بعد مرور السنين، يظهر سيف شابًا في ريعان شبابه، جسده مفتول العضلات، وشعره الكثيف الداكن يتماوج مع نسيم الغابة. يقف بين الأشجار العالية، تمريناته أصبحت روتينًا يوميًا، يضرب الهواء بدقة وانسيابية، كأن كل حركة منه تحكي قصة صراع داخلي، وصوت العصافير يغني بتناغم مع خطواته. لقد بلغ الثامنة عشرة الآن، أصبح أقوى وأمهر، لكنه لا يزال يحمل في قلبه ألم الماضي وأمل المستقبل.

يعود سيف بخطوات ثابتة إلى الكوخ الصغير المخفي بين الأشجار، حيث تنتظره **سرينا**، تلك المرأة التي ربته كأمه. يرى وجهها المتعب وهي ممددة على السرير، علامات السنين والجهد بادية على ملامحها، لكن عيناها لا تزالان تعكسان الحنان والحب. يقترب منها بهدوء، ويجلس بجانبها على حافة السرير.

تضع **سرينا** يدها برفق على وجهه، تلامس وجنته بأصابعها بحنان. عيناها تلمعان وهي تنظر إليه، وكأنها ترى فيه الأمل الذي انتظرته طوال هذه السنين.

بصوتها الدافئ والمليء بالحكمة تقول له:

"هل أنت بخير اليوم، يا بني؟"

نظر إليها سيف بعينيه الحادتين، وكأن كل مشاعره المكبوتة تتلاشى أمام هذا الحنان. يضع يده على يدها ويجيب بصوت عميق، مملوء بالاحترام والحب:

"أنا بخير يا أمي، لكن قلبي لا يزال يتوق للعودة إلى بيتنا... إلى الشمال."

سرينا، رغم تعبها، ابتسمت له ابتسامة هادئة، وكأنها تقول له دون كلمات أن كل شيء سيحدث في وقته. "لا تتعجل، يا سيف... يومًا ما ستعود. لكن تذكر دائمًا... أنت الأمل، والوقت سيجعلك أقوى مما تظن."

تملأ لحظة الصمت الكوخ، وكأن العالم بأسره قد توقف للحظة، حيث الحنان والتفاؤل يتغلبان على الظلام الذي يحيط بهما.

ثم بعد ذلك، يذهب **سيف** الي العمل ليعيل نفسه وأمه، ليصبح مصدر قوة بدلًا من أن يكون عبئًا عليها. انطلق مع مجموعة من القرويين إلى إحدى القرى القريبة، حيث عمل بجد ليجني الطعام والمال، كل ذلك ليشعر بأنه يسهم في تأمين الحياة التي وفرتها له سرينا.

وفي المملكة بمكان التمرين، ظهر **لوريس**، ابن **لالوريس**، وهو يتمرن بقوة وشراسة. تدريباته كانت تختلف تمامًا عن ما سبق. كل حركة كانت مليئة بالقوة والغضب، كأنما يحمل على كتفيه عبء مملكة بأكملها. لم يكن يومًا عاديًا، لقد شعر لوريس بأنه أصبح أقوى بكثير بعد تدريباته المستمرة. أنهى تمرينه الشاق، وأخذ سيفه واتجه نحو السوق لرؤية أحوال الناس.

في السوق، كانت الحياة تمضي بشكل اعتيادي، لكن انتباه **لوريس** وقع على مشهد مؤلم. أحد البائعين، رجل قاسٍ وبدين، كان يضرب أحد الصبيان العاملين معه بقسوة. كان الصبي من الشمال، عبداً اشتراه البائع ويتعامل معه بأبشع الطرق. كانت عيون الصبي ملأى بالخوف والألم، وجسده يرتجف تحت وطأة الضربات.

دون تردد، اقترب **لوريس** من البائع بعينيه الباردتين. وفي لحظة مفاجئة، سحب سيفه بسرعة وقطع إصبع البائع، صرخة الرجل القاسية شقت الهواء. التفت لوريس إليه وقال بنبرة صارمة، "المرة القادمة إن رأيتك تفتري على الضعفاء، سأقطع يدك كاملة."

وقف الناس في السوق مذهولين، لم يتوقعوا أن يُظهر لوريس مثل هذا الجانب. كان الجميع يعرفونه كابن الملك، القاسي مثل أبيه، لكنهم لم يروا فيه هذا التعاطف من قبل.

وصلت الأخبار سريعًا إلى **لالوريس**، الذي انفجر غضبًا عندما سمع بما حدث. دخل إلى قاعة التدريب حيث كان لوريس يتمرن مرة أخرى، وتقدم نحوه بخطوات ثقيلة وعيناه تشتعلان بالغضب.

"هؤلاء أعداؤنا!" صرخ لالوريس، "لا رحمة لهم. هؤلاء من قتلوا خالك، كيف تجرؤ على حماية واحد منهم؟!"

وقف **لوريس** بثبات أمام والده، غير مهتز، عينيه تعكسان شموخًا وتحديًا. أجاب بصوت هادئ لكنه قوي: "هذا الرجل الذي تم ضربه لم يكن هو من قتل خالي. أنت، يا أبي، بغضبك العارم، تسرعت في إصدار الأحكام وقتلت الأبرياء دون دليل. وأنا لن أسمح بأن يُضرب أي ضعيف أو فقير أمامي، حتى وإن كان من الشمال."

كانت لحظة ثقيلة. **لالوريس** لم يكن معتادًا على أن يتحداه أحد، وخصوصًا ابنه. لكن هذه المرة، أدرك أنه أمام شخص قوي الإرادة، لن ينكسر بسهولة أمام غضبه.

انتشر صمت ثقيل في القاعة، وكأن الصدام بين جيلين قد بدأ، حيث يمثّل **لوريس** شموخًا جديدًا، ربما يحمل ملامح العدالة التي افتقدتها مملكة الجنوب لفترة طويلة.

في ليلة هادئة تحت سماء مرصعة بالنجوم، كان **سيف**، الشاب ذو الشعر الداكن الكثيف، يستلقي على سريره البسيط في الكوخ وسط الغابة. عيناه مغلقتان بهدوء، لكنه لم يكن نائمًا بعمق. بداخله دوامة من الأحلام الغريبة تتصارع مع واقعه. وفجأة، وجد نفسه في عالم غريب. في الحلم، رأى جسده ينبت من داخله بذرة صغيرة، بدأت تتفرع ببطء لتتحول إلى شجرة ضخمة تنمو وتخرج من صدره. الأغصان امتدت بعيدًا، وأوراق الشجرة تلامس السماء، ذات منظر مذهل وجذاب، بينما كان سيف مذهولًا، يتأمل هذا التحول الغريب.

استيقظ فجأة، أنفاسه متسارعة وقلبه ينبض بقوة، لكنه لم يكن متأكدًا مما يعنيه هذا الحلم.

في تلك اللحظة، في المملكة ، كانت مجموعة من المرتزقة يزحفون في الظلام كالأشباح، يتسللون عبر الأزقة الضيقة والقلاع الصامتة. كانوا مدربين جيدًا، يعرفون ما يفعلون، ويتحركون دون أن يلاحظهم أحد. كانوا ينوون القيام بشيء خطير، شيئًا سيغير مجرى الأحداث في المملكة.

في القصر، كان **لوريس** قد أنهى يومه الطويل من التدريب وأحوال السوق، وقرر أن يخلد إلى النوم. دخل غرفته بهدوء، حيث ألقى جسده المتعب على السرير، مستعدًا للراحة. لكن قبل أن يتمكن من إغلاق عينيه، شعر بحركة غريبة. فتح عينيه ليرى شخصًا غريبًا يقف في زاوية الغرفة، لا صوت ولا حركة. وقبل أن يتمكن لوريس من التحرك أو حتى الصراخ، هجم الرجل عليه بسرعة، خدره بلمسة قاتلة على رقبته، وشعر لوريس بجسده ينهار تحت تأثير المخدر.

الخاطف، بخبرة وهدوء، حمل جسد **لوريس** المغمى عليه وألقاه على كتفه. تحرك بحذر، يتجنب الحراس والأعين الساهرة. كان يعرف الطريق جيدًا، استطاع التسلل من المملكة والخروج دون أن يلاحظه أحد.

في تلك الأثناء، كان **سيف** يمشي ببطء على الطريق الذي يعبر من خلال الغابة، يشعر بالإرهاق لكن عقله لا يزال مشغولًا بذلك الحلم الغريب. وبينما كان يقترب من منزله، لمح في الظلام عربة تتحرك ببطء على الطريق الترابي الضيق. كانت العربة تبدو غير مألوفة، ومجموعة من الرجال يسيرون بجانبها، وجوههم مغطاة بالظلال.

شعر **سيف** بشيء غريب، حدسه أخبره أن هناك شيئًا غير طبيعي يحدث. وبينما كان يراقبهم من بعيد، لمح شيئًا جعل قلبه يتوقف للحظة. تحت العربة، كانت هناك يد تخرج من أسفل القماش الذي يغطيها. يد تبدو بشرية، لكن دون حركة.

تقدم سيف خطوة نحو العربة، يحاول أن يحدد ما إذا كان ما رآه صحيحًا. لكن العربة كانت قد بدأت بالتحرك بعيدًا، والرجال الذين يحيطون بها كانوا متيقظين. كان هناك توتر في الهواء، وكأن شيئًا كبيرًا على وشك أن يحدث.

في ظلمة الليل، وصل المرتزقة أخيرًا إلى أحد الأكواخ المهجورة في عمق الغابة. المكان كان معزولًا تمامًا، لا يُسمع فيه سوى أصوات الرياح التي تعصف بين الأشجار. تقدموا بحذر، ثم رمى أحدهم جسد **لوريس** المغمى عليه على الأرض بقسوة. ارتطام جسده بالأرض أطلق صوتًا مكتومًا، بينما وقف المرتزقة حوله يضحكون.

"لقد أمسكنا بالجائزة الكبرى"، قال ذلك أحدهم، بينما بدأ الآخر بربط **لوريس** بإحكام. لم يكن لدى هؤلاء الرجال أي شرف أو رحمة. كانوا مجرد صائدي أرواح، مستعدين لفعل أي شيء مقابل المال.

بعدها، أرسلوا حمامة زاجلة برسالة إلى القلعة، حيث كان **لالوريس** جالسًا في قاعة الحكم. عندما وصلت الرسالة، فتحها بلهفة وقرأ الكلمات المكتوبة فيها بحبر أسود قاتم: "أيها الطاغية، كم تعطينا من الدنانير أمام روح ابنك الملقى أمامنا؟" كان قلب **لالوريس** يكاد ينفجر من الغضب. قبضته كانت ترتجف وهو يمزق الورقة ببطء، ثم اندفع إلى غرفة **لوريس**، ولكن الغرفة كانت فارغة.

غضب **لالوريس** تحول إلى عاصفة هائجة. صرخ بصوت مهيب، وأمر جنوده بأن ينتشروا في كل أرجاء الغابة، يبحثون عن ابنه المختفي. كانت عيناه تشتعلان بالحقد والغضب، غير قادر على تصديق أن ابنه قد تم اختطافه.

في تلك الأثناء، استيقظ **لوريس** داخل الكوخ المظلم، ووجد نفسه مربوطًا بإحكام. كانت عيناه تتجولان في المكان، حتى رأى المرتزقة الجالسين أمامه، يضحكون ويتهكمون.

"هذا هو ابن الملك؟" قال أحدهم بسخرية وهو ينظر إلى لوريس بنظرة ازدراء. "كيف لهذا أن يكون ملكًا في المستقبل؟ هههه!" وأضاف آخر: "لن يكون شيئًا سوى لعبة في أيدينا."

بينما كانت الضحكات القاسية تتعالى في الكوخ، فجأة، ومن خارج الأبواب، سُمع صوت مروّع. صوت سيف يضرب أحد المرتزقة الذين كانوا يقفون في الخارج، يتبعه صوت جسد يسقط على الأرض بقوة، يتلوه صوت انسكاب الدم.

صُعق المرتزقة، وساد الصمت للحظة قصيرة قبل أن تنفجر الأبواب بعنف. دخل شخص إلى الكوخ بخطوات واثقة، سيفه ملطخ بالدماء، ونظراته باردة كالجليد. لم يُعط المرتزقة وقتًا للرد، بل بدأ على الفور بتقطيعهم واحدًا تلو الآخر. كل ضربة كانت مميتة، ولم يترك مجالًا لأحدهم أن يلتقط أنفاسه. كان صوت السيف مرعبًا، كل ضربة تنطلق بحدة ودقة قاتلة، كأنما يتعامل مع قَطع العشب وليس مع أرواح بشرية.

جلس **لوريس** مذهولًا من المشهد أمامه. الشخص الذي اقتحم الكوخ لم يرمش بعينه حتى وهو يقتل المرتزقة بلا رحمة. كان ثابتًا، هادئًا، وكأن الدماء التي تلطخ ملابسه مجرد ماء.

في لحظات قليلة، كان الكوخ قد امتلأ بجثث المرتزقة، والهدوء قد عاد، إلا من صوت التنفس العميق لهذا الشخص الغريب. اقترب من **لوريس** بهدوء وقطع الحبال التي كانت تربطه، ثم مد يده إليه بابتسامة صغيرة وبريئة، تناقض تمامًا مع المشهد الدموي الذي دار للتو.

قال بلطف: "مرحبًا، أنا **سيف**."

كان صوت **سيف** يحمل براءة غير متوقعة، كأن الشخص الذي ذبح المرتزقة قبل لحظات لم يكن هو نفسه. ابتسامته كانت هادئة ودافئة، وكأن كل ما حدث كان أمرًا عاديًا.

نظر **لوريس** إلى هذا الشاب بدهشة، غير مصدق لما رأى. كيف يمكن لشخص أن يكون بهذه القوة والوحشية في المعركة، وفي نفس الوقت بهذه البراءة في لحظة أخرى؟

بعد أن تأكد سيف من أن المكان آمن، نظر إلى لوريس الذي بدا منهكًا ومصدومًا مما حدث. قال له بنبرة هادئة: "تعال، سأخذك إلى الكوخ الذي أعيش فيه. تحتاج إلى الراحة، وفي الصباح سأعيدك إلى أهلك."

لم يكن لدى لوريس الكثير من الخيارات، فقد أنهكه التعب وفقدان التركيز. تبع سيف عبر الغابة، والظلام يلفهما من كل جانب. لكن سيف كان يعرف كل خطوة يخطوها، كأنه وُلد بين تلك الأشجار. كان الطريق طويلًا لكنه صامت، ما عدا أصوات الطبيعة من حولهما.

لو عجبكم الفصل ارجو المشاركة برأيكم بالتعليقات🦦

اول مرة اكتب رواية كونوا لطفاء

2024/09/20 · 26 مشاهدة · 1545 كلمة
You ssef
نادي الروايات - 2025