اليوم : ؟؟ ؟؟ ؟؟

الوقت : ؟؟ ؟؟

المكان: ؟؟ ؟؟

" أين أنا ؟ "

في خفوت تمتم ، فاتحا عينيه وهو يقاوم الضباب المحيط بعقله، الظلمة ضربت أطنابها حوله حتى ما عاد قادرا على تمييز أي شيء، شعر أن وزن جفنيه بالأطنان و أن إبقاءهما مفتوحين يتطلب جهدا هائلا، غشاوة عينيه أعلنت رفضها الرحيل، رمش بضع مرات دون نتيجة تذكر، هذه المرة أغلق مقلتيه وهو يحاول أن يجمع أفكاره، لكن دماغه بدى له بطيئا ومرتبكا وإن أدرك أنه ممدد على أرضية حجرية قاسية، البرد راح يلسعه دون توقف، حرك أطرافه الأربعة لتستجيب له بنوع من الصعوبة، حلقه جاف كتربة لم تسقى منذ أيام، الصداع بدأ وتصاعد فجأة ليجبره على إبقاء عينيه مغلقتين، كم ظل على هذه الحالة؟ ، لا يدري بالضبط ولكنه بعدة مدة عاود المحاولة من جديد، هذه المرة كانت النتيجة أفضل ليتنهد في ارتياح.

الذكريات تعود إليه من جديد، مشوشة نعم ولكن دقيقة، التساؤلات ملأت كيانه، من هم أولئك الأشخاص؟ ولماذا اختطفوه بهذه الطريقة؟، ما هي مطالبهم؟ , والنقطة الأهم هل سيبقونه على قيد الحياة؟ , أفزعه هذا الخاطر، مما دفعه إلى محاولة النهوض، بصعوبة تمكن من تعديل وضعه إلى الجلوس، راح يترنح في تعب ولكنه استجمع إرادته واستنفر عضلاته وبعد عدة محاولات تمكن من الوقوف، كانت ساقانه ترتجفان في ضعف، ضغط على نفسه وبدأ في التحرك وهو يفرد ذراعيه أمامه، لم يسر أكثر من بضع خطوات حتى لامست أصابعه ما بدا له أنه حائط صخري، واصل المسير محاذيا لاكتشافه ليصطدم بحائط أخر، صفق بكفيه بغتة ليرتفع الصدى عاليا وواضحا

" إذا هذه حجرة مغلقة على ما يبدو"

همس بالعبارة وهو يحك ذقنه مفكرا ويضيف هذه المعلومة إلى عقله، كانت عيناه قد بدأتا التعود على الظلمة، مما سمح له بالحد الأدنى من الرؤية، بالفعل هي حجرة مربعة الشكل لا تزيد قياساتها عن الأمتار الخمسة أو الستة، انعقد حاجباه حينما ميز ما هو أقرب إلى منضدة صغيرة في الجهة المقابلة، بحذر تقدم نحوها ولكن وقبل أن يصل إليها، أحس بقدمه وقد وطئت شيئا طريا.

" أمل ألا أكون قد دست على أحد الفئران مثلا"

هامسا تحدث وإلى أذنيه وصلت أصوات نميم تلك القوارض الصغيرة من أكثر من اتجاه، حاول تجاهل الأمر، وهو يواصل إلى هدفه، راحت يداه تتلمسان قطعة الأثاث في حرص، ليكتشف أن هذا مكتب خشبي لا مجرد منضدة، فجأة أحس بكفه تلامس مقبضا معدنيا صغيرا ليجذبه دون تفكير، أطاعه الدرج الضئيل دون اعتراض وسرعان ما كانت يده تتحسس جسما معدنيا، تهللت أساريره ويداه تديران الشيء في لهفة حتى عثر على النقطة المميزة، لم يكد يلمسها حتى انطلق شعاع الضوء على الفور.

" على الأقل هناك من ترك هذا المصباح على الأقل "

تحدث في ارتياح وهو يحكم قبضته على المفاجأة الجميلة، وعلى الرغم من كون ضوئه لا يكاد ينير سوى مساحة ضئيلة من المكان إلا أنها بدت له في تلك اللحظة، أكثر من كافية وهو يتفحص الحجرة في سرعة.

" مخزن؟! "

في نوع من الحيرة هتف وهو يتأمل ألواح الأخشاب المحطمة والقطع المعدنية الملقاة في إهمال، الغبار والأتربة لمست كل شيء، بقع الماء ظهرت جليا على السقف وقطراتها راحت تتسلل من بين الشقوق، في تلك اللحظة فأر مكتنر ركض بالقرب من ساقه، أجفل متراجعا ليسقط ضوء مصباحه على ما أثار قلقه، بقعة سوداء متوسطة الحجم في إحدى الزوايا

" هل هذا زيت ؟ "

تمتم فيما قدماه تأخذانه إلى قربها، انحنى ومد يده في حذر، لم يكد يلمسها حتى أحس بقلبه قد انطلق يركض فزعا، جامدة ما عدا من بضع نقاط لزجة، هذا ملمس شيء مختلف، قفزت الإجابة إلى عقله ولكنه رفضها، فزعا طردها، بكل جوارحه أصبح يرجو أن تكون مجرد أضغاث أفكار و ..

قطع أفكاره أصوات الفئران التي ارتفعت من خلفه مقرونة بما حطم أخير كل ما لديه من قدرة على الهدوء، نهض وقدماه ترفضان ما يفعل ولكنه أجبرهما، على ضوء مصباحه شاهد درزنا من الجرذان حولها، نفس البقعة التي داس عليها منذ زمن قصير، ابتلع ريقه وهو يجر نصفه السفلي جرا، متجاهلا صرخاته المستنكرة، مع اقترابه هربت معظم الفئران الرمادية المكتنزة وإن وقفت على مسافة غير بعيدة

" بالمناسبة، أليس منظر هذه القوارض يدل على أنها تتغذى جيدا؟ "

همس بالعبارة وهو يبعد ما تبقى من الفئران الباقية وبصعوبة نجا من تلقي عضة غاضبة من إحداها، ابتلع ريقه وهو يصوب دائرة النور إلى الهدف، ولم يكد يفعل حتى انتصبت شعيرات ذراعيه هلعا، فيما افلت شهقة مصدومة من غير قصد.

الآن أدرك أن صوت القضم والنهش الذي صدم طبلتيه منذ ثوان حقيقة،مقلتاه بلغتا الحد الأقصى من الاتساع، عصارة معدته انطلقت كالسهم محاولة الفرار بدورها، لكنه بمعجزة تمكن من منع نفسه من أن يتقيأ، كيف لا، وأمامه كف بشرية مبتورة من أسفل المعصم، علامات حروق مكثفة شوهت الجلد الأبيض، بقعة الدماء التي مالت إلى السواد وهي تحيط العضو في منتصفها، الأظافر المنتزعة والأصابع المحطمة، من الواضح أن صاحبها مر بوقت عصيب، كانت كف رجل، هو واثق من ذلك، باردة كالثلج ومتصلبة، هذا تم قطعه منذ مدة، ليست بالطويلة فلا أثار للعفن ولا بالقصيرة فالتصلب الرمي قد وجد طريقه إليها، إذا من 3-6 ساعات هو الوقت الصحيح.

نفض عن نفسه هذه الأفكار في قوة، عليه مغادرة المكان بأسرع ما يمكن، تلفت حوله لينهض متنزعا قطعة خشبية مدببة من بين أكوام المهملات المنتشرة.

" أفضل من لا شيء "

قالها وهو يتقدم بما يقارب الهرولة إلى باب الحجرة الحديدي، والذي غطى الصدأ معظم أجزائه، أدار المقبض في حذر، وكم كانت دهشته كبيرة حينما تحرك الباب في بساطة، لكن صرير مفاصله ظل مرتفعا على الرغم من محاولاته المستمرة تجنبها، ليجد نفسه بنهاية المطاف في ممر منخفض السقف، لا يتجاوزعرضه الخمسة أمتار، تكونت أجزاؤه من الطوب الجيري الداكن، و يمتد مد البصر وبلا علامات على وجود حياة، أعاد مواربة المدخل وهو يتقدم بخطوات حذرة.

لا صوت يعلو وقع أقدامه على الأرض الصخرية، الهواء فاسد ويكاد يخنق أنفاسه، رائحة العطن فاحت وعمت، قطرات الماء تتساقط من السقف في أكثر من موضع مشكلة العديد من البرك الراكدة، لا شيء ينير الظلمة المحيطة سوى مصباحه الضئيل، بقعة الضوء الصغيرة وكما أنارت له من الطريق فإنها قد سمحت لها بالتشكل والظهور، عشرات الظلال تظهر وتختفي، تمتزج وتنفصل اعتمادا على حركة يدك، تتحرك في كل اتجاه وتعطيك الشعور الكريه بأنها تستعد للإنقضاض عليك، تظهر، تختفي ويتغير حجمها في رقصة للرعب هي مثال.

" رقصة الظلال"

تمتت بهذه الكلمات، وعقلك يقفز لا إراديا إلى أحداث ذلك الفلم الشهير، والذي كانت نهاية بطله شنيعة للغاية، هززت رأسك عند هذه النقطة، محاولا نفض الأفكار المتشائمة من داخلك، هنا توقفت وقد تصلب جسدك، أكان ذلك صوت خطوات أقدام قادمة من خلفك؟، أحسست بجيوش الهلع تزحف داخلك، استدرت في بطء، ولكن لم ترى شيئا، رفعت مصباحك عاليا والمحصلة نفسها، وقفت كاتما أنفاسك لما يقارب الدقيقة لكن الهدوء هو السائد، فكرت بالهتاف ولكن الجزء العاقل من دماغك رفض في شدة، لخمس من الدقائق أو عشر ظللت في مكانك وكأنك تحولت إلى تمثال، في النهاية وبعد أن طال الوقت بلا تغير، أقنعت نفسك أن ما سمعته هو ناتج عن التوتر الذي تشعر به وقررت المضي في سيرك.

كم استمرت الرحلة ؟ ، ربما لما يتجاوز الدقائق العشرين، حتى بلغت ذلك الموضع، الطريق قد انقسم إلى اثنين، كلاهما متشابه وبلا علامات، أنرت ما استطعت منهما بمصباحك ولكن دون نتيجة، وقفت في مكانك حائرا وأنت تقلب الأمور في رأسك، في النهاية وبلا سبب واضح كان اختيارك هو الممر الأيمن.

استمرت المسيرة الصامتة لمسافة غير قصيرة قبل أن تتكرر الأحداث ولكن هذه المرة كان أمامك ثلاثة ممرات

" واضح أن الأمور ستزداد تعقيدا، من الخطر التقدم هكذا دون بعض الإحتياط "

أنهيت حديثك و أنت تميل على جدار الممر الأوسط، وبعصاك الخشبيه وبعض الجهد، تمكنت من وضع علامة واضحة على مدخل التفرع، ابتسمت في ارتياح وخطوت بخطوات عاد هدوؤها غير متنبه على تلك العينين الواسعتين المتابعتين لك من مسافة غير بعيدة.

لم يطل الأمر بك حتى أدركت أن اختيارك هذه المرة مختلف عن السابق، بوضوح أمكنك أن تميز العبارة المكتوبة على الحائط بلونها الاحمر المخيف

" في الرحمة الهلاك وفي القتل الحياة "

رددت كلماتها بصوت ملأته الدهشة والحيرة، ولم تكد أصابعك تلمس الكلام المخيف حتى أدركت جيدا نوعية الحبر المستخدم، مما زادك نفورا، بحرص فحصت ما حول العبارة ولكن دون نتيجة، أدرت مصباحك في المكان لتتوقف على الأرضية فيما عيناك تضيقان، ابتدأ الأمر ببقع متناثرة سرعان ما تحولت إلى خيط متقطع ثم مستمر، هذا سائل الحياة القاني بلا شك، متوترا أسرعت الخطا تتبعه، كان يزداد توسعا حتى اختفى فجأة.

توقفت في مكانك وأنت تدير مصباحك في كل اتجاه ولكن النهاية ظلت نفسها، كما بدأت فجأة اختفت بغتة، زفرت في قنوط وأنت تعاود المسير، وبعد دقائق من السير، بدا لك ولأول مرة بأن هناك انعطافا في الممر، حككت شعر رأسك في ضيق وأنت تهتف

" اللعنة، كم يبلغ طول هذا الممر بالضبط؟ , أنا أسير منذ مدة "

أنهيت عبارتك وأنت تنعطف بالفعل، ولم تكد تفعل حتى ارتطمت قدمك في شيء ما، أفقدك توازنك ولكن لحسن الحظ لم يسقطك أرضا

" تبا، وكأن هذا ينقصني "

هتفت بالعبارة في سخط وأنت تسلط بقعة ضوئك الصغيرة على الهدف، هنا تحول سخطك إلى خوف، وضيقك إلى ذعر، فما ارتطمت به لم يكن سوى جسد ملقى على ظهره في إهمال، لا تحتاج إلى طبيب لتعرف أنه لم يعد ينمتي إلى عالمنا، العينان الجاحظتان مع تلك النظرة الشاخصة الجامدة، الفم المفتوح وقد تجمد اللعاب على أطرافه، الزرقة التي غزت بشرته القمحية والواضحة حتى مع ضعف الإضاءة، وبالتأكيد ذلك الجرح الغائر في عنقه حتى أمكنك – بنوع من التدقيق- رؤية غضاريف قصبته الهوائية بجانب عظام عاموده الفقري، لم تحتاج إلى ذكاء لتعرف أنه مصدر خيط الدماء الذي تتبعته.

الجثة ما تزال لم تفقد كل دفئها، والجسد لم يتصلب منه سوى عضلات وجهه وكفيه، هذا رجل قتل منذ ما لا يزيد عن الساعتين لا أكثر، زادت سرعة تنفسك وأنت تدرك أن من قتله قد يكون ما يزال في الجوار، نهضت على الفور وأنت تنوي إطلاق ساقيك للرياح، فالهرب هو أمثل سياسة في الوقت الراهن، ولكن وقبل أن تتبع الفكرة بالتنفيذ، وصل إلى أذنك

قرقعة هي أشبه بصوت اصطدام جسم حديدي بالأرضية الصلبة، الصدى ضاعف الأثر، وجعل من المستحيل معرفة اتجاهه ولكنك ميزت أمرين اثنين، الأول أن الصوت منتظم يأتي كل بضع ثوان، الأمر الثاني وهو الأهم، على الرغم من تشويه الصدى فإن مصدر هذه القرقعة يقترب منك دون شك، تراجعت مرتبكا ولم تشعر إلا بالحائط البارد يوقف زحفك المستمر، بلا نظام رحنت تدير مصباحك بين الاتجاهيين في ارتباك، العرق البارد غمر جبهتك وراح يحرق عينينك بلا رحمة ولكن لا تملك ترف التصرف، توقف الصوت فجأة ولكن هذه المرة أمكنك أن تميز الهيئة العامة لشخص ما، من الممر الذي قدمت منه راح يقترب في صمت، بدا لك طويل القامة، رأسه الكبيرة أثارت دهشتك، هل تلك أذنان طويلتان؟، فكرت في نفسك، ولكن ولسوء حظك، انطفأ مصباحك بلا مقدمات، شهقت وأنت تهزه هزا، فيما قبضتك تعتصره حتى توشك على تحطيمه، القرقعة عادت من جديد، ممزوجة بصوت أخر، بدا لك أشبه بنغمة غناء، سرعة اقترابه تضاعفت.

" أيها الشاب، لنلعب سوية "

وصلت إليك بصوت لعوب وهادئ، تفكيرك تجمد لوهلة فيما الارتباك غزا محياك، توقف على مسافة قريبة منك ولم تشعر سوى بفرقعة هائلة شقت الهواء، لم يفصلها عن أرنبة أنفسك سوى مليمترات، شهقت في صدمة فيما رأسك يصطدم بالحائط من الموقف، هنا بدا وكأن الرعب الذي أصابك قد انتقل إلى مصباحك، إذ سرعان ما عاد إلى العمل بغتة.

لوهلة شعرت بأن الزمن قد توقف وأنت تتأمل ما يجري، الشيء الذي شق الهواء منذ لحظات لم يكن سوى أنبوبا حديديا سميكا قد ترك في الأرض فجوة صغيرة دون أن ينثني، ابتلعت ريقك وأنت تتخيل ما حدث لو أن تلك الضربة قد أصابتك، هذه ميتة سريعة لا شك فيها.

" هذا خطر، لا تتحرك هكذا فجأة، فقد تؤذي نفسك "

رفعت رأسك تتأمل صاحب الكلمات الساخرة، بالفعل كان طويل القامة، عريض المنكبين، بارز عضلات الذراعيين، بشرته قمحية داكنة، الآن عرفت لما اعتقدت بأن رأسه كبيرة الحجم، في تناقض مع الموقف والمكان هو يرتديه، لطالما رأيته في ملاعب الأطفال ومتاجر الألعاب، ولكن أن تقابله في هذا الظرف، أمر لم يكن ليخطر لك على بال، عن رأس الأرنب القماشي الذي كان يضعه أتحدث، بملامحه البريئة وابتسامته الصافية، الأذنان الطويلتان المنثنيتان وشعيرات أنفه المنتصبة، وخطمه الأسود الصغير، هذا شيء صمم لإسعاد الصغار حتما، لبرهة ظللت تحدق مبهوتا وقد فقدت قدرتك على النطق

" هيا ماهي إجابتك؟ ، هل ستلعب أم لا ؟ "

أنهى الرجل حديثه، لينفجر ضاحكاوهو يرفع عارضته الحديدية من جديد ويهوي بها إلى حيث كان رأسك، بصعوبة تمكنت من القفز جانبا والتدحرج مبتعدا قبل أن تنتصب واقفا على الفور وتبدأ في الركض بكل ما لديك من قوة

" إذا سنلعب لعبة المطاردة، جميل، أنا بارع فيها كثيرا "

هتف في جذل وهو يضع سلاحه على كتفه وينطلق خلفك في خطوات سريعة وهو لا يتوقف عن إطلاق الضحكات السعيدة وكأنه طفل يقضي وقتا ممتعا.

نهاية الفصل الثالث .


2018/09/07 · 425 مشاهدة · 2015 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024