رائحة الحبر فاحت في الغرفة ، محاربة و بشدة عطر الشمعة الذائب منتصفها . مصدر الإضاءة الأقرب لآدم كانت هذه الشمعة المعطِرة . امسك ابهامه و سبابته بعود أحمر قصير مشابه لطول خنصره ، كانت قمة هذا العود الأحمر الرقيق أدق جزء منه ، و كانت شديدة السواد .
كان آدم جالسا على كرسي خشبي مصقول و ملمس خشبه غير خشن ، عموم اثاث الغرفة كان خشبا مصقولا . فوق طاولة امامه ، كان هناك كتاب ورقي مغلف بغلاف أحمر مع علامة غريبة لإنسان برأس نسر في منتصف الغلاف ، كان الكتاب ذو ورق مائل للصفرة . كان آدم يكتب في صفحات الكتاب هذا ، آخدا وقته بين كل جملة و أختها . بين الفينة و الاخرى ، يغمس آدم رأس العود الأحمر في قنينة حبر سوداء هي مصدر الرائحة الفواحة .
"
العام 152 بعد وفاة الملك الأخضر آرام، الدورة الاولى ، فصل الصيف .
لا زالت سفينتي تتجه شرقا ، لم نواجه اي جزيرة في طريقنا كما قال ذاك الملاح الهمجي . من كان ليظن انه حتى الهمج يملكون هكذا فائدة . حسب توجيهه ، لو اكملنا في اتجاه الشرق سنصل لجزيرة من أرخبيل الجزر المحيط بامبراطورية زنيا ،يمكننا هناك التزود ببضع مؤونة احتياطية . رغم انه معظم جزر الأرخبيل ليست ضمن سيادة الإمبراطور نظريا لكن نبلاء المنطقة يعتبرون انفسهم ايادي الإمبراطور بالفعل
نظر آدم للورقة الأولى الممتلئة ، ملامح وجهه البيضاوي مستقرة ، مقلتا عينيه الصغيرتين ذواتا السواد وسط الصفرة الباهتة حدقتا في الكلمات لمدة . مسحت يده اليسرى فوق شعره القصير البني، مرورا بشاربه الكثيف و لحيته الخفيفة قبل ان تعود لموقعها الأصلي فوق الطاولة .
غمس العود الخشبي مجددا في قنينة الحبر ، و طرق رأس العود الخشبي مرتين على جانب فوهة القنينة مسقطا قطرات الحبر الضخمة داخل القنينة . اهتزت الغرفة هزة خفيفة مميلة الجماد في الغرفة بأتجاه الجنوب بدرجة او درجتين، لكن آدم أكمل كتابته .
"
يمكننا بعد اخد المؤونة الكافية من مدينة بادام في الساحل ، ثم نحمل السفينة عبر اليابسة حتى نصل للطرف الأخر من الجزيرة الضخمة ، سيكون الخيار الوحيد لنا هو حمل السفينة للأسف ، لا يمكننا الإلتفاف على الجزيرة من شرقها لأنه البحر هناك منطقة ميتة و الإلتفاف من الغرب سيأخد وقتا و جهدا اكبر من حمل السفينة عبر اليابسة ."
رفع آدم رأسه ببطء ناظرا لسقف غرفته المزين بمصابيح زيتية خافتة و متدلية بسلسلة حديدة رقيقة . اغمض آدم عينيه للحظة ، و ابتسامة خفيفة تشكلت على شفتيه اليابستين ، ملامح وجهه تغيرت جذريا بإبتسامه ، خداه شكلا حفرة في منتصفيهما مصممة تضاريس مميزة عن ابتسامات معظم الرجال .
"
سنكمل رحلتنا عبر البحر شرقا حتى نصل لقارة الإمبراطورية ، بعدها يجب ان تكون رحلتنا سلسة رغم خطورة المرور بأراضي زنيا . يقدر انه بعد سنة واحدة فقط سأصل للحدود الإقليمية ، و من هناك ، اخيرا يمكنني العودة لأنجلس ... . كم الشوق يجعل قلبي يحترق و كم الرغبة في العودة للوطن تجعل روحي تهتز . سحقا لمن كان السبب في إبعادي عن مملكتي كل هذه السنين ، سحقا لمن أبعدني بغير حق عن العرش المقدر لي ، اتمنى ان روح ايا كان من نقلنا لأقاصي الأرض بذاك السحر الغريب تعاني على يد هجمي ما ... .
يد آدم كانت ثابتة ، لا تهتز و لا حتى قليلا ، ابتسامته خفت قليلا للحظة قبل العودة مجددا.
الحفر المتشكلة في خده زادت عمقا ببطء مضيفة زوايا حادة و تضاريس محددة اكثر على وجهه . انزلقت يده مجددا على الورقة و عاد ليكتب .
"
أموس ، سارة ،عزيزتي جوليا ... انا ، آدم جان فيندريك إبن ألبرت الثاني اقسم انه لن يمنعني شيء من العودة لكم إلا الموت ... لن يمنعني همج و لا عبيد و لا حتى الإمبراطور نفسه من العودة لأرث عرش عائلة فيندريك
يد آدم اليسري انسلت بين ملابسه العلوية بإتجاه صدره ، و امسكت بقلادة ذهبية لنسر محلق بين غيمتين . القلادة بدءت تتوهج قليلا باللون البنفسجي الخافت حينما امسكها آدم . دام هذا التوهج لثواني معدودات فقط ثم توقف ، لكن آدم ظل ممسكا بالقلادة لدقائق . بعد مدة ، تركت يده القلادة ، متمتما شيئا لنفسه، اغلق آدم الكتاب ، و اغلق قنينة الحبر واضعا نهاية للصراع المرير بين رائحة الحبر و عطر الشمعة . لف آدم العود الأحمر في منديل أسود و وضعه في جيب من جيوب رداءه العلوي .
نهض آدم متجها لسرير كبير بعيد بعدة خطوات عن المكتب ، استلقى آدم في السرير مصدرا صوت ازيز حاد .
نظر آدم بإتجاه الشمعة الذائب نصفها على سطح المكتب البعيد عنه بعدة خطوات . مد يده من السرير ، و كأنه يحاول اطفاء الشمعة عن بعد . فجأة ، هالة بنفسجية خفيفة بدءت تتشكل من يده محيطة بها ، هذه الهالة بدءت تأخد شكلا اصلب و اوضح ، منتهية بشكل يد بشرية بنفس مقاييس يد آدم ، امتدت هذه الهالة البنفسجية لعدة خطوات حتى وصلت للمكتب ، ثم ، و بحركة بسيطة بجمع رأس الشمعة المشتعل بين الأبهام و السبابة و الإغلاق عليه بينهما . اخمدت الهالة البنفسجية نور الشمعة البرتقالي ، و اختفى كلاهما في ظلمة الغرفة الخافتة اضاءتها من مصابيح الزيت المتدلية من السقف .
آدم لم يغمض عينيه ، عيناه ظلتا مفتوحتين طوال الليل ، في لحظة معينة ، لم تعد مقلتا عيناه تتحركان ، و كأنهما توقفتا عن العمل ، لكن جفونه لم تغلق .
طيلة سنوات حياته ال29 لم يغلق آدم جفونه اثناء النوم ابدا ، مكسبا اياه لقبا يليق بوريث عائلة فيندريك النبيلة الحاكمة لمدينة أنجليس . " النسر الذي لا يغمض له جفن " .
إبّان فجر اليوم التالي، ومع ظهور خيط الضوء الأبيض منسَلًّا من ظلمة الليل، رمش آدم رمشتين، معيدًا بريق الحياة إلى بؤبؤيه، ومحرّكًا إيّاهما باتجاه الباب. نهض بعد مدة قصيرة من استيقاظه، ومدّ ذراعيه قليلًا مُصدرًا صوت فرقعة سريع، ثم حرّك رجليه اللتين غلّفهما بحذائه الجلدي الأسود باتجاه الباب، فاتحًا إيّاه وممهّدًا الطريق لرائحة الملح الممتزجة بالماء والهواء الطلق النقي، لتقتحم غرفته وتمحو أيّ أثر، ولو خافت، لرائحة الزيت المحترق.
أحنَى آدم رقبته قليلًا ليخرج من الباب، محركًا نظره عبر السفينة. نظر إلى أعلى السارية الضخمة المتمركزة في منتصف سفينته، مُبصرًا رجلين جالسين قرب بعضهما البعض مع مصباح زيتي. أبصره أحدهما ولوّح له بيده بابتسامة أطلق معها شعاعًا أصفر من فمه.
حرّك آدم بصره بعدها إلى الجانب المقابل لغرفته، خلفية السفينة، حيث أبصر أيضًا شخصين أسودَي البشرة يتحدّثان وهما ينظران إلى البحر، تاركين ظهرهما مقابل بصر آدم. اتجه نحوهما بينما يحرك بصره حول السفينة، ناظرًا فقط إلى البحر المحيط بهم.
صوت طرق الحذاء الجلدي مع الخشب أصدر إيقاعًا عجيبًا، لكن معتادًا لطاقم السفينة. ولولا طغيان صوت الرياح والمياه، لَسَمِع أفراد الطاقم اقتراب آدم منهم قبل أن يصبح على بُعد ثمانِ خطوات منهم.
التفت أحدهما بسرعة نحو مصدر الصوت، عيناه حادّتان مثل حاجبيه، شعره الأسود كان مخمّلاً ببياض. كان يلبس رداءً أبيض رقيقًا وسروالًا جلديًّا بنيًّا، وسوارٌ أخضر باهت ميّز يده اليسرى. زينت لحية سوداء خفيفة ذقنه ، على عكس اخيه .
عند رؤية آدم، تراجع الرجل الأسود عن وضعيته الحذرة، منزِلًا ذراعه ومستقيمًا بجسده. ضحك رفيقه الذي بقربه، والتفت هو الآخر متّكئًا على الحافة. تحدّث آدم بصوت ذي نبرة غليظة قليلًا، ووتيرة غير سريعة:
"باغن، آغني، يمكنكما الذهاب للنوم. قد نرسو على الساحل بعد بضع ساعات، فاستغلا الوقت."
تنهد آغني، الرجل ذو السوار الأخضر، قبل أن يشكر آدم ويتجه هو وأخوه نحو درجٍ مؤدٍّ إلى باب خشبي آخر في الأسفل.
نظر آدم إلى السارية، وإلى الرجلين اللذين كانا يتسلّقان هبوطًا على حبل بني سميك، ثم نظر باتجاه مشرق الشمس، مبصرًا أشعة الشمس الرقيقة تدفع شيئًا فشيئًا رداء الظلام بعيدًا. وضع آدم إصبعين على فمه ونفخ، مُصدرًا صوت صفيرٍ عالِ النبرة. استمر في التصفير لما يقارب الدقيقة بشكل متواصل قبل أن يتوقّف.
ثم بدأت مختلف الأبواب على سطح السفينة تُفتح، ويخرج منها أفراد الطاقم واحدًا تلو الآخر، بعضهم بيض البشرة، طوال القامة، عِراض الأكتاف، شعرهم أسود قاتم وطويل، وبعضهم سود البشرة، ذووا نظرات حادة وحواجب أحدّ، وشعرهم كذلك أسود، لكنه أقصر بشكل ملحوظ. ارتدى جلّ أفراد الطاقم نفس الزيّ الأبيض والسروال الجلدي، لكن كانت هناك استثناءات قليلة. زيّنت الأساور الخضراء معاصم أكثرية أفراد الطاقم.
حيّا معظمهم آدم باحترام، سواء نادوه: "يا قائد" أو "يا قبطان".
أحد الرجال كان يمشي بوتيرة بطيئة، مبتسمًا وضاحكًا، ذو شعر مائل للصفرة، وزيّ جلدي أسود متناسق مع سرواله، وطول قريب من قامة آدم. اقترب من آدم وهو يرفع يده للسماء متحدثًا:
" رفيقي آدم، كيف كانت ليلتك؟"
آدم فقط نظر إليه، ورد عليه بشكل عادي:
"نفس السؤال كل يوم يا ويليام، فلتنضج قليلًا. يعتمد الطاقم عليك أنت بعدي للعودة إلى وطننا."
واجهه فقط موجة ضحك من ويليام، متقبّلًا، أو ربما متجاهلًا كلامه بغية عدم مفاقمة الوضع.
نظر آدم حوله إلى وجوه أفراد الطاقم، ثم سأل:
"أين العجوز راين؟"
-----
في سرير خشبي في عمق غرفة ضخمة، استلقت جثة هامدة سمراء البشرة، ذات تجاعيد كثيفة. عينان مغلقتان وفم مفتوح يُظهر فراغات سوداء بين أسنانه القليلة. ولولا ثبوت صدره، ما فرّق آدم بين هذه الحالة والنوم.
وقف آدم ينظر للجثة الهامدة بضع دقائق، وخلفه بضع أفراد من الطاقم، أكثرهم فقط يتدافع مع بعضهم البعض للنظر.
وقف ويليام بجانب آدم، ناظرًا هو الآخر للجثة، متنهدًا:
" أخيرًا غلبه المرض. أنا متفاجئ أنه عاش حتى الآن. الأمر مخيف حقًّا، أن تكون بقوة وبطش لا يوصفان في شبابك، ثم تصبح كومة عظام المحطمة في سنواتك الأخيرة."
لم يُجبه أحد. التفت ويليام لأفراد الطاقم وتحدّث بصوت مرتفع:
"روشن، تَقَدّم إلى هنا. أنت أقرب شخص منّا لعائلة راين، روحه من إرثك."
إبّان الحديث، أفسح أفراد الطاقم ممرًّا ضيقًا لرجل قصير القامة، ذو بشرة سمراء وشعر أسود، ليمرّ. تقدم روشن بخطوات سريعة، ووصل قرب الجثة. نظر إليها لعدّة ثوانٍ، قبل أن يغيّر نظره إلى ويليام ثم إلى آدم.
مدّ روشن يده نحو معصم الجثة، نازعًا السوار الأخضر، وممرّره إلى آدم، الذي أمسكه ونظر إليه لبضع لحظات قبل أن يكسره بكفّه، ثم التفت إلى الطاقم، آمرًا إيّاهم بالخروج من الغرفة.
تمتم أفراد الطاقم بضع كلمات بين بعضهم البعض بينما بدؤوا في الخروج، وكان ويليام آخر من خرج، مغلقًا الباب وراءه.
بقي آدم واقفًا قرب السرير، وروشن ينظر إلى الجثة. نظر روشن إلى آدم بنظرات متسائلة عمّا يجب فعله الآن.
"روحه ملك لك. حينما نعود، ستصبح مسؤولًا عن عائلته كذلك. وإذا لم يكن لديه ذَكر بأرواح أكثر منك، ستصير زوجته ،ابناءه و أملاكه خاصتك أيضًا. لكن عند موتك، ابنه الأكبر سيرث روحك، إذا لم يكن لديك أيّ ابن أكبر منه."
سكت آدم ناظرًا إلى روشن، الذي ظلّ ينظر للجثة لعدّة ثوانٍ. رائحة غريبة خفيفة، كرائحة الرماد، هاجمت أنوف الاثنين.
التفت روشن إلى آدم، ووقف على قدميه، منحنِيًا بجسده:
"أنا روشن، ابن قبيلة رويترز التابعة لمملكة أنجلس، أُسَلِّم روح راين، ابن قبيلة رويترز، لوريث عائلة آنجلس الحاكمة."
ابتسامة خفيفة تشكّلت على وجه آدم، مختفية قبل أن يستقيم جسد روشن. ربّت آدم على كتفه:
"هذا هو الخيار الأكثر حكمة. أحسنت. لا تقلق بشأن عائلة راين، سأرعاهم بشكل خاص حين أعود. الآن، اخرج، ولا تُخبر أحدًا عمّا حدث هنا."
بهذا، بقي فقط آدم وجثة العجوز الهامدة في الغرفة.
بدأت هالة أرجوانية مخملية الهيئة و داكنة اللون تتشكّل على يد آدم، ثم تصلّبت هذه الهالة على شكل يد. تحرّكت هذه اليد، متموضعة على صدر الجثة. ثم فجأة، بدأت هالة أرجوانية خفيفة تصعد من جثة العجوز، كان غُمق أرجوانيتها أقل بكثير من غُمق أرجوانية هالة آدم.
بدأت هذه الهالة تصعد شيئًا فشيئًا. كانت خفيفة جدًّا، وكأنها ريشة تطير بفعل الهواء. وأخيرًا، انقبضت يد آدم الأرجوانية، ممسكة بالهالة الخفيفة، ساحبة إيّاها خارجًا.
الهالة الخفيفة كانت على شكل جسد العجوز راين، فقط كانت 5 اضعاف حجم مقاييس ومعايير جسده . الاختلاف الوحيد الأخر كان عدم وجود ملامح وجه ولا شعر.
أمسكت قبضة آدم بهذه الهالة، ودفعها باتجاه صدره. انسَلّت هالة العجوز داخل جسد آدم بسلاسة، ثم يمكن ملاحظة، بشكل طفيف جدًّا، أن هالة آدم الأرجوانية زاد حجمها وغَمُق لونها، بشكل يكاد لا يكون ملحوظًا.
بدأت الهالة تختفي من على يد آدم، على عكس الحفرتين على خده، والتضاريس على وجهه.
أعطى نظرة أخيرة للعجوز راين، ثم التفت ناحية الباب، خارجًا منه، ومغلقًا إيّاه، تاركًا جثة شخص عاش من الحياة أضعاف أضعافه، عاصر من الكوارث والملاحم التاريخية الكثير. كُتِبت نقطة نهاية حياة هذا الشخص في سرير صغير على سفينة وسط البحر، ميتًا بسبب مرض مجهول.
هكذا هي الحياة