت عيناه مشتعلة بالدهشة والغضب. بيده سيفه المرصع بالجواهر، علامة القوة والسيادة، وهو يحاول أن يفهم هذا الهجوم الغادر.
"ما الذي تقوله يا رجل؟ نحن لم نخن العهد، ولم ن..."
ولكن قبل أن يُكمل كلماته، قطع لالوريس صوته صارخًا بغضب:
"أنا لم آتِ لأستمع إلى الأكاذيب! هجووووووم!"
في لحظة واحدة، اندفع الجنود كالعاصفة. سُحقت بوابة القلعة تحت وطأة ضربات المهاجمين، وتحولت إلى حطام مشتعل. الجدران التي كانت تحمي الشمال لسنوات انهارت بسهولة مرعبة. وبدأت الدماء تغمر الشوارع، والأرض التي كادت أن تثمر بالسلام أصبحت مروية بالدماء والدموع. كان صوت السيوف يتعالى فوق صرخات الأبرياء، وصوت الحديد يضرب لحم البشر بلا رحمة.
لالوريس، الذي كانت عيناه مليئتين بالكراهية والرغبة في الانتقام، شق طريقه عبر الجموع كالعاصفة. كان يقطع رؤوس الجنود والمدنيين على حد سواء، لا يميز بين الجندي والمزارع. هدفه كان واضحًا: الوصول إلى مقر السيادة والانتقام لمقتل شقيقه عدنان.
في قلب القلعة، وصل لالوريس إلى مقر السيادة، ممسكًا برأس أمهر حراس إدريس، ورمى به أمام عيني سيد الشمال. كانت عيناه مليئتين بالتحدي والغضب، والدم يقطر من سيفه.
لالوريس بصوت مليء بالحقد:
"انظر يا إدريس، هذا ما جلبته على نفسك وعلى شعبك. اعتذر لهم، لأنك لم تحمهم. لقد خُنت العهد، والآن انتهى كل شيء."
إدريس، الذي وقف وسط الخراب، حاول أن يجد كلمات ليدافع عن قراره. لكن الغضب من لالوريس والألم من رؤية شعبه يُذبح جعله عاجزًا عن النطق. لم يكن هناك مكان للكلمات، فقط السيف هو الذي سيحسم الأمور.
اشتعلت المعركة بين إدريس ولالوريس في قاعة العرش، كانت مبارزة ليست كأي مبارزة. السيوف تصطدم كأنها رعد، وكل ضربة تحمل معها عبء أجيال من الحروب والكراهية. كان صوت السيوف يرتفع كصرير الموت، يتردد في أرجاء القلعة ا.
كل ضربة كانت تكشف عن عزيمة كل منهما. إدريس كان يدافع عن شرفه وعرشه وشعبه، بينما لالوريس كان مدفوعًا برغبة لا تتوقف في الانتقام لمقتل أخيه. كان العرق يتصبب من وجوههم، وسيوفهم مغطاة بالدماء، وكأنهما يمسكان بأقدار المملكتين في أيديهما.
ثم، بعد لحظة بدا أنها ستدوم إلى الأبد، سقط إدريس، مصابًا بجروح قاتلة. عم الهدوء القاعة. كان صوت سقوط سيف إدريس على الأرض ثقيلاً، كأنه أعلن نهاية كل شيء.
احتلت جيوش الجنوب القلعة. أصوات الجنود وهم يحتفلون بنصرهم ملأت السماء. في وسط القاعة، كان لالوريس يجلس على العرش، وبين ذراعيه رأس إدريس، مرفوعة كرمز لانتصار الجنوب وإذلال الشمال. كان الاحتفال ممتلئًا بالفرح الممزوج بالدماء.
ولكن في ظل هذا الفرح الوحشي، كانت هناك مجموعة صغيرة من أهل الشمال قد اختبأت في أحد البيوت المهجورة القريبة من القلعة. كانوا في حالة من الذعر واليأس. وسط تلك المجموعة، كان هناك طفل صغير، حديث الولادة، مغطى بالدماء، يبكي بصوت خافت.
هذا الرضيع الذي لم يعرف بعد العالم المليء بالحروب كان يُدعى سيف. كان محاطًا بالأمل الأخير لأهل الشمال، الصرخة التي لم تموت بعد.
داخل البيت الصغير المتهالك، كان الصمت يلف المكان ككفنٍ يغطي جراحهم. مجموعة من الناجين من مذبحة الشمال يجلسون في ظلامٍ دامس، محاولين فهم مصيرهم. وسطهم كانت سرينا، امرأة ذات وجه منهك، تحتضن الرضيع بين ذراعيها. صوت بكاء الرضيع كان كنبض الحياة الأخير في مملكة قد مزقتها الحروب.
اقترب أحد الرجال من المجموعة، محاولًا كسر الصمت القاتل، وسأل بصوت مليء باليأس:
"من أين أتى هذا الرضيع؟"
أجابت سرينا بهدوء، بينما كانت تمسح دموعًا بالكاد تمكنت من إخفائها:
"إنه ابن إحدى عائلات العامة الذين قتلوا اليوم... لقد فقد والداه وكل من كان يعرفه."
نظر الرجل إلى الطفل الصغير بحيرة، ثم قال:
"لماذا نحمله معنا؟ لا نملك حتى طعامًا لأنفسنا."
سرينا نظرت إلى الطفل مجددًا، كأنها ترى فيه شيئًا أكبر من مجرد رضيع، وقالت بثقة لا تقبل الشك:
"انظر إلى عينيه... هل ترى؟ عيناه تحملان شيئًا مختلفًا. إنه ليس مجرد طفل... إنه أمل لنا جميعًا، أمل للشمال بأكمله."
حدق الجميع في الطفل، الذي كانت عيناه اللامعتان تحدقان فيهم ببراءة ممزوجة بنوع من القوة الخفية. كانوا يعلمون في أعماقهم أن هناك شيئًا مميزًا فيه، شيئًا يجعلهم يشعرون بالأمل، رغم كل ما حدث.
بعد دقائق من الصمت المهيب، قررت المجموعة أن تأخذ ذلك الرضيع معها. في تلك الليلة، شق الناجون طريقهم عبر الغابة المظلمة، مبتعدين عن مشهد الدماء والخراب. الغابة كانت موحشة، صوت الرياح يتسلل بين الأشجار كأشباح تلاحقهم، لكنهم استمروا في السير.
خلال السنوات التالية، أصبح الرضيع سيف، رمزا للنجاة. كبر في كوخ صغير في قلب الغابة، بعيدًا عن الأنظار. سرينا، التي ربت الطفل كأمٍ له، كانت ترى فيه شيئًا غير عادي، شيئًا يتجاوز طفولته.
عندما بلغ سيف السادسة من عمره، كانت الأسئلة تبدأ تتشكل في عقله الصغير. في أحد الأيام، بينما كانت سرينا تعيد ترتيب بعض الأدوات في الكوخ، اقترب منها وسألها بصوت بريء:
"أمي، هل سنعود إلى بيتنا؟ هل سنعود إلى مملكتنا؟"
نظرت سرينا إلى الطفل بحنان لا يوصف، وجلست بجواره، ثم وضعت يدها على كتفه وقالت:
"يومًا ما، يا سيف، سنعود بالتأكيد. لكن يجب أن تصبر. لا تفقد الأمل أبدًا، يا بني. أنت الأمل الذي نعتمد عليه، الأمل لنا ولأهل الشمال."
ابتسمت سرينا ثم أضافت بحزم:
"ستصبح محاربًا عظيمًا، أقوى من كل من رأيناه. أنت مختلف، يا سيف، أرى فيك قوة غير عادية. فقط اصبر وتمرن، وسنعود إلى الشمال يومًا ما. أنت الوردة المتبقية في هذا العالم المدمر."
في مكان آخر بعيد عن الغابة، وفي مقر السيادة الذي تزينه أعلام الجنوب، كان لالوريس، سيد الجنوب، يقف في ساحة التدريب مع ابنه لوريس. كان الصغير يكافح مع حمل السيف الثقيل، فقد كانت قبضته ضعيفة وأصابعه ترتجف تحت ثقل المعدن البارد.
شاهد لالوريس ابنه وهو يسقط السيف على الأرض للمرة الثالثة. التقط السيف، ومده إلى لوريس مرة أخرى، ثم قال بصوت صارم:
"بهذا السيف، الذي وقع من يدك الآن، قد تُكتب نهاية مملكتنا. لا تتركه أبدًا، لأن تركه يعني ترك مصيرنا. استمر في التمرين، ولا تدع ضعفك يسيطر عليك."
مرت الأيام والأسابيع، وكان صوت السيوف المتشابكة يرتفع كل يوم في ساحة التدريب. لوريس كان يحاول، يومًا بعد يوم، أن يصبح أقوى، أن يحمل السيف بثبات أكبر، بينما كان لالوريس يراقبه بعينين مليئتين بالقلق، فقد كان يعلم أن ابنه هو الوريث الوحيد الذي يمكن أن يحمي مملكة الجنوب من الفوضى.
و كان سيف يكبر ويزداد قوة، وفي قلبه كان هناك أمل لا ينطفئ. كان يتدرب كل يوم على يد سرينا، التي علمته ليس فقط كيف يحمل السيف، بل كيف يكون صبورًا وحكيمًا، حتى في مواجهة أصعب الظروف.
في الوقت نفسه، كان لوريس يتدرب بقسوة تحت إشراف والده، محاولًا أن يكون الوريث الجدير بمملكة الجنوب، محاطًا بتوقعات عظيمة.
بين سيف ولوريس، كان القدر يتشكل. كلاهما كان يكبر في عالمين مختلفين، لكنهما كانا مرتبطين بمصير مشترك. سيف، الوردة الأخيرة من مملكة الشمال، ولوريس، الوريث الوحيد لمملكة الجنوب، كانا يتدربان يومًا بعد يوم، على صوت السيوف الذي يعلو في كلتا الجهتين.
ترى دي اول مرة اكتب فيها فصل من فضلكم كونوا لطفاء