4 - عهد المقاومة و الامل

في قاعة الضيوف الكبيرة، حيث تُزيّن الجدران بالأعلام المزركشة ورائحة الطعام الفاخر تتصاعد في الأرجاء، جلس **لوريس** و**سيف** حول طاولة عامرة بأشهى المأكولات. كان الجو هادئًا، لكن في أعماق **سيف**، لم يكن هناك سوى الاضطراب. عينيه تجولان في أرجاء المكان، تلمحان تلك اللمسات البراقة التي أضيفت على المملكة المحتلة، لكن في عقله لم يكن يرى سوى صور الدماء والدمار التي قام عليها هذا البناء الجديد.

أثناء تناول الطعام، نظر **لوريس** نحو **سيف** بابتسامة متعبة، وقال: "لقد أنقذتني. لولاك لما كنت هنا الآن، ولا أستطيع أن أشكرك بما يكفي." لكن **سيف** لم يكن مرتاحًا. كان هناك شيء يطارده، شيء غير مريح حول ماضي هذه المملكة. ثم قرر أن يسأل: "ذلك الشخص الذي قتلته... ماذا كان يقصد؟ هل حقًا قامت هذه المملكة على الظلم؟"

**لوريس** جفل للحظة، ناظراً إلى طبقه قبل أن يرد: "لا تشغل بالك بهذا الشأن، يا **سيف**. هناك الكثير من القصص القديمة والمظالم التي لا نملك السيطرة عليها الآن. الأفضل أن تنسى. اكمل طعامك، وخذ بعض النقود لتعينك في حياتك. سأجعل الحرس يرافقونك إلى منزلك."

لكن **سيف** رفض، قائلاً بحدة: "لا. سأذهب لحالي. لا أحتاج إليهم."

ومع ذلك، أثناء عودته إلى الكوخ، كان إحساسه بالخطر يزداد. شعر وكأن عيونًا تراقبه من الظلال بين الأشجار. فجأة، توقف، أدرك أن هناك من يقترب.

ثم، من خلف الأشجار، ظهر صوت هادئ وحازم: "كنت أعلم أنك لست شخصًا عاديًا، لديك حدس المحارب يا ابن الشمال."

تجمد **سيف** في مكانه، وتوترت عضلاته. كيف يعرف هذا الشخص هويته؟ كيف عرف أنه من الشمال؟ بسرعة، استدار نحو الصوت، ليرى رجلاً يخرج من الظلال، يقف بهدوء وثبات. نظراته شديدة الحدة تتحلى بالغموض.

**سيف** تراجع خطوة، متسائلاً بصدمة: "من أنت؟ وكيف عرفت من أكون؟"

توقف الرجل أمام **سيف**، عينيه تغمرهما ذكريات حرب طويلة وألم الفقدان. قال بصوت عميق وحاسم: "أنا القائد **إبراهيم**، كنت اليد اليمنى للسيد **أدريس**، رئيس الجند وحامي مملكة الشمال. لقد عرفت والدتك يا **سيف**، وكنت معك منذ يوم الحرب، لكن الأيام لم تكن رحيمة.

تردد **سيف**، ولم يستطع إخفاء دهشته. هذا الرجل الذي يقف أمامه الآن، الذي يظهر وكأنه شبح من ماضٍ مجهول، كان يعرف كل شيء عنه. قبل أن يتمكن **سيف** من طرح أي سؤال، تابع **إبراهيم** قائلاً: "تعال معي، سأريك شيئًا."

قاد **إبراهيم** **سيف** عبر مسالك سرية ملتوية بين الأشجار الكثيفة، إلى مكان معزول بين الجبال. هناك، تردد في الهواء صدى أصوات الحزن والشقاء. عندما وصلا، فتح المشهد أمام **سيف** كابوساً مؤلماً. مجموعة كبيرة من الناس، رجال ونساء وأطفال، يعيشون في أكواخ خشبية متهالكة، بعضهم يتدربون بأسلحة بدائية، والبعض الآخر يرقد على الأرض مريضًا أو جائعًا، في انتظار الموت.

قال **إبراهيم** بصوت مليء بالمرارة: "انظر جيدًا، يا **سيف**. هؤلاء هم الناجون من الشمال. هؤلاء الذين دمرتهم الحرب، الذين فروا من الموت لكنهم لم يفروا من الألم. هنا تجدهم واقفين، صامدين رغم كل شيء. يتدربون بأمل ضعيف في يوم يعود فيه النور إلى الشمال. لكن منهم من أصابه المرض، ومنهم من هزمهم الجوع. وكثير منهم ماتوا من اليأس قبل أن يتمكنوا من رؤية يومٍ جديد."

توجه **سيف** بنظراته إلى وجوه هؤلاء الناس. كان يراهم لأول مرة، لكنه شعر بأنهم جزء منه، جزء من قصته. رأى الأطفال الذين لم يعرفوا طعماً للحياة سوى الخوف، ورأى الرجال الذين فقدوا كرامتهم في الحروب. كانت عيونهم تتحدث عن الألم الذي عاشوه، وعن الظلم الذي ألقاهم في هذا الجحيم.

ثم سأل **إبراهيم**: "قل لي، يا ابن الشمال، ألا يستحقون أن يعيشوا كما يعيش أولئك الظالمون في المملكة؟ أولئك الذين لم يعرفوا إلا الترف على حساب دمائنا؟"

وقف **سيف** صامتاً، كأن الكلمات خنقت في حلقه. لم يظهر على وجهه سوى البرود، لكن في داخله كانت نار تشتعل، نار الغضب والانتقام. كان يسمع صرخات كل هؤلاء في قلبه، يشعر بوزن المسؤولية يتزايد. كأن العالم كله قد أصبح على كتفيه.

كانت لحظة فاصلة، لحظة تجعل **سيف** يدرك أن قدره أكبر من مجرد شاب يعيش في الغابة.

في عمق الليل، غرق **لوريس** في حلم عميق، غمره دفء ذكريات أمه وحنانها. كان يرى وجهها المبتسم، يدها التي كانت تلمس شعره برفق كما كانت تفعل عندما كان صغيرًا، وكأنها تحميه من كل شرور العالم. كان المشهد يغمره السكون والراحة، لكن فجأة، تلاشت تلك السكينة.

ظهر رجل غامض في الظل، خطواته ثقيلة، وملامحه غارقة في الظلام. دون سابق إنذار، اندفع نحو أمه، وسيفه يتلألأ في الضوء الخافت. قبل أن يتمكن **لوريس** من الحركة، كانت الطعنة قد أصابت قلب أمه. الدماء بدأت تتدفق، وسرعان ما غطت وجه **لوريس**، حارة وثقيلة. حاول الصراخ، حاول الحركة، لكن جسده تجمد في مكانه.

ثم، ببطء مخيف، التفت الرجل ليكشف عن وجهه. اتسعت عينا **لوريس** برعب عندما رأى وجه الرجل بوضوح: كان **أبوه، لالوريس**.

استفاق **لوريس** من كابوسه، جسده يغمره العرق البارد، وصدره يرتفع وينخفض بسرعة. الدموع تجمعت في عينيه، وأخذ يبكي بحرقة. هذا الحلم لم يكن مجرد كابوس عابر، بل ذكرى مؤلمة. تذكر تلك اللحظة المروعة عندما وقف عاجزًا، بينما قطع والده رأس أمه لأنها كانت شمالية، وهو، **لوريس**، لم يجرؤ على الاعتراض.

ظل جالسًا في الظلام، يشعر بثقل الألم والتضحية.

عاد **سيف** إلى الكوخ تحت ضوء القمر الخافت، وصوت الرياح الخفيفة التي تحرك أوراق الأشجار يرافق خطواته المتعبة. عندما دخل، وجد **سرينا** جالسة بجانب النار المشتعلة، عيناها مليئتان بالقلق والتوتر. كانت مستيقظة طوال الليل، تنتظر عودته بقلق لا يهدأ. نظرت إليه سريعًا عندما دخل، وتقدمت نحوه بخطوات سريعة.

"أين كنت، يا بني؟ كنت قلقة عليك!" قالتها وهي تلمس وجهه بحنان، تتحقق من أنه بخير.

جلس **سيف** بهدوء بجانب النار، وصمت للحظة، ثم تحدث بصوت منخفض، لكنه مثقل بالحزن والتفكير العميق.

"لقد رأيت اليوم يا أمي... رأيت الفرق بين القمة والقاع. رأيت ناسًا تعيش براحة وثراء، وناسًا أخرى تموت من الجوع." قالها وعيناه تحدقان في النيران المتراقصة، وكأن النار تعكس ما في داخله من مشاعر مختلطة.

**سرينا** جلست بجانبه، تضع يدها بلطف على كتفه، وقالت بهدوء: "الحياة يا بني ليست عادلة دائمًا، ولكن عليك أن تقرر ما الذي ستفعله أمام هذا الظلم."

ظل **سيف** صامتًا، يشعر بثقل الكلمات التي سمعها. كانت تلك الليلة بداية لتغيير كبير في داخله، بداية لتحول من شاب يعيش في الغابة إلى رجل يجب عليه أن يختار بين الاستسلام للواقع أو النهوض لمواجهة الظلم الذي رآه بأم عينيه.

مع بزوغ الفجر، كان الضباب الخفيف يتسلل بين الأشجار، والهواء البارد يعانق وجوه الناجين الذين تجمعوا في المخيم. وسط هذا السكون الصباحي، خطا **سيف** بثبات نحو تلة صغيرة تطل على المعسكر، وجهه حازم ونظراته تحمل معنى جديدًا. وقف هناك، في المكان الذي يمكن للجميع أن يراه ويسمعه بوضوح.

جمع الناجون حوله، مستغربين هذا المشهد، ورؤيتهم له واقفًا بتلك الثقة التي لم يروها من قبل. رفع **سيف** رأسه، وتنفس بعمق قبل أن ينطق بصوت قوي، هزّ الأرض من تحته:

"يا قووم!" صوته ارتفع في الهواء الصباحي الهادئ، جذب انتباه الجميع فورًا. "أنا **سيف**... ابن الشمال!"

كانت كلماته تضرب كالرعد في قلوب الحاضرين. وجوههم التي كانت مرهقة من الجوع والحزن بدأت تتنبه، وكأنهم يمسكون بخيط من الأمل.

"أنا من سيبث الأمل في نفوسكم، أنا من لن يخذلكم!" تابع **سيف**، وصوته يزداد قوة وحماسًا، عيناه تلمعان بعزيمة لا تلين. "أقسم بالله، وبشرف الشمال... أنني أنا من سينقذكم من هذا الظلم. لن أترككم تسقطون في هذا المستنقع المظلم. سأقف في وجه من ظلمنا، وسأعيد لكم حقكم المسلوب!"

تعالت الهمسات بين الحاضرين، وبعضهم بدأ يشعر بشيء لم يشعر به منذ سنوات... شعور بالقوة، وبأن هناك أملًا يلوح في الأفق.

ثم رفع **سيف** يده عاليًا، وكأنه يمسك الراية التي سقطت منذ زمن بعيد، وأكمل بحزم: "لن نخاف، لن نستسلم. سنقاتل من أجل حقنا في الحياة الكريمة، من أجل أرضنا التي سُلبت منا، ومن أجل أولئك الذين ضحوا بدمائهم."

صمت المكان للحظات، ولم يكن هناك سوى صوت الرياح التي تحمل كلماته بعيدًا في الأفق. كانت الوجوه التي أمامه مليئة بالدهشة والاحترام، وكأنهم أخيرًا وجدوا من يحمل رايتهم.

وفي تلك اللحظة، شعر **سيف** بأن وعده لم يكن مجرد كلمات، بل كان بداية عهد جديد... عهد المقاومة والأمل.

2024/09/26 · 10 مشاهدة · 1230 كلمة
You ssef
نادي الروايات - 2025