اليوم : 22\7\2011

الوقت : 11:20 مساء.

المكان : طوكيو، منطقة بيكا الخامسة، الشارع الثامن.

الآن تراه

من عباءة الظلام السرمدي وملكوت الليل الذي غطى بحكمه الأفاق، تحت نظر الغيوم السوداء الحاجبة لشعاع القمر الفضي، الصمت راح يعزف معزوفته الكئيبة الموحشة والتي لا يقطعها سوى هبوب رياح النذير تاركة لأغصان الأشجار المجال للإعتراض ولكن بصوت لا يكاد يبين.

وحده كان هناك، لباسه الأسود الفاخر الذي زاد من صعوبة تميزه، القفازان الأبيضان المعاكسان للون ثيابه، عصى الأبنوس الفخم التي راح يديرها بيده اليمنى قارعا الأرض بطرفها كل عدة ثوان وكأنها لعبة يستمع بها، صوت خطواته امتزج مع ذلك الصفير المنتظم الصادر من بين شفتيه، ملامح وجهه اختفت خلف تلك القبعة الحريرية التي لابد من أن ثمنها مكون من أربع خانات على الأقل، رغم صعوبة الرؤية إلا أن طوله لا تخطئه عين، نحوله كان صفته الثانيه، لو لمحته لشككت في كونه لا يتناول كفايته من الغذاء.

من أين جاء؟, إلى أين يذهب؟ ومالذي يفعله في مثل هذا الوقت المتأخر؟ كلها أسئلة لا نملك لها جوابا في الوقت الراهن، واصل مسيرته لبضع دقائق قبل أن ينعطف عند التقاطع ويتقدم من تلك الحديقة الصغيرة الساكنة بخطوات لا عجلة فيها، لكنه لم يكد يقترب من سورها حتى أضيء في وجهه مصباحان قويان كان مصدرهما سيارة ربضت وسط السكون, كالليل الفاحم لونها و طرازها يدل على الفخامة والسمو، فتح الباب الخلفي ليظهر على عتبته رجل متوسط الطول ذي وجه دال على الشكيمة والقوة هذا ما لمحت إليه تلك الندوب والجروح التي انتشرت فوقه.

" في وقتك تماما، الزعيم في انتظارك"

خرجت من صاحب الندوب بلهجة دلت على إعتياده إصدار الأوامر، لمس ذو الرداء الأسود قبعته في شمم وأمالها على وجهه أكثر وهو يتقدم من المركبة بخطوات متمهلة، تحرك متوسط الطول جانبا مما سمح له بأن ينزلق في نعومة إلى داحل السيارة قبل أن يتبعه الأخر ويغلق الباب على الفور.

بلا اهتمام حقيقي راحت عيناه تجوبان الداخل الفسيح، الأرضية غطيت بأجود أنواع السجاد الفارسي السميك سامحا لقدمك أن تغوص فيه، المقاعد الواسعة المغطاة بأفخم الجلود الحيوانية، الإضاءة القوية التي هي إلى إنارة المنازل أقرب وإن كان الزجاج المظلل السميك يحجب هذه الحقيقة عمن هو في الخارج, المشرب الصغير في الزاوية والتي تراصت كؤوس وزجاجات السم فوقه.

" ياله من مكان ووقت للقاء "

خرجت هذه العبارة ساخرة قوية لتدفعه إلى الإلتفات ببطء وبرود، كان القائل رجلا كهلا، ممشوق القامة وعريض المنكبين قد شاب فوداه وإن احتفظت بقايا خصال شعره بسوادها مما أعطاه منظرا وقورا متزنا ضاعفته تلك التجاعيد التي انتشرت على تقاسيم وجهه، محيطة بعينيه ذي المقلتين الكهرمانيتين، في ثقة ورفعة أشار إلى الواقف بالجلوس على المقعد المقابل له، لم يعلق الرجل بل اكتفى بأن وضع عصاه جانبا ورفع قبعته بعدها تاركا لخصال شعره الأبيض بالتحرر ومظهرا ولأول مره عينيه أمام الجميع، وعلى الرغم من الثقة التي أظهرها الكهل في البداية إلا أنها سرعان ما اهتزت بشدة وظهر هذا جليا من انقباض كفه على أحد أزرار قميص سترته البنية الفخمة.

مقلتاه ظلتا مسلطتين على القادم الجديد، بشرته البيضاء الشاحبة أعطته وسامة لا شك فيها، ولكن ما أثاره حقا كانت عيناه، قزحيتان كالدم الجاري في العروق، قويتان كحسامين قاطعين، تبرقان حتى يخيل إليك أن الضوء يصدر منهما لا مجرد إنعكاس.

" لنتحدث في العمل "

أمرة قاطعة، بثلوج القطب حملت وبعمق القوة اختلطت، لتنزع الكهل من تأملاته وتعيده إلى أرض الواقع بغتة، احتاج إلى بضع من الثوان كي يستعيد توازنه، تنحنح في خفوت ليبدأ الحديث بعدها

" كما تعلم فإن هذه المرة الأولى التي ألجأ فيها إلى خدماتكم لهذا أجد في داخلي بعض الشكوك و... "

" إذا كنت مترددا فأنا مغادر "

بصوته الرخيم العميق تحدث في كبرياء النبلاء، ملامحه لا تشي سوى بالبرود، وكأنما أراد تأكيد كلامه، جذب عصاه وهو يهم بالنهوض.

" حسنا، حسنا، لا داع للغضب، سيكون كل شيء بخير طالما نتبع القواعد، أليس كذلك؟ "

ظل ذو الشعر الأبيض يرمقه في صمت دفعه إلى أن يمد يده إلى الصندوق الأحمر ذي الطراز العتيد القابع بجواره، ويتناول منه إحدى السجائر الكوبية الفاخرة ،المعروفة برائحتها النافذة، ليشعلها في سرعة بقداحة ذهبية سحبها من جيبه، لم يكد يسحب أول أنفاسه حتى طارت من فمه واحتاج إلى بضع ثوان نقل خلالها بصره مرارا بين الجالس أمامه والخنجر الفضي الذي انغرس على مسافة قصيرة منه وقد اخترق البنية السامة من منتصفها.

" أيها الوغد "

هتف صاحب الندوب في ثورة ويده تنزلق إلى جيب سترته نحو سلاحه الناري ولكن ملمس المعدن الحاد البارد أجبره على التوقف، متى استدار الغريب نحوه؟ لم يجد الإجابة وهو يتأمل في توتر النصل الفضي البارز من أسفل العصاة السوداء، الملامس لموضوع الشريان السباتي في عنقه، حركة واحدة ويكون في عداد الأموات، رفع بصره إلى صاحب الرداء الأسود والذي ضيق عينيه وهو يدفع الطرف الحاد ببطء ليبدأ رحلة تمزيق الأنسجة في رقبة خصمه.

" ساغورا توقف على الفور وأبعد يدك عن سلاحك، وأنت ألا تعتقد أنك ذهبت بعيدا بتصرفك ؟ "

في قلق هتف الكهل وهو يحاول السيطرة على الموقف، تجمدت يد الغريب وهو يتابع ببصره الرجل الأخر وهو يعيد يده إلى جانب جسده ليبعد عصاه بدوره، تاركا للرجل أن يتنهد في ارتياح وقد كاد قلبه يتوقف من لحظات قبل أن ينشغل بمحاولة إيقاف نزيف سائل الحياة من عنقه، ضرب ذو الشعر الأبيض أرضية السيارة بعصاه مجبرا الاثنين على النظر له قبل أن يتكلم

" لكم تحذيري، فرصتكم الأخيرة شارفت على النهاية "

أنهى حديثه وهو ينظر إلى الكهل شذرا، مما دفع الأخير إلى أن يميل جانبا على الفور ويطرق مسند كرسيه بنقرات سريعة، انتهت بمجرد أن تحركت تلك البقعة أسفل مقعده كاشفة عن خزنة صغيرة مخفية في براعة، لم يكد يلمس غطائها بيده حتى تحرك جانبا، مغلف رمادي مكتنز كان هو الساكن الوحيد، بلهفة لا تخفى امتدت اليد المعروقة لتجذبه قبل أن يناوله إلى الأخر في حركة هي إلى الإلقاء أقرب.

بلا لحظة من التردد وبالاستعانة بعصاه مزق رأس الرمادي لينفلج عن محتواه، راح الرجل يجوب بعينه الورق المرتب في سرعة وسط نظرات الترقب الممزوجة بالقلق من الكهل وساغورا، صمت استمر ولم ينقطع سوى باهتزاز كتفي الغريب لينفجر يعدها في ضحكة شيطانية خلعت القلبين الوجلين واسقطتهما من مكانهما

" جرذان قذرة أنتم وبلا خجل، عفن قلبوكم أزكم الأنوف، يا من تسعون بكل جهد لتغدوا في قاع الجحيم، ولكن لا بأس أنا هنا لأكون دليلكم إلى أرذل النهايات وأقبح المصائر، طلبك سينفذ وأنت تعرف ثمنه، يا أتباع الشيطان مستزل أبيكم، أنا المبعوث من أرض الهلاك كي أسلب أرواح المختارين وألقيهم في الضياع، لك كلمتي وأنا لها حافظ، مصيرهم قد تحدد فنم واطمئن واكمل زللك في دنيا الفناء إلى أن يحين أجلك"

وقع كلماته أفزع النفوس وبعث فيها شعورا من الخوف والرعب لم يعرفه الرجلان طوال حياتهما، في قوة راحت القلوب تخفق والأعين تتسع، الأنفاس تسارعات وقطرات العرق تساقطت وهما غير قادرين عن إزاحة بصرهما عن صاحب الضحكة الشيطانية والذي اكتفى بأن وضع المغلف تحت إبطه وأعاد إرتداء قبعته في إشارة واضحة دفعت الكهل بأن يشير بيده، مما دفع ساغورا أن يقفز من مكانه فاتحا باب السيارة، نهض واقفا موحيا بالخروج لكنه توقف ونظر إلى مضيفه وأعلن

" من الأيام ثمانية، من بعدها سيرتفع صدى الموت معلنا البداية لعذاب الأرواح وألم الأجساد، موعدنا حيث يلامس جفاف الأرض ملوحة الماء، واعلم أنه بلقاء العقربين، لا مجال للتخلف أو التراجع، فهل أنت جاهز ؟ "

هز الكهل رأسه في تأكيد، ليبتسم الواقف في شر وهو يغادر السيارة بالفعل

" أتركك الآن بلا وداع بل إلى لقاء قريب، مع ميلاد القمر الجديد، تبدأ رحلة البحث عن الخلاص، فإلى ذلك الوقت افعل ما يحلو لك ولكن إياك و النسيان "

تنهد الرجل في ارتياح بعد انصراف الضيف العجيب، وفيما راح صدى كلماته يدوي مرارا في عقله، وقف مساعده يتأمل الراحل الصامت وهو يتمتم

" هذا هو إذا، حقا لم يخطؤوا حين قالوا بأنه يبعث القشعريرة في النفوس، لم أرى أي شخص كهذا طوال حياتي "

لم يبالي الزعيم كثيرا بكلام رجله، وبالصدفة حانت منه التفاتة إلى حيث كان يجلس الغريب، لتملأه الدهشة مع مرأى المغلف الملقى على المقعد في إهمال، ترى هل نسيه ؟، أخر ما تذكره أنه قد حمله معه، فلماذا هو هنا الآن؟ .

" ساغورا، أسرع وناده يبدو بأنه نسي شيئا "

بوغت الرجل بنداء الكهل لينظر إلى المغلف المتروك، قبل أن يستدير من جديد هاما بالصياح، لتتجمد الكلمات في حلقه وهو يتراجع إلى الخلف في عدم تصديق فيما عيناه ترمقان اللاشيء، إلى ثانية كان يتابع المسيرة الصامتة للرجل المبتعد، لم يشح ببصره سوى للحظة واحدة ولكنها كانت كافية للرجل ليغيب عن الأنظار، دار ببؤبؤيه لعله يعثر على تفسير، لتزداد حيرته، الرجل كان في منتصف الطريق بلا مكان للتخفي أو الإختباء، وكأنه فص ملح قد ذاب، من الليل قد ظهر وإليه قد عاد، هذا ما جال في خاطره وقتها.

" ما المشكلة؟ ، لماذا ترتجف هكذا؟ "

هتف الزعيم وهو يقترب من الباب بدوره، نظر إليه ساغورا في توتر وهو يجيب

" لقد اختفى تماما يا سيدي "

ومع ارتفاع حاجبي الرجل في ذهول، قفز إلى عقله حقيقة واحدة، أدرك أن الأمر يفوق قدراته وأنه من الأسلم عليه تنفيذ بنود الإتفاق بحذافيرها إن أراد النجاة.


نهاية الفصل الأول


2018/09/03 · 457 مشاهدة · 1422 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024