الفصل 1932: واقع زائف
------------
"ما... ما الذي يحدث؟"، تمتمت شيرين بغياب ذهنيّ وهي تنظر حولها في ذهول. حتى في ساحات القتال، وهي تواجه احتمالات مستحيلة، لم تركع يومًا. ومع ذلك، ها هي الآن، ضعيفة عاجزة أمام بشرٍ بكلمة واحدة فقط.
أمّا ليكس فكان يتأمّل في القوّة الجديدة التي اكتشفها في سلطته العليا. لقد اكتشف للتوّ أنّ لمحة الهالة البدائيّة التي حصل عليها منحت سلطته دفعة هائلة. هناك شيء في البدائيّين متفوّق بطبيعته على كلّ شيء، شيءٌ يجده ليكس محيّرًا ومربكًا.
لو كان البدائيّون متفوّقين حقًّا وصدقًا، لما كانوا قلّةً إلى هذا الحدّ. وحتى لو قيل إنّ البدائيّين قتلوا بعضهم بعضًا، فإنّ مجرّد النمل المولود في الحديقة البدائيّة يكفي للسيطرة على عوالم كبرى بأكملها. لكنّ ذلك لم يحدث. بل إنّ ليكس نفسه تمكّن من إخضاع بدائيّين.
إذًا ليس الأمر أنّهم أقوى، لكن هناك شيئًا فيهم... شيئًا لم يستطع ليكس فهمه. لكنّ الآن لم يكن وقت التفكير في ذلك، فوجّه نظره من شيرين إلى أخواتها، اللواتي كنّ جميعهنّ راكعات أيضًا رغم أنّه لم يستهدفهنّ. هذه التجربة الصغيرة أظهرت له كلّ ما يحتاج إلى رؤيته.
خفّف ليكس من قبضة كلمته، ومدّ يده لشيرين لتأخذها ويساعدها على الوقوف مجدّدًا.
"شيرين، منتجع السيرافيم مملوك ومُدار من قِبل السيرافيم الذين يمتلكون العديد من سادة الداو. ألم يبدُ لكِ غريبًا أنّهم لم يحاولوا قطّ منعكنّ من تخطيط هروبكنّ؟ أو أنّكنّ هربتنّ من المنتجع بهذه السهولة دون أن يحاولوا منعكنّ من كسر المفتاح؟ حتى لو لم يستطيعوا إيقاف المفاتيح عن نقلكنّ، ألم يكن بإمكان أيّ سيّد داو عابر إيقافكنّ عن استخدامها؟
في الواقع، كان بإمكانهم ببساطة أن يأخذوا المفاتيح منكنّ قبل أن تتاح لكنّ الفرصة لاستخدامها. كان بإمكانهم توقّع مغادرتكنّ وفعل أيّ عدد من الأمور لمنعها، ومع ذلك لم يفعلوا. وفي الوقت نفسه، لو رأى الملائكة أنّ الحرب قادمة، لكان بإمكانهم فعل أيّ عدد من الأمور لمساعدتكنّ على الهروب، لكن على حدّ علمي، لم يفعلوا. ألم تتساءلي يومًا عن السبب؟"
حتى وهو يوجّه السؤال إلى شيرين، كان ليكس يرى أنّها لم تتساءل. كيف لها أن تتساءل، ولم يبقَ منها سوى القليل جدًّا؟ حقيقة أنّها لا تزال قادرة على الكلام، وتحتفظ ببعض مظاهر الذات والأنا، شهادة على مدى قوّتها الرهيبة فيما مضى.
ذُهلت شيرين، وأسئلة ليكس لم تساعدها على تحسين حالتها الذهنيّة. لهذا السبب لم تلاحظ حتى أنّ أخواتها الإحدى عشرة وقفن فقط عندما وقفت هي، وأنّ حالتهنّ لم تكن أفضل من حالتها. لم تطل حالتها، إذ أعادت تركيزها على ليكس، ونظرتها مليئة بنفس القوّة والثقة التي دائمًا ما تُظهرها.
"لقد أظهرتَ عرضك. الآن اشرح"، طالبت. "ما الذي حدث للتوّ؟ وما علاقة ذلك بهروبنا، ومعاملتنا في المنتجع؟"
"حسنًا، لا يمكنني ادّعاء معرفة التفاصيل الدقيقة"، قال ليكس وهو يمدّ خيطًا من إحساسه الروحيّ إلى شيرين وأخواتها، مُظهرًا لهنّ جميعًا بالضبط ما يراه عندما ينظر إلى كارماهنّ. "لكنّه واضح جدًّا الآن، خصوصًا مع غياب تدخّل المنتجع نفسه.
كنتنّ سجينات سياسيّات، نعم. لكنّ سجنكنّ لم يكن بريئًا كما جعلوه يبدو. على مرّ السنين، تمّ استنزافكنّ، استنزاف كلّ شيء. قواكنّ، دافعكنّ، أناكنّ، قناعاتكنّ، مواهبكنّ، حظّكنّ، كلّ شيء. لكنّهم لم يفعلوا ذلك دفعة واحدة.
بل فعلوه تدريجيًّا، وبأكثر الطرق ذكاءً على الإطلاق. سجنواكنّ داخل معبد إدغار، لكنّهم لم يعفوكنّ من دفع إيجار إقامتكنّ. بل كان الدفع يُحصَّل تلقائيًّا من قِبل المعبد.
عن كلّ يوم بقيتنّ فيه، عن كلّ خدمة استخدمتنّها، عن كلّ قرش أنفقتنّه، دفعتنّ أنتنّ وأخواتكنّ بذواتكنّ أنفسهنّ. استمرّ ذلك طويلًا حتى لم يبقَ منكنّ سوى قشور فارغة ممّا كنتنّ عليه يومًا.
كانت التغيّرات تدريجيّة إلى حدّ أنكنّ أنتنّ لم تلاحظن، حتى وصل الأمر إلى أنكنّ عجزتنّ عن الملاحظة. وفي النهاية جاء وقت كنتنّ فيه مجرّد سجينات رمزيّات في أحسن الأحوال. لم يجد الملائكة أنكنّ يستحقّقن الفداء، ولم يجد السيرافيم أنّ سجنكنّ يستحقّ القتال من أجله.
ففي النهاية، أنتنّ الآن مجرّد تقليد باهت للمحاربات اللواتي كنتنّ يومًا. طوال الوقت الذي عرفتُكنّ فيه، لم تتكلّم أخواتكِ الإحدى عشرة ولو مرّة واحدة، تاركاتكِ تجيبين عنهنّ. هل ذلك لأنّكِ قائدتهنّ، أم لأنّهنّ لم يعد لديهنّ أصوات ليستخدمنها؟"
كان السؤال الأخير كالرعد في أذني شيرين، فاستدارت بسرعة لتنظر إلى أخواتها الإحدى عشرة. أخواتها المجيدات، محارباتها، رفاق... رفاق سجنها... رفاق تضحيتها.
لم تستطع حتى تخيّل مقدار الظلم الذي عانينه بسبب بطولتهنّ. أو ربما، في يوم من الأيّام، عندما قبلت هذا السجن، كانت تعلم أنّ هذا متوقّع. لكنّها لم تعد تتذكّره.
فجأة، أصبحت كلّ الثغرات في ذاكرتها منطقيّة. كانت دائمًا تظنّ أنّ الملائكة محوا ذكرياتها حتى لا يستخرجها السيرافيم. لكن الآن... فكّرت بغير ذلك.
رغم أنّها فقدت ذكريات كثيرة، بقيت بعضها معها. مجدُها، براعتها، وهي تقف على حافّة محاولة محنة الداو. مدى قوّتها يومذاك هو بالضبط مدى ضعفها الآن.
كان واقعها ينهار حولها بأكمله وهي تدرك أنّ كلّ شيء لم يكن كما ظنّته.