مرّ الليل على الناس بسكينةٍ وطمأنينة، لكنه مرّ على إبراهيم كصاعقةٍ متينة هشّمت كل أركان حياته. كان يجلس على الأرض في زاوية الغرفة، يحمل الطفل بين يديه، ينظر إليه بعينين غائمتين، غارقتين في بحرٍ من الصدمة والحزن. أمامه كان جسد إيميلي المسجّى على السرير، هادئًا كأنها نائمة، إلا أن الدموع التي تجمعت على وجهها كانت تشي بحقيقة مغايرة، وكأنها دموعها الأخيرة كانت تتحدث إليه بصمت، تقول:
"أبي... انتقم لي."
كان إبراهيم عاجزًا عن الفهم، عن التصديق. كل لحظةٍ تمر كأنها طعنة تُضاف إلى قلبه المنهك، وكلما نظر إلى إيميلي، كان يرى حياتها تتلاشى أمام عينيه.
على الجانب الآخر من الغرفة، كانت سرينا جاثية بجانب السرير، تمسك بيد أختها الراحلة، تهزها في يأسٍ بينما دموعها تنهمر بلا توقف. صوتها كان يعلو بنحيبٍ ممزوجٍ بالمرارة والألم:
"إيميلي! قومي يا أختي! لا تتركيني وحدي... أختيييي! أختيييي!"
لكن صوتها كان يرتد في فراغٍ موحش، لا إجابة، لا حركة. إيميلي كانت قد غادرت.
رفع إبراهيم رأسه ببطء، عيناه فارغتان من كل تعبير، لكنه كان يشعر بثقل لا يوصف يسحق صدره. نظر إلى سرينا التي كانت تغرق في بكائها، وتحدث بصوتٍ خافتٍ بالكاد يسمع:
"سرينا... توقفي، يكفي. إيميلي رحلت. البكاء لن يعيدها."
لكن كلماته لم تصل إلى قلبها المنكسر، بل زادت من انهمار دموعها. كانت صرخاتها تمزق سكون الليل، وكأنها تناجي أختها الراحلة أن تعود، أن تفتح عينيها مرة أخرى، أن تمسك بيدها كما اعتادت دائمًا.
عاد إبراهيم بنظره إلى الجسد المسجّى. الدموع التي جمدت على وجه إيميلي كانت تنكأ في قلبه جرحًا لن يندمل. شعر وكأن شيئًا بداخله قد انكسر إلى الأبد. حمل الطفل مرة أخرى، ويداه ترتجفان من وطأة المشاعر المتدفقة، لكنه لم يذرف دمعة واحدة. الألم كان أكبر من أن يُعبّر عنه بالبكاء.
وقف أخيرًا، يحدق في وجه ابنته الراحلة، وصوت سرينا خلفه يختلط بصمت الغرفة. كان كل شيء من حوله يوحي بالوجع. أدرك أن هذه اللحظة لن تُمحى، وأن هذا الليل لن يكون كسابقه. كان ليلًا محفورًا في روحه كأعمق جرح، ليلًا حمل معه صاعقة لن ينساها ما دام حيًا.
وقف إبراهيم أمام الجسد المسجّى لابنته، والليل من حوله يزداد ظلمة ووحشة. عيناه كانتا تشتعلان بنارٍ صامتة، نار أقسم ألا تخمد ما دام في صدره نبض. بوجهٍ حجري، وملامح مشدودة كأنها منحوتة من الألم، رفع بصره نحو السماء الملبدة بالغيوم، وتمتم بصوتٍ خافت لكنه مشحون بالقوة:
"أقسم بالله، يا إيميلي، لن أترك حقكِ ما دمتُ حيًا. سأجعلهم يدفعون الثمن غاليًا."
في تلك اللحظة، انقلب وجه إبراهيم الطيب الذي عرفه الجميع إلى وجه آخر، وجه يملؤه الغضب والعبوس. لم يعد يهمه شيء في هذه الدنيا سوى الانتقام.
عندما حان وقت الوداع، دفن إبراهيم جسد ابنته في زاويةٍ هادئة بعيدًا عن أعين الناس. وقف للحظاتٍ طويلة أمام القبر، عاقدًا حاجبيه، وكأنه ينقش في قلبه عهدًا جديدًا، عهدًا لا رجعة فيه. ثم عاد إلى المنزل، وحمل الطفل بين يديه للمرة الأخيرة قبل أن يسلمه إلى سرينا.
نظر إلى ابنته الكبرى بعينين ملتهبتين بالحزن والغضب، وقال بصوتٍ حازم:
"سرينا، هذا الطفل أمانة لدينا. لا تخبري أي أحد عنه، أبدًا. نحن فقط من سيعتني به. لا أحد آخر."
شعرت سرينا بقلقٍ يزداد في قلبها. ملامح والدها لم تكن ملامح الرجل الذي عرفته طوال حياتها. كان هناك شيء مظلم وخطير يتسلل إلى أعماقه. أمسكت بيديه بقوةٍ، محاولةً أن تفهم ما يدور في ذهنه، ثم سألته بصوتٍ مرتجف:
"أبي... إلى أين ستذهب؟"
لكن إبراهيم لم يُجب. سحب يده بهدوء، دون أن ينظر إليها. كان قراره قد اتخذ، وكلماته قد انتهت. اتجه نحو الباب بخطواتٍ ثقيلة، لكنه لم يتردد للحظة.
فتحت سرينا فمها لتتحدث، لتصرخ، لتثنيه عن الخروج، لكنها توقفت. كان في وجهه شيء جعلها تتجمد في مكانها، وكأنها شعرت أن أي محاولة لإيقافه ستكون بلا جدوى.
أغلق إبراهيم الباب خلفه، وترك سرينا واقفة في مكانها، يملؤها الخوف من المجهول. وقفت هناك، تحمل الطفل بين يديها، بينما صرخاته الصغيرة تتردد في الغرفة كأنها مرآة لبكائها الصامت. كانت يدها ترتجف وهي تضمه إلى صدرها، وعيناها تراقبان الباب المغلق، تخشى أن تفتح الأيام القادمة بابًا من العواصف لن تستطيع هي ولا والدها إغلاقه.
مرت الايام
في ظلال الغابة الكثيفة، حيث الأشجار تمتد كالجبال، والظلام يحتضن الأرض، وقف إبراهيم بهدوء قاتل. أمامه شخص مكبّل بالأحبال، جسده ملفوف بكيسٍ أسود، يتلوى ويصرخ في محاولاتٍ يائسة للخلاص.
"من أنت؟!" صرخ الرجل بصوتٍ مخنوق، يتردد صداه في عمق الغابة. "دعني أراك! أخرجني من هذا! دعنييي أرااااك!"
بخطوات بطيئة وثابتة، اقترب إبراهيم وأمسك بالكيس الأسود. كانت يداه قاسية، ووجهه لا يحمل سوى الصمت. شد الكيس بقوة، ليكشف عن وجه عدنان، الذي كانت عيناه تلمعان بشيء بين الصدمة والغرور.
بمجرد أن التقت عيناه بعيني إبراهيم، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وقال بصوتٍ مليء بالاستهزاء:
"أوه، إذن وصلتَ إلى هنا. هل وصلتَك آخر الأخبار؟" ضحك ضحكة مجنونة، ضحكة سايكوباتية تكشف عن لامبالاة متوحشة. ثم تابع بصوتٍ أكثر لؤمًا:
"يا إلهي، كم كانت جميلة... ابنتك، أقصد."
لم تهتز ملامح إبراهيم، ولم تظهر على وجهه أي علامة للغضب أو الانفعال. كان وجهه كالحجر، باردًا وصارمًا. أخرج سكينًا صغيرًا من جيبه، يلمع تحت الضوء الخافت الذي تسلل من بين أغصان الأشجار.
توقف عدنان عن الضحك فجأة، وقد بدأت نظراته تتغير. رأى في عيني إبراهيم شيئًا جعله يشعر بالخطر الحقيقي، شيئًا يفوق التهديد. تراجع برأسه للخلف، محاولًا الإفلات، وصرخ بصوتٍ مذعور:
"لا! لا تفعل ذلك! اسمعني، يمكننا التفاهم! لا! أرجوك!"
لكن إبراهيم لم ينصت. خطواته كانت ثابتة، ويده التي تحمل السكين لم ترتجف. اقترب أكثر وأكثر، عيناه مثبّتتان على عدنان، وكأنهما تنظران إلى روحٍ فارغة لا قيمة لها.
وفي لحظةٍ صامتة، لم يكن فيها صوت سوى همسات الرياح بين الأشجار، أمسك إبراهيم برأس عدنان. لم تكن هناك كلمات، فقط تنفيذ القسم. بيدٍ قاسية، وبحركةٍ حاسمة، قطع السكين صرخات عدنان إلى الأبد.
توقف الزمن للحظة. الدم سال ببطء، ينساب على الأرض مثل لعنةٍ تخرج من جسد عدنان. وقف إبراهيم، يراقب الجسد الهامد، وجهه لا يزال جامدًا، وكأن شيئًا لم يحدث.
في تلك اللحظة، كانت الغابة شاهدةً على انتقامٍ وُلد من وعدٍ مقدس. طأطأ إبراهيم رأسه قليلًا، ثم مسح السكين بقطعة قماش، وأدار ظهره للجسد، تاركًا الظلام يبتلع عدنان، وقال "أقسمت وفعلت "
عاد إبراهيم إلى المملكة، هادئًا كعادته، لكن عينيه كانتا تحملان ثقلًا لا يستطيع أحد أن يفك شفرته. تساءل الجميع عن غيابه الطويل، أين كان؟ ولماذا ترك المملكة في وقتٍ حساس؟ لكن إبراهيم لم يُجب. كان صامتًا، كأنه يحمل سرًا أثقل من أن يُقال.
كانت المملكة تعيش فترة سلامٍ مع الجنوب. الملك إدريس نفسه كان يتساءل عن غياب إبراهيم، لكنه لم يجد إجابة. الأسئلة ظلت تتردد بين الجدران وفي الأسواق، دون أن تجد من يُجيب.
لكن السلام لم يكن سوى سراب، وتلك الليلة جاءت كالكابوس الذي يزحف على أحلام الجميع. ليلة لم ينم فيها أحد. الليل الأسود أعلن عن وجهه الحقيقي عندما اخترقت جحافل الجنوب بقيادة لالوريس حدود الشمال. كان الاقتحام كالعاصفة، يدمر كل شيء في طريقه، وصراخ الأمهات وبكاء الأطفال ملأ أرجاء المملكة.
وسط الفوضى، وقف إبراهيم، يترنح بين الواجب وحماية عائلته. أمسك بيد ابنته سرينا وهي حاملة ذلك الطفل، وأخذها إلى أحد المخابئ، حيث كان المدنيون يختبئون من جحيم الحرب. أمسك بوجهها بيدين مرتجفتين، وقال بصوتٍ متقطع من القلق:
"ابقي هنا يا ابنتي. لا تتحركي. مهما سمعتِ، لا تخرجي حتى يأتيكِ خبر مني."
سرينا، التي لم تكن قادرة على حبس دموعها، أمسكته من ذراعه محاولةً إيقافه.
"أبي، لا تذهب! أرجوك!"
لكن إبراهيم حرر نفسه من قبضتها برفق، ووضع يده على رأسها بحنانٍ أخير. "يجب أن أذهب، يا سرينا. هذا واجبي."
خرج إبراهيم، تاركًا قلبه وراءه في ذلك الملجأ، وانطلق إلى ساحة القتال. كان كالأسد، يندفع وسط المعارك دون خوف، يضرب بسيفه بقوةٍ لا ترحم. الدماء تتطاير من حوله، لكن عينيه كانتا ثابتتين، تراقبان كل حركة، كأنه وُلد لهذا اليوم.
لكن ما حدث كان أكبر من أن يُوقفه شجاعة رجلٍ واحد. المعركة اشتدت، وجنود الشمال بدأوا يتراجعون تحت وطأة الأعداد الساحقة من الجنوب. وفي قلب الفوضى، سقط إدريس، سيد الشمال، على ركبتيه، ورأسه قُطع . كان مشهدًا كابوسيًا، لحظة كسرت روح المملكة.
الذعر اجتاح الجميع، وصوت لالوريس يعلو وسط المعركة معلنًا:
"الشمال انتهى! أنتم لنا الآن!"
إبراهيم، الذي كان يقاتل بلا توقف، شعر بثقل الهزيمة يجثم على صدره. كان يعلم أن المعركة قد انتهت. ومع سقوط إدريس، سقطت المملكة.
أمر إبراهيم جنوده الباقين بالتراجع، وأخذ المصابين معه، هاربًا من ساحة المعركة. كان قلبه مثقلًا بخيبة أملٍ كبيرة، وعيناه تبحثان عن ابنته سرينا، لكنها لم تكن هناك.
افترق إبراهيم عن ابنته، وبينما كان ينسحب مع جنوده المرهقين إلى الغابات، كان يشعر بفراغٍ ينهش قلبه. الخيبة لم تكن فقط في فقدان المعركة، بل في فقدان عائلته، وطنه، وكل ما قاتل من أجله.
في تلك الليلة، كانت المملكة الشمالية قد طأطأت رأسها، والدموع غسلت وجه الأرض.
كانت ليلة السقوط، حيث لا بطل يستطيع أن يعيد الكرامة، ولا دماء كافية لتروي عطش الانتقام.