في أقصى شمال قارة الجبال البيضاء، في إحدى القرى الساحلية المعروفة باسم قرية التل الأخضر

فتى غريب ذو شعر أبيض راح يتجول بين أزقتها، وقد لفت مظهره الأنظار.

في النهاية اقترب منه أحد الرجال سائلا بصوته الأجش

"أيها الشاب هل أستطيع مساعدتك ؟"

" اوه، لست متأكدا ، هل تعيش في هذه القرية سيدة ضريرة بشعر أبيض مثلي و فقدت إبنها ، تدعى..."

"ايرين ، هل أنت جين إبن ايرين ؟"

"أجل"

ضغط الرجل بشدة على كتفي الشاب، و راح يهزه غير مصدق لما يسمعه، و راح يصيح بمن حوله

" انظروا إنه جين ابن السيدة ايرين ، الفتى لقد كبر و عاد لعائلته"

بينما كان جين ينتزع قبضتي الرجل من على كتفيه ، كان صياح الرجل العالي جمع أهل القرية حولهم، و راح الجميع يرحب به و يحييه.

منذ ثلاث سنوات مضت،اندلعت الحرب بين البشر و جنس الأوريس انتهت بآلاف الموتى و عشرات الأسرى و المفقودين، جين اختفى منذ سنتين و اعتبر ضمن المفقودين.

بعد مدة تم إعلان الهدنة و الإتفاق على تبادل الأسرى ، و بالرغم من مرور عدة أسابيع على الاتفاقية فهناك الكثير من الأسرى الذين لم يعودوا لذويهم و لم يحدد مصيرهم ، لذلك ظهور جين في القرية سبب كل تلك الضجة.

"بني، هل هذا فعلا أنت يا بني ، هل عدت لوالدتك ؟" صوت عذب و حزين ناداه مناجيا

ما إن سمع الحشد صوت المرأة حتى تفرقوا ليفسحوا الطريق للأم المفجوعة، رفعت الأم يدها و راحت تتلمس ما حولها ، و بالرغم من آثار الأرق و الإجهاد و الأحزان التي جلبتها السنوات العجاف، إلا أن جمالها لم يبهت و هالة النبل تشع منها حتى في موقف كهذا.

يدها التي كانت تحركها في الهواء لامست أخيرا وجه الفتى ، من فرحتها ألقت العصا من يدها لتتفحص وجهه ، بدأت الدموع تنهمر من عيونها لتعانقه بشدة و بكل قوتها كأنه سيختفي ثانية لو أرخت ذراعيها قليلا

"جين صغيري، لقد صرت شابا ، بني لقد اشتقت لك لا يمكنك أن تتصور سعادتي بعودتك"

و سط هذا المشهد العاطفي الجياش ، عانق جين والدته بالمثل

" أنا أيضا اشتقت لكي أمي، تستطيعين إرخاء يديك فأنا لا أخطط للذهاب لأي مكان"

ابتسمت الأم من كلام إبنها ، و على الرغم أنها توقفت عن عناقه لكنها شدت قبضتها الرقيقة و الدافئة على يده، الإحساس الجميل على كف جين جعله يفكر أن كل حركة تقوم بها هذه المرأة تنم عن عطف و حنان عظيمين

' لماذا يخالجني الإحساس بالذنب؟، لأني لست إبنها الحقيقي لا ، منذ اللحظة التي سكنت فيها هذا الجسد أصبحت تاي جين و عائلته هي عائلتي '

جين الأصلي ، لم يمكن أسيرا هو فقط لم يشأ العودة لحياة الفقر، لذلك تخلى عن والدته و أخته و عاش حياة اللصوص، لكن اليتيم الذي جاء من المستقبل كان يتوق لأن تكون لديه عائلة.

صوت من حوله و ضحكاتهم أعادته لوعيه، قبل أن يبدأ الرجل صاحب الصوت الأجش بالصراخ ثانية

" أتخططون للبقاء هنا طوال اليوم فلتعودوا إلى أعمالكم ، و أنت سيدة ايرين ألن تأخذي الفتى ليرى شقيقته و يتناول وجبة جيدة ، فهو يبدوا كأنه سيقع أرضا من الجوع"

أومأت السيدة برأسها باتجاه الصوت ،و انحنت تتلمس الأرض بحثا عن عصاه، لتسبقها يد إبنها و تضع العصا بيدها و تساعدها على الوقوف ، ارتسمت الابتسامة على وجهها و هي تتحسس قبضته

" اوه، لقد كبرت فعلا ، لديك قبضة قوية تماما مثل والدك "

' أجل إنه يشبه والده أكثر مما تتخيلين، بل إنه أشد حقارة منه'

ايرين أخفت حقيقة والد جين المتوفي، و حاولت قدر المستطاع أن تصوره كالشخص المثالي، لكن جين كان يعرف تماما حقيقة والده.

أخذ جين بيد والدته الضريرة باتجاه منزلهم، السيدة ايرين و على الرغم من أنها فاقدة لحاسة البصر لكنها قطعا ليست عاجزة، و على الرغم أن أصولها تعود للنبلاء فهي تحسن الطبخ و الخياطة و تقوم بكامل واجباتها اليومية كأي ربة بيت و أكثر .

"لقد كنت مصابا و استغرق شفائي ومن ثم جمع المال لأسافر من الجزيرة الأسلاف إلى هنا وقتا طويلا"

تحدث جين في محاولة لتفسير سبب غيابه، لكن والدته لم تهتم بالتفاصيل فكثيرون هم المفقودون بسبب الحرب

"لقد بحثنا طويلا عنك، لكن بلا فائدة المهم أنك وجدت طريق العودة، أخبرني لقد ذكرت أنك كنت مصابا هل قام الأوريس بأذيتك"

" لم يكن الأمر خطيرا...... "

قبل أن يكمل جملته لمح شخصا يركض في اتجاهه، رجل بدين وصل إليهم و هو يلهث، بصعوبة التقط أنفاسه و راح يمسح العرق المتصبب من جبينه

"سيدتي ، النبيل مونرو يريد مقابلتك فورا، موعد الدفع اقترب"

ملامح ايرين تغيرت بعد أن سمعت صوت البدين، لكنها إصطنعت الإبتسامة و أومأت بالإيجاب، على رغم تظاهرها بالهدوء أحس جين بالرجفة التي اجتاحت جسدها، ليتدخل على الفور

" أخبر النبيل أن السيدة مشغولة ، فاليوم إبنها المفقود عاد للمنزل بعد غياب سنين، أما بالنسبة لمسألة الدفع هذه، فأنا سأزوره الليلة "

غادر الإثنان المكان تاركا علامات الحيرة على وجه البدين

"السيد مونرو لن يعجبه هذا ، قطعا لن يعجبه هذا "

وصل الأم و الإبن لمنزلهما، أو بالأحرى كوخهما المتواجد على أطراف القرية الكوخ كان مهترءا ، صغيرا و باردا ، لا يكاد يصلح كخم للدجاج

* كح كح كح * صوت كحة جاء من داخل الكوخ، لتهرع الأم إلى الداخل و قد انتابها القلق

"ويحي، وسط فرحتي نسيت موعد الدواء"

راحت الأم تلتمس الصندوق الموجود في الركن، قبل أن تشعر بيد إبنها على كتفها

"إنها نائمة الآن، دعيني أنا أهتم بالدواء و أنت ألا يجدر بك إطعامي"

تنهدت الأم بغصة في حلقها، فالكوخ لم يحتوي سوى على بعض الخضر الذابلة و صحن شعيرية، هم لا يملكون حتى قوت يومهم

" بني أنت ترى ما آلت إليه أوضاعنا ،اقترضت بعض المال من أحد النبلاء، لكن...."

"أمي ليس عليك أن تقلقي من شيء، فإبنك قد غدى رجلا و سيهتم بك و بأخته "

تفحص جين الدواء ثم قربه من أنفه يشمه لتتغير ملامحه

"أمي مما تعاني أختي بالضبط؟"

" الطبيب قال إنها حمى تصيب الأطفال من سنها، مرت شهور و حالتها لم تتحسن رغم أنني اتبعت كل تعليماته"

'بالطبع لن تتحسن و هي تتناول هذه القذارة '

"أمي سأقوم بزيارة الطبيب، يبدوا أنه علينا تأجيل الطعام لوقت لاحق"

أرادت الأم منعه من الخروج فلم تمضي دقيقة منذ دخوله المنزل، لكن أنين ابنتها جعلها تصمت فكيف له أن يهنأ بالطعام و الصغيرة مي مريضة.

-----

بعد مرور بعض الوقت فوجئت الأم بصوت قرع الباب بقوة و قبل أن تسأل من الطارق سمعت صوتا مألوفا يسألها الدخول

"سيدتي أنا طبيب القرية، لقد وصلني دواء جديد مفعوله كالسحر خلال ساعات ستلاحظين الفرق"

فتحت الأم الباب غير مصدقة ما تسمع، فهو يصف دواءا روحيا و هو شيء لا يقدر العامة رؤيته فكيف باستعماله، و للمرة الثانية قبل أن تستفسر عما يجري اقتحم الطبيب الكوخ و رفع رأس الفتاة ليشربها الإكسير.

"هذا المكان لن يساعدها على الشفاء، عليك القدوم إلى منزلي، أعني يمكنكم المكوث بمنزلي الثاني، فهو شاغر حاليا، علي الأقل حتى تشفى الصغيرة تماما"

استغربت الأم تصرفات الطبيب، فهما أمامه منذ شهور و لم يساعدها يوما حتى بثمن الدواء، فما سر الكرم المفاجئ، قبل أن تستفسر عما يحدث سبقها إبنها قائلا

"أيها الطبيب ما أكرمك، أنا و أمي قبلنا دعوتك بطيب خاطر"

بلع الطبيب ريقه، و قد أصبح وجهه شاحبا من الخوف.

بالطبع السيدة الضريرة لم تتمكن من رؤية وجه الطبيب المرعوب و هو يحدق بابنها، و كأنه رأى شيطانا أمامه و الذي رفع إصبعه نحو فمه و أشار عليه بالسكوت

-------------------------------

تأليف: Magicien



2018/02/24 · 2,773 مشاهدة · 1171 كلمة
magicien
نادي الروايات - 2024