اليوم : 31\7\2011

الوقت: 10:30 مساء

المكان: طوكيو، منطقة شيشمورا، الشارع الثاني

" لقد عدت "

خرجت هذه الكلمات من فمه وهو يغلق باب المنزل، ليقطع الرواق القصير ذي الإضاءة الخافتة والمحاط جانباه بنباتات الزينة، قادته خطواته إلى المطبخ، حيث وضع حمله الخفيف على أقرب مائدة قبل أن تكون نقطة توقفه التالية هي الثلاجة الضخمة، فتح أحد جانبيها متناولا زجاجة باردة من شراب رياضي ذاع صيته مؤخرا، أدار الغطاء ليجرع نصف السائل الأزرق الصافي، ويتنهد بعدها في نشوة

" لا شيء يعادل مشروبا باردا بعد جولة من الركض السريع"

ظل ثوان يستمتع بالنسيم البارد القادم من الجزء المفتوح وهي عادة لطالما نبهته والدته عليها، في النهاية أعاد إغلاق كل شيء حاملا زجاجته الوحيدة إلى خارج المكان، وقف يتأمل انعكاس صورة وجهه على المرآة الصغيرة المعلقة، لم يتهمه أحد يوما بالوسامة ولكن لم يدن بالقبح أيضا، شعره الأسود القصير الناعم والذي تنزلق غرته من آن لآن كأنها بوابة تريد أن تحمي عينيه من العالم، بؤبؤان بلون جذوع أشجار الصنوبر، بشرة لا شاحبة ولاقمحية، الوجنتان المشدودتان تشيران بوضوح إلى قلة تناول الطعام، الأنف الضئيل الذي خطه إبداع المنان ليتناسق مع ملامحه بشكل مبهر، أزاح الخصل المتمردة عن مقلتيه وهو يبتسم، رمق زيه الرياضي الأزرق بنظرة سريعة وهو ينفض عنه بعض الأتربة، قبل أن يتحرك باتجاه هدفه، حجرة المعيشة.

أشعل الإضاءة سامحا للنور بطرد الظلام، بعينين خاويتين تأمل الحجرة المنسقة المرتبة، كل ركن احتل من قبل أصائص النباتات، الجدران البيضاء انسجمت مع لون الستار الأزرق الداكن، مائدة خشبية مستطيلة الشكل أحاط بها ستة من الكراسي العتيقة توسطت المكان، الأرضية الرخامية المحروقة تناغمت مع الأرائك الخضراء المريحة والمقابلة لشاشة تلفزيونية تكاد تحتل ربع الجدار، ألقى جسده المنهك على أقرب أريكة وهو يتناول جهاز التحكم عن بعد ليصدح الصوت في أنجاء الغرفة الصغيرة.

بلا اهتمام راح يستعرض الخيارات المنتشرة، تجاوز الكثير ليحط رحاله في النهاية على محطة مختصة ببث الروائع السينمائية والتي كانت تعرض على شاشاتها أحد أفلام الرعب الحديثة، في برود راح يتابع ما يجري أمامه، البطل المقدام، لا يكف عن التذمر من شعوره المستمر بالملل من حياته على الرغم من كونه ثريا،وسيما،مشهورا، قويا وبصحة ممتازة، لينبري أحد رفاقه ليعرض عليه زيارة أحد القصور المشهورة خارج المدينة والمعروف بوقوع العديد من الحوادث الغامضة في أنحائه خلال تاريخه العامر.

انفجر ضاحكا في استهزاء وهو يغلق إحدى عينيه مكتفيا بمتابعة العرض بالأخرى ، ليضيف في سخرية

" نفس القصة دائما، البطل الذي يملك كل شيء، ولكن بسبب الملل يسعى بقدميه إلى التهلكة، حمقى لا يفهمون مدى روعة أن تكون حياتك هادئة أمنة، لست بحاجة إلى إثارة أو تغير، رتيبة؟ ، لا بأس دع لي حيات العجائز الهانئة المستقرة واظفر أنت بكل الإثارة والترقب الذي تريده، لا أمانع أن أحيا في هذا الهدوء ما تبقى لي من عمر "

أنهى عبارته وهو يسند رأسه للخلف متأملا السقف الأملس بعينين ناعستين وقبل أن يغوص إلى عالم الأحلام راح يتمتم

" ما أجمل الهدوء والرتابة "

أنهى كلامه ليغلق عينيه طمعا في النوم اللذيذ, وهو لا يدري أنه وفي تلك اللحظة، صدرت قرقعة خافتة من قفل باب المنزل لينفتح بعدها في حذر سامحا لهم بالدخول.

كانوا أربعة ولم يكن الأمان خامسهم، تأمل الملابس السوداء الكاتمة، عضلاتهم بدت واضحة وكأنه رسمت رسما، وأسوء ما فيهم كان تلك الأقنعة البيضاء ذات الابتسامة الباردة والعينين الضيقتين، هم أربعة والخوف هو العضو الخامس، بخطوات حذرة لكن واثقة تقدموا، واحد أغلق مدخل المنزل ووقف أمامه حارسا، الثاني أنزل حقيبة الظهر الشبيهة بما يحمله جنود القوات المسلحة، و في تعود فتح قفلها ليظهر ما في جوفها، الحبال كانت الأبرز ولكن البراغي والأذرع الحديدية شغلت حيزا لا بأس به، امتدت يده تعبث لتخرج بعد وهلة وهي تحمل زجاجة دواء محكمة الإغلاق مرفوقة بحقنة صغيرة فارغة، وضعهما جانبا في حذر وهو يشير إلى الاثنين الباقيين، إشارة ذات معنى، تحرك الاثنان بعدها بلا صوت يذكر.

.

" لا تتحرك وإلا أطلقت النار "

" ألا تهتم بما قد يحدث ؟ "

" اللعنة، النيران تلتهم كل شيء "

" يكفي صراخا "

تشابكت الصور والأصوات وتداخلت الأحداث والذكريات وبدا واضحا من تعرق جبينه وحركته الغير منقطعة أن ما يمر فيه لم يكن شيئا جميلا.

" تبا لهم، اقتله، اقتله، هذا سيعلمهم أن لا يعبثوا معنا "

" وداعا "

قيلت لك فيما تلك الفوهة الملتهبة تلتصق برأسك غير مبالية ببكائك المستمر، ترفع نظرك قليلا لتصدمك تلك الابتسامة الشامتة، هذا كل ما استطعت تذكره من ملامح الوجه فيما اختفى الباقي خلف الظلام، يركز مرعوبا في السبابة التي لم تتردد في ضغط الزناد، ليدوي صوت الرصاصة قويا مهيبا.

فتح عينيه في ذعر وهو ينتصب في جلسته فزعا، استغرق ثوان حتى يدرك أين هو، وحقيقة أن كل ما مر لم يكن سوى حلم سيء، راح يلهث دون انقطاع وهو يغطي عينيه مقاوما رغبة قوية بالبكاء، دمعتان متمردتان أصرتا على ترك مكانهما إلى الأسفل، ابتلاع ريقه عدة مرات لم يساعد على إزاحة تلك الغصة من حلقه

" يا له من كابوس "

همس بتلك الكلمات وهو ينوي النهوض وغسل وجهه على الأقل، حانت منه نظرة إلى الساعة المعلقة والتي أشارت إلى دخولهم صباح أول أيام الشهر الجديد منذ دقائق، فجأة وصل إلى أذنيه تلك الجلبة القادمة من الطابق الأعلى، لثوان تجمد في مكانه وهو يشك أنه لم يستيقظ تماما، لكنها تكررت من جديد لتقطع الشك باليقين في نفسه، ضيق عينيه وهو يتذكر حديث عائلته أنهم أجلوا عودتهم ليومين إضافيين، لا تفسير إلا واحدا، لص تسلل إلى المنزل والله وحده يعلم كيف حذث هذا؟ ، أمسك ذراعه اليسرى التي راحت ترتجف مجبرا إياها على التوقف، سرعة أنفاسه تزايدات لمدة قصيرة، في النهاية تمكن من السيطرة على أعصابه، ودون مزيد من التردد، أسرع – على أطراف أصابعه- إلى المخزن الصغير وخلال لحظات كان يغادره وهو يحمل مضربا فضيا متوسط الحجم.

" أعرف أن كوتا يكره أن يلمس أحد أشياءه ولكن هذه حالة طارئة، سأعتذر منه لاحقا، الشرطة؟ ، سأتصل بهم ولكن بعد أن أشبع هذا الوغد ضربا "

همس بالعبارة وهو يتقدم إلى السلالم في حذر، ألصق ظهره بالحائط المحاذي له و مختلسا النظرات في الوقت نفسه ولكن بلا نتيجة، وضع قدمه على أسفل الدرج وهو يحكم إمساك سلاحه، مع كل خطوة يخطوها تضاعفت نبضات قلبه أضعافا، بصعوبة أبقى تنفسه تحت السيطرة، وصل إلى الأعلى ولكن الصمت كان هو العنوان، تلفت حوله لعله يعثر على دليل، توقفت عيناه نحو حجرة مكتب والده، هو متأكد أنه لم يقربها طوال الأسبوع الماضي، فلماذا بابها موارب يا ترى؟

تحرك نحو هدفه في خفة وحذر، توقف أمام الباب وهو يخشى أن يفضحه صوت نبضات فؤاده، أمسك المقبض المعدني وهو يحاول اختلاس النظر ولكن الظلام الطاغي على المكان حرمه من رؤية أي شيء، أخذ شهيقا واسعا قبل أن يدفع الباب في قوة ومادا يده على الفور إلى زر الإضاءة ليعم النور المكان ويصدمه بكون الحجرة خالية.

تقدم إلى الداخل في دهشة، وهو يجوب الغرفة ببصره، كان المكتب خاليا من أي نوع من الحياة، فوضوي، انتشرت الأوراق في جميع جنباته وتساقطت الملفات في كل أنحائه، فناجين القهوة المستخدمة ما تزال في مكانها، هذا متوقع فوالده من ألد أعداء النظام رغم كونه رجل شرطة ذائع الصيت إلى حد ما، ولطالما كانت هذه نقطة خلاف مستمر بينه وبين والدته.

أسند المضرب إلى الأرض وهو يتفحص أسفل المكتب وخلف المدخل ولكن هذا لم يغير الحقيقة الواضحة بعدم وجود أي كان، أزاح الستائر المتربة لينفجر في نوبة من السعال المصحوب بسيلان الأنف والأعين، في النهاية كانت النافذة مغلقة، مما ضاعف حيرته، غادر الحجرة وتأكد من إغلاق بابها، طاف بين الحجرات ليجد معظمها مقفلا، تفقد حجرته ليحصل على نفس النتيجة، دورة مياه الطابق كانت الأخيرة ولكنها ماثلت البقية وإن لم يبدو له أن نافذتها محكمة الإغلاق ولكن كونها في الطابق الثاني وعدم تواجد أي شيء يساعد على الهبوط بقربها دفعه إلى استبعاد هذا الخيار.

" تبا، ما كان ذلك؟ ، أنا متأكد من أني سمعت شيئا "

هتف بالعبارة وهو يعود أدراجه إلى حجرة المعيشة، وضع سلاحه جانبا وهو يتناول زجاجة مشروبه التي تركها سابقا، ليرتشف منها جرعة كبيرة، تنهد وهو يمسح فمه بكم قميصه، التفكير بالخطوة التالية يحيره، فجأة أحس وكأن الأرض مادت به، الخدر راح يغمر جسده دون توقف، الرؤية بدأت تفقد وضوحها وأطرافه ما عادت قادرة على حمله، سقط على ركبتيه وقد أفلت الزجاجة، لتصدم بالأرض وينسكب محتواها، حاول النهوض ولكنه انهار على وجهه تماما، الأصوات راحت تخفت والعتمة راحت تغزو مركز بصره سريعا، هنا وبأخر ما لديه من قوة رأهم، لم يكن قادرا على تعرف تفاصيلهم، بصعوبة استطاع تميز أنهم يرتدون الأقنعة، تقدموا بلا صوت حتى أحاطوا به وهم صامتون صمت القبور، أراد أن يتحدث أو يصرخ ولكن لا قدرة، وبينما اسودت الدنيا أمامه تماما وفقد إحساسه بما يحيط به، لعن نفسه على قلة حرصه، قبل أن يفقد الوعي بشكل كامل هذه المرة.


نهاية الفصل الثاني .

2018/09/03 · 437 مشاهدة · 1366 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024