أول ما استطعت تميزه هو ظهر ذلك الرجل الضخم، متربع الجلسة، وكعادة السابقين بدا ما يرتديه أقرب إلى رأس خنزير، مصباح صغير مرتكز على قاعدته وموجه رأسه للأعلى كان مصدر الرؤيا، وأما ما لم تستطع عيناك أن تتزحزح عنه فهو ذلك القاطع المزنجر الرابض قربه والذي- كالعادة – غطت الدماء شفراته

دققت النظر أكثر لتصدم بمرأى تلك الساقين الممددتين، والتي حجب الجبل الجالس بقيتها، هنا كان فضولك قد ارتوى، وما عدت راغبا بالمزيد ولكن وقبل أن تهرب مبتعدا

" ليس من الأخلاق التلصص على الأخرين وما يقومون به، تعال إلى هنا أيها الشاب "

دون أن يستدير أطلق هذه الكلمات، يال صوته الرخيم الثقيل، زلزال هز كيانك، كيف شعر بك؟ لاتدري لذلك جوابا، مرت الثوان الثقال وكأنها ساعات قبل أن يعاود الحديث

" ليس من مصلحتك أن أتي إليك، أنا مشغول في تقطيع هذا الجسد الآن، ولكن إن اضطررت للنهوض، فلن يكون ما أفعله جميلا، هل فهمت؟"

" مشغول في ماذا ؟ "

في عقلك انفجر هذا الهتاف، تمنيت لو أنك أسأت السمع، لربما ما يزال عقلك متبلدا بسبب المخدر، ولكن كلا، منظر الساقين والسلاح المغطى بالدماء لا يترك أي مجال للخطأ، راح جسدك يرتجف وكأنه ريشة في مهب الرياح، رحت تقسم أن نبضات قلبك مسموعة من مسافة أمتار، مفصلاك السفليان على وشك أن يتخليا عنك

" لن أنتظر أكثر، لديك حتى الصفر، إن لم تخرج فسأقدم بنفسي، والآن تسعة، ... "

راحت الأرقام تتناقص في سرعة، الثوان تمر وكأنها سراب وعقلك غير قادر على الإختيار، قدماك تصران على الهرب وكأن شياطين الأرض تطاردك، فيما عقلك يحسب لتهديد هذا الشخص ألف حساب

" خمسة، أربعة .... "

الحيرة تسيطر عليك وأنت ترى أن كلا الإختيارين يحمل الهلاك ولكن عليك أن تختار

" واحد، انتهى الوقت "

أنهى حديثه ويده تمتد إلى سلاحه القاتل في بطء

" حسنا، سأتي إليك "

هتفت وأنت لا تدري أصواب فعلك أم هو أخر خطأ ترتكبه في حياتك

" جيد، فتا عاقل، والآن هيا ولا تجعلني أنتظر أكثر "

كان صوته يحمل من الرضا ما أثار استغرابك، في النهاية ملأت صدرك بالهواء قبل أن تزفره مرة واحدة، وبخطوات مرتجفة تقدمت إليه، إلى داخل دائرة الضوء عبرت قدماك وعلى مسافة قصيرة منه توقفت، استدار بجسده الهائل نحوك، من قمة رأسك إلى أخمص قدميك تفحصك بنظره، الزمن بدا وكأنه توقف ولم يعد حتى هتف

" ما تزال تبدو في مقتبل العمر، كم تبلغ من العمر؟ "

في هدوء تساءل، في البداية أردت أن تصرخ بأن الأمر لا يعنيه ولكنك أثرت السلامة

" واحد وعشرون عاما "

أجبت ليعاود الصمت من جديد، راح يبسط ويضم كفه عدة مرات قبل أن يتابع

" هل لك أن تخبرني باسمك ؟ "

" متأكد أنك تعرفه "

خرج الهتاف منك لا إراديا، وقدرتك على التحكم بأعصابك قد ضعفت

" ليس من التعقل أن تثير غضب الطرف الأخر في هكذا ظروف، ألا ترى ذلك؟ "

في لهجة معاتبة اقترنت بإنطباق قبضة العملاق أتته الإجابة، تنهد في استسلام وهو يجيب

" ماسارو، هانبيشي ماسارو"

هز ذو قناع الخنزير رأسه في استحسان قبل أن يعود لجلسته وكأن شيئا لم يكن، ظل الشاب ينظر إليه في دهشة وعدم فهم، عادت فكرة الهرب تطفو داخله، استحسنها وبالفعل خطا خطوتين إلى الوراء في حذر و ..

" اقترب مني أكثر "

صاح دون أن ينظر إليك، أغلق مسارو عينيه في قنوط وهو يتقدم إلى جوار الرجل، ولم يكد ينفذ و يسقط بصره على ما يفعل ، حتى سقط على ركبتيه وهو يحيط فمه بكفيه، مقاوما موجة الغثيان التي أصابته، معدته توشك على القفز هاربة وهو يحاول ألا يعطيها الفرصة، فيما عيناه قد اقتربتا من القفز من محجريهما.

جثة هي في أبشع حال وفي بحر من الدماء غاصت، بلا أطراف أو أنف حتى، اللسان موضوع فوق الصدر والأمعاء تتدلى مصحوبة برائحتها القوية، كان من الواضح أنها لإمرأة في مقتبل العمر

" تثير الشفقة أليس كذلك؟ ، على ما عرفت كانت إمرأة قد تخرجت من الجامعة وحصلت على وظيفة لا بأس بها، كما أن .. "

لم يكمل عبارته بل أفلت من يده شيئا، ليصطدم بالأرض محدثا رنينا معدنيا قصيرا، تأمله صاحبنا ليميز خاتما فضيا دل على فخامة قد ولت، نقش عليه اسم ميساكي

" من الواضح أنها كانت على وشك الزواج ولكن النهاية أتتها بشكل أسرع، ياله من عالم قاس "

" أنت قتلتها، فلا تتحدث بهذه الطريقة "

صرخت غاضبا وقد أفقدك حديثه أي قدرة على السيطرة على أعصابك، ظل ينظر إليك في صمت لبرهة من الزمن، في النهاية عاد إلى عمله وكأن شيئا لم يكن

" بالمناسبة، أتعرف لماذا طلبت منك القدوم ؟ "

سأل ويده تقبض على وحشه الدموي الرابض، تحفز ماسارو في وقفته وعيناه لا تفارقان أداة القتل، بحركة سريعة أدار الجهاز للعمل ولم تكد الشفرات تزمجر حتى قسم الجثة إلى نصفين، مزيد من الدماء تطاير ليكون نصيب الرجل أكثرها، بطلنا كان على بعد شعرة من أن يصاب بالجنون وجهازه العصبي أوشك على الإحتراق.

" هكذا انتهينا، والآن سأخبرك شيئا، هذا مكان مجنون يشرف عليه أناس هم إلى الشياطين أقرب وما دامت قدماك قد وطئتاه فإن حياتك – واعذرني على قولها – قد انتهت، أنت ما تزال شابا ومن المؤلم أن تلفظ أنفاسك هنا – ولكن هذا قدرك-، وفوق ذلك أن تهلك وأنت لا تعرف أي شيء، هي قسوة كبيرة حتى أنا لا أطيقها، لذلك وقبل أن أقتلك وكنوع من التخفيف، سأجيب عن أي أسئلة تمتلكها بما لدي من معلومات، ما رأيك ليست فكرة سيئة؟"

أنهى حديثه وهو يعاود وضع سلاحه جانبا، خيم الصمت من جديد، ولكن عقل الشاب في تلك اللحظة كان يعمل بلا كلل، هو حقا مهتم بالحصول على أي معلومة تساعده على كسر أغوار هذا المكان، مما قد يؤدي إلى مغادرته بنجاح، في نفس الوقت البقاء هنا مع هذا الرجل سيعني الهلاك حتما وعليه أن يتصرف، فكر في الأمر بخلاياه العصبية بضعة مرات فيما قرنيتاه تجوبان الأنحاء، تجمد بصره عند نقطة ما وقد قفز له خاطر أقرب للجنون، لاح شبح ابتسامة على وجهه لكنه سرعان ما أزاله وهو يجيب

" حسنا، السؤال الأول : أين نحن الآن بالضبط؟ "

ولم تنجح جهوده في إزالة اللهفة الواضحة في صوته

" من الصعب القول، هم يطلقون عليه المتاهة، يقولون أنها شبكة أنفاق أنشأتها إحدى الشركات وهجرت بعد إفلاسها، أخرون يزعمون أنها كانت مقرا لتجارب سرية فترة التواجد الأمريكي بعد الحرب، لا توجد إجابة واضحة وحتى أنا لا أعرف أين تقع، نقلونا هنا معصوبي العينين وطلبوا القيام بهذه المهمة "

في رتابة أجاب رأس الختزير

" هل هناك أخرون ؟ "

" إن كنت تعني الضحايا فنعم، حينما بدأنا كنتم خمسة عشر، وبالتأكيد أصبحوا الآن أقل بكثير ولكن لا أستطيع التحديد، وأما إن قصدتنا نحن فالإجابة أجل، ولكن لن أخبرك بعددنا لأني نفسي لا أعرفه "

مط ماسارو شفتيه في عدم اقتناع لكنه واصل

" قلت أنهم نقلوكم إلى هنا، من تقصد بحديثك "

" هم إلى الوحوش أقرب كما أخبرتك، عقولهم قد غرس فيها الشيطان بذوره، لتينع شجرا باسقا، قلوبهم أقسى من الحديد، كبرياؤهم سيطر عليهم فقادهم إلى الهلاك، لا يؤمنون بقانون ولا يخافون من سلطة، يسعون فقط إلى إغواء شهواتهم، موقونون بأن المال يحميهم، حتى أنا أمامهم ضعيف لا حيلة لي"

أدار ماسارو الأمر بين خلاياه الرمادية للحظات قبل أن يعاود

" ولماذا نحن؟، أعني ما سبب تورطنا في هذا الأمر؟ "

" يقولون أنه هو من يختار، لا أحد غيره يعرف الجواب، زعموا أنه يقدم الخدمات لذوي النفوذ، أخرون أكدوا أنه يحقق الإنتقام الرابض في نفوس الكثيرين، ما أدركه أن اختياره ليس عشوائيا، ثق بهذا "

" هو؟ ، من هذا الذي تتحدث عنه؟ "

تساءل الشاب في اهتمام مضيقا عينيه

" قليلون يعرفون أصله، ما أخبروني به أنه ليس أسياويا، من إحدى دول البلقان، ربما اليونان أو مقدونيا هي الإجابة الصحيحة ولكن .... "

قطع حديثه فجأة وهو يرفع رقبته بغتة ويمسكها في قوة، تنبه ماسارو لحظاتها إلى ذلك الطوق الأسود الذي يحيط بعنقه في إحكام، مضت ثوان والرجل يتحرك في مكانه في عدم ارتياح، مصدرا صوتا أشبه بالغرغرة، قبل أن يعاود الهدوء في النهاية

" ما المشكلة ؟ "

في حذر تمتم وهو يراقب رأس الخنزير الذي عاد لجلسته الأولى

" يبدو بأن قد تحدثت أكثر من اللازم، معذرة لن أستطيع إخبارك بالمزيد، اطرح سؤالا أخر "

في صوت ميز فيه التعب و الألم أتته الإجابة

" أنت لا تعرف أين يقع هذا المكان ؟ "

" أخبرتك بذلك منذ البداية "

مسرحية الصمت عادت من جديد، تقدم ليقف على مسافة قصيرة من المصباح اليدوي وهو يرفع رأسه عاليا متأملا السقف الذي وجدت جذور بعض النباتات طريقها إليه.

" سؤال أخير، هل تعرف طريقة الخروج من هذا المكان؟ "

" للأسف لا، لن أخبرك بالتفاصيل ولكن خروجنا مرتبط بالقضاء عليكم جميعا، هذا كان الإتفاق"

في هدوء أجاب الرجل فيما يده تقبض على سلاحه من جديد وهو ينهض واقفا، حقا لم تخطئ حين وصفته بالعملاق، بالتأكيد طوله لن يقل عن المترين،

" الآن، حسب الإتفاق فسأنهي حياتك، هل من كلمات أخيرة؟"

أنهى حديثه وهو يتقدم منك، الشفرات الحادة تدور متعطشة للمزيد من الدماء، صدى مزنجراته طغى على أي صوت، استدار ماسارو باتجاهه وعلى وجهه ابتسامة ساخرة قبل أن يضيف في لهجة مماثلة

" فقط شيء واحد، متى قلت أن قد وافقت على عرضك؟ "

" أيها الوغد "

صدرت قوية من فمه ولكن وقبل أن يتحرك، انحنى الشاب كالبرق نحو هدفه، المصباح الصغير ودون لحظة من التردد أطفأه، عم الظلام المكان على الفور

" ثعلب مخادع "

من جديد هتف الرجل وهو يهوي بسلاحه على المكان الذي كنت تقف فيه ليصيب الفراغ، راح يدور حول نفسه في ثورة وشفراته لا تكف عن تمزيق الهواء مما ضاعف غضبه، صرخاته تصاعدت في شدة وهو يواصل مهاجمة كل ما حوله

" أحمق "

تمتم في نفسه وهو يواصل الدب مبتعدا عن صيحات المجرم، كان تصرفا متهورا ولكنه نجح وكل الشكر لاستهانته بك، الظلمة المفاجئة وفرت لك الغطاء، على الفور ارتميت أرضا لتشعر بالقاطع الفاتل يمر من فوقك، دون تردد تحركت على أربع لتنسل من جوار الرجل والجثة، صرخاته مع صوت الوحش الكهربائي ممزوجا بهذا الصدى، كفلت لك أن لا يسمع أي صوت منك، في شماتة ابتسمت وأنت تستمر في الإبتعاد، وعندما تأكدت من أنك على بعد كاف وقفت على قدميك ورحت تسير بأقل ضجة ممكنة

بعد بضع دقائق من الهروب السريع وقفت تلتقط أنفاسك، على وجهك علامات الرضا، ضحكت في خفوت وأن تتناول من جيبك غنيمتك، مصباح الرجل أصبح الآن في حوزتك، نفسيتك تحسنت كثيرا مع مرأى الضوء المنبعث، في شماتة قلت

" شكرا على كل شيء، وأمل ألا ألتقي بك مجددا "

واصلت سيرك لمدة حتى وصلت إلى مفترق جديد للطرق وهذه المرة أصبحت أمام خمسة اختيارات

" تبا، هذا المكان أشبه بجحر للنمل، متى وجدوا الوقت لبناء كل هذه الأنفاق؟ "

بقي السؤال بلا إجابة، رحت تدير مصدر نورك بينهم، توقفت عند نطقة معينة على مدخل أقصاهم، هذه علامة مرسومة بالحبر، إضاءة مصباحك لم تبين لك أي فرق عن الأخرين، لكن لم تكد تخطو بضع خطوات داخله حتى لفحت وجهك نسمة من الهواء الدافئ، أشعل هذا الأمر في نفسك شعلة الأمل، يبدو بأنك أخيرا قد عثرت على المخرج، رحت تركض بكل ما تستطيع عضلات ساقيك أن تتحمل، النور الذي بدأ يبدو في الأفق أعطاك طاقة هائلة، شعلة الأمل تحولت إلى نار هائلة غمرت كيانك، تمني نفسك الآن بالعودة إلى المدنية، حمام ساخن مع وجبة شهية تتبعها بعدة ساعات من النوم الهادئ، بعدها تستطيع أن تحكي للجميع كل ما حدث، وللتتصرف الشرطة وقتها كما ترغب.

بضع خطوات أصبحت تفصلك عن نهاية الممر، تيار الهواء أصبح أقوى، الإضاءة تتضاعفت حتى لم تعد بحاجة إلى مصباحك، قطعت الأمتار الأخيرة في قمة الأمل ولكن ولم تكد تغادر هذا النفق حتى انهار كل شيء، فقدت توازنك وقدماك لا تلمسان سوى الفراغ، الجاذبية بدأت عملها ورحت تسقط من حالق.

نهاية الفصل الخامس .


2018/09/12 · 418 مشاهدة · 1846 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024